الأحد، 8 أغسطس 2021

عام ‏تحت ‏الشمس

في اللحظة التي جاء فيها زيد إلى هذا العالم، كنت أستمع إلى أغنية "ها هي الشمس تأتي"، وأخال أنّ هناك شمسا أشرقت فعلا في حياتي.
منذ الأسابيع الأولى، صرت وزيدا وأمّه نقضّي عدّة ليال معا. كنت متعوّدا على السهر لساعات متأخرة، ولكن أصبح للسهر مذاق آخر. لم تعد هواجسي أو رغبتي في إضاعة الوقت ما تبقيني مستيقظا، بل منادمتي للحياة وهي تخطو خطواتها الأولى وتكبر ليلة بعد ليلة.
منذ أوّل أيّامه، كان زيد طفلا بسّاما. صحيح أنّ الطب يقول أنّه لا يبتسم تفاعلا قبل أربعين يوما، وصحيح أن الثقافة الشعبية تقول أنه في ذلك العمر  تضحكه الملائكة، لكن شيئا في قلبي كان يخبرني إنه إنما كان يبتسم لي ولأمه لأنه يعرفنا من قبل.
لعلّ ذلك كان من أوّل ما شكّل علامات طفل استثنائي. من الجائز للغاية أن يكون يهيّأ إليّ ما يهيّأ لكل أب من طفله، لكنّ زيدا ما انفكّ يؤكّد ذلك. كنت في مرحلتي البيتلزية وقتها، وكنت أسمعه معي ما تيسّر من أغاني البيتلز. في شهره الرابع، بدأت ألاحظ أنه يتفاعل مع بعض الأغنيات بشكل خاص. وبمرور الوقت، بدأت أكتشف أنّ الرجل فعلا صار له ذوق، فيفضّل أغنيات على أخرى. أرى كذلك دهشته المبهرة وهو يقف فاغر الفم أمام لوحة ما. هل ترى فنّانا يكبر فيه؟
على غرار ما قال أنسي الحاج: في حياتنا لا مكان لزيدون... كلّ المكان هو لزيدون وحده. افتكّ هذا الصبيّ الوسيم مكانه في حياتنا بسرعة كبيرة. كلّ الكلام عنه. كلّ الانفعالات حوله. كلّ الدار له. لا شيء أحبّ إلى قلبي من أن أراه ومعالم شخصيته تترسخ شيئا ما كلّما سار على درب الحياة يوما.
لطالما كان لي توجّس من الأبوة لعظم مسؤولياتها، ولكنني مع زيد أراني أنغمس فيها ضاربا عرض الحائط بكلّ الريبيات. زيدون هو الصخرة التي يتكسّر عليه كلّ ذلك التمركز الرهيب على الذات، وأراني لمّا صرت أبا، أني في طريقي لأصير إنسانا أفضل...

الجمعة، 9 يوليو 2021

ما ‏كنتُ ‏من ‏الثائرين... ‏مسارات ‏شخصية ‏في ‏عشرية ‏الثورة ‏(الجزء ‏الثالث)

 


مسألة استمراريّة الدولة

رغم ارتباك محمد الغنوشي، ساندت بقاءه على رأس الحكومة، لسبب بسيط: استمرارية الدولة. في ذلك الظرف العصيب، لم يكن هناك أيّ شيء واضح: بدا أنّ الدولة تلفظ كل مشروعية لها وكنت أفزع من أن نشهد، ولو لمدة قصيرة، اضمحلالها فنسير إلى ما يشبه السيناريو الصومالي. كان الهاجس الذي يسيطر عليّ وقتها كيف ننهي تلك المرحلة بسلام، ثم ستأتي بقية ترتيبات إرساء نظام ديمقراطي، وعلى رأسها الانتخابات.

لكن لم يكن مثل هذا الرأي يحظى بشعبية كبيرة آنذاك. قام اعتصام القصبة 1 بالأساس على المطالبة برحيل كل رموز النظام السابق، وفي الحقيقة، كان الغنوشي استبقى عددا كبيرا منهم في حكومته الأولى بعد 14 جانفي. بالنسبة لي، كان وجود أحمد نجيب الشابي والمرحوم أحمد إبراهيم في الحكومة أحد أهم الضمانات، بما أنهما كانا دائما في صفّ معارضة النظام. لم أستسغ رفض مصطفى بن جعفر المشاركة في الحكومة، ويبدو لي الآن أنّ تصدّع العائلة الديمقراطية الاجتماعية بدأ وقتها، بين اتّجاه يتبنّى مقاربة تدرّجية لا تقطع فورا مع الماضي، واتّجاه يبني مقاربته على مسايرة الشارع حتى وإن لم تعرف عنه الراديكالية سابقا.

في تلك الفترة شديدة التشنّج، كتبت ما أعتبره أجرأ مقالاتي وكان بعنوان "حتى لا تنحرف الثورة" وكان مضادا للرؤى الاستئصالية السائدة آنذاك دعوت فيه، بعد الإقرار بكلّ الفساد والانحرافات الّتي عرفها التجمع الدستوري الديمقراطي، إلى التريّث قبل الحكم على محمد الغنوشي الذي لم يعرف عنه ضلوع في الفساد، وينطبق ذلك على جميع الكفاءات التي لم يكن لها خيار فعلا في الانضمام إلى الحزب-الدولة.

لو عدت إلى تلك اللحظة، لست متأكدا أني كنت لأكتب ذلك المقال. لم أعد أؤمن بدولة لا تحترم مواطنيها، ولا يبدو أنها تسير أبدا في ذلك الاتّجاه. كانت اللحظة مناسبة لإعادة تأسيس حقيقي للعلاقة بين الدولة والمواطن، لا التأسيس الشكلاني القانوني الذي حدث مع المجلس الوطني التأسيسي.

الأربعاء، 7 يوليو 2021

ما ‏كنتُ ‏من ‏الثائرين... ‏مسارات ‏شخصية ‏في ‏عشرية ‏الثورة ‏(الجزء ‏الثاني)

صورة لي في حراسة الحومة نشرت بمجلة l'humanité dimanche يوم 20جانفي 2011

يوم 14 جانفي
مساء 14 جانفي، بقيت كالكثيرين أتابع الأخبار. لا طبعا عن طريقها الرسمي، الذي لم يكن يعني شيئا، وإنما من خلال الفايسبوك والقنوات الإخبارية العربية. لمّا جاء الخبر عن فرار بن علي، لم أشعر بالفرحة قدر ما أصابني الوجوم. لماذا هرب؟ (ولا أعرف إلى الآن جوابا عن ذلك) هل ينوي العودة؟ لمن ترك البلاد؟ فيديو عبد الناصر العويني وهو يصرخ في شارع الحبيب بورقيبة أثّر فيّ كثيرا، لكن لم يكن من الممكن الوقوف لاستيعاب تلك اللحظة، لأنّ الأحداث ستتسارع بشكل مجنون منذ ذلك الحين. جاء محمد الغنوشي ليعلن تسلّمه الرئاسة بصفة وقتية وفق الفصل 56 من الدستور. لم أفهم، وأنا القانونجي الجديد، ما يحدث. هذا الفصل كان يعني أنّ بن علي فوّضه لذلك، وهو ما لم يكن بطبيعة الحال أمرا مقبولا. كان ترقيعا أخرق لفرار الرئيس، وفي حقيقة الأمر، لم يكن محمد الغنوشي رجل سياسة وكان أبعد الناس أن يكون رجل المرحلة. المهمّ أن الأمر وقع تداركه صباح الغد بإعلان المجلس الدستوري شغور منصب الرئاسة بشكل دائم وتولي فؤاد المبزّع مهامها. لكن كانت تلك الليلة كانت من أصعب الفترات في تاريخ تونس المعاصر. هي ليلة غابت فيها الدولة، وأخذ المواطنون بزمام الأمور. مع ما كان يبلغنا من أخبار عن عمليات النهب والتدمير وتضخم الإشاعات عن القناصة، تولّى الشعب زمام أمنه بيديه. كنت، مسلّحا بزلاط، واحدا من آلاف المواطنين الذين نزلوا إلى الشوارع لحماية أحيائهم. تلك اللحظة كانت من أكثر ما منحني أملا في الشعب التونسي، فعندما توارى جهاز الأمن الرسمي صاحب اليد الطولى في الممارسات القمعية، برهن التونسيون عموما عن روح  تضامنية وتنظيمية عالية. بدا وكأنّ قبضة الدولة هي ما كانت تخنق هذه الروح. من المؤسف أنه لم يقع البناء على هذه اللحظة، سوى ما كان من ممارسات شعبوية انحرافية كرابطات حماية الثورة. ربما لا تكون أفكار قيس سعيّد في البناء من الأسفل سوى محاولة لاستعادة نقاء تلك اللحظة.

الاثنين، 29 مارس 2021

الطريق نحو النهاية



مُرّي على بابي بذكرى مَوْلِدي

كي تُنشدي أخبار من لم يَخلُدِ

لم يبقَ منه سوى الذي تحكي شفا

هُكِ عَنه سرْدًا دون أيّ تردّدِ

ما كُنتُهُ يوما، لعلّك كُنْتِ قد

أطلَلتِ خلفَ سَحَابِيَ المُتَلبِّدِ

فرأيْتِ شيئا، ثمّ حِكْتِ غِلالة

مِنْ حوله من وَشْيِكِ المُتَفرِّد

تلك الأساطير الّتي تُضحي منا

زلنا السعيدةَ بعدَ طُول تشرُّد

قُصِّي إذا ما غِبْتُ كلّ رواية

ما قد شَهِدْتِ وكُلَّ ما لم تَشْهَدي

كمْ كان يَحْلو وَقْعُها لو أنّني

قبلَ الغيابِ حظيتُ منكِ بموعد

لا فَرْقَ عندي بين صَمْتِكِ بعدها

أو أن أصير لديكِ ثالثَ فَرْقَدِ

ما كُنتُ- لمّا كُنْتُ- غيْرَ ترحُّلٍ

مِن غُربَةٍ لِمَثيلها المُتجدِّد

عَبثًا ألاحِقُ في السَّدِيمِ منارةً

ما الفرقُ حين العتمِ إن لم أرْشُدِ؟

قد كُنْتُ أرقُب مبدأً لنُبوِّتي

كم كنتُ أرْسُفُ في جنونِ تَفَرُّدي

وكأنَّ كُلَّ الكون حولي دائرٌ

أنا قُطبُهُ، لا شأنَ إلّا سُؤدَدي

لم أخْشَ إلاّ نظرَةً نحْوَ المرا

يا لحْظةً فيها يكون تجمُّدي

لمّا أراني، ويحَ نفسي، بغتَةً

مُتَصاغرا أحكي انحناء السُجَّدِ

أغْدو على الأفكار أغْرِفُ حَفْنةً

لا أعرف الأضدادَ في ملء اليد

كُلُّ اليَقينِ على الرّصيف مُبَعْثَرٌ

وسط الطريق أظلُّ مَحْضَ ترَّدُد

ما نِمتُ يوْمًا والعُيونُ قريرةٌ

ما تمّ لي دفءٌ على مُتَوَسَّد

في كُلّ زاويةٍ أرى لحقيقتي

شبحا يؤول إلى مَصيرِ تَبَدُّد

جمَّعتُ شِعْرًا فيه بعضُ تَنَهُدي

أضرَمْتُ فيه النار دون تَعَمُّد

نَفْثٌ لمصدورٍ تطاول داؤه

مِن فيه يخرُجُ كالحميم الأسود

أضْغاثُ أحلامٍ جَهِلْتُ نقيعها

حتّى سرَتْ في عُمْرِيَ المُتمدّد

كانت وكان مثيلها كُثُرًا إذا

ما احتاجت الأنفاسُ بعضَ تَزَوُّد

هي والنّقاء وكلّ ما يرضي العبا

د وما وراءَ شُجونِ كُلِّ مُسهَّد

الكُلُّ أصنامٌ سَعيْتُ لرِفْدِها

وجميعها بَرْقُ الزّمان السرمدي

ما بينها أفنيْتُ روحي ذاكرا

أرجو الغنيمة من طويلِ تزهُّدي

لم أحيَ يوْمًا مثلما تبغي الحيا

ة ولا وجدتُ العيشَ في مثوى غَدي

الموت أمنيةٌ يعزُّ منالها

إذ لم تكن دُنياي غير تَجَلُّد

في النّاس كُنْتُ وحدي أمّةً أو هكذا

كان الهوى في قَوْلَةٍ مِن عُوَّدي

ما زلتُ في نفسي أحاور وحدتي

حتّى هدمتُ بفأسِ شكّي معبدي

فرأيتُ شيئا في السّماء جهِلتُهُ

لوناً نبا عن كلّ قوْلٍ مُسْنَدِ

ما صار يعرِفُه سواي من الورى

هو ظِلُّ ما أنا كُنْتُ فيه بأوحَدِ

قد خُلِّطَتْ خُطُواتُ عُمْري كلها

حتّى تبدّت لي بِلَوْنٍ مُفْرَد

فيه الضّلال تفنّنٌ في مزجه

أمَّا الهدى مُتكحِّلٌ بتَمَرّد

وإذا الحياة قصيدة لا تنتهي

نَغَمٌ يحلّ على لسان المُنشِدِ

 


الثلاثاء، 16 فبراير 2021

قصّتي مع الشعر (الجزء السادس)


ارتبط الشعر عندي عموما بالسواد. أكتب الشعر غالبا عندما أكون مكتئبا أو قلقا أو غاضبا، أو على غير ذلك من المشاعر السلبيّة. أو لم يقل ابن قتيبة: "الشعر نكد بابه الشرّ، فإذا دخل في باب الخير ضعف"؟ حتى عناوين دواويني تعكس ذلك: "ذهب الزمان الضائع" و"ماليخوليا". قد أكتب أحيانا بدافع من شعور إيجابي، لكن لا بدّ أن تخالطه جرعة من السلبية لكي يتحوّل شعرا. يمكن أن أكتب عن الحبّ مثلا، ولكن ينبغي أن يكون ذلك ممزوجا بخوف أو حيرة أو شكّ أو فراق. أمّا عندما أكون سعيدا تماما، فلا أكتب. الحياة السعيدة نعيشها ولا نكتبها كما يقول توفيق الحكيم.

بهذا المعنى، كان الشعر عذابا... كتلة داكنة عظيمة الحجم تسكن صدري، أنفث منها الشيء بعد الشيء كي أتنفس قليلا، لكنها ما تلبث أن تعود إلى حجمها الأوّل وتتعاظم جاثمة فوقي. ولعلّي إذ كنت أخرجها منّي كنت أطمع في أن تتحوّل بشكل سحري إلى جسر يقرّبني ولو قليلا من عالم الناس هذا. لم يحصل هذا قطّ. عندما كتبت نصّ "لا تلمسيني"، كنت أصرخ في وجوه من حولي: أنا وحيد بشكل قاتل. لم يسمعني أحد. وكان ذلك حال جميع نصوصي حتى ما كان منها صريحا بشكل فج كـ"يومان بعد موتي". في النهاية، يئست من أيّ تواصل. صرت أحيانا أتسلى، عابثا، ببثّ رسائل مشفّرة في بعض القصائد. في جميع الأحوال، لن يُفهم شيء! بهذا المعنى، خانني الشعر...
لكنّني خنت الشعر كذلك. في مراهقتي، كانت صورة الشاعر المثالية عندي هي سيرانو دي برجراك. هو "الشاعر" في ترجمة المنفلوطي. لم أحبّذ كثيرا غرامه بروكسان (لم أرها تستحقّه) لكن فيما عدا ذلك، كان نموذج من يعيش حياته بشعريّة في كل لحظة. يعيش كل حالة بأقصى ما يكون: هو أشجع الجنود وقت الحرب وأهزل الناس وقت العبث. وخير ما فيه: أنه كان لا يبالي عواقب الشيء ما دام يعتقد صوابه، فلا يكبر في عينه عظيم من القوم إن رام به سخرية، ولا يخشى الموت إن كان في سبيل ما يؤمن به. حاولت أن أحذو حذوه في تلك السنوات المليئة بالمثاليات، ولكن ما أسرع أن سرقتني الحياة. كم خنت سيرانو، حتى لم يبق لي منه إلا أنفه. ما أكثر ما أكْرَهُ على ما لست مقتنعا به، ولا أجابهه بغير تلك السلبية العدوانية التي أبغضها من نفسي والتي لا تزيد "السدّ" إلا تعاظما.
لست شاعرا في حياتي، وكأنني أفصل ما أعيش عمّا أكتب، ويا له من انفصام عظيم! في حفل توقيع مجموعتي الأولى، أخذ أبي الكلمة ليقول أنّه كان يتمنّى لو كان كاتبا، ولكنّه سعيد، إذ حرم ذلك، أن يرى حلمه يتجسّد من خلال ابنه. أثّرت فيّ تلك الكلمة. أبي شاعر في حياته إذ يعيشها، من دون أن يحتاج إلى كتابة الشعر. أمّا أنا، فقد أوتيت القدرة على كتابة الشعر دون أن أحياه. 
لعلّ ذلك كان مما يجعلني أتجنّب أن أعرّف نفسي في مختلف المحافل كشاعر، إلا نادرا. أذكر أنني حين أشرفت على مشروع "أكاديمية الشعراء"، لم يعرف المكوّنون والمشاركون أنني أكتب الشعر إلا في الأيّام الأخيرة من المشروع، عندما سوّلت لي نفسي أن أقرأ قصيدة. أخالهم دهشوا جميعهم: أنّى لهذا الفتى الصارم، "المربّع جدّا" (ترجمة حرفية) أن يكون من الشعراء وليس له من جنونهم شيء؟
أخالني أحتاج إلى قدر كبير من الجنون لكي تكون لي حياة، كما ينبغي أن تكون.

الأحد، 14 فبراير 2021

اغتيال



بي شهوة

أن أبصق الخوف القديم جميعه

فإذا استوى

-لزجا وأسود مثلما هو دائما-

حرّقته حتّى يصيح

بكلّ نار كان مطفئها

وأغرقه ليفقد وعيه

في لجّة العبرات إذ جمدت وراء العين

أطعنه بحلم منطو بين الدفاتر

ثمّ أخنقه بذكرى قد تبقّت

تلفظ الحبّ العتيق

إذا تناثر لحمه في الأرض

أكنسه عسى ألاّ يعود

وحينها 

سيَقِرُّ في صدري هواءْ...

جسدي الزجاج يذوب بعضه

ما تشبّع من سواد

لا أرى بأسا

إذا أحيا بلا أقدام في أرضي

فحسبي أن أعيدت لي السماءْ

السبت، 13 فبراير 2021

قصتي ‏مع ‏الشعر ‏(الجزء ‏الخامس)



أكتب الشعر منذ أكثر من عشرين سنة، ولا أزال أطرح على نفسي السؤال: هل أنا شاعر؟
لا أعلم الجواب. ما أنا موقن منه أنّ في داخلي شاعرا. هو يتخبّط بين جنبات نفسي، ويصارع ليكشف وجهه أمام الجميع، لكنّه يلاقي من أمري عسرا. أقمعه بشدّة وأحشره في زاوية مظلمة، فلا يعرف طريقه إلى النور إلا في لحظات قليلة: حين يلفّني السواد وتحاصرني الغيوم، وحين أنفعل بشكل حاد... من تلك اللحظات، أذكر أنني تعرّضت منذ أربع سنوات أو يزيد إلى ما اعتبرتُه طعنة في الظهر، وفي فورة الغضب، تدفّقت الكلمات تجري كالنهر الهادر. كان نصا من بضعة عشر بيتا على الرمل كتبتها في دقائق، حمما أقذفها لتجرف ذلك السدّ في رأسي... لم أنشر النصّ في "ماليخوليا"، إذ اعتبرته شخصيّا ومباشرا، ولكن ما أظنني، ودع عنك آراء النقّاد، كنتُ قطّ أشعر منّي في تلك اللحظة...
فيما عدا تلك الفلتات، من الصعب عليّ أن أكون نفسي، وما الشاعر إن لم يكن نفسه؟ رسمت الحياة الاجتماعية لي صورة ربّما أعجبتني في وقت ما فتشبّثت بها، وأخمدت جزءا كبيرا منّي. لذلك تشكّل في رأسي ما سميته السدّ، وهو أكبر من أن يكون فكرة. هو شعور حسّي، صداع يقسم جمجمتي كلّما دعا الأمر أن أفاضل بين ما أريده حقّا، وبين ما هو "مقبول".. وما أكثر ما يدعو الأمر!!
ربّما تكون صورة الشاعر كما تشكّلت في المخيال العام، وكما خبرتها بنفسي، هي من بين ما يجعلني أتردّد في تبنّيها... قسم كبير من الشعراء الذين عرفتهم هم من الصعاليك، لا بالمعنى النبيل للكلمة، بل بمعنى النذالة والانتهازية والحسد والحذلقة، وفي بعض الأحيان ينضاف إليها ثقل دم فوق الطاقة البشرية وكمّ هائل من العقد النفسية الظاهرة والباطنة... هناك قلّة ممّن سلموا من ذلك، وهم الشعراء حقّا وإن لم يكونوا أشعر القوم، وهم وحدهم من يتركون للأمل سبيلا...
حتّى نشر مجموعتين شعريتين لم يجعلني أتماهى مع صورة الشاعر، بل بالعكس، صرت أكثر ارتيابا منها. قطاع النشر في بلادنا تعيس بدرجة لا توصف. في أغلب الحالات، الناشر هو "مطبعاجي" أو وسيط مع المطبعة همّه الوحيد أن يبتزّ من شغفك دراهم يموّل بها عددا محدودا من النسخ يبيع جانبا منها لوزارة الثقافة، ويمدّ ساقيه. لا توزيع ولا تسويق وطبعا من العبث أن تبحث عن تعويض عن حقوق الملكية الأدبية والفكريّة، فالناشر يضحي "صاحب مزيّة" إذ قبل أن يطبع لك. والأدهى والأمرّ أنّه لا وجود لمعايير دنيا يمكن أن تضمن جودة ما سينشر. لا لجان قراءة ولاتدقيق لغوي ولا هم يحزنون، وأحيانا، الناشر نفسه لا يقرأ ما أرسلته. ما دمت تدفع، فلا مشكل. ذهب ذلك الزمان الذي كان فيه إصدار الكتاب حدثا واعترافا. الآن يمكن لصاحب موهبة من الدرجة العاشرة، وحتى لعديم الموهبة، أن ينشر دون مشاكل.
حين جهّزت مخطوطة "ذهب الزمان الضائع"، كنت متعجلا لرؤية عملي الأوّل فعميت عن رؤية عيوبه: إخراج فنّي ضعيف جدّا وصورة غلاف من تصميمي أنا (ولا موهبة تذكر لي في المجال) وعدد من الأخطاء التي تسرّبت إلى النصوص نفسها. مع "ماليخوليا"، تأنّيت أكثر. قضيت أكثر من ثلاث سنوات وأنا أبحث عن ناشر. راسلت عددا من دور النشر العربية والتونسية. من أجابوني مرحّبين، اشترطوا مبالغ خيالية وحجّتهم أنّ الشعر لا يُقرأ، والكثير منهم لم يجبني إطلاقا. هناك دور نشر كنت أظنّها محترمة، تنقّلت إليها بنفسي لأسلّمهم المخطوطة. مرّت الأشهر وأنا أحاول المتابعة، ولا جواب. في النهاية، كنت أريد القطع مع مرحلة الماليخوليا واقتحام آفاق أخرى، فرضخت للواقع وتعاقدت مع ناشر-طابع وحرصت أكثر ما يمكن على جودة النسخة إخراجا ورقنا، بما أنّني كنت موقنا أنها ستُطبع كما هي دون أيّ تدقيق.
كان لـ"ماليخوليا" صدى أوسع من سابقتها. لا يعود ذلك بالضرورة إلى جودة النصوص أو تطوّر تجربتي الشعرية. تلك أمور ثانوية! لم أقرأ مقالا نقديا واحدا فيها، وكم كان ليسرّني حتى لو وجدت سياط نقد جاد انصبّ عليها، فذلك كان سيدلّ على الأقل أنّ هناك من اهتمّ وقرأ! كان هذا الصدى يرجع إلى أنني أصبحت، بفضل نشاطي في تونس الفتاة، معروفا أكثر في الساحة الثقافية. على أنني كنت جذلا لأنّ هذا الانتشار النسبي مكّنني من الانفتاح أكثر على أصدقاء رائعين من مختلف الجهات، فشاركت بدعوة منهم في عدد من الأمسيات الرائقة بنفزة وجندوبة والمطويّة والعاصمة...

الثلاثاء، 9 فبراير 2021

قصّتي مع الشعر (الجزء الرابع)

 بعد انتقالي إلى الجامعة، انقطعت بشكل تام عن المشاركة في التظاهرات الشعريّة. لم يكن ذلك خيارا مدروسا. لم أكن منفتحا بشكل عام على الفضاءات الثقافية، باستثناء المكتبة المعلوماتية بأريانة، فلم أكن أعلم بوجود مثل هذه التظاهرات أصلا. وحتّى المناسبات القليلة التي كنت أسمع بها، مثل منتزه الشعر بروّاد، كان انطباعي عنها أنّها مناسبات مغلقة وذات طابع نوفمبري. ربّما كنت مخطئا بشأنها، لكن لم يكن لديّ لا الحماس ولا الفضول لأذهب وأكتشف.

في تلك الفترة، بدأت تجربتي الشعريّة تتطوّر شيئا فشيئا. تجرّأت قليلا على اجتياز تخوم الشعر الحرّ، وبعد محاولة أولى متعثّرة، كتبتُ قصيد "السامريّ" في استيحاء متسائل للنصّ القرآني. لمّا أتممت ذلك النصّ، لم أكن راضيا عنه كثيرا. بدا لي أنّ هناك المزيد ممّا يمكن أن يقال. ربّما أردته أن يكون في طول معلّقة، وفي نفس الوقت، كنت قد ضجرت من الاشتغال عليه. في نفس الفترة، أتاح لي فايسبوك أن أسمع بالمهرجان الوطني للأدباء الشبّان في قليبية لسنة 2012، وفي غمرة الحماس الّذي أصبت به بعد الثورة، شاركت بنصّي ذاك.

في الحقيقة، لم أكن أطمع كثيرا في الفوز بأيّ جائزة حينها. كُنت أشارك للمرّة الأولى في مسابقة وطنية، ولم يكن هناك من يعرفني في الساحة الشعرية عدا بعض الأصدقاء الّذين كنت تعرّفت عليهم حديثا والّذين كانت لهم نظرة ريبيّة تجاه هذه المسابقات إذ ألقوا في روعي أنّ "عصابات" من الشعراء تجعل من مثل هذه المسابقات غنيمة لها، فتتناوب الفوز بجوائزها متوسّلة بعلاقاتها مع أعضاء لجان التحكيم.

لكن قليبية في ذلك العام كانت مختلفة. رغم ظروف الإقامة التعيسة في المدرسة البحرية (حيث تعرّضت إلى السرقة)، كانت الأجواء طيّبة للغاية حيث تعرّفت على شعراء من جيلي وقضينا ليالي بيضاء في شتّى النقاشات. كنت محظوظا أن يكون الراحل الصغيّر أولاد أحمد ضمن أعضاء لجنة التحكيم، وأخال ذلك كان من أبرز ما ساهم في فوزي بالجائزة الثانية، على نحو ما ذكرتُ في نصّ سابق.

تبيّنت فيما بعد أنّ قليبية 2012 كانت استثناء. في العام الموالي، شاركت في مسابقة للشعر العمودي بقابس. دُعيت لإلقاء قصيدتي "هذيان الجسد قبل الأخير"، ولم اسمع حولها كلمة واحدة، إذ لم تكن هناك ورشات لمناقشة النصوص ولشدّ ما اغتظت لذلك. ربّما كنت أشعر ببعض الأسى لعدم فوزي، لكنّ أكثر ما حزّ في نفسي أنّي شعرت أنّ قصيدي كان مجرّد رقم في مجموع القصائد المشاركة. ما فائدة أن تقطع تلك المسافة وتضحّي بوقتك وجهدك وما بذلته من عصارة روحك في كلمات لا يعيرها من نزلت عليهم ضيفا أدنى اهتمام؟

في العام الّذي تلاه، شاركت في مسابقة نظّمها بيت الشعر التونسي، وكانت قاصمة الظهر. كنت واعيا أنّ حجم الجائزة المالية سيجعل من المسابقة مطمع "العصابات". لمّا ناقشت صديقا لي في شأن مشاركتي، قال لي: شارك إذا شئت، ولكن لتعلم منذ الآن أنّ الفائزين سيكونون فلانا وفلانا وفلانا، إذ لا سبيل أن يسمحوا لأحد من خارج دائرتهم بهذه الغنيمة. رغم هذا التحذير، أصررت على المشاركة وتقدّمت بنصّي "نشيد الانهزام أو لائحة اتهام للحارث بن عباد". كنت فخورا بذلك النصّ، وبلغ من فخري أنّي قلت في نفسي: إن لم ينصفوا هذا النصّ، ستبقى عليهم سبّة وعارا أبد الدهر.

كُنت أوّل من دعي إلى الإلقاء، وكنت مرتبكا، أغالب الاكتئاب الذي كنت أغرق فيه في تلك الأيّام. تجاوز ردّ فعل لجنة التحكيم أسوأ توقّعاتي. قال لي الشاعر الكبير الذي كان يترأس اللجنة: من أنت؟ لماذا لا أعرفك من قبل؟ زاد ارتباكي: أكان من المفترض أن يعرفني لكي ينقد نصّي؟؟ سألني: لماذا تكتب على تفعيلة المتقارب؟ هي تفعيلة سهلة، وهي حمار الشعراء في عصرنا. وطلب منّي أن ألقي نصّا آخر، ولم أكن جيّد الحفظ لنصوصي، فضلا عن تخبّطي آنذاك، فلم أذكر غير "السامريّ" وكان على نفس التفعيلة. عضو لجنة التحكيم الثاني، وكان أستاذا جامعيّا، أبدى بعض الملاحظات المحايدة، وفهمتُ منه فيما بعد أنّه كان الأميل إلى إنصاف نصّي، لكنّه كان مغلوبا على أمره. أمّا العضو الثالث، وكان شاعرا لا أعرفه، فقد نطق ببعض الملاحظات التي أدركت منها أنّه لم يفهم من النصّ شيئا. لم أكن ممّن يميلون لتفسير نصوصهم، لكنّي طلبت الكلمة عساني أنقذ الموقف، فرفض الثالث منحها إيّاي.

خليط من المشاعر، كلّها سلبيّة، اعتمل داخلي حينها. الأسى والغضب بديهيان في مثل هذا الموقف، لكن أضيف إليهما شعور بالسوء تجاه نفسي: لشدّ ما لبستني جبّة الفتى المهذّب، ولو كنت وقحا كما كان ينبغي لنفّست عن غيظي في أقلّ الحالات. كان عليّ أن أصرخ في وجه الشاعر الكبير: اقرأ النصّ يا هذا ولا تختبرني في غيره، وإن لم تكن تعرفني فذلك من جهلك. كان عليّ أن أقهقه في وجه الشاعر الصغير: أنت محتاج لأن تعيد دراستك منذ البداية كي تفهم شيئا. كانت كذلك خيبة في الشعر والشعراء، وفي الساحة الثقافية عموما، لا سيّما وقد فاز "الفلانات" الثلاثة الذين توقّعهم صديقي. قرّرت حينها ألّا أشارك مجدّدا في أيّ مسابقة.

لكنّي رغم ذلك "حاولت" المشاركة فيما بعد. لمّا تأسّست أيّام قرطاج الشعرية، بدا لي أنّني سأظلم نفسي إذا لم أشارك في مثل هذه المناسبة الكبرى. في الدورة الأولى أرسلت نصّا (نسيت ما كان) للمشاركة في مسابقة القصيد. لا أدري إن كان نصّي وصل، إذ لم تنشر حتّى قائمة المشاركين ولم تكن هناك ورشات لمناقشة القصائد. في الدورة الثانية، كانت مجموعتي الثانية "ماليخوليا" قد صدرت، فأردت المشاركة بها في مسابقة المجاميع. نظرا لالتزاماتي المهنية، تطوّعت زوجتي لإيداع المجموعة بمقرّ إدارة المهرجان. هاتفتني فيما بعد وهي تتميّز غيظا. بعد أن قضت وقتا في البحث عن الإدارة المذكورة في متاهة مدينة الثقافة، التقت السيّدة المديرة شخصيّا التي عاملتها بكثير من التعالي. لم تُرد في البداية تسلّم المجموعة، بدعوى أنّ الناشر هو من يجب أن يودعها. وتحت إلحاح زوجتي، أخذت النُسخ والاستمارة لكنّها رفضت تحرير وصل في ذلك، بدعوى أنّ الكاتبة غير موجودة للقيام بذلك. وطبعا، لم تُنشر قائمة المشاركين ولا أدري إلى الآن إن كانت مجموعتي قُرئت أو أنها ألقيت فورا في سلّة المهملات. لتنضاف هذه المشاركة أو محاولة المشاركة إلى سلسلة المساخر التي شاء حظّي أن أكون طرفا فيها...


الاثنين، 1 فبراير 2021

قصّتي مع الشعر (الجزء الثالث)

 


في 2003، شاركت للمرّة الثانية في أمسيات المعهد الشعرية. كان قد استقرّ في ذهني أنّني لم أفز بالجائزة الأولى في العام السابق لأنّ قصيدتي قصيرة نسبية، فأعدت كتابتها في 42 بيتا كما كتبت نصّا آخر يحمل عنوان "أليس الصبح بقريب" في ثلاثين بيتا. لا أزال أفخر بذلك النصّ الذي كتبته وأنا في سنّ السابعة عشر، فهو جزل العبارة، حسن السبك، يراوح بين الرمز والتصريح. في ذلك الوقت، كُنت مفتونا بعبارة بول فاليري "أنا لا أقول الشعر بل أبنيه"، فبنيت نصّي بدقّة. قبل أن أشرع في كتابته، وضعت له تخطيطا مفصّلا: ستكون الأبيات الخمسة الأولى حول كذا، ثم يحدث انتقال في الأبيات الخمس الموالية في ذلك الاتّجاه... كان موضوعه كذلك مناسبا تماما للظرف، إذ كان غزو العراق قد انطلق منذ أيّام.

فاز ذلك النصّ بالجائزة الأولى، وعددت ذلك اليوم من أجمل أيّام حياتي، لكن تلته مرارة سوداء. نمت منتشيا بفوزي الشخصي لأصحو على نكسة جديدة عمّقت جراح الأمّة، ففي 9 أفريل كان جيش الاحتلال يدخل العاصمة بغداد، محطّما الأوهام الساذجة التي زرعها فينا محمد سعيد الصحّاف وأمثاله، وساحقا ما تبقّى لنا من فتات الكبرياء.

في السنة الموالية، شاركت بنصّ "نظرة بنت السماء". عكس السنوات السابقة، كانت لي ثقة مفرطة. ذهبتُ متأنّقا وقد تدرّبت على إلقاء نصّي لكي أقدّمه بشكل لائق عند الإعلان عن فوزي. في ختام الأمسية، بدأ الإعلان عن الجوائز: الثالثة فالثانية ولم يكونا من نصيبي. كنت على أتمّ الثقة من أنّي سأحصل على الجائزة الأولى. لمّا صعدت منشّطة الحفل للإعلان عنها، كنت أتحفّز للقيام لكنّها نطقت اسما آخر! تصبّبت عرقا واعتراني ذهول شديد. ذكّرني ذلك بموقف مماثل لعمر الشريف في حفل أوسكارات 1963، لمّا حُرم من جائزة مُستحقّة عن فيلم "لورانس العرب".

لم أكن متعوّدا على الجدال والخصام، لكنّ الطعنة التي أصابت نرجسيّتي دفعتني أن أذهب، متجهّما، إلى قاعة الأساتذة لأطرح على إحدى عضوات لجنة التنظيم سؤالا فجّا: لم لم يفز نصّي؟ أجابتني ببساطة: لأنّنا لم نفهمه! قالت أننّي أسرفت في استعمال الغريب وأنّ ذلك ممّا عيب على عديد الشعراء ومنهم أحمد شوقي. رمّمت هذه العبارة شقوق نرجسيّتي، بل وانفرجت أساريري. شوقي أمير الشعراء، وقد رُمي بما رُميت به. لعلّ ذلك قدر الأمراء!

في الحقيقة، لم تجانب لجنة التحكيم الصواب في ذلك الاعتبار. لم أستمع إلى النصوص الأخرى بانتباه لكي أقدّر موقع نصّي بينها، ولكنّني بالتأكيد لم أكتبه لكي يُفهم بسهولة. كتبتُ ذلك النصّ تحت تأثير وهم الحبّ الأوّل، وكنت ممزّقا بين الرغبة في التصريح وبين الخشية من ردود الفعل، فكان قصيدا غريبا يلفّه حجاب كثيف من المعجم المهجور. لكن كان للنصّ من آخيل كعبه، فما لبث أن افتضح أمره ووجدت نفسي في موقف أشدّ إحراجا من الأمسية الشعرية نفسها!

لعلّ ذلك النصّ كان من أشأم النصوص عليّ، وقد بقي أثره ماثلا لمدّة لا بأس بها لم أكتب خلالها تقريبا سوى عن الحبّ الخائب. ثمّة نصّ عنوانه "وداع "لا أكاد أذكره إلّا وتعتلي ثغري ابتسامة مشفقة. تلميذ في سنة الباكالوريا يقضّي ليلة امتحان في كتابة قصيد سوداويّ متفجّع وكأنّ مصيبة عظمى قد أصابته. ولكن تلك أحكام المراهقة على أيّ حال، إذ فيها في تهويل ما يصيبنا من الأمور ما لا نفعله فيما بعد في مراحل عمرنا اللاحقة. لا ضير من بعض الجنون حينها، حتّى وإن كان مكبوتا يملأ نفس صاحبه حتّى يكاد يخنقه.

الجمعة، 29 يناير 2021

قصتي مع الشعر (الجزء الثاني)

 


كنت دائما مُقلّا في المشاركة في المسابقات الشعرية. طبعا يمكنني من الناحية النظرية أن أسوق مبرّرات عديدة لذلك، من طينة عدم الثقة في نزاهة اللجان وضعف العمل في الورشات (إن وُجدت) بما يصعب معه حصول تطوير حقيقي للمستوى والديناميكية داخل مثل هذه المناسبات التي عادة ما تقرّب أولاد الدار وتقصي "الدخلاء"، وكلّ ذلك موجود فعلا. ولكنّ الحجّة الحقيقيّة لا تعدو أن تكون نرجسيّة الشاعر. طالما كان يصعب عليّ أن أسلّم نصّا كتبته بدم قلبي إلى الغرباء ينهشونه. كنت أرى ذلك جرحا في كبريائي يغرقني في غضب مكظوم غالبا ما يتحوّل إلى شعور عميق بالأسى.

لذلك كانت مشاركاتي معدودة، حقيقة (بمعنى أنه يمكن أن أعدّها فعلا) وليس مجازا. لم يكن المعهد النموذجي بأريانة من أمكنتي المفضّلة لكن بفضله وقفت لأوّل مرّة لأُسمع العموم شعري. بين سنتي 2002 و2004، دأب المعهد ببادرة من الأستاذتين عائدة الفرشيشي وريم عُمار على تنظيم أمسيات شعرية يوم 8 أفريل من كلّ عام. كان تنظيم هذه الأمسيات على درجة عالية من الحرفية وقلّما حضرت بعد ذلك أمسيات في نفس مستواها. أتيحت لي الفرصة لأسمع حينها لأوّل مرّة شعراء بارزين في تونس مثل جمال الصليعي وجميلة الماجري وخالد الوغلاني الذي قدّم في إحدى المرّات عرضا مميّزا للغاية يجمع بين الشعر والموسيقى رفقة الموسيقار مراد الصقلي. كانت للمعهد قاعة عروض حسنة التجهيز أتاحت أن تجري هذه الأمسيات في ظروف جيّدة تقنيّا.

اشتملت هذه الأمسيات كذلك مسابقة شعريّة مفتوحة لأبناء المعهد. كنت قد أتممت قصيدة "القدّيسة" في العام الأوّل من هذه الأمسيات، ولمّا أعلمتنا أستاذة العربية خولة الشابي بشأن المسابقة، كنت الوحيد الذي أكتب الشعر في القسم، وأخال أنّ أحد الزملاء حينها فضح أمري، فحثّتني الأستاذة على المشاركة ففعلت دون حماس كبير. في تلك الليلة، اصطحبني أبي، راعيّ الفنّي الدائم، إلى الأمسية. كنت شديد الارتباك، وكان ذلك باديا عليّ، فلأوّل مرّة تُعرض إحدى "بناتي" على الملأ. كانت أستاذتي تجلس في الصفّ الذي أمامي، وحانت منها التفاتة فلاحظت توتّري. ابتسمت وخاطبتني قائلة: لا تخش شيئا، فقد فزت بالجائزة الثانية. سريّ عنّي حينها وتنهّدت في راحة. صعدت بعدها إلى الركح لألقي نصّي، وكنت أحفظه، فألقيته كما تُلقى المحفوظات. فيما بعد، تعرّضت لنقد لاذع من أبي حول طريقة إلقائي ودافعت عن نفسي بالقول أنّ جو القصيدة كان يستدعي شيئا من الخشوع ويجب أن ينأى عن الاستعراض. كنتُ أكابر، فإلقائي كان تعيسا حقّا. والحقيقة أنّني طالما اعتبرت مسألة الإلقاء ثانوية للغاية أمام جودة النص، ولم أعتن بها فعلا إلا في فترة متأخّرة.

بعد تلك الأمسية بفترة قصيرة، دعتني أستاذتي للمشاركة في المسابقة الشعرية لمهرجان عيد الورد بأريانة. لم يكن لديّ نصّ جاهز ولكنّي وعدت بالمشاركة. اقترب الأجل ولم أكتب شيئا، وصار الموضوع يؤرّقني. صرت أفتح جميع الدواوين التي بحوزتي راجيا أن أستلهم بعض الأفكار. جاء الغوث من ابن الرومي، إذ بذرت إحدى قصائده فكرة ما في رأسي، ولمّا كنت أستحمّ، تحوّلت هذه الفكرة إلى بيت، ولم يطلع الصبح إلّا وقد استوت القصيدة على سوقها. حاز هذا النصّ (نشيد الورد) جائزة المهرجان، غير أنّه ظلّ طويلا من أبغض النصوص إلى قلبي. كتبته بصنعة متكلّفة ودون أيّ إحساس، فقط بغرض الفوز وقد فُزت! تزامن حفل تسلّم الجائزة مع حدث مأساوي، إذ تحطّمت طائرة مصرية على جبل النحلي. أعلن مدير المهرجان أنّه نظرا للظرف الحزين الّذي تعيشه مدينتنا، لن يقع تسليم الجوائز يومها ويؤجّل ذلك إلى موعد لاحق. لا أعرف الرابط بين الأمرين، لكنّي إلى حدّ الآن لم أتسلّم سوى شهادة تقدير لمجهوداتي في إنجاح عيد الورد.

الاثنين، 25 يناير 2021

قصّتي مع الشعر (الجزء الأوّل)



يمكنني أن أحدّد بشيء من الدقّة متى كتبت الشعر أوّل مرّة. كان ذلك في الثلاثية الأخيرة من سنة 1999. كنّا شرعنا وقتها في دراسة العروض على يد أستاذتي شيراز سلامة، وبدأنا بحور الشعر بالمتقارب. كتبتُ وقتها قطعة من ثلاثة أو أربعة أبيات على مجزوء المتقارب مطلعها:

أقول وسهد أذاني... ألا تشعرين بحالي

لم أر ضيرا حينئذ في تكثيف الجوازات الشعرية، حتّى إن كانت ثقيلة. كلّ الهدف كان ملاحقة الوزن. أبهرني العروض حدّ الهوس. تلك المقاطع الصوتيّة التي تتتالى في انتظام موسيقي بديع أذهلتني، حتّى صرت شغوفا بالتقطيع العروضي لكلّ ما يعترضني، حتّى إن كان مقالا في صحيفة. لم أبلغ نهاية ذلك العام إلّا وقد أحطت علما بجميع بحور الخليل، حتّى ما لم يدخل منها في البرنامج الدراسي، عمدتي في ذلك كتاب شاعرنا نور الدّين صمّود "العروض المختصر" الّذي صار رفيقي الدائم.

في أوائل سنة 2000، قسّمتنا الأستاذة إلى فرق بهدف إعداد بحث عن موضوع الحرب والسلام، وضمن فريقي، كنت مكلّفا بكتابة مقال حجاجي حول الموضوع. كنت مزهوّا بهذه القدرة الناشئة على النظم، فاخترت، بحثا عن التميّز، ألّا أكتب مقالا بل قصيدة. كتبت نصّا من خمسة عشر بيتا، كان أوّل ما أعدّه قصيدا مكتملا لا مجرّد قطعة، كان مطلعه:

الكون باكٍ بعد كونه باسما... للارتياح وللسكينة عادما

لسبب لا أذكره، ألغيت الحصّة التي كانت مقرّرة حول هذا الموضوع. ولكنّني كنت شديد الفخر بنصّي ذاك، واندفعت في كتابة الشعر. بسبب إهمالي، ضاع شيء ممّا كتبته في هذه الفترة المبكّرة إذ أنّي كنت أكتب ما يخطر لي على أيّ ورقة منفصلة ولم أعبأ بجمعه. ليس في الأمر خسارة عظمى على أيّ حال، فلم تكن تعدو أن تكون سوى خربشات منظومة لم يكن فيها شعور حقيقي بل مجرّد استعراض لغوي إيقاعي، شعر عمودي "مضروب بالسفود" كما يقول شاعرنا يوسف رزوقة. لو كان ما كتبته حينها بقي، أخالني كنت سأتنصّل منه.

أحسب أنّ أوّل قصيدة لا أزال أفتخر بنسبتها إليّ إلى الآن هي "القدّيسة" التي كتبتها سنة 2001. كُنت في بدايات تعرّفي إلى فيروز، وفي حالة تشبه الوجد الصوفي، كتبت نصّي ذاك الّذي ظلّ على مدى سنوات أحبّ النصوص إلى قلبي، وإن كنت لم أوقّعه باسمي. كنت أمهر كلّ ما كنت أكتبه باسم "أبي معاذ المطوي". لم يكن ذلك لميول سلفية ولا لرغبة في التخفّي. كنت غارقا في نصوص الشعراء القدامى، وأولعت بشكل خاص بشعر حبيب بن أوس، المكنّى بأبي تمّام الطائي، فاخترت لنفسي كنية مماثلة. انتسبتُ إلى بلدة آبائي، وتكنيّت باسم كان يمكن أن يكون اسمي. حين ولدتُ، لم يكن الأمر حُسم في شأن تسميتي. كان اسم "حمزة" مطروحا بقوّة (ولعلّ ذلك من تأثيرات فيلم الرسالة) ولكن كانت هناك اقتراحات أخرى من بينها "معاذ" الذي كان اقتراح عمّي رحمه الله. لحسم المسألة، اقترحت خالتي أن تكتب جميع الاقتراحات على قصاصات وأن يُنظر على أيّها تقع يدي، فكان أن وقعت على اسم حمزة. يا لها من بداية شعرية للحياة: الرجل الذي اختار اسمه!


الثلاثاء، 5 يناير 2021

ما كُنت من الثائرين... مسارات شخصية في عشريّة الثورة (الجزء الأوّل)


عشر سنوات مرّت على انطلاق الثورة... من العاديّ لشخص تزامنت زهرة شبابه مع هذه المدّة أن يعتبر أنّها مرّت بسرعة، كما من المفروض أن تمضي سنين الشباب. الشعور بالزمن نسبيّ للغاية. لكنّها في الحقيقة لم تكن بهذه السرعة. إذا عُدّت هذه الفترة بالأحداث التي احتوتها، فلا شكّ أنّها مرادفة لثلاثين أو أربعين سنة ممّا سبقها. تذكرون تلك السنوات؟ لم يمرّ فيها شيء يُذكر. انقضت كلّها تقريبا بين نفس الألفاظ (من طينة "العناية الموصولة" و"معا من أجل تونس"...) ونفس الوجوه (التي حتّى إن تغيّرت، تبقى نفسها!) ... أذكر أنّه عندما سقطت طائرة في جبل النحلي، خرج المواطنون أفواجا لمواكبة هذا الحدث. طبعا تعلّق الأمر بكارثة، لكن كان في وجوه الجميع فرح طفولي لا يقدرون على إخفائه: شيء ما وقع في هذه البلاد!

يمكن أن يتجادل الجميع (دون أيّ نقاش حقيقيّ): قبل الثورة خير؟ بعد الثورة خير؟ غدوة خير؟ أنتمي إلى تلك الفئة التي تحاول منذ مدّة أن تحافظ على تفاؤلها، ولكنّي أراني أكاد أعجز عن ذلك. الثورة حدث قلب مسار حياتي بشكل كامل، ولعلّ أكبر فضل له عليّ أنّه حرّرني من جانب كبير من الخوف، ولكنّني أجد نفسي بعد عشر سنوات مكبّلا بمخاوف أخرى.

مسار التحرّر من الخوف: 2011-2014

سنة 2011 كانت بالتأكيد سنة غير عاديّة. كانت سنة التغييرات الكبرى، على الصعيد الوطني والشخصي. أوقدت شعلة في داخلي ظلّت شديدة اللهيب إلى حدود 2014.

ما قبل 14 جانفي: بين اليأس والمثالية والواقعية

عندما انطلقت شرارة الثورة في سيدي بوزيد، استقبلتها ببرود كبير... شخص يحرق نفسه احتجاجا على مصادرة عربته... وهل سيسترجعها الآن إذ تفحّم؟ ليس الأوّل ولن يكون الأخير، ولن يكون مآل لهيب الاحتجاجات إلا الخمود، كما حدث قبل ذلك بثلاث سنوات بالحوض المنجمي... لم يكن برودي ناتجا عن قلّة اهتمام بالشأن السياسي، فقد كنت متابعا جيّدا للسياسة منذ صغر سنّي. قبل عام ونيف، كنت قدّمت استقالتي من وزارة الشؤون الخارجية بعد شهرين فقط على التحاقي بها (إثر مناظرة دخلها خمسة آلاف مترشّح اختير منهم ثمانية عشر فقط!)، لأنّني لم أحتمل الجوّ الخانق هناك، لا سّيما في سنة مثل 2009 كان عنوانها التهليل لفوز جديد في الانتخابات وخاصة بعدما كنت تعوّدت في السنة الأولى من الماجستير على مناخ من الحريّة النسبية يمكنك فيه أن تنقد بعض الشيء ما دمت ملتزما بالضوابط الأكاديمية. عدت وقتها إلى إكمال مذكّرة الماجستير، فالتدريس بصفة عرضية في كليّتي.

كان موقفي يأسا من هذا الشعب. قبل أكثر من ربع قرن، بمجرّد كلمة ألقاها "المجاهد الأكبر"، نسي فلذات أكباده الّذين احتوتهم القبور وتغاضى عن دمائه السائلة ليخرج مصفّقا مهللّا لـ"نرجعوا وين ما كنّا"...خان هذا الشعب من ناضلوا من أجله قبل ذلك وبعده كثيرا، فما الّذي تغيّر الآن؟ ألم تصبح الأوضاع أسوأ مع تفشّي عقليّة المحسوبيّة و"الأكتاف" والمناشدة و "الصبّان" و "مشّيلي ونمشّيلك" و "اخطى راسي واضرب" في كلّ الأوساط تقريبا؟ كنت أؤمن أنّ أيّ تغيير ممكن يستوجب عملا فكريّا وثقافيا كبيرا على مدى جيلين أو ثلاثة، وقبل ذلك فكلّ حركة احتجاجيّة لن تجد صدى يذكر وستقع خيانتها كما وقع ذلك مرارا وتكرارا. ولذلك، كنت أرى أنّ أيّ عمل حقيقي يجدر أن يكون مع الأطفال..."فات الفوت" فيما يخصّنا، لكن لعلّ البقيّة الباقية من الأمل يمكن أن تغرس فيهم...وفي الحقيقة، لم يكن موقف اليأس هذا يخصّ رأيي في الحياة العامة، بل أنّه كان من تداعيات اليأس الّذي ضرب أطنابه في كلّ جوانب حياتي ...في بداية جانفي 2011، ذهبت لإجراء مقابلة مع محامية بهدف العمل في مكتبها. بصراحة فجّة، قالت لي: لا أعترف بأيّ من آليات التشغيل التي تعتمدها الدولة، بإمكانك أن أمنحك مرتّبا قدره 300 دينار. لم أعتبر، وأنا الأوّل على دفعتي في الأستاذية والماجستير، ذاك العرض إهانة. قلت لها ببساطة: سأفكّر في الأمر. الأمر عادي، وقد "تعفّن قلبي من العادي" كما تقول الأغنية. كنت سأستسلم حينها إلى أيّ قدر تحملني إليه قدماي، لأنّي لم أكن أرى آفاقا غير هذا "العادي".

ومع ذلك، هُززت صباح العاشر من جانفي. كانت الاضطرابات قد وصلت إلى العاصمة، وكنت لا أزال غارقا في لا مبالاتي. صرخ أحدهم في وجهي "اتّخذ أيّ موقف، حتّى لمساندة السلطة، لكن لا تبقى بهذه السلبيّة!"...أصابتني هذه الكلمات في مقتل، ومع توارد الفيديوهات عن عمليات القنص في الوسط الغربي، لم يكن بإمكاني أن أحافظ على سلبيّتي.

منذ ذلك الحين، بدأت في القيام بشيء من التحريض ضدّ النظام، وخاصة ضدّ خطابي "400 ألف موطن شغل" و "أنا فهمتكم"، ولكن حتّى مع اتخاذي لموقف، شاب حماستي الكثير من التردّد... اقتصرت على الفضاء الافتراضي وبعض المحادثات في دائرة شخصيّة ضيّقة جدّا ولم أخرج يوما إلى الشارع. ذلك أنّه لم تكن لديّ أدنى فكرة عمّا يمكن أن تؤول إليه البلاد. لم أكن أثق لا بمعارضة الداخل ولا بمعارضة الخارج، فلم أكن يوما من المتحمّسين للخطابات السفسطائيّة والرجعيّة والطوباويّة ولا للإيديولوجيات الميّتة الّتي يراد إحياؤها.

طبعا كان يرافق هذا الموقف "المعقلن" الكثير من الخوف ممّا يمكن أن يقع لي لو تورّطت في مثل هذه الأحداث. منذ قرأت "شرق المتوسّط" لعبد الرحمان منيف وأنا في سنّ الخامسة عشرة، صرت أشعر بكثير من الإكبار تجاه من خاضوا عذابات التجربة السجنية، ممزوج بخوف عميق من عيشها. المثالية كانت تدفع إلى التشبّث بالمبدأ حتّى الموت في سبيله والواقعيّة كانت تدفع في اتّجاه طلب السلامة.

لم يكن لي نشاط سياسي حقيقي قبل الثورة. كان لي بعض الأصدقاء المنتمين إلى حزب كرتوني حضرت معهم بعض المناسبات إلى أن سوّلت لي حماقتي الإدلاء بتعليق ساخر حول الطابع الديكوري لذلك الحزب لأمينه العام، فوجدت كلّ الأعين ترمقني شزرا، وردّ عليّ السيّد الأمين العام  (الّذي أصبح اليوم محلّلا سياسيا) بخطابة متوجّسة، فلم أعد بعد ذلك إلى حضور مثل تلك المناسبات. في 2005، شاركت في تظاهرة منظمّة في الكليّة للاحتجاج على زيارة شارون المرتقبة إلى تونس في إطار قمة مجتمع المعلومات، وهي تظاهرة تدخّل الأمن لتفريقها. 

عندما كنت في المعهد، كانت لي تجربة فريدة تركت أثرا عميقا في نفسي. أردتُ ومجموعة من الزملاء تنظيم شيء ما للاحتجاج على غزو العراق. لم نتمكّن إلا من جمع عدد ضئيل من المتحمّسين (لا أظنّهم كانوا يتجاوزون أصابع اليدين)، ومع ذلك سرنا معا حتى وصلنا إلى كليّة العلوم القانونية فوجدنا جمعا كبيرا هلّلوا لمجيئنا، على قلّتنا ويفاعتنا، ومشينا معهم في محيط محطّة 10 ديسمبر يحيط بنا عن كثب جمع من رجال الشرطة الّذين ما لبثوا أن رفعوا هراواتهم وشرعوا في ضرب المحتجّين. كنت في الصفوف الأماميّة، لكنّي اكتشفت في نفسي عدّاء ماهرا، فما أسرع أن ركضت حتّى وجدت نفسي أبتعد عن ساحة المعركة في ظرف دقيقة. كان هناك من الزملاء من لم يكن في سرعتي لكنّ الطلبة قاموا بإدخالهم إلى الكليّة وحمايتهم حتّى خلا الجوّ فعادوا إلى المعهد. لعلّي اتّخذت قراري بالالتحاق بكليّة العلوم القانونية منذ تلك اللحظة. 

المفارقة تكمن في كوني لم أعرالنشاط الطلّابي اهتماما يذكر حين التحقت بالجامعة. كنت شديد الحرص على فرديّتي، راغبا في إعمال النقد في كلّ شيء ولم تقنعني البتّة الإضرابات العديدة التي كان اتّحاد الطلبة يقوم بها، ولا يزال من السخف بالنسبة إليّ حتّى الآن الإضراب دفاعا عن الحقّ في الترسيم الرابع أو الالتحاق الآلي بالماجستير. أظنّ أنّ النشاط الطلابي الوحيد، خارج الإطار الدراسي، الذي حضرته كان ناديا يسمّى "نادي الحكمة" يناقش مختلف القضايا الاجتماعية والسياسية، ولم يلبث أن تعطّل بعد لقائين أو ثلاثة. دعاني أحد أعضائه (صار فيما بعد من كبار الناشطين السلفيين) مرّة إلى المشاركة في تظاهرة بمقرّ الحزب الديمقراطي التقدّمي، لكنّي تهيّبت ذلك. كان مجرّد المواظبة على اقتناء جريدة "الموقف" داعيا لبائع الصحف إلى مساءلتي، فما بالك بالانتقال إلى حضور الأنشطة؟؟ 

رغم إعجابي وقتها بجرأة الديمقراطي التقدّمي وجريدته، كان لي موقف متحفّظ منه لسبب ظلّ يلاحقني بعد ذلك في كلّ المجالات: أنّه لا يملك مشروعا. كتبت مرّة مقالا نقديّا في مدوّنتي تجاه إعلان أحمد نجيب الشابي ترشّحه لانتخابات 2009، وقد تفاعل معه هو شخصيّا ممّا أثار إعجابي، ولكن لم يغيّر موقفي من حزبه، وهو موقف أظنّه الآن موغلا في المثالية، كما كانت عادتي في أغلب ما أكتبه. 

كان اكتشاف عالم التدوين في أواخر سنة 2007 فرصة لي لأتحرّر بعض الشيء فأخوض في الشأن العام باسم مستعار. كنت أحاول أن أنقد ولكن بحذر مدروس، وأحيانا بشيء من التورية التي لا يخفى معناها (كما في نصّ: المقامة الكروية). خصّصت للخوف نفسه مقالا من أربعة أجزاء كان من أطول ما كتبت حينها، وإن أكن اهتممت وقتها بالخصوص بجذوره الدينية. تعرّفت في ذلك الحين على عدد من الأقلام الساخرة والناشطين السياسيين ممّن برز بعضهم بعد 2011. ولكن منذ 2009، أخذ حماسي في الفتور وارتفع منسوب الخوف خاصة لمّا سمعت باعتقال بعض المدوّنين الذين كنت أعرفهم.

لازمني هذا التخبّط في مقاربة الشأن العام حتّى جانفي 2011. ومع خطاب 13 جانفي، هنّأت نفسي على تردّدي تجاه الأحداث التي سبقته... خدعتني جموع المهلّلين والسيارات المستأجرة، وذكّرتني بجانفي 1984. فترت الحماسة (الّتي لم تكن كبيرة بطبيعتها) وظننت أنّنا وصلنا إلى آخر الطريق، وسيتمّ الاقتصار على بعض الإصلاحات البسيطة، الّتي سيتمّ تقديمها في شكل إنجازات، قبل محاولة امتصاص روحها فيما بعد...وعلى كلّ حال، ذلك خير من لا شيء! حتّى تلك الأمسية التلفزيونية التي قدّمها سامي الفهري ليلتها بدت لي مؤشّرا جيّدا للغاية، إذ لأوّل مرّة نشاهد حقوقيين كان يُضيّق عليهم يجاهرون بانتقادهم للنظام على قناة 7 وما أدراك ما قناة 7!

ولذلك لم أخرج يوم 14 جانفي...لم أكن كذلك أثق بالاتّحاد ولم أكن أنتظر الكثير من المظاهرة الّتي ينظّمها. يوم 14 جانفي نمت إلى منتصف النهار.

(يتبع)