الاثنين، 8 يونيو 2015

ثلاثون...

أصبح بإمكاني أن أشهد على التاريخ قليلا...يمكن مثلا أن أضع رجلا على رجل وأترشف من فنجان قهوة وأقول لبعض الصبية: "شهدت حرب الخليج وأنا أستعد لسنتي الدراسية الأولى، ولم تكن أنت قد ولدت بعد، بل لم يكن والداك قد التقيا"...صار من الممكن أن أتحسر على أيام زمان وأذم جيل اليوم، جيل "طاحلي الجبن"، باعتباري أنتمي إلى جيل سابق، "جيل الياغرت"، حتى وإن كنت لا أحب الياغرت...صرت أنصت إلى "البارح كان في عمري عشرين" وأعيش كلماتها...أصبحت أسمع من يناديني "عمي حمزة" أو "سي حمزة " أو "أستاذ حمزة" أو "دكتور حمزة" (هو هاهنا لقب شرفي لا يستدعي مناقشة أطروحة) دون أن يثير ذلك في نفسي استهجانا أو سخرية، بل أراه احتراما واجبا...صارت لي ضرس مقلوعة وعين كليلة ورأس عليه مبادئ الصلع وأذن لا يفارقها الطنين...

قطعت نصف المسافة بين الشباب والكهولة. وأراني فيما مضى قلّما ندمت على ما فعلت بقدر ما ندمت على ما لم أفعل. لم أستغلّ "حقي في الخطأ" كما ينبغي. طالما خشيت من الغابة وبحثت عن الطرق المعبّدة وأراني الآن أقول "ليتني تهت قليلا". عشت داخل نفسي أكثر ممّا ينبغي، ومع ذلك حُبست في ركن منها فلم أعرفها حقا، إلا قليلا ومؤخرا...لم تكن لي عنها إلا صورة مشوشة ألتقط شظاياها من عيون الآخرين وأرتّق منها ما أظنه أنا...
ما يدهشني، ولا أدري أخيرا كان ذلك أم شرّا، أني أراني لم أتغير جوهريا منذ سن الخامسة عشر. أحمل نفس المثل، ورمزاها قديستي وسيرانو، وأتعامل مع ما يحيط بي بشيء من التطرف: إما أن أهب كل نفسي إذا أحببت، وإما أن أكون في قمة اللامبالاة في غير ذلك..."المناطق الوسطى" أو "الأمور المتشابهات" لم تكن يوما من مزاياي، وإن كنت بارعا في التنظير لها بريبية لم يمسها اليقين إلا في الآونة الأخيرة.
في سن السادسة والعشرين، رأيتني وقد بلغت السنّ التي مات فيها طرفة أكتب:

فـلولا ثــلاث هـنّ من عـــيشة الـفــتىوجدّك لم أحــفـــل مــتى قــام دامـــع
فمنهنّ نفحات من السحـــر في الدجىصباح الحـــجى إن تقــتبلها المسامـع
وسامرة ســمـــراء رفــقتها الشــــذىوقطر الندى والقـلب كالـزهــر يانــع
وقدّيــســة من فيضها يقبـس السّـنـــــاوتغزو النهى كلّ الشـــموس الطوالــع


لا شكّ أني كنت أبالغ قليلا...لا يقتصر ما في الحياة على الكتابة والقهوة والقدّيسة. طالما سكنني هاجس الخلود، وطالما كانت الكتابة بالنسبة لي طريق الخلود، والقهوة أفيون الخلود (مضاد اكتئاب خفيف للاستمرار) والقدّيسة مثال الخلود...ما كنت أحيا...كنت منشغلا جدّا عن يومي بمستقبل لم أره، ولا زلت لا أراه...لم تكن الحياة أكثر من برزخ أقضّيه بنفاد صبر في انتظار الأبد...لم أكن أعلم أنّ على هذه الأرض ما يستحقّ الحياة...تفاصيل بسيطة في يومك تأسرك وتغسل عنك كلّ همّ..أو حبّ فريد تتدفّق به الدماء في كيانك فتعانق الآن والغد، وتغرق في النور...