‏إظهار الرسائل ذات التسميات أدب. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات أدب. إظهار كافة الرسائل

الثلاثاء، 26 أغسطس 2014

عطر أنثى


كان يكفيه أنّها من فردوسه المفقود. لو عرف ذلك مسبّقا، لسعى إلى لقاءها بنفس أكثر انشراحا. ربّما كان اختار قميصا أكثر أناقة. ربّما كان أكثر من وضع عطره المفضّل. ربّما كان سأل أخته، بشيء من التوتّر الّذي يجتهد في إخفائه، عن رأيها في شكله. ربّما كان ألقى نظرة إلى المرآة قبل أن يخرج. لم يفعل شيئا من ذلك. نظر إلى ساعته في تبرّم وصفق الباب بقوّة كعادته عندما يضطرّ إلى فعل شيء بسبب الواجب ولا شيء غير الواجب. اضطرّ فيما بعد إلى الانتظار لعدّة دقائق حدّث نفسه فيها أنّه لا يأتي من ورائهنّ إلاّ وجع الدماغ. أقبلت تحثّ الخطى وهي تتمتم باسمة بكلمات اعتذار. دون أن يشعر وقف لاستقبالها. كان قد غفر لها قبل أن تنطق. منذ لمحها والفجر يلوح من شفتيها، صلّى في نفسه صلاة السكينة. لمّا مسّت يدها كفّه، سرت إليه كالعدوى ابتسامتها. لمّا نطقت، بلثغتها الظريفة، أيقن أنّه قطع المسافة كاملة من الضيق إلى الابتهاج في بضع ثوان.

لم يأخذ الواجب من لقاءهما سوى وقتا قصيرا. حرص هو على ذلك وانتقل بلباقة، تغيب عنه عادة، إلى حديث أكثر شخصيّة، ولم تمانع هي. سألها عن بلدتها، ولمّا أجابت، قال: "هذا يفسّر كلّ شيء". أغضت تخفي احمرار وجهها، وداخله شيء من ارتباك، إذ أدرك فجأة أنّه خطا عن غير وعي إلى الغزل. ولكنّه كان متوقّد البديهة في تلك الأمسية فلم ينثن. خاض بين قطع الرياض اللائي ملئن زهرا. طويت له الأرض في حديثهما ودنا بعيدُها، وكلّما انقضت أحدوثة، ودّ لو تعيدها...
لمّا ودّعها، تردّد في صدره قول إمرئ القيس:

أ لم ترياني كلّما جئت طارقا
وجدت بها طيبا وإن لم تطيّب
وما إن غابت عن ناظريه، حتّى وجد نفسه يطفو على غيمة من عطر.

الاثنين، 11 أغسطس 2014

هل مضى زمان الشعراء؟

في مسرحيّة "بالنسبة لبكرا...شو؟" لزياد الرحباني التي عرضت سنة 1978، يؤدّي فايق حميصي دور شاعر يدعى الأستاذ أسامة. هو دور هامشي في أحداث المسرحيّة، بل أنّه يكاد يتقلّص ليكون جزءا من الخلفيّة الصوتيّة في عديد الأحيان، غير أنّه يفاجئنا أحيانا إذ يقوم منشدا لبعض روائعه، كقصيدته العصماء "متعاقب أنا":


متعاقب أنا في أصل الصورة
عاهدت اللوز والأشياء الأخر
بأنّني غدا على قرميدك المهزلة
سأمتطي...أمتطي...أين أمتطي؟
متعاقب أنا فيكِ يا أينك
يا أينك من أصل الصورة
تسكنني اللامركزية
يا أينك يا بهيّة
خبّريني، هل ضاجعك الهاتف وسط الرياح المنافقة؟
عفوا
اخلعني عنّي يا فجر المسامير
وأغرق بعيدا في أصل الصورة
إنّها المهزلة الأخيرة
ساورتني شكوك الصوف
و كان هيلاسيلاسي جاثما عند باب المستودع
مهلا يا زهرة الناريت
أبرق لهم وقل لهم حذار زهرة الناريت، حذار شكوك الصوف
معذور أنا أفلا تعذريني
أفلا تعذريني بعد أن سقطت حتى الأزل
و لم تزل تسقط حتى الريش صورة الأصل من أصل الصورة

ثمّ يقف قرب الطاولة ليقول:
اخلع عنك هذه البلابل المشبوهة، فإنّ اللون السابع بعد الألف أرجواني

يحاول نجيب، العامل بالمطعم، الاستفسار عن معنى ما قيل، فيجيبه الشاعر: هذا الشعر ليس لك وليس فهمه متاحا لكلّ من هبّ ودبّ. يغضب نجيب ويمسكه من خناقه صائحا "ما تقصد بأصل الصورة؟". يفصل رامز بينهما. يحاول الأستاذ أسامة الخروج دون أن يدفع الحساب، لكنّ نجيبا يتفطّن لذلك فيضطرّ الشاعر للدفع على مضض. إثر ذلك، يجري نقاش بين رامز ونجيب يعبرّ فيه رامز عن إعجابه بشعر الأستاذ أسامة، ويقول عنه: "شعره كلّه مغاز وعبر حتّى وإن لم نفهمها. المهمّ أنّه هو يفهمها "!

كنّا، وربّما لازلنا، نردّد عبارة "الشعر ديوان العرب" المنسوبة إلى ابن عبّاس ناسين أو متناسين أنّ هذه العبارة تمّ تجاوزها منذ زمن طويل (يقول الجاحظ "كان ديوانها"). كان الشعر ديوان العرب عندما كان حاملا للغتهم وقيمهم ومآثرهم وأيّامهم. في الزمن الماضي، كان الناس يسمعون القصيدة من الفرزدق أو جرير فينتظرون نقيضتها من صاحبه، كما ينتظر القوم اليوم حلقة من مسلسل. فيما مضى، كانت القصيدة الواحدة ترفع فردا خاملا، كالمحلّق، إلى مرتبة السادة، وتُنزل علية القوم، كبني نمير، إلى أسفل سافلين. في الزمن الغابر، كانت القصيدة، كمعلّقة عمرو بن كلثوم، نشيد القوم، شعارهم ودثارهم ومبعث فخرهم. فيما سلف، كان شاعر كالنابغة يسلّ سخيمة ملك غاضب فيعفو عنه ويجزل العطاء. في الزمن البائد، كان الناس يغتنمون حتّى الحروب ليسألوا أعدائهم من ذوي البصيرة بالشعر وأهله أن يفاضلوا بين شاعرين...


أمّا الآن...

"الأستاذ أسامة" تصوير كاريكاتوري بلا شكّ، لكنّه لا يبتعد كثيرا عن صورة الشاعر السائدة في مجتمعنا الآن. الشاعر اليوم يكتب ما لا تُدرى نسبته إلى الشعر (كان الشعر شكلا كلاما موزونا مقفّى، أمّا اليوم لم يعد هناك اعتبار لا للوزن ولا للقافية). الشاعر اليوم يكتب ما لا يُدرك معناه إلا بضرب من الكهانة. الشاعر اليوم لا يُعرف إلا في دائرة ضيّقة من مرتادي الصالونات. وكالأستاذ أسامة الذي أراد الهروب من دفع الحساب، بعض شعرائنا يمارسون ضروبا مماثلة من الصعلكة...لا صعلكة نبيلة كعروة بن الورد، بل ما ذمّه أبو الصعاليك في قوله:


لَحَى اللهُ صُعْلُوكًا إِذَا جَنَّ لَيْلُهُ ...مَضَى فِي المُشَاشِ آلِفًا كُلَّ مَجْزَرِ
يعُدُّ الْغِنَى مِنْ دَهْرِهِ كُلَّ لَيْلَةٍ...أَصَابَ قِراهَا مِنْ صَدِيقٍ مُيَسِّرِ
قَلِيلَ الْتِماسِ المالِ إلاَّ لِنفسِهِ...إذَا هو أَضْحَى كالعَرِيشِ المُجَوَّرِ
يَنَامُ عِشَاءً ثُمَّ يُصبِحُ قاعِدًا...يَحُتُّ الحَصَى عَنْ جَنْبِهِ المُتَعَفِّرِ
يُعِينُ نِسَاءَ الحَيِّ مَا يَسْتَعِنَّهُ...فَيُضْحِي طَلِيحًا كَالبَعِيرِ المُحَسَّرِ

لعلّها سيرورة طبيعيّة. قال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه "كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصحّ منه". لكن تطوّرت العلوم والفنون فيما بعد وأقبل عليها الناس فترك الشعر مكانه الرفيع كلسان للمجتمع وقيمه الأخلاقيّة والجماليّة ليتحوّل إلى أداة للتكسّب أساسا وزاد انحداره في عصور الانحطاط ليصبح مجرّد أداة للحذلقة اللغوية والبلاغيّة. تداركه الشعراء الإحيائون فأعادوه إلى حدّ ما ترجمانا لهموم الشعوب وطموحاتها وقرّبه الرومنطيقيون من دواخل الذات الإنسانيّة ثمّ لم يلبث أن دخل في مراحل تجديد متعاقبة ومتسارعة كاد معها يفقد معناه. مع الحداثة، أو ربّما مع وهم الحداثة، أضحى مقياس الشعريّة الإغراب في الصورة إلى حدّ الإبهام. لا يهمّ أن تكون الصور هلاميّة، لا تكاد تمسك منها إلا قبض الماء. وإيّاك أن يكون معنى قولك واضحا، فتلك مباشرتيّة لا تليق بعصرنا الآن. تحدّث عن "فجر المسامير" و"شكوك الصوف" و"اللون السابع بعد الألف" وسيجد النقّاد الأجلّاء سبيلا لتأويلها حتّى وإن لم تقصد بها شيئا (وبعضهم استخلص فعلا بعض المعاني من قصيدة الأستاذ أسامة التي قصد بها كاتبها تحديدا أن لا يكون فيها معنى !!)...ولعلّ شعر اليوم هو شعر على نمط عصره: شعر بلا معنى لعصر بلا معنى.

ولعلّ الشعر لم يعد له من مكان في مجتمع يعيش على نسق الاستهلاك. ربّما كان من المفترض أن يؤدّي تعميم التعليم إلى الارتفاع بالذائقة الجمالية العامة ولكنّه أدّى على العكس من ذلك إلى أن تصبح الثقافة إحدى السلع المعروضة كأكلات سريعة. لا صبر لأحد على تذوّق نصّ وتصيّد مواضع الجمال فيه. الكلّ يريد ما يلتهمه التهاما. ولو نزلت إلى الشارع فسألت عن الشعراء العرب المعاصرين، لن تظفر على الأرجح بغير اسمين: نزار (لكثرة ما غنّي من شعره) ودرويش (بفضل "ريتا"، ولأنّه الاسم الأكثر تردّدا على ألسنة المثقّفين هذه الأيّام). أمّا إن سألت عن الشعراء التونسيين، فسيكون جيّدا لو ظفرت بإسم، أيّ إسم. لا يصلح الشعر اليوم إلا لانتزاع بعض المقاطع، ربّما دون قراءتها حتّى وإن كانت تتحدّث عن هيلاسيلاسي أمام المستودع، لنشرها على فايسبوك قصد التباهي بالمستوى العالي من الثقافة. أمّا بعيدا عن الحياة الافتراضيّة، فعلى الأرجح أن لا يثير الترنّم ببعض الأبيات إلا السخريّة.


أو لعلّ لكلّ زمن شعره. شعر إمرئ القيس كان صالحا لزمن إمرئ القيس وشعر أبي فراس كان صالحا لزمن أبي فراس. ولكن كلّ مجتمع ينتج شعره. كان الملحون ولا يزال يُنشد ويُسمع ويُطلب في بعض المناطق من البلاد، ولعلّ "الراب"، مهما اختلفت التقييمات منه، هو شعر المناطق الحضرية والأحياء المهمّشة في هذا الزمن.


أو ربّما يكون الشعر يحتاج، مثل عديد الأشياء الأخرى، إلى مشروع....مشروع يُخرجه من الهامشيّة، من أن يكون مجرّد ضوضاء في الخلفيّة كشعر الأستاذ أسامة، ليكون دعوة متجدّدة إلى اكتشاف الجمال، أيّا كان مأتاه، في هذا العالم ويرأب الصدع الذي طال أمده بين طائفة الشعراء وباقي المجتمع...مشروع يجعلنا نتلمّس شيئا من الطريق أمام السؤال الخطير لمسرحيّتنا الكبرى: "بالنسبة لبكرا...شو؟"


الاثنين، 25 أغسطس 2008

ليلة سقوط السماء

لم أكن أنوي الذهاب...لكنّ نفسا مرّة كالعلقم، حادّة كشوك القتاد، معذّبة كبروموثيوس أمسكت بخناقي و صرخت و السياط تجلدها: لو فررت من قدرك إلى آخر الكون فسيظلّ يتبعك...أذعنت و عجت على الطلل القديم أسائله... جلت بين أرجائه مستذكرا: هنا غرست الورد و ارتقبت تفتّحه و لكنّه ذبل و مات مع قدوم الربيع...في تلك الزاوية عرّجت إلى السماء و شربت حتّى الثمالة من خمر الجنّة...هناك أطلق الرّصاص على الجواد المصاب و اغتيل منديل أو انتحرت يد...على ذلك الكرسيّ أوحي إليّ أن اقطع شرايينك و ليكن دمك مداد قصائدك...فجأة ظهر بلباسه الأبيض الفضفاض كأنّه شبح... نفس الابتسامة الهادئة على شفتيه و نفس الدّماء منذ أربع قرون على يديه...غير أنّي لم ألمح السماء...ربّما كان الغبار الكثيف يحجبها عنّي...رفعت مسدّسي بيد مرتعشة...ابتسم ساخرا و اقترب أكثر...صرخت فيه أن يقف مكانه لكنّه دنا حتّى كاد يلامسني...أغمضت عينيّ و ضغطت على الزناد...لمّا فتحتهما كان الظلام يعمّ المكان...خلت للحظة أنّي فقدت قدرتي على الإبصار...بعد ثانية، أحسست بالدّماء تنزف بغزارة من صدري...لم أر جثّته و لكن في ركن بعيد كان هناك قلب دام تُدقّ طبوله الأخيرة...أقبلت ثلاث فتيات في لباس الحداد...حملنه معا...غسّلنه بماء دموعي و كفنّه بمسودّة قصيدتي الأولى ثمّ دفنّه في أعماق سحيقة لا يصل إليها نور...أظلمت ثانية...ثمّ وجدت نفسي تحلّق من جديد غير أن لا سماء...لقد سقطت السماء...

الثلاثاء، 5 فبراير 2008

المقامة الكروية

حدّث حمدان الحفيان قال:
كنت أتسكّع بشوارع العاصمة كالعادة، رفقة زميلي في البطالة حمادة، نمتّع النظر بمشاهدة الوجوه الجميلة، الّتي لا يملك القلب أمامها أيّ حيلة، لمّا رأينا مقهى يبدو أنّه جديد، بكراسيه البلاستيكيّة سعيد، فقلنا لم لا نتخذه مقرّا عوضا عن مقهى الحومة، الّذي طردنا منه عم سلومة، بعد تراكم الكريدي، ويأسه من قولنا سندفع يا سيدي..
و لمّا دخلنا، و للنظر في زوايا المحلّ أجلنا، رأينا في زاوية جمعا من المواطنين، يستمعون إلى رجل غاضب حزين، يطلق من السباب، ما لا يجدر ذكره على صفحات الواب، و يقول حتّام نذعن لهذا الطاغية، الّذي قادنا الى الهاوية، و ألحق بنا العار، و أنزل بالوطن الدّمار، و جعل سمعتنا في الطين، و صيّرنا سخريّة الساخرين، و يظنّ أنّه وليّ به نتبرّك، قد آن لنا أوان التحرّك، و الجمع يقول أصبت يا هذا، لن نتسلل خوفا منه لواذا، سنرميه اذا أتى بالحجارة، مع بقيّة أولاد الحارة..
فقلت لحمادة، لنهرب يا تعيس، قبل أن يأتي البوليس، فقد أوقعنا الحظّ اللعين، مع هذه الزمرة من المعارضين، الّذين تكتب عنهم الصحف و المجلات، و الّذين يتّصلون بالسفارات، و لعلّهم يعدّون لانقلاب، يوقع البلاد في خراب، فقال لي اثبت يا حمدان، بل هو حظّ مزيان، فليس علينا سوى كتابة تقرير، يؤدّي بهم الى برج الرومي و بئس المصير، و لن يقال لك بعد اليوم يا بطّال، بل ستصبح من أصحاب الأموال، و تختار على ذوقك بنت الحلال، فقلت له أنت على صواب، سيرفع عنّا العذاب، و نصبح من الأبطال المشاهير، و تفرش أمامنا أبسطة الحرير..
و بقينا نراقب، بنظر ثاقب، و نسمعهم يتكلّمون بحماس، لا يجرؤ عليه قادة منظمّة حماس، كأنّهم سيخوضون أمّ المعارك، و يرمون النفس في المهالك، و يبصقون على صورة في جريدة، و يقولون لها أضجرتنا بأفكار تظنّ أنّها سديدة، ثمّ قال أحدهم قد جاءت العاشرة، و ربّما نزلت الطائرة، فهرولوا خارجين، يدمدمون غاضبين، ينادون بالويل و الثبور، و بالغضب الآتي من الجمهور..
فاحترنا في هذا الأمر، لمّا تركوا المقهى كالقفر، و نظرنا في صحيفة الأخبار، فاذا الصورة المبصوق عليها صورة لومار، فنظرنا الى بعضنا واجمين، نكود نكون من الباكين، على ضياع الأحلام الورديّة، في هذه العشويّة ، و صحنا لعن الله الكورة ، اللي كل الناس بيها مقهورة..