الجمعة، 30 يناير 2009

الوطن الرحباني: أطلنتس الضائعة (1)

من المقولات الشهيرة لأمادو همباتي با: "في إفريقيا، إذا مات شيخ فإنّ مكتبة تحترق"، فالتراث في تلك المنطقة من العالم بقي في جزء كبير منه شفويا محفوظا في صدور الرّجال، لم يخطّ في صفحات الكتب، فإذا مات أحدهم فإنّ جزء من التراث يضيع إلى الأبد فالشيوخ هناك يقومون بنقله من جيل إلى جيل، و هو دور هام جدّا، لا شكّ في ذلك، فالتراث جزء من هويّة أيّ وطن من الأوطان، و بالتالي، فإذا مات شيخ هناك فإنّ جزء من الوطن يموت معه...و لكن في مناطق أخرى من العالم، هناك أشخاص إذا ماتوا تموت معهم أوطان بكاملها...

مات منصور رحباني، لحق بشقيقه عاصي إلى السماء الّتي كانا لها لسانا ردحا من الدهر و أصبح "الأخوان رحباني" صفحة تقرأ في تاريخ الفنّ...رحل آخر من تبقّى من أعمدة "الوطن الرحباني"، فغمرت مياه المحيط العاتية هذا الوطن الّذي اختفى، تماما كجزيرة أطلنتس الأسطوريّة الضائعة إلى الأبد...وطن كان شهابا مارا، و لكن شديد الشعاع...هو وطن طمست معالمه منذ أكثر من ربع قرن، لكن ظلّ منصور حاملا رايته طيلة تلك المدّة حتّى لبّى داعي الرحيل، و لعلّه كان يردّد في نفسه قبل أن يركب السفينة:"اللي بدّو يصير ما عاد يهم، أنا لعبت الدور و الدور المهم"، و كيف لا و هو قد ساهم في تكوين وطن رحباني بمعناه الفنّي و الرمزي.


الوطن الرحباني كوطن فنّي


لو شئنا اعتماد التعابير الشائعة، لتحدّثنا عن مدرسة رحبانيّة...لكن هذا المصطلح غير كاف للتعبير عن إضافة الرحابنة للموسيقى العربيّة إذ أنّهم لم يكونوا مجرّد اتّجاه له بعض الخصائص في إطار نموذج سائد بل كان فنّهم قلبا لجميع المعايير و القوالب الّتي سبقتهم حتّى أنّه يمكن الحديث عن فنّ "قبل رحباني" و فنّ "بعد رحباني". لقد كان الرحابنة كعلّيسة الّتي غادرت وطنها لتؤسّس في مكان بعيد وطنا جديدا...و يمكن القول أنّ الرحابنة قدّموا التجربة الوحيدة الّتي يمكن أن تعتبر مشروعا فنّيّا متكاملا..."وطنا فنيّا".


قبل الرّحابنة، كان هناك نوع من النمط الّذي يحكم الأغنية العربية و الأغنية المثال في إطار هذا النمط هي أغنية باللهجة المصريّة(قد يكون ذلك راجعا لكون مصر كانت البلد الأكثر حركيّة على المستوى الثقافي في الوطن العربي و هو ما تعزّز مع دور الشوام المهاجرين إليها أيّام الحكم العثماني إضافة إلى ما يمكن تسميته بنزعة المركزيّة المصريّة الّتي تريد أن تجعل من مصر محور كلّ ما يقع من أمر في أيّ مكان من البلاد العربيّة، و هي نزعة كان لها فيما أرى أثر سلبي خصوصا على المستوى السياسي) ،و هي أغنية تدوم لمدّة طويلة إذ أنّ أغنية لا تتجوز بضع دقائق كانت تعتبر هذرا و في أحسن الحالات أغنية غير جادّة ، و هي كلماتها تدور حول نفس المعاني (الحبّ و الهجر و الرغبة في الوصال...) ألحانها لم توضع إلا لإبراز القدرات الصوتيّة لمؤدّيها، يتكرّر فيها المقطع الواحد عدّة مرّات لتمكين المستمعين من "الطرب" و بالجملة كانت الأغنية المثال هي أغنية التخدير...هذا النمط قام الرحابنة بهدمه من أساسه.


استعمل الرحابنة في أغلب أغانيهم لهجة لبنانيّة تنتقى فيها الكلمة كما تنتقى اللآلئ في عقد يهدى لملكة، أو كما قيل في كلام الإمام الشافعي "ما سمعته تكلم بكلمة إلا اعتبرها المعتبر لا يجد كلمة في العربية أحسن منها"...هي كلمات غاية في البساطة، يفهمها الجميع حتّى من غير اللبنانيين بعيدة عن التعقيد و المتاهات الفكريّة (و هنا أتحدّث عن الأعمال الرحبانيّة "الخالصة"، ممّا يستثني الأعمال الّتي كتبها غير الرحابنة، لا سيما سعيد عقل رائد الرمزيّة)...و هي مع ذلك بعيدة عن كل إسفاف و ابتذال بل أنّها ببساطتها تخلق عالما أقرب إلى الخيال (و هو ما سيتم التطرّق إليه في الجزء الثاني)...تقترب لغة الرحابنة من الفصحى و تدانيها حتّى تكاد تلامسها، و لعلّها بذلك ترسم مثالا لعربيّة مبسّطة أو عاميّة مهذّبة تقع في منتصف الطريق بين العاميّة المبتذلة و الفصحى المتقعّرة...

أمّا عن مدّة أغاني الرحابنة، فهي قصيرة نسبيّا إذ لا يتجاوز أطولها الربع ساعة و عادة ما تكون في حدود ثلاث أو أربع دقائق و أحيانا تنزل إلى دقيقة و نيف، ذلك أنّ الرحابنة أعداء التمطيط الاصطناعي و الممجوج و المملّ لمقطع بعينه فغاية الأغنية ليس الإطراب في حدّ ذاته، و هو ما كان سهل التحقيق في ظلّ وجود صوت كصوت فيروز(و ربّما استسلم الرحابنة لهذا الإغراء في بعض الأغنيات الـ "شبه طربيّة" كـ "غنّيت مكّة")، بل أنّ الهدف هو إيصال رسالة في الوقت الّذي يستوجبه ذلك، فلا حاجة إلى تكرار نفس الكلمات لمدّة ساعة إذا كان المعنى يدخل إلى قلب المتلقّي في دقيقة (و ربّما يضيق به ذرعا بعد ذلك)...و لعلّ أفضل مثال على ذلك أغنية "بيقولو صغيّر بلدي" الّتي تدوم دقيقة و أربعا و عشرين ثانية و مع ذلك فليست بحاجة إلى أيّ ثانية إضافيّة ليصل المعنى...

و في ما يخصّ الألحان، بعث الرحابنة التراث اللبناني خلقا جديدا فخرجوا به من إطار الفلكلور الميّت الّذي يغنّيه الشيوخ متحسّرين على أيّام زمان و استلهموه، على اختلاف أشكاله(الحضري و الريفي و حتّى البدوي) في عدد كبير من الأغاني، حتّى أصبح من الصعب التمييز في أغلب الأحيان بين الأغنية التراثيّة و الأغنية الرحبانيّة...أصبح التراث مع الرحابنة نابضا عامرا بالحياة و أصبحت أغاني الرحابنة تراثا يغنّي "الدبكة" و "الميجانا"...و مع ذلك، لم ينغلق الرحابنة في حدود وطنهم و استفادوا من التجارب السابقة و حتّى المعاصرة لهم إذ تعاملوا مثلا مع محمّد عبد الوهّاب فقاموا بإعادة توزيع بعض أغانيه (كـ "يا جارة الوادي") و غنّت فيروز من ألحانه بعض أروع أغانيها ("اسهار" و "سكن الليل") كما أنّهم انفتحوا على الموسيقى الغربيّة و استعملوا آلاتها في بعض الأغنيات دون أن يظهر أثر للافتعال في هذا الإقحام (كما في أغنية "يا نسيم الدّجى" و "كنّا نتلاقى")...

و من مميّزات الوطن الرحباني تجربة المسرحيات الغنائية و هي تجربة فريدة، إذ لم تكن مسرحيّات الرحابنة مغنّاة من أوّلها إلى آخرها على غرار مسرحيات شوقي و لم تكن مسرحيّات "نثريّة" بل كانت مزيجا بين هذين النموذجين إذ يختلط السرد بالحوار و الغناء في إطار عجائبي تارة (كمسرحيّة "جسر القمر")، واقعي تارة أخر (كـ "لولو") و تاريخي طورا آخر (كـ"أيّام فخر الدّين")...


و زيادة على هذه الخصائص الّتي تهمّ شكل الفنّ الرحباني، قفز الرحابنة بمضمون تجربتهم إلى المستوى الّذي يخوّل الحديث عن وطن رحباني بالمعنى الرمزي للكلمة.
(يتبع)