السبت، 23 فبراير 2008

الاشكال القانوني في ترشّح أحمد نجيب الشابي

كما هو معلوم، أعلن الحزب الديمقراطي التقدّمي عن ترشيح أمينه العام السابق أحمد نجيب الشابي ليخوض الانتخابات الرئاسية لسنة 2009 ليكون بذلك أوّل من يعلن ترشّحه في انتظار أن تسفر المناشدة في الجانب الآخر عن ترشّح ثان. ترشّح الشابي لا يستجيب لشرط الفصل 66 من المجلّة الانتخابيّة الّتي يحيل اليها الفصل 40 من الدستور لأنّ الترشّح يجب أن يقع تقديمه من طرف 30 نائبا في مجلس النواب أو 30 رئيس بلديّة في حين أنّ رصيد الديمقراطي التقدّمي فارغ تماما في هذا و ذاك، كما أنّ جمع العدد المطلوب بالتحالف مع أحزاب أخرى أمر أكثر من المستبعد لأنّ علاقة هذا الحزب بالأحزاب البرلمانية متوتّرة للغاية. هذا المانع القانوني لم يغب عن ذهن الشابي، و هو رجل القانون، اذ أشار إليه في كلمته بعد اختياره:"انّ النظام القانوني الحالي الذي يفرض على المرشح إلى الانتخابات الرئاسيّة أن يحصل على تزكية ثلاثين عضوا من المجالس التي يسيطر عليها الحزب الحاكم لا يفتح مجال المشاركة في هذه الانتخابات الا لمرشّح هذا الحزب وحده. لذلك تلجأ السلطة كلما اقترب الموعد الانتخابي الى تعديل الدستور و السماح للأحزاب الممثّلة بإرادة منها في البرلمان بتقديم مرشّح عنها مغلقة بذلك الباب في وجه الشخصيات الوطنية و أحزاب المعارضة السياسية".
و لم يطرح الشابي رؤيته لكيفيّة تجاوز هذا المانع القانوني، بل أنّه يصرّ على المضيّ قدما في ترشّحه رغم وعيه بوجود هذا المانع، فتمرير الترشّح لا يمكن أن يكون بتطبيق القانون كما هو، بل أنّه يستوجب اذن قانونا استثنائيا على مقاس الشابي في حين أنّ هذا هو نفس ما يؤاخذه على القوانين الدستورية الاستثنائية التي سبقت انتخابات 1999 و 2004 و الّتي سمحت لأحزاب المعارضة البرلمانية بتقديم مرشّحين للانتخابات الرئاسيّة (بتجاوز الاحالة الى المجلّة الانتخابيّة و تعويضها بشرط أقدميّة في حزب برلماني) و هو يستمدّ قدرته على الضغط من المصداقيّة الّتي أضحى يتمتّع بها كـ"معارض أوّل" في الرأي العام الغربي و هو ما تجسّم في حضور عدد كبير من ممثّلي وسائل اعلان سفارات الدّول الغربيّة للندوة الصحفيّة الّتي أقامها التقدّمي للاعلان عن هذا الترشيح( وليس من باب البراءة أن يكون أوّل ما افتتحت به صحيفة الموقف المقال الموشّح لصحفتها الأولى ليوم 15/02/2008 بتعداد من حضر من ممثّلي وسائل الاعلام و السفارات) و لا يمكن أن يؤثر فيه
استهجان أحزاب الوي-وي لترشّحه الا بصورة ايجابيّة باكسابه مصداقيّة اضافيّة لكونه النقيض لأحزاب المعارضة الّتي لا تعارض . حسبما يبدو، فانّ الشابي يضع السلطة أمام 3 احتمالات:
الاحتمال الأوّل هو اصدار قانون استثنائي يمنح للأحزاب البرلمانيّة وحدها حقّ تقديم مرشّحين للرئاسة، و في هذه الحالة يقصى الشابي من دخول هذه الانتخابات و في هذه الحلة سيثيرها حملة اعلاميّة شعواء ضدّ السلطة الّتي لا تسعى لادخال نفس ديمقراطي و لا تدعم الا معارضة الديكور و سيتّهمها بعدم النزاهة و الخوف من المواجهة وووو.. و هذا ما سيضع السلطة في مأزق خاصة بعدما أظهر الشابي قدرته الفائقة على كسب تعاطف الرأي العام العالمي في "معركة المقر" الّتي انتهت في النهاية لصالحه.
الاحتمال الثاني هو اصدار قانون استثنائي يسمح لأيّ مسؤول قضّى فترة معيّنة صلب قيادة أيّ حزب، برلمانيّا كان أو غير برلماني، بالترشّح و هذا الاحتمال مستبعد للغاية لأنّه سيكون عمليا اذعانا لمطالب الشابي لا يمكنه أن تقبله السلطة.
الاحتمال الثالث هو عدم اصدار أيّ قانون استثنائي و بذلك يكون الحزب الحاكم هوالحزب الوحيد قانونا القادر على تقديم مرشّح، وبالتالي سيكون هناك مرشّح واحد للانتخابات الرئاسيّة و هو ما سيكون وقعه سيّئا للغاية في الرأي العام العالمي خاصة وأنّه سيأتي بعد موعدين انتخابيين كانت فيهما الانتخابات الرئاسيّة تعدّديّة، الا أنّه يمكن "اقناع" عدد من الأحزاب بالتحالف فيما بينها لتقديم مرشّح وحيد غير أنّ ذلك سيكون لعبة مكشوفة لأنّه لا يوجد، الى حدّ الآن، أحزاب متقاربة لدرجة تكوين تحالف و حتّى ما يعرف باللقاء الديمقراطي (المكون من حزب الوحدة الشعبية و الاتحاد الديمقراطي الوحدوي و الحزب الاجتماعي التحرّري و حزب الخضر للتقدّم) فانّه ،و بغضّ النظر عن كونه لا يشكّل تحالفا بالمعنى الحقيقي للكلمة،لا يملك النصاب القانوني لتقديم مرشّح وفاقي(عدد نواب هذه الأحزاب مجتمعة 20 نائب) الا اذا دخلت حركة الديمقراطيين الاشتراكيين على الخط و انضمّت لهذا اللقاء (أتساءل في هذه الحالة من سيكون المرشّح الّذي سيجمع بين الاشتراكيّة و القوميّة و الليبراليّة و "حب البيئة"!).
كلّ هذه الاحتمالات اذن لا تبدو مرضيّة ، فهل يعني ذلك أنّ السلطة ستجد نفسها في مأزق عويص الحل أمام ترشّح الشابي؟
للاجابة عن هذا السؤال، ينبغي التساؤل عن المقصد من وراء تواجد قاعدة الثلاثين نائبا هذه. انّه يكمن في جعل الترشّح لرئاسة الجمهوريّة ترشّحا جدّيا بمعنى أنّه لا يمكن تمكين أيّ مواطن من الترشّح بصفة آليّة اذا رغب في ذلك لأنّ ذلك سيؤدّي الى ترشيح المئات و ربّما الآلاف بل يجب تقديم ما يفترض أنّ من يريد الترشّح له من الوزن ما يمكّنه من المنافسة الجديّة و هو ما يمكن أن يفترض من وجود عدد من النواب أو رؤساء البلديات يساندون الترشّح في حالة القانون التونسي.
هذه القاعدة منطقيّة و معمول بها في جلّ الأنظمة السياسيّة و لا أعتقد أنّ هناك جدوى حقيقيّة من حذفها أو حتّى استثنائها كما وقع سابقا لأنّ الاستثناءات الّتي تتكرّر في كلّ موعد انتخابي تجعل من القاعدة هباء منثورا، و لكن يمكن في المقابل تليين القاعدة دون مساس بالدستور: فـ 30 نائب عدد كبير تتحقّق الجديّة بأقلّ منه، فيكفي تعديل المجلّة الانتخابيّة لتنصّ على عدد أقلّ من النواب(10 أو 5 مثلا) و يذلك لا تكون هناك حاجة لتعديل الدستور ليكون ترشّح المعارضة "بالمزيّة" (لأنّه من المفروض أنّ الدستور لا يمكن أن يعدّل يشكل متواتر) و في نفس الوقت تتمّ المحافظة على شرط الجديّة و اعلان تعديل المجلّة الانتخابيّة خطوة(دائمة في هذه الحال و ليست استثنائيّة) نحو مزيد الانفتاح و تمكين المعارضة من المساهمة بشكل أكثر فعاليّة. ستكون نتيجة هذا التعديل "غير المباشرة" اقصاء الشابي من خوض الانتخابات و لكن سيكون ذلك بالمحافظة على "روح القانون" بما أنّ حزبه لا يملك حتّى هذه "الجديّة المخفّفة" و لن يمكنه بالتالي الاحتجاج بتعنّت السلطة و رفضها لفتح الطريق أمام المعارضة الحقيقيّة (الّتي يمثّلها هو بالطبع!) و سيتعيّن عليه اثبات جدّية حزبه من خلال الانتخابات البرلمانيّة من خلال كسب مقاعد في مجلس النواب ليتأجلّ ترشّحه الى الرئاسيّة إلى الانتخابات القادمة و هذا ما لا يبدو بديهيّا في ظلّ غياب برنامج واضح أو حتّى ايديولوجيا محدّدة لهذا الحزب الّذي يبدو أنّه أصبح ناديا لكلّ من يريد قول لا و كفى اذ ربمّا يكون فعلا الحزب المعارض الوحيد و لكنّه عاجز الى الآن أن يقدّم البديل، البديل الّذي ربّما لا يمكن أن يوجد داخل أحزاب.

الثلاثاء، 19 فبراير 2008

فيلم رعب اسمه "جنون"




أتيحت لي الفرصة أخيرا لكي أشاهد الشريط الحدث "جنون" للفاضل الجعايبي. ذهبت إلى قاعة السينما مبكّرا خوفا من الازدحام الّذي توقّعته بما أنّ وسائل الاعلام تتحدّث عنه باطناب و لكن عدد الحاضرين في القاعة لم يتجاوز العشرين و لم أتوصّل الى معرفة السبب في هذا الحضور الهزيل: أ يكون ذلك راجعا إلى أنّ "الجميع" شاهدوه أم أنّهم ،و هذا المبرّر أكثر واقعيّة، ينتظرون خروجه لدى باعة الأشرطة المقرصنة؟
على كلّ حال،مكّنّني ضعف الحضور من اختيار مكان ممتاز للمشاهدة و منّيت النفس بعرض فنّي رائق و لكنّني في الحقيقة لم أعش متعة فنيّة بقدر ما عشت لحظات من الرعب..الرعب الحقيقي. صحيح أنّه ليس من نوع ذلك الرعب الرخيص الّذي يعرض في أفلام الرعب الاميركيّة مثلا(رؤوس مقطوعة، دماء تسيل، قتل مفاجئ..) و لكنّه رعب على كلّ حال، بل أنّ هذا الشريط هو أكثر امعانا في الرعب لأنّه واقعيّ للغاية. عندما تشاهده لا ترى ما تعرف أنّه لقطات مصنوعة خصّيصا من أجل ارعابك و "تسليتك" و لكّنك ترى مشاهد لأشخاص يعترضونك في الحياة اليوميّة، أشخاص مثلك يعيشون حياتهم في ظلّ مختلف مستويات القمع، أشخاص قد تكون أنت أحدهم يعيشون في عالم قاتم قاتم قاد أحدهم إلى الجنون، و ينتابك شعور بالخوف من أن يؤول مصيرك إلى مثل حاله، و لم لا و هو يعيش ظروفا قد تكون محيطة بأيّ كان على اختلاف في درجات الفظاعة لأنّ الأوضاع الّتي عاشها المريض "نون" في الفيلم كانت كارثيّة بشكل مهوّل و لا أدري ان كانت فعلا نفس الأوضاع الّتي جاءت في القصّة الأصليّة: شقيقة تمتهن الدعارة، أخ يبيع أعراض أخواته، اخوة بين "حارق" و ميّت و أليف سجن.. أذكر أنّي قرأت ذات مرّة أنّه من نقاط الاختلاف بين محمد ادريس و الفاضل الجعايبي هذه الرؤية الّتي يحملها هذا الأخير و الّتي تعمل على ادخال المتلقّي في دوامة من الخوف و الفزع تجعله يحسّ بالضآلة و الانكماش أمام مشاكل الواقع. أتساءل: هل يمكن للرعب أن يحقّق الوعي؟
بنية القصّة بسيطة للغاية بل أنّها مبالغة في البساطة إلى حدّ السطحيّة ربّما: طبيبة نفسانيّة تتعرّف على مريض في مستشفى الأمراض النفسيّة فتساعده لكي يشفى. أكاد أجزم أنّه منذ ربع الساعة الأولى تمكّن المشاهدون من معرفة "سرّ" مرضه و المتمثّل في أبيه المتوفّى الّذي كان "يصلّي و يسكر، يربّي و يكذب"، الأب الّذي كان يضرب ابنه من أجل كلّ شيء و لا شيء. سهولة العقدة تجعل من متابعة الشريط أمرا مضجرا لأنّ المشاهد أصبح يحزر النهاية منذ البداية و رغم ذلك فإنّ المخرج لا يمتّعه بالوصول إليها بل أنّ أحداث الفيلم لا تكاد تتقدّم و تتمطّط و تكاد تعاد دون أن تشهد منعرجا يغيّر مجراها ودون حتّى أن يفاجئه المخرج بتغيير النهاية المتوقّعة، النهاية الّتي كانت ساذجة نوعا ما و قريبة من النهاية السعيدة الكلاسيكيّة بما أنّ المريض "نون" تمكّن من اكتشاف علّته و سار في طريق الشفاء. لعلّ هذه البساطة مقصودة لأنّه رغم أنّه من المفروض أنّ معرفة علّة "نون" كانت سهلة على أيّ طبيب نفساني الا أنّ أحدا من الأطباء لم يسع إلى ذلك و اختاروا كلّهم الحلّ السهل: اغراقه بالأدوية المهدّئة حتّى يذهل عن الوجود و تقلّ حدّة نوباته، و لكن هذا الطرح جعل الشريط يبدو أقرب إلى شغل تطبيقي يبحث في تقنيات معالجة الفصام منه إلى عمل فنّي من المفروض أن يتوفّر فيه قدر من الجماليّة. لقد ضحّى صاحب العمل بالجماليّة لأنّه كان مسكونا بهاجس آخر: هاجس البحث عن وعي مفقود و أكيد أنّ الالتزام شيء مطلوب و لكن دون أن يؤثّر على الناحية الابداعيّة لأنّ ذلك يجعل العمل أقرب إلى العظات.
قيل عن الشريط أنّه مجرّد تحويل للعمل من المسرح إلى السينما دون اضافة حقيقيّة و هذا ما أرى فيه تعسّفا على مخرج الشريط. فباستثناء الديكورالبسيط و بعض اللقطات الهامشيّة الّتي يكون فيها شخصان يتوجّهان بنظرهما إلى الكاميرا في حين أنّهما يخاطبان بعضهما ممّا يفترض أن ينظر كلّ منهما للآخر، لم أحسّ أنني ازاء عمل مسرحي(مع العلم أنّني لم أشاهد المسرحيّة) بل بالعكس كان هناك تركيز على بعض التفاصيل الدقيقة الّتي من الصعب اظهارها في المسرح و لا يمكن الا لرؤية سينمائيّة أن تقوم باجلائها.
فيما يخصّ الممثّلين، أدهشني الدّور الّذي قامت به جليلة بكّار، فعلى الرغم من أنّ شخصيّة الطبيبة النفسانيّة محوريّة في القصّة الا أنّه لم يكن يتطلّب ممثّلة في مثل حرفيّتها. كان دورها مقتصرا في أغلب الأحيان على توجيه الأسئلة لـ"نون" و عائلته دون أن يظهر وجهها أحيانا و لازمتها منذ بداية الشريط إلى نهايته ابتسامة لم تتغيّر، ابتسامة لم أكد أجد معنى لها الا أن تكون الامضاء الّذي يجب أن يحمله وجه كلّ طبيب نفسي. فيما كان أداء فاطمة سعيدان رائعا اذ كانت انفعالاتها مدروسة: بكت حين وجب البكاء، صرخت حين وجب الصراخ، غضبت حين وجب الغضب . لقد جسّمت بصدق الأمّ المقهورة على أمرها الممزّقة بين حبّها الجارف لابنها و انحنائها لظروف الواقع. و كذلك كان محمد علي بن جمعة مجنونا بحقّ، مجنونا في كلّ حركاته و سكناته: في مشيته المترنّحة كمن يحمل جبالا على كاهله، في نظرته الناريّة المتّقدة الغاضبة أحيانا و الوديعة الساكنة الحالمة أحيانا أخرى، في انتقاله المفاجئ من شعور الى نقيضه كانتقاله من الباحث عن اشباع الشهوة الى المتديّن المتطرّف الكاره للنساء في طرفة عين. كان تعبيرا عن تناقضات المجتمع في أبشع صورها و هو ما أدّى اليه القمع المتواصل الّذي تعرّض اليه منذ طفولته و من أقرب الناس إليه و كان "المجنون الّذي من حقّه أن يحاكم العالم".
لم يكن الشريط ادانة لأشخاص بقدر ما كان ادانة لقيم، فحتّى الشخصيات ذات الظاهر الشيطاني(كالأخ) كانت تبدو جوانبها المضيئة في بعض الأحيان. لم تكن هذه الشخصيّات مدفوعة الى الرذيلة اختيارا حرّا منها بل أنّه كانت، حسب رؤية الشريط، نتاجا طبيعيّا لمجتمع تمزّقه التناقضات و لكنّه رغم ذلك يعيش فيها و يفرضها على نفسه و يجبر نفسه على تقبّلها فينقل قيه الاضطهاد و القمع من جيل لجيل و من مستوى سلطة لآخر. الشخصيات الوحيدة الّتي صوّرت بشكل سلبي مطلق هي أطبّاء المستشفى الّذين لم يكونوا أصحاب مهنة نبيلة بقدر ما كانوا بيروقراطيين يسعون إلى الحفاظ على الوضع الراهن رغم مأساويّته و يأرّقهم التغيير المجسّم في الطبيبة حتّى ان كان هدقه من المفروض أن يكون هدف الجميع: شفاء المريض.
أختم بملاحظة حول موعد صدور الشريط: لمّا سمعت بخروجه الى القاعات لأوّل مرّة استغربت لأنّني سبق لي أن سمعت به من قبل. ظننت أنّني واهم و لكن تبيّن فعلابعد التثبّت أنّه أنتج سنة 2006. لقد جال هذا الشريط العالم و عرض في عديد المهرجانات قبل أن يعرض في موطنه. أ كان ذلك تركا لعرضه في تونس مسكا للختام أم أنّ هناك "ظروفا قاهرة" أو موقفا صارما حال دون عرضه قبل ذلك؟

الأربعاء، 13 فبراير 2008

الحبّ في عيد الحبّ

يوم 14 فيفري هو ذكرى تولّي أوباسانجو الحكم في نيجيريا و ذكرى فتوى الخميني المهدرة لدم سلمان رشدي و ذكرى اغتيال الرئيس رفيق الحريري و ذكرى حصول المنتخب الوطني لكرة القدم على كأسه الافريقيّة اليتيمة و ووو... ولكن كلّ هذه الأحداث التاريخيّة البارزة تتضاءل شعلتها أمام الحدث الأبرز لأنّ 14 فيفري لا يمثّل عند الجميع الا شيئا واحدا..عيد الحبّ.
قبل أن أحرّر هذه التدوينة حرصت على سؤال عدد من المحيطين بي حول رأيهم في عيد الحبّ، هل هو شيء جيّد أم شيء سيّء و لماذا و كانت الأغلبية الساحقة رافضة للاحتفال بعيد الحب. الأسباب؟ "ما هوش متاعنا"، "رويّق متاع مراهقين"، "الحبّ يلزمو أكثر من نهار في العام" و حاول بعضهم اثنائي عن الكتابة في هذا الموضوع لأنّه "حكاية فارغة" الكتابة عنها ستنقص من شأن مدوّنتي وهذا ما راعني في الحقيقة و لأنّني في عناد البغل أصررت الحاحا على الكتابة في هذا الموضوع.
من الأكيد أنّ هذه المناسبة تستغلّ تجاريّا أبشع استغلال، فهي فرصة لعديد التجّار لبيع العديد من السلع الكاسدة كالورود و الدمى و الشكلاطة(لم أتمكّن الى حدّ الآن من فهم العلاقة بين الشكلاطة و الحبّ!)و فرصة للمذيعين لكي يملؤوا برامجهم بأغاني الحب كما أنّ العديد يستغلّها للتظاهر
بحبّ كاذب لا يدوم أكثر من 24 ساعة يترك بعدها حلو الكلام و أجمل الابتسام ليعود إلى التجهّم و السباب، كلّ هذه انحرافات موجودة لا محالة ولكن ذلك لا يمنع من القول فكرة الاحتفال بالحبّ في حدّ ذاتها شيء رائع،و ما هو الشيء الأجدر بالاحتفال من الحبّ؟ طبعا لكلّ قصّة حبّ تاريخها المميّز المليء يالذكريات الّتي تستحقّ احتفالا خاصا من قبل أشخاصها و لكن تخصيص يوم للاحتفال بالحبّ و الحبّ فقط، الحبّ كقيمة، الحبّ كشيء مشترك بين الجميع لا يجب النظر اليه باستخفاف. أفضل اجابة تلقّيتها من الّذين سألتهم عن عيد الحبّ هي اجابة الصديق بيل سون الّذي قال : "الحبّ هو الحرّية..هو الحرّية الوحيدة المطلقة".
نعم، الحبّ هو تحرّر من كلّ القيود فعندما نحب تنتفي جميع الضوابط الّتي تكبّلنا في قوالب معيّنة من الواجبات و المحظورات. ضوابط البيئة و المجتمع و العادات و التقاليد و الأعراف و... الّتي تتبعنا منذ ميلادنا الى مماتنا تنتفي كلّها في اللحظة الّتي يدخل فيها الحبّ باب قلوبنا. نتخلّى حينها عن كلّ شيء دون أن نطلب شيئا لأنّ "المحبّة لا تعطي الا نفسها و لا تأخذ الا من نفسها، المحبّة لا تملك شيئا و لا تريد أن يملكها أحد لأنّ المحبّة مكتفية بالمحبة".. هو القمّة في كرم النفوس لأنّه ليس هناك جود يفوق أن تبذل روحك لشخص آخر دون أن تنتظر المقابل.. هو الروح الجديدة الّتي تنفخ في فؤادك فتجعلك ترى الأشياء بمنظار مختلف،
بمنظار الابداع.. هو القوّة الّتي تملأ جنبات روحك و لا تفارقك أبدا لأنّ "الحب هو الحرف ليس بممّح اذا خطّ في لوح القضاء المغيّب"..الحبّ هو تحقيق لنوع من "الانسان الأعلى" و تجسيم للكمال الّذي تنشده الانسانيّة.. هو السبيل لتكون، كما قال جبران، في قلب الله.
أ فلا يستحقّ هذا الحبّ عيدا سنويّا يحتفل به الانسان في كلّ عام بتحرّره الأكبر؟ أمّا من يرى فيه بدعة غربيّة و تقليدا للنصارى و يتغاضى على أنّه لا دين و لا جنسيّة للحبّ فما عليه الا أن يبحث في طيّات تاريخنا عن يوم جنون مجنون ليلى مثلا، أو عن تاريخ زواج قيس بلبنى أو تاريخ لقاء يزيد بن عبد الملك بحبّابة أو تاريخ وفاة عروة بن حزام و يجعل منه عيدا لأنّ العبرة ليست بالتأكيد أن يكون عيد القدّيس فالنتين أو القدّيس أوغسطين أو سيدي فلان بل المهمّ هو تخصيص يوم للحبّ.
انّنا في مجتمعنا نعيش في فقر مدقع، فقر في الحبّ. فنحن نخاف من الوقوع فيه و اذا حصل المحذور منه و وقعنا فانّا نسعى للجمه و نحرص على أن نتحكّم فيه في حين أنّه هو من يجب أن يتحكّم فينا، و نحذر من أن نبوح بحبّنا لأنّه عيب و لأنّه ضعف و نرضى من أن نعيش حياتنا من دونه فتكون حياة في جفاف الصحارى لأنّنا لا نفعل شيئا بحبّ، بل كلّ ما نفعله نكون مجبرين على فعله فنقوم به و كأنّنا نتجرّع العلقم "دون أن نضع في كلّ عمل من أعمالنا نسمة من أرواحنا" . لذلك نحن أجدر المجتمعات بأن نخصّص يوما نحتفل به بالحب حتّى لا ننساه تماما و يضيع منّا في زحمة هذه الحياة الصاخبة السريعة و نتذكّر الشيء الّذي نستكمل به انسانيّتنا حتّى ان كان ذلك مرّة في العام عسانا اذا فكّرنا في الحبّ يوم عيده نعقد العزم أن نتشبّث به و نحارب دفاعا عنه مدى الأيّام و عسانا اذا شاهدنا "العشّاق اثنين اثنين، ما حدا عارف لوين"(كما غنّت فيروز) نفجّر تلك الصخور القاسية الجاثمة فوق قلوبنا فتلين ونفتح الطريق لدخول ذلك الشعور المقدّس إليها.
لكلّ المحبّين في العالم أتمنّى دوام محبّتهم و إلى الّذين لم يحبّوا أرجو من الله أن ينعم عليهم بالنهل من ذلك النبع العذب الّذي سيرويهم إلى الأبد.
و كلّ عام، بل كلّ يوم و أنتم بحبّ.

الثلاثاء، 5 فبراير 2008

المقامة الكروية

حدّث حمدان الحفيان قال:
كنت أتسكّع بشوارع العاصمة كالعادة، رفقة زميلي في البطالة حمادة، نمتّع النظر بمشاهدة الوجوه الجميلة، الّتي لا يملك القلب أمامها أيّ حيلة، لمّا رأينا مقهى يبدو أنّه جديد، بكراسيه البلاستيكيّة سعيد، فقلنا لم لا نتخذه مقرّا عوضا عن مقهى الحومة، الّذي طردنا منه عم سلومة، بعد تراكم الكريدي، ويأسه من قولنا سندفع يا سيدي..
و لمّا دخلنا، و للنظر في زوايا المحلّ أجلنا، رأينا في زاوية جمعا من المواطنين، يستمعون إلى رجل غاضب حزين، يطلق من السباب، ما لا يجدر ذكره على صفحات الواب، و يقول حتّام نذعن لهذا الطاغية، الّذي قادنا الى الهاوية، و ألحق بنا العار، و أنزل بالوطن الدّمار، و جعل سمعتنا في الطين، و صيّرنا سخريّة الساخرين، و يظنّ أنّه وليّ به نتبرّك، قد آن لنا أوان التحرّك، و الجمع يقول أصبت يا هذا، لن نتسلل خوفا منه لواذا، سنرميه اذا أتى بالحجارة، مع بقيّة أولاد الحارة..
فقلت لحمادة، لنهرب يا تعيس، قبل أن يأتي البوليس، فقد أوقعنا الحظّ اللعين، مع هذه الزمرة من المعارضين، الّذين تكتب عنهم الصحف و المجلات، و الّذين يتّصلون بالسفارات، و لعلّهم يعدّون لانقلاب، يوقع البلاد في خراب، فقال لي اثبت يا حمدان، بل هو حظّ مزيان، فليس علينا سوى كتابة تقرير، يؤدّي بهم الى برج الرومي و بئس المصير، و لن يقال لك بعد اليوم يا بطّال، بل ستصبح من أصحاب الأموال، و تختار على ذوقك بنت الحلال، فقلت له أنت على صواب، سيرفع عنّا العذاب، و نصبح من الأبطال المشاهير، و تفرش أمامنا أبسطة الحرير..
و بقينا نراقب، بنظر ثاقب، و نسمعهم يتكلّمون بحماس، لا يجرؤ عليه قادة منظمّة حماس، كأنّهم سيخوضون أمّ المعارك، و يرمون النفس في المهالك، و يبصقون على صورة في جريدة، و يقولون لها أضجرتنا بأفكار تظنّ أنّها سديدة، ثمّ قال أحدهم قد جاءت العاشرة، و ربّما نزلت الطائرة، فهرولوا خارجين، يدمدمون غاضبين، ينادون بالويل و الثبور، و بالغضب الآتي من الجمهور..
فاحترنا في هذا الأمر، لمّا تركوا المقهى كالقفر، و نظرنا في صحيفة الأخبار، فاذا الصورة المبصوق عليها صورة لومار، فنظرنا الى بعضنا واجمين، نكود نكون من الباكين، على ضياع الأحلام الورديّة، في هذه العشويّة ، و صحنا لعن الله الكورة ، اللي كل الناس بيها مقهورة..

الجمعة، 1 فبراير 2008

المساواة في الارث و النص الصريح

كان الأستاذ يلقي محاضرته كالعادة عندما خرج عن موضوعها و تحدّث عن أشياء أخرى و هو شيء تعوّد أن يفعله و ينال عادة اعجاب الطلبة و لكن لمّا تجرّأ في هذه المرّة و قال أنّه يعتقد أنّ من حقّ المرأة أن تتساوى في مقدار الارث مع الرجل ضجّ المدرج و انقلب عليه و انطلقت تعليقات من قبيل "يا له من منافق"، "انّه زنديق" و استمرّت الجلبة مدّة ليست بالقصيرة و الغريب أنّ بعض المحتجّين لم يكونوا من المتديّنين. حجّة الجميع كانت في هذا اللغط: مخالفة النصّ الصريح.
النصّ الصريح، دائما النصّ الصريح و لا شيء غير النصّ الصّريح، هذه الحجّة المجلّلة بالقداسة تثار دائما كلّما نوقش أحد المواضيع المتعلّقة بالحداثة باعتبارها الكلمة الحاسمة و الجواب القاطع و البرهان الساطع و الحجة الدامغة الّتي لا تترك خيارا أمام الطرف الآخر للحوار سوى الاذعان لها و ان أبى الا مخالفتها فهو يعتبر من الكافرين أو الزنادقة أو المنافقين و عند المتسامحين للغاية فهو من الفسّاق العاصين الّذين يرتاب في ايمانهم.
ان النصّوص القرآنية المنظمة لأحكام الميراث هي نصوص صريحة، لا شكّ في ذلك و لكنّها ليست النصوص الصريحة الوحيدة في القرآن.. النصّ الصريح لم يحرّم الرق بل أنّه نظّمه و جعله كفّارة للقتل الخطأ( في قوله تعالى"و من قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة و دية مسلّمة الى أهله الا أن يصدّقوا فان كان من قوم عدو لكم و هو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة و ان كان من قوم بينكم و بينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله و تحرير رقبة مؤمنة") و كفّارة عن الظهار( في قوله تعالى" و الّذين يظاهرون من نسائهم ثمّ يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا") و غير ذلك من الأحكام الّتي تجعل الغاء العبودية تعطيلا لأحكام شرعية لا لبس فيها جاء بها النص الصريح الواضح الجلي. و النصّ صريح كذلك في السماح بتعدّد الزوجات و قطع يد السارق(الآية لا تجعل حدّا لقيمة المسروق ممّا يجعل تقييده بقيمة معيّنة(ربع دينار حسب بعض الفقهاء) تزيّدا على النص) و جعل شهادة الأنثى نصف شهادة الذكر و غيرها من النصوص.
لا أظنّ أنّ هناك من يدعو اليوم إلى التراجع عن الغاء العبودية رغم مخالفة ذلك للنصّ الصريح و لكي يقع تبرير ذلك، تفسّر الآيات الداعية الى العتق بأن النصّ القرآني و ان لم يأمر بتحرير العبيد فانّه حثّ على عتقهم اذ "لم يستطع الاسلام في حينه أن يقرّر حكما نهائيا غير اعلانه الرغبة في العتق و هو ما يعبّر عنه الفقهاء بتشوّف الشارع للعتق"(الطاهر الحدّاد، امرأتنا في الشريعة و المجتمع) و بالتالي فيمكن الغاء الرقّ متى تيّسرت الظروف. انّ مثل هذه التفاسير تعبّر عن فصام خطير اذ أنّ التعامل مع النصّ الصريح بتمّ بانتقائية فالأحكام ليس مصدرها النص الصريح و انّما هو تأويل معيّن للنصّ الصّريح، ففي حالة الرقّ يتمّ الاعتماد على المقصد الالهي لتجاوز النص الصريح و لكنّ هذا المقصد يتمّ التغاضي عنه تماما في قضيّة المساواة في الميراث فلا ينظر الى أنّ وضعيّة المرأة في الجاهلية لم تكن تسمح بأكثر من أن يجعل لها نصف نصيب الرجل من الميراث، بل أنّ اقرار مثل هذا النصيب لها يعتبر انجازا كبيرا في حينه لكن الفقهاء لا ينظرون الى ذلك و يزعمون هنا أنّ النص الصريح لا يمكن مخالفته و يصمّون الآذان عن مقصد الشارع من ذلك و كأنّ الله أقرّ أنّ المرأة أقلّ مستوى من الرجل و كرّس في كتابه حكما يمنع المساواة بينهما الى أبد الآبدين، تعالى الله عن الظلم علوّا كبيرا.
و الأكثر من ذلك أنّ الفقهاء يزعمون أنّ بعض التصوص صريحة و يرتّبون عليها أحكاما شرعيّة غير قابلة للنقض في حين أنّها ليست صريحة بالمرّة كما هو الحال في فرض الحجاب بناء على الآية 31 من سورة النور ففي هذه الاية " الحكم الشرعي ..هو امر المؤمنات بغض البصر والعفة ( حفظ الفرج ) وعدم التبذل والتهتك ( ابداء النحر والصدور) وكل هذا معناه الحشمة واللياقة والسلوك القويم ، ولم يرد في الاية اي شيء عن " حجاب "..اما تفسير " ولا يبدين زينتهن الا ما ظهر منها " انه يعني قطعيا اظهار الوجه والكفين فانه محل نظر وحتى لو سلمنا بهذا التفسير فلا يعني ذلك ان بالاية حكما شرعيا بما يزعمونه عن فريضة " الحجاب " وليس فيها ما يشير الى غطاء الراس"( محمد صالح حسن، أسطورة الحجاب وحكم البشر في ظل الواقع المعاصر للمسلمين).
أنّ قاعدة "لا اجتهاد في النص الصريح" هي قاعدة فقهية و ليست قاعدة الهيّة تؤخذ مأخذ الحكم الشرعي و بالتالي فليس في مخالفتها عصيان لارادة الله بل أنّ هذه المخالفة ضرورية للتحرّر من جمود بعض الفقهاء(أو أغلبهم ان شئنا الدقّة) مع البقاء في دائرة الدين دون الخروج عليه فالأخذ بالنص القرآني الصريح دون اعتبار لأسباب نزوله و الظروف الّتي حفّت به و لا للمقصد الالهي من وراء انزاله يجعل منه نصّا جامدا بعيدا كلّ البعد عن الكونيّة و المعاصرة و الغرب حين ينتقد الاسلام و يشيع عنه أنّه معاد للتقدّم و لا يضمن حقوق الانسان و غير ذلك من الاتهامات انّما ينتقد في الحقيقة قراءة معيّنة للنصّ تقف عند حرفيّته و لا تعير اهتماما للمقاصد من نزوله، قراءة ينظر عليها على أنّها الاسلام ذاته في حين أنّها ليست سوى تكريسا لطريقة جامدة في التفكير رسخت في الأذهان و منعت تحرّرها، قراءة ليس لها من مبرّر اليوم سوى قولهم " وجدنا آباءنا هكذا يؤولون".
و للحديث بقيّة.