الاثنين، 1 فبراير 2021

قصّتي مع الشعر (الجزء الثالث)

 


في 2003، شاركت للمرّة الثانية في أمسيات المعهد الشعرية. كان قد استقرّ في ذهني أنّني لم أفز بالجائزة الأولى في العام السابق لأنّ قصيدتي قصيرة نسبية، فأعدت كتابتها في 42 بيتا كما كتبت نصّا آخر يحمل عنوان "أليس الصبح بقريب" في ثلاثين بيتا. لا أزال أفخر بذلك النصّ الذي كتبته وأنا في سنّ السابعة عشر، فهو جزل العبارة، حسن السبك، يراوح بين الرمز والتصريح. في ذلك الوقت، كُنت مفتونا بعبارة بول فاليري "أنا لا أقول الشعر بل أبنيه"، فبنيت نصّي بدقّة. قبل أن أشرع في كتابته، وضعت له تخطيطا مفصّلا: ستكون الأبيات الخمسة الأولى حول كذا، ثم يحدث انتقال في الأبيات الخمس الموالية في ذلك الاتّجاه... كان موضوعه كذلك مناسبا تماما للظرف، إذ كان غزو العراق قد انطلق منذ أيّام.

فاز ذلك النصّ بالجائزة الأولى، وعددت ذلك اليوم من أجمل أيّام حياتي، لكن تلته مرارة سوداء. نمت منتشيا بفوزي الشخصي لأصحو على نكسة جديدة عمّقت جراح الأمّة، ففي 9 أفريل كان جيش الاحتلال يدخل العاصمة بغداد، محطّما الأوهام الساذجة التي زرعها فينا محمد سعيد الصحّاف وأمثاله، وساحقا ما تبقّى لنا من فتات الكبرياء.

في السنة الموالية، شاركت بنصّ "نظرة بنت السماء". عكس السنوات السابقة، كانت لي ثقة مفرطة. ذهبتُ متأنّقا وقد تدرّبت على إلقاء نصّي لكي أقدّمه بشكل لائق عند الإعلان عن فوزي. في ختام الأمسية، بدأ الإعلان عن الجوائز: الثالثة فالثانية ولم يكونا من نصيبي. كنت على أتمّ الثقة من أنّي سأحصل على الجائزة الأولى. لمّا صعدت منشّطة الحفل للإعلان عنها، كنت أتحفّز للقيام لكنّها نطقت اسما آخر! تصبّبت عرقا واعتراني ذهول شديد. ذكّرني ذلك بموقف مماثل لعمر الشريف في حفل أوسكارات 1963، لمّا حُرم من جائزة مُستحقّة عن فيلم "لورانس العرب".

لم أكن متعوّدا على الجدال والخصام، لكنّ الطعنة التي أصابت نرجسيّتي دفعتني أن أذهب، متجهّما، إلى قاعة الأساتذة لأطرح على إحدى عضوات لجنة التنظيم سؤالا فجّا: لم لم يفز نصّي؟ أجابتني ببساطة: لأنّنا لم نفهمه! قالت أننّي أسرفت في استعمال الغريب وأنّ ذلك ممّا عيب على عديد الشعراء ومنهم أحمد شوقي. رمّمت هذه العبارة شقوق نرجسيّتي، بل وانفرجت أساريري. شوقي أمير الشعراء، وقد رُمي بما رُميت به. لعلّ ذلك قدر الأمراء!

في الحقيقة، لم تجانب لجنة التحكيم الصواب في ذلك الاعتبار. لم أستمع إلى النصوص الأخرى بانتباه لكي أقدّر موقع نصّي بينها، ولكنّني بالتأكيد لم أكتبه لكي يُفهم بسهولة. كتبتُ ذلك النصّ تحت تأثير وهم الحبّ الأوّل، وكنت ممزّقا بين الرغبة في التصريح وبين الخشية من ردود الفعل، فكان قصيدا غريبا يلفّه حجاب كثيف من المعجم المهجور. لكن كان للنصّ من آخيل كعبه، فما لبث أن افتضح أمره ووجدت نفسي في موقف أشدّ إحراجا من الأمسية الشعرية نفسها!

لعلّ ذلك النصّ كان من أشأم النصوص عليّ، وقد بقي أثره ماثلا لمدّة لا بأس بها لم أكتب خلالها تقريبا سوى عن الحبّ الخائب. ثمّة نصّ عنوانه "وداع "لا أكاد أذكره إلّا وتعتلي ثغري ابتسامة مشفقة. تلميذ في سنة الباكالوريا يقضّي ليلة امتحان في كتابة قصيد سوداويّ متفجّع وكأنّ مصيبة عظمى قد أصابته. ولكن تلك أحكام المراهقة على أيّ حال، إذ فيها في تهويل ما يصيبنا من الأمور ما لا نفعله فيما بعد في مراحل عمرنا اللاحقة. لا ضير من بعض الجنون حينها، حتّى وإن كان مكبوتا يملأ نفس صاحبه حتّى يكاد يخنقه.

ليست هناك تعليقات: