الثلاثاء، 16 فبراير 2021
قصّتي مع الشعر (الجزء السادس)
الأحد، 14 فبراير 2021
اغتيال
بي شهوة
أن أبصق الخوف القديم جميعه
فإذا استوى
-لزجا وأسود مثلما هو دائما-
حرّقته حتّى يصيح
بكلّ نار كان مطفئها
وأغرقه ليفقد وعيه
في لجّة العبرات إذ جمدت وراء العين
أطعنه بحلم منطو بين الدفاتر
ثمّ أخنقه بذكرى قد تبقّت
تلفظ الحبّ العتيق
إذا تناثر لحمه في الأرض
أكنسه عسى ألاّ يعود
وحينها
سيَقِرُّ في صدري هواءْ...
جسدي الزجاج يذوب بعضه
ما تشبّع من سواد
لا أرى بأسا
إذا أحيا بلا أقدام في أرضي
فحسبي أن أعيدت لي السماءْ
السبت، 13 فبراير 2021
قصتي مع الشعر (الجزء الخامس)
الثلاثاء، 9 فبراير 2021
قصّتي مع الشعر (الجزء الرابع)
في تلك الفترة، بدأت تجربتي الشعريّة تتطوّر شيئا فشيئا. تجرّأت قليلا على اجتياز تخوم الشعر الحرّ، وبعد محاولة أولى متعثّرة، كتبتُ قصيد "السامريّ" في استيحاء متسائل للنصّ القرآني. لمّا أتممت ذلك النصّ، لم أكن راضيا عنه كثيرا. بدا لي أنّ هناك المزيد ممّا يمكن أن يقال. ربّما أردته أن يكون في طول معلّقة، وفي نفس الوقت، كنت قد ضجرت من الاشتغال عليه. في نفس الفترة، أتاح لي فايسبوك أن أسمع بالمهرجان الوطني للأدباء الشبّان في قليبية لسنة 2012، وفي غمرة الحماس الّذي أصبت به بعد الثورة، شاركت بنصّي ذاك.
في الحقيقة، لم أكن أطمع كثيرا في الفوز بأيّ جائزة حينها. كُنت أشارك للمرّة الأولى في مسابقة وطنية، ولم يكن هناك من يعرفني في الساحة الشعرية عدا بعض الأصدقاء الّذين كنت تعرّفت عليهم حديثا والّذين كانت لهم نظرة ريبيّة تجاه هذه المسابقات إذ ألقوا في روعي أنّ "عصابات" من الشعراء تجعل من مثل هذه المسابقات غنيمة لها، فتتناوب الفوز بجوائزها متوسّلة بعلاقاتها مع أعضاء لجان التحكيم.
لكن قليبية في ذلك العام كانت مختلفة. رغم ظروف الإقامة التعيسة في المدرسة البحرية (حيث تعرّضت إلى السرقة)، كانت الأجواء طيّبة للغاية حيث تعرّفت على شعراء من جيلي وقضينا ليالي بيضاء في شتّى النقاشات. كنت محظوظا أن يكون الراحل الصغيّر أولاد أحمد ضمن أعضاء لجنة التحكيم، وأخال ذلك كان من أبرز ما ساهم في فوزي بالجائزة الثانية، على نحو ما ذكرتُ في نصّ سابق.
تبيّنت فيما بعد أنّ قليبية 2012 كانت استثناء. في العام الموالي، شاركت في مسابقة للشعر العمودي بقابس. دُعيت لإلقاء قصيدتي "هذيان الجسد قبل الأخير"، ولم اسمع حولها كلمة واحدة، إذ لم تكن هناك ورشات لمناقشة النصوص ولشدّ ما اغتظت لذلك. ربّما كنت أشعر ببعض الأسى لعدم فوزي، لكنّ أكثر ما حزّ في نفسي أنّي شعرت أنّ قصيدي كان مجرّد رقم في مجموع القصائد المشاركة. ما فائدة أن تقطع تلك المسافة وتضحّي بوقتك وجهدك وما بذلته من عصارة روحك في كلمات لا يعيرها من نزلت عليهم ضيفا أدنى اهتمام؟
في العام الّذي تلاه، شاركت في مسابقة نظّمها بيت الشعر التونسي، وكانت قاصمة الظهر. كنت واعيا أنّ حجم الجائزة المالية سيجعل من المسابقة مطمع "العصابات". لمّا ناقشت صديقا لي في شأن مشاركتي، قال لي: شارك إذا شئت، ولكن لتعلم منذ الآن أنّ الفائزين سيكونون فلانا وفلانا وفلانا، إذ لا سبيل أن يسمحوا لأحد من خارج دائرتهم بهذه الغنيمة. رغم هذا التحذير، أصررت على المشاركة وتقدّمت بنصّي "نشيد الانهزام أو لائحة اتهام للحارث بن عباد". كنت فخورا بذلك النصّ، وبلغ من فخري أنّي قلت في نفسي: إن لم ينصفوا هذا النصّ، ستبقى عليهم سبّة وعارا أبد الدهر.
كُنت أوّل من دعي إلى الإلقاء، وكنت مرتبكا، أغالب الاكتئاب الذي كنت أغرق فيه في تلك الأيّام. تجاوز ردّ فعل لجنة التحكيم أسوأ توقّعاتي. قال لي الشاعر الكبير الذي كان يترأس اللجنة: من أنت؟ لماذا لا أعرفك من قبل؟ زاد ارتباكي: أكان من المفترض أن يعرفني لكي ينقد نصّي؟؟ سألني: لماذا تكتب على تفعيلة المتقارب؟ هي تفعيلة سهلة، وهي حمار الشعراء في عصرنا. وطلب منّي أن ألقي نصّا آخر، ولم أكن جيّد الحفظ لنصوصي، فضلا عن تخبّطي آنذاك، فلم أذكر غير "السامريّ" وكان على نفس التفعيلة. عضو لجنة التحكيم الثاني، وكان أستاذا جامعيّا، أبدى بعض الملاحظات المحايدة، وفهمتُ منه فيما بعد أنّه كان الأميل إلى إنصاف نصّي، لكنّه كان مغلوبا على أمره. أمّا العضو الثالث، وكان شاعرا لا أعرفه، فقد نطق ببعض الملاحظات التي أدركت منها أنّه لم يفهم من النصّ شيئا. لم أكن ممّن يميلون لتفسير نصوصهم، لكنّي طلبت الكلمة عساني أنقذ الموقف، فرفض الثالث منحها إيّاي.
خليط من المشاعر، كلّها سلبيّة، اعتمل داخلي حينها. الأسى والغضب بديهيان في مثل هذا الموقف، لكن أضيف إليهما شعور بالسوء تجاه نفسي: لشدّ ما لبستني جبّة الفتى المهذّب، ولو كنت وقحا كما كان ينبغي لنفّست عن غيظي في أقلّ الحالات. كان عليّ أن أصرخ في وجه الشاعر الكبير: اقرأ النصّ يا هذا ولا تختبرني في غيره، وإن لم تكن تعرفني فذلك من جهلك. كان عليّ أن أقهقه في وجه الشاعر الصغير: أنت محتاج لأن تعيد دراستك منذ البداية كي تفهم شيئا. كانت كذلك خيبة في الشعر والشعراء، وفي الساحة الثقافية عموما، لا سيّما وقد فاز "الفلانات" الثلاثة الذين توقّعهم صديقي. قرّرت حينها ألّا أشارك مجدّدا في أيّ مسابقة.
لكنّي رغم ذلك "حاولت" المشاركة فيما بعد. لمّا تأسّست أيّام قرطاج الشعرية، بدا لي أنّني سأظلم نفسي إذا لم أشارك في مثل هذه المناسبة الكبرى. في الدورة الأولى أرسلت نصّا (نسيت ما كان) للمشاركة في مسابقة القصيد. لا أدري إن كان نصّي وصل، إذ لم تنشر حتّى قائمة المشاركين ولم تكن هناك ورشات لمناقشة القصائد. في الدورة الثانية، كانت مجموعتي الثانية "ماليخوليا" قد صدرت، فأردت المشاركة بها في مسابقة المجاميع. نظرا لالتزاماتي المهنية، تطوّعت زوجتي لإيداع المجموعة بمقرّ إدارة المهرجان. هاتفتني فيما بعد وهي تتميّز غيظا. بعد أن قضت وقتا في البحث عن الإدارة المذكورة في متاهة مدينة الثقافة، التقت السيّدة المديرة شخصيّا التي عاملتها بكثير من التعالي. لم تُرد في البداية تسلّم المجموعة، بدعوى أنّ الناشر هو من يجب أن يودعها. وتحت إلحاح زوجتي، أخذت النُسخ والاستمارة لكنّها رفضت تحرير وصل في ذلك، بدعوى أنّ الكاتبة غير موجودة للقيام بذلك. وطبعا، لم تُنشر قائمة المشاركين ولا أدري إلى الآن إن كانت مجموعتي قُرئت أو أنها ألقيت فورا في سلّة المهملات. لتنضاف هذه المشاركة أو محاولة المشاركة إلى سلسلة المساخر التي شاء حظّي أن أكون طرفا فيها...
الاثنين، 1 فبراير 2021
قصّتي مع الشعر (الجزء الثالث)
في 2003، شاركت للمرّة الثانية في أمسيات المعهد الشعرية. كان قد استقرّ في ذهني أنّني لم أفز بالجائزة الأولى في العام السابق لأنّ قصيدتي قصيرة نسبية، فأعدت كتابتها في 42 بيتا كما كتبت نصّا آخر يحمل عنوان "أليس الصبح بقريب" في ثلاثين بيتا. لا أزال أفخر بذلك النصّ الذي كتبته وأنا في سنّ السابعة عشر، فهو جزل العبارة، حسن السبك، يراوح بين الرمز والتصريح. في ذلك الوقت، كُنت مفتونا بعبارة بول فاليري "أنا لا أقول الشعر بل أبنيه"، فبنيت نصّي بدقّة. قبل أن أشرع في كتابته، وضعت له تخطيطا مفصّلا: ستكون الأبيات الخمسة الأولى حول كذا، ثم يحدث انتقال في الأبيات الخمس الموالية في ذلك الاتّجاه... كان موضوعه كذلك مناسبا تماما للظرف، إذ كان غزو العراق قد انطلق منذ أيّام.
فاز ذلك النصّ بالجائزة الأولى، وعددت ذلك اليوم من أجمل أيّام حياتي، لكن تلته مرارة سوداء. نمت منتشيا بفوزي الشخصي لأصحو على نكسة جديدة عمّقت جراح الأمّة، ففي 9 أفريل كان جيش الاحتلال يدخل العاصمة بغداد، محطّما الأوهام الساذجة التي زرعها فينا محمد سعيد الصحّاف وأمثاله، وساحقا ما تبقّى لنا من فتات الكبرياء.
في السنة الموالية، شاركت بنصّ "نظرة بنت السماء". عكس السنوات السابقة، كانت لي ثقة مفرطة. ذهبتُ متأنّقا وقد تدرّبت على إلقاء نصّي لكي أقدّمه بشكل لائق عند الإعلان عن فوزي. في ختام الأمسية، بدأ الإعلان عن الجوائز: الثالثة فالثانية ولم يكونا من نصيبي. كنت على أتمّ الثقة من أنّي سأحصل على الجائزة الأولى. لمّا صعدت منشّطة الحفل للإعلان عنها، كنت أتحفّز للقيام لكنّها نطقت اسما آخر! تصبّبت عرقا واعتراني ذهول شديد. ذكّرني ذلك بموقف مماثل لعمر الشريف في حفل أوسكارات 1963، لمّا حُرم من جائزة مُستحقّة عن فيلم "لورانس العرب".
لم أكن متعوّدا على الجدال والخصام، لكنّ الطعنة التي أصابت نرجسيّتي دفعتني أن أذهب، متجهّما، إلى قاعة الأساتذة لأطرح على إحدى عضوات لجنة التنظيم سؤالا فجّا: لم لم يفز نصّي؟ أجابتني ببساطة: لأنّنا لم نفهمه! قالت أننّي أسرفت في استعمال الغريب وأنّ ذلك ممّا عيب على عديد الشعراء ومنهم أحمد شوقي. رمّمت هذه العبارة شقوق نرجسيّتي، بل وانفرجت أساريري. شوقي أمير الشعراء، وقد رُمي بما رُميت به. لعلّ ذلك قدر الأمراء!
في الحقيقة، لم تجانب لجنة التحكيم الصواب في ذلك الاعتبار. لم أستمع إلى النصوص الأخرى بانتباه لكي أقدّر موقع نصّي بينها، ولكنّني بالتأكيد لم أكتبه لكي يُفهم بسهولة. كتبتُ ذلك النصّ تحت تأثير وهم الحبّ الأوّل، وكنت ممزّقا بين الرغبة في التصريح وبين الخشية من ردود الفعل، فكان قصيدا غريبا يلفّه حجاب كثيف من المعجم المهجور. لكن كان للنصّ من آخيل كعبه، فما لبث أن افتضح أمره ووجدت نفسي في موقف أشدّ إحراجا من الأمسية الشعرية نفسها!
لعلّ ذلك النصّ كان من أشأم النصوص عليّ، وقد بقي أثره ماثلا لمدّة لا بأس بها لم أكتب خلالها تقريبا سوى عن الحبّ الخائب. ثمّة نصّ عنوانه "وداع "لا أكاد أذكره إلّا وتعتلي ثغري ابتسامة مشفقة. تلميذ في سنة الباكالوريا يقضّي ليلة امتحان في كتابة قصيد سوداويّ متفجّع وكأنّ مصيبة عظمى قد أصابته. ولكن تلك أحكام المراهقة على أيّ حال، إذ فيها في تهويل ما يصيبنا من الأمور ما لا نفعله فيما بعد في مراحل عمرنا اللاحقة. لا ضير من بعض الجنون حينها، حتّى وإن كان مكبوتا يملأ نفس صاحبه حتّى يكاد يخنقه.