الخميس، 16 مايو 2013

دستور بلا هيبة

بالإضافة إلى علويّته القانونية الماديّة والإجرائية، للدستور علويّة (أو يجب أن تكون له)، يمكن أن نسمّيها “علويّة نفسيّة” أو “هيبة الدستور” تتأتّى أساسا من الأهميّة التاريخية للحظة وضعه (وهي لحظة يفترض أن تكون فارقة  قاطعة مع ما قبلها ومؤسسة لما يليها) ومن مهابة واضعيه في نفوس المواطنين على امتداد العصور.
في الولايات المتحدة مثلا، ودستورها المكتوب هو الأطول عمرا بين دساتير العالم، يحظى واضعو دستور 1787 بهالة تصل إلى حدّ التقديس عند مواطني هذا البلد. فهم يسمّون “الآباء المؤسسين” وتشيّد لهم التماثيل ويدرس فكرهم السياسي والفلسفي العميق في المدارس والمعاهد والجامعات. وقد وضع هذا الدستور سنوات بعد استقلال الولايات المتّحدة عن بريطانيا في لحظة أصبح فيها الوعي راسخا بضرورة أن تكون هناك سلطة اتّحادية تسند لها الولايات الثلاث عشرة آنذاك صلاحيات فعليّة.
وأغلب دساتير العالم وضعت في مثل هذه اللحظة الفارقة التالية لأزمة عميقة (حركة تحرّر وطني، ثورة، انقلاب،…) تكون كتابة دستور يؤسّس لمشروع سياسي (ومجتمعي) جديد أحد مفاتيح حلّها.
في معظم الأحوال، يكون “الرّجال” هم من خلقوا “اللحظة”، وتكون لهم بالتالي المشروعيّة الأخلاقية للبناء عليها. في تونس، توفّرت لنا “اللحظة”، ولم يتوفّر “الرّجال”. فـ”الرّجال” (والنساء) وجدوا اللحظة ماثلة أمامهم، فرصة ذهبية لم يكونوا يحلمون بها وسمّيت بالثورة التلقائية أو العفوية أو الثورة من دون زعيم ولعلّهم كانوا أوّل من ذهلوا لحدوثها قبل أن يستوعبوها ويوظّفوها. فوجدنا أنفسنا بعد أشهر من اللحظة ننصّبهم “آباء” لنا وننتخبهم في مجلس ينظّر رجال القانون لكونه سلطة تأسيسية أصليّة أولى وعليا وسيّدة، أي شبه إله قانوني.
غير أنّنا سرعان ما اغتلنا “آباءنا” (بالمعنى الفرويدي) أيّاما معدودة بعد تنصيبهم، ولعلّ الأصحّ أنّ مشاراتهم ومماراتهم وقلّة كفاءتهم وصفقاتهم وأطماعهم المعلنة والحماقات الّتي يتفوّهون بها هي الّتي اغتالتهم وجعلت الحديث عنهم لا يكاد يكون في بعض المنابر إلا من باب التندّر والسخريّة. وبعد أن تتمّ المصادقة على الدستور، لا نلبث أن نجد أنفسنا مطالبين بتطبيق أحكامه الّتي قد لا تعجب البعض فيقول “ومن وضع هذه الأحكام حتّى تكون ملزمة لي؟” ولا يلبث أن يتذكّر كلّ المهازل الّتي أحاطت بعمل المجلس الوطني التأسيسي، فلا يثير ذكره غير القهقهة.
للولايات المتّحدة من الآباء المؤسسين جورج واشنطن وجون آدامز وتوماس جيفرسون وبنيامين فرانكلين وغيرهم من العمالقة. من لنا نحن، لا ممّن يستحقّون تشييد التماثيل فالأكيد أنّنا لم نصل إلى هذه الدرجة،  بل حتّى ممّن يستحّق قدرا من التوقير والاحترام؟
قد ضاعت مع دستور 1959 فرصة تاريخيّة، فهو دستور جاء في لحظة فارقة (استقلال البلاد) وكان واضعوه يحظون باحترام كبير لدى عموم الشعب. لكنّ هيبة دستور 1959 تمزّقت أشلاء قبل أن يعلّق العمل به بوقت طويل…منذ أن احتكره المرحوم الحبيب بورقيبة لنفسه منّصبا ذاته ‘أبا الآباء” ومبيحا أن يقع انتهاكه بسلسلة من التعديلات الّتي سلبته جوهره، وعلى رأسها الرئاسة مدى الحياة.
سيكون لنا دستور، عاجلا أو آجلا، ولكن أن ننتظر منه الدوام، فذلك أقرب إلى الأوهام، فواضعوه جعلونا كالأيتام في مأدبة اللئام. وسيكون من المحال، أو من الأحلام بعيدة المنال، أن ننتظر أن تكون لهذا الدستور هيبة، فالأرجح أن يكون دستور الخيبة.

الرابط على تونس الفتاة

الشيخ حسين العبيدي وانفلات الخطاب الديني

لم أعرف الشيخ حسين العبيدي، إمام جامع الزيتونة، إلا نتفا ممّا تناقلته عنه وسائل الإعلام وصفحات شبكات الاتصال الاجتماعي. وكان الانطباع الّذي تكوّن لي حوله، والحقّ يقال، سلبيّا. غير أنّي منحت الشيخ فائدة الشك إلى أن استمعت إليه في خطبة الجمعة ليوم 26 أفريل فـ” وَضَحَ الحقُّ المبينُ… وَنَفَى الشّكَّ اليَقيِنُ”
افتتح الشيخ خطبته بذكر الموت وعن وجوب إعداد المرء نفسه للقاء ربّه. ظننت الخطبة ستكون عظة تقليدية عن العمل الصالح الّذي ينفع الإنسان إثر مماته، غير أنّها عرفت تموّجات عجيبة أعجزت عقلي المحدود عن تبيّن الروابط بينها.
وجدت العبيدي ينتقل فجأة إلى الحديث عمّن استلموا الحكم ممّن كانوا في السجون، وعن تقصيرهم في ردّ الحقوق إلى أصحابها بدعوى أنّها تحتاج إلى مراسيم، صارخا بصوته الأجش “وهل يحتاج الحقّ إلى مراسيم؟” (يبدو أنّ الجواب، حسب منطق شيخنا، أنّ من يدّعي له حقّا يجب أن يذهب ويأخذه عنوة) ثمّ ألفيت الشيخ يتحدّث عن اتفاقيّة القضاء على جميع أشكال التمييز ضدّ المرأة (السيداو) لاعنا رئيس الوزراء “اللي ما يتسماش” الّذي وقّعها صحبة الرئيس المؤقت آنذاك دون تحفظات[1] ، ذاكرا أنّ بورقيبة وقّعها مع التحفّظ وأنّ بن علي وقعها مع التحفّظ (كأنّ كلّ تغيير في أعلى هرم السلطة يستوجب إعادة التوقيع !) وتعرّض إلى مضمون الاتفاقية فذكر، وأعاد ذلك ثلاث مرّات في مواقع مختلفة من الخطبة، أنّها تبيح زواج الرجل بالرجل (ولا أدري كيف يذكر ذلك في اتفاقية خاصة بالمرأة !) والمرأة بالمرأة وأنّها تدعو إلى اللواط والسحاق، وذلك وسط صيحات التكبير وهمهمات الاستغفار. وكان من الممكن أن أعتقد أنّ الشيخ “غلطوه”، فقال بما سمعه من دعايات مغرضة حول هذه الاتفاقية، لكنّه أكّد أنّه اطّلع عليها وأنّ بين يديه نسخة منها !!![2] وواصل الشيخ ابتداع الخرافات فأكّد أنّه لم توقّع على هذه الاتفاقيّة لا الولايات المتحدة  ولا بريطانيا ولا فرنسا[3]، وأنّ تونس وقّعت عليها لما وجدوه في أهلها من إقبال على المنكرات ووقوع في الزنا إلخ إلخ…
ثمّ عاد الشيخ إلى ذكر الإسلاميين وتقصيرهم في واجباتهم وعدم عملهم بالشريعة قائلا: “يا ليتهم ما وصلوا إلى الحكم”. وتحدّى وزارة الشؤون الدينية مصرّحا أنّه لن تكون لها أبدا سلطة على جامع الزيتونة. وزعم أنّ الوزارة أقرّت قانونا لإغلاق الكتاتيب والمدارس الدينية (طبعا سها أن يضيف عبارة: “غير المرخّص لها !”) وشنّ هجمة على الوزارة قائلا أنّها لا تعتني بشؤون الدين الإسلامي فحسب، بل بشؤون المسيحية واليهودية والبوذية… وتساءل : لم لا تتوجّه الوزارة بالمثل إلى الكنائس والبِيَع؟ (ولا أدري إن كانت للكنائس والبِيَع كتاتيب غير مرخص لها !) زاعما أنّ غاية الوزارة هي افتكاك أوقاف جامع الزيتونة لإعطاءها لليهود والنصارى !!!
ثمّ مرّ الشيخ إلى الحديث عن رجال الأمن ذاكرا قصّة، أرادها مؤثّرة فيما يبدو، عن شرطيّ رآه واقفا يحرس مبنى فتوجّه إليه الشيخ وبشّره بالجنّة، وتهدّج صوت الشيخ في هذه اللحظة وأجهش بالبكاء (حقيقة لا مجازا، وأظنّ ذلك هفوة في الإخراج المسرحي لأنّ اللحظة لم تكن تقتضي ذلك).
ومرّ العبيدي للحديث عن قضيّة الخلدونية، وهنا انقلبت الخطبة إلى مرافعة قانونية بحتة، فزعم الشيخ أنّ البلدية ليست لها الصفة للقيام بالدعوى، مستشهدا بدقّة بفصول من مجلة المرافعات المدنية والتجارية ومجلة الالتزامات والعقود، وهاجم القاضي الّذي حكم ضدّه قائلا أنّه سيحاسب على ذلك حسابا عسيرا يوم القيامة (طبعا لأنّه تجرّأ وحكم ضدّ شيخ الجامع الأعظم)
وأكّد الشيخ أنّ ما قاله إعلام العار عن عدم استئناف التعليم الزيتوني مغالطات، وأنّ الدروس تقام بانتظام بجامع الزيتونة، وإن كان المدرّسون في حاجة إلى رواتب، وهنا دعا أهل البرّ والإحسان إلى التبرّع للجامع لهذه الغاية. وعاد للحديث عن وزارة الشؤون الدينية زاعما أنّها تحث المسؤولين في الجهات على إغلاق فروع المدارس الزيتونية مغرية إياهم برحلات الحجّ والعمرة (الحجّ والعمرة أصبحا رشوة !). وتحدّث عن تغلغل فرنسا في تونس وعن أنّها لم تخرج من تونس إلا بعد التأكّد من أنّها ستبقى مسيطرة على الأوضاع فيها (ولا أدري علاقة ذلك بالشؤون الدينيّة !) وذكر أنّ هناك حربا على الإسلام في تونس الآن لم يقم بها لا بن علي ولا بورقيبة، واستدرك قائلا “بورقيبة حارب الإسلام مش ما حاربش، أم ما وصلش لهذا” معتبرا إغلاق المدارس القرآنية حربا على القرآن، ومن يفعل هذا فهو كافر بصريح النصّ !
وتحدّث الشيخ في خطبته الثانية عن أنّ الصراع أصبح مشخصنا، يتناول شخصه بينما المقصود هو إحكام السيطرة على جامع الزيتونة مؤكّدا أنّ هناك نيّة لإبعاده عن إمامة الجامع. وحذّر في هذا الصدد من الملايين الّتي ستزحف للحفاظ على استقلاليّة الزيتونة.
هذا ملخّص ما ورد بخطبة الجمعة بالجامع الأعظم. والحقّ أنّي رتّبت محتواها حسب تذكّري لها، فإن وجد بهذا الترتيب شيء من المنطق فعلى الأرجح أن يكون ذلك ذنبي، حاشا الشيخ أن يكون أراد منطقا، فهو لا يسأل عن ذلك، ولا يفترض أن يكون لخطبته موضوع، ولا أن تكون وعظا للمأمومين فيما يخص دينهم ودنياهم.
إذا أضفنا إلى انعدام الترابط بين أجزاء الخطبة والمغالطات العديدة الواردة فيها والمحاولات الساذجة لتجييش المشاعر الدينيّة المستوى العامي للخطاب والعبارات الّتي لا يجدر أن تقال من فوق منبر (فالشيخ لا يتورّع عن استعمال عبارات مثل “شلاكة” و”سخط” أو أن يقول عن الباجي قايد السبسي، الذي يرفض أن ينطق باسمه “خارج من متحف ويحب يولّي رئيس جمهوريّة”، علما أنّه لا يصغره إلا قليلا) ندرك أنّنا أمام جهل مرّكب يرتدي جبّة القداسة…خطاب تحريضي يفيض عنفا يكيّفه  صاحبه حسب أهواءه كيفما شاء ويماهي فيه بين الإسلام وبين جامع الزيتونة ويجعل نفسه رمزا لا ينبغي المسّ به لهذه المؤسسة العريقة. وإن كان الشيخ يزعم الغيرة على جامع الزيتونة وهيبته ومكانته، فإنّ صعوده على المنبر، لا عن جدارة أو وافر علم بل اغتصابا وانتزاعا بالقوّة، سيبقى نقطة سوداء في تاريخ هذه المؤسسّة، والأدهى والأمرّ عجز الدولة عن تدارك أمرها  ورضوخها إلى الآن بالأمر الواقع الّذي فرضه هذا الشيخ عليها. وإذا كان المشكل في الخطاب الديني قبل الثورة إمعانه في الرسميّة، فإنّ انفلاته الآن من كلّ عقال لا يمكن أن يكون حلاّ، وكلّ غلوّ مذموم.

الهوامش
[1] بغضّ النظر عن الفروق بين التوقيع والمصادقة ورفع التحفظات (والتي لا حرج على الشيخ أن لا يلمّ بها)، فإنّ الحكومة الانتقالية  بمقتضى مرسوم 24 أكتوبر 2011لم تقم بسحب الإعلان العام الّذي ينصّ على أنّ الدولة التونسية لن تقوم باتخاذ أيّ إجراء يخالف الفصل الأوّل من الدستور (الّذي ينصّ خصوصا على أنّ الإسلام دين الدولة)، فضلا عن انّه لم يتمّ إعلام الأمين العام للأمم المتّحدة برفع التحفّظات الخاصة ببعض الفصول.
[2] يمكن الاطلاع على النص الكامل للاتفاقية على الرابط التالي: http://www.un.org/womenwatch/daw/cedaw/text/0360793A.pdf
[3] القائمة الكاملة للدول التي صادقت على الاتفاقية موجودة على الرابط التالي: http://treaties.un.org/Pages/ViewDetails.aspx?src=TREATY&mtdsg_no=IV-8&chapter=4&lang=en


المقال على تونس الفتاة


http://tounesaf.org/?p=1871