الثلاثاء، 23 ديسمبر 2014

انطباعات فوريّة عن ضرس مقلوعة


نظر إلى صورة الأشعّة وظلّ جامدا. كنت أترقّب جوابه في لهفة، فلمّا أبطأ، سألته: أهناك أمل في إنقاذها؟ التفت إليّ، وبملامح وجه لاعب بوكر، قال: ولا حتّى 1%. اختفت تلك الابتسامة الحائرة من على وجهي ولكنّي عزّيت نفسي بأنّه لن يقلعها اليوم، فقد قال في الموعد الفارط أنّ الأمر يمكن أن ينتظر. تجلّدت وأبديت الشجاعة، ولكنّي فوجئت به يشهر سيفه (حقنة البنج) في وجهي فانخلع قلبي، ولا حرج في الاعتراف بذلك. حتّى ربيعة بن مكدّم وعتيبة بن الحارث وعنترة الفوارس كانوا ليفزعوا في مثل موقفي. ملاقاة الفوارس في ساحة الوغى أمر هيّن يسير إذا قورن بغريب يعبث بفيك ويستبيح عذابك دون أن تقدر حراكا، بل وتتجرّع غصّات الألم  صامتا أملا في عافية جديدة. صحت فيه: ماذا تفعل؟ أو لم تقل أنّ الأمر مؤجّل؟؟؟ تغيّرت ملامحه فجأة لتأخذ شكل قرصان عتيد في ابتسامته الماكرة عندما قال: تغيّر الأمر. الوضع دقيق ودقيق جدّا. "الوضع دقيق"؟ سمعت العبارة من قبل. لكن كان وقتها مستقبل بلاد بأسرها على المحكّ، لا ضرس عبد فقير إلى ربّه. ما الذي يجعل من سنّ واهنة وضعا دقيقا مستعجلا خطيرا تستباح فيه الحرمات؟؟ سلّمت أمري إلى الله والرجل يصول ويجول بين فكيّ. كنت أسرح أحيانا، فأفكّر في شكلي الجديد الذي سيكون بعد قليل خاليا من التناظر، وأفيق على صوته آمرا: افتح فمك، لم أطبقته؟ فأفتحه إلى أقصى اتّساع وأنا أتخيّله، في نفسي، يتمثّل بقول الشاعر:
لمّا رآني قد نزلت أريده...أبدى نواجذه لغير تبسّم
للإنصاف لم يكن الأمر مؤلما البتّة. ولكنّ لم يكن هناك مفرّ من الهلع. لعلّه آلية طبيعيّة لحفظ النفس. نظرت إلى الضرس المتآكل في شيء من الأسى وبعض عجب: كان هذا الشيء منذ قليل جزءا من جسدي، ولم يعد. هكذا تقوم الساعة بغتة! الآن هرمت وعليّ من هنا فصاعدا أن أبحث عن استبدال أعضائي إن أردت أن أنعم بما بقي لي. كأنّه قرأ أفكاري. فابتسم في بعض الودّ (اكتشفت أنّ بإمكانه إبداء التعاطف إذا شاء!) وقال: عد إليّ بعد شهر أو أكثر لنبحث كيف نملأ ذاك الفراغ. دفعت تلك الثروة الصغيرة، وخرجت تاركا جزءا منّي، بعد أن ضرّسني الزمان هناك...

الثلاثاء، 21 أكتوبر 2014

المقامة الانتخابية

حدّث حمدان الحفيان قال:
كنت في مجلس من مجالس العادة، في مقهى الحومة مع رفيقي حمادة، وثلّة من الشباب البطّال، كلّنا للوقت قتّال، فخضنا كباقي الشعب في حديث الانتخابات، وتعالى الجدال عمّن سينال منّا التصويتات، فإذا بشيخ جليل ينهض من كرسيّه ويأتينا، ويقف بجانبنا مستمعا رصينا، ثمّ قال: لكم منّي سلام، وعفوا إن قطعت عليكم الكلام، إنّكم تخوضون في حديث هو إليّ محبّب، فإنّي في السياسة عذيقها المحكّك وجذيلها المرجّب، فسلوني أجبكم، وعمّا خفي من أمورها أخبركم، فقلنا له: فأخبرنا بأمر هذا الأحزاب، وعن أيّها الأجدر بالانتخاب، فقال: أمّا النهضة فأخلاط ممّن يتشدّقون بالدين، وأكثرهم عن أخلاقه لمتنكبّون، لا تكاد تمسك لهم موقفا، فعن كلّ ما يقولون يجدون مصرفا، في عهدهم ذقنا الويلات، من انعدام الكفاءات، وأمّا النداء، فكرب وبلاء، فيهم جمع عظيم من غلاة الانتهازيّة، ممّن يسبّح بحمد الذات الباجية، طوال اللسان بلا حلول، وأكثرهم عن مشاغلنا جهول، وأمّا الجبهة الشعبيّة، فأهل العويل والصياح والمزايدة بمسمّى العدالة الاجتماعيّة، قلوبهم شتّى وإن حسبتهم جميعا، لا تجد فيهم على كثرتهم حازما يكون لشعبه سميعا، وأمّا المؤتمر وأبناءه الفرقاء، من تيّار ووفاء، فهم من بلغوا غاية الشعبويّة، وأقصى المتاجرة بالثوريّة، لا تكاد تجد عندهم فكرا، ولن نلقى من تعنّتهم إلّا عسرا، وأمّا التحالف، فهو على الحياد حالف، لا تجده كيفما قلّبته لا يمينا و لا يسارا، لا يمتح ماء ولا يوقد نارا، وأمّا التكتّل فهو الغراب الذي قلّد مشية الحمامة، فآل به الأمر إلى الندامة، ما عاد يجد له في الناس واثقا، ومهما تكلّم أقسم الجميع أن ليس صادقا، وأمّا الجمهوري فأطلال حزب، ما عاد يجدر به سوى الندب، قد فارقه جمع عظيم من الأبناء، وليس يُدرى أين تحمله الأنواء، وأمّا العريضة أو المحبّة أو ما كان له من أسماء، فالضحك على الذقون صباحا مساء، وأمّا حزب آفاق، فتوحّش الرأسمالية بوجه برّاق، وأمّا حزب المبادرة، ومن ادّعى مثلهم الانتماء إلى الدساترة، فهم الجسد الجديد السقيم، لظلم قديم، ولو علمنا فيهم خيرا، ما آلى أحد ألّا يموت إلاّ حرّا.
فعجبنا من حسن ما فصّل، ووددنا سؤاله عمّا أهمل، فقلت: فماذا عن باقي الأحزاب وعن المستقلّين، ألا نكون إن اخترنا أحدهم من الموفّقين؟ فقال: يا بنيّ لا يخلو أحدهم أن يكون أحد اثنين، لا يخلو أمرهما من الشين، إمّا طامع في الكرسيّ يتاجر بالأصوات، وإمّا ساذج حسن النيّة ستلهو برأيه الدهاة، ليس منهم غير ذلك إلّا نفر قليل لا يكادون يُعلمون، في بحور هذه اللعبة مدفونون، قلت: فإنّ الجماعة ينصحون بالتصويت المفيد، الذي يورد البلد إلى الطريق الرشيد، فما تقول في ذلك يا صاحب الرأي السديد؟ فغضب وصاح فيّ: كأنّك لم تكن تسمع ما كنت أقول، أيّها الغرّ المخبول، والّذي نفسي بيده لا يفيدكم منهم أحد، وكلّ ما يعدونكم هو من البحر كالزبد، وولّى  مدبرا وهو يقول:
كلّهم يمشي رُويدْ...كلّهم خاتل صيدْ

الأربعاء، 10 سبتمبر 2014

إثم البحث عن روح رحبانية في ألبوم "يا حبيبي" لهبة طوجي

لم أكن ممّن قصدوا الحفل الذي أحيته هبة طوجي رفقة أسامة الرحباني بالمهرجان الدولي للحمّامات. كانت فكرة الذهاب قد خطرت ببالي فقط لأنّ بي ضعفا لا أنكره تجاه لقب "الرحباني". على أنّ الخشية من الوقوع على تجربة ليس لها من الرحبنة دون الإسم إضافة إلى بعد الشقّة (وشيء من الكسل كذلك) كانت عوامل حسمت الموقف فلم أذهب. لم أسمع فيما بعد الكثير عن الحفل، حتّى شاهدت منذ أيّام تغطية تلفزية شديدة الإطراء له، وذهب المذيع إلى حدّ اعتبار هبة طوجي فيروز الجديدة. طبعا، كفيروزيّ عريق، اعتبرت الأمر محض هرطقة وهمست لنفسي: "اللهمّ اغفر لقومي فإنّهم لا يعلمون". ولكن ليطمئنّ قلبي، لم أستطع الامتناع عن البحث عن أغاني الألبوم الجديد  لهبة طوجي المعنون "يا حبيبي".

يضمّ الألبوم 15 أغنية كلّها من ألحان أسامة الرحباني. أربع منها كتبها منصور رحباني، واحدة كتبها هنري زغيّب والبقيّة كانت من كلمات غدي الرحباني. على أنّ أغنية "قصّة ضيعة"، وهي استلهام طريف لموسيقى رقصة زوربا اليوناني، وإن لم يكتبها الراحل منصور، فقد كتبت على نمطه. كلماتها رحبانيّة مولّدة إن صحّ التعبير.

حاول أصحاب العمل أن يكون هناك توازن بين الأغاني العاطفية والأغاني التي تحمل هموما إنسانية ووطنية. وفي الحقيقة، غلبت السذاجة في التعبير على هذا الصنف الثاني، وهو ما يظهر في "الربيع العربي" و"صباح الخير" و"المرأة العربية". والسذاجة في حدّ ذاتها لا تشين الأغاني، فهي ليست مطالبة بتقديم تحاليل معمّقة عن الأوضاع السائدة، بل أنّها ميزة طبعت الأعمال الوطنية للرحابنة الكبار، غير أنّ ما يصنع الفارق هو الدور الذي يلعبه اللحن في إيصال الروح الكامنة في الكلمات. وهنا، كان النجاح نسبيّا ومتفاوتا من أغنية إلى أخرى. ففي "الربيع العربي"، وهي أكثر الأغنيات تحيّزا، كان اللحن ساترا يحجب هذه السذاجة، وخصوصا عندما يدخل فيه ما يشبه المارشات العسكرية وعندما يطلق العنان لصوت هبة طوجي للهمس تارة والصراخ تارة أخرى، والكلّ في موضعه. نفس الشيء يمكن ملاحظته بالنسبة إلى "المرأة العربية" الّتي استمدّت طرافتها إضافة إلى كلماتها من نسقها السريع. ويشدّ في "إلي وإلك السماء"  منذ البداية الطباق في إسمها (غير المقصود على الأرجح)  مع "الأرض لكم" التي لحّنها زياد رحباني، وقد لخّصت، بشيء من الهدوء، المثاليات الرحبانية.  يختلف الأمر بالنسبة إلى "صباح الخير" التي كانت دون روح وذكّرتني بالوطنيّات المناسبتية التي طالما عرفناها في بلادنا. وكان الانطباع الذي خلّفته الأغنية  لديّ أنّ مصير "بحبّك يا لبنان" مثلا كان سيكون مشابها لو وقعت بين الأيدي الخطأ. لديّ  أمّا "بيروت"، فهي كلمات تمّت خيانتها موسيقيّا، ولولا مقطع الفالس، على ما آل إليه من جموح، لكانت ممّا يُنسى فور سماعه.

وينطبق هذا التفاوت كذلك على باقي أغاني الألبوم. ففي "يا حبيبي"، ورغم كلاسيكيّة الكلمات التي توحي بأنّ أقرب سبيل لتلحينها هو النمط الشرقي التقليدي (وقد توقّعت أن تكون من طراز "يا حبيبي كلّما هبّ الهوى" للأخوين رحباني)، يفاجئنا أسامة باختيار نمط الجاز، وقد كان اختيارا موفّقا نجح في العثور على إيقاع القصيدة والتناغم معه رغم بعض الهنات في نطق بعض الكلمات، فـ"الأرض الحزينة" تُنطق بالخفض في موضع النصب، وكلمة "قرصان" تنطق مكسورة القاف. وفي "معقول"، كانت تجربة الاستماع ممتعة من خلال التمازج البديع بين "الجاز"و"اللاتينو". كثير من البهجة ظلّت مصحوبة بصوت الكونترباس الرتيب والهادئ في الخلفيّة، ولو أنّ "اللاتينو" لم يلائم في بعض الأحيان شيئا من الحزن في الكلمات. وتأتت طرافة "أنا حبيتو" من الدور الذي لعبه البيانو في تأمين الإيقاع، وهي أغنية دافئة رغم إيغال الكلمات في البساطة. وكانت "خلص" أغنية فراق هادئة، وهي مفارقة عجيبة أن لا يحظى الفراق بشحنة عاطفية من غضب أو حزن. وينطبق على "لمّا بيفضى المسرح" نفس ما قيل عن "بيروت" فالكلمات الشبيهة بتصوير سينمائي يقلب السمع بصرا لم تحظ موسيقيّا بما يفيها حقّها. أمّا في "أوّل ما شفتو"، فقد كان يمكن أن تكون مستساغة، على فتور كلماتها، لولا إيقاعها المزعج والإسراف في اعتماد تقنيات التلاعب بالصوت، وهو ما تخلّصت منه "حبّي اللي انتهى" الرومانسيّة الهامسة. أمّا "يمامة"، فقد تكوّن رأيي منها في الثواني الأولى وتحديدا مع عبارة "لكلّ من في الأرض لا أعرفهم" التي كان لحنها العجول غاية في "التبلفيط"، وتساءلت إن لم يكن اللحن وضع مسبّقا ثمّ وقع الإصرار على اعتماده قسرا على الكلمات بصرف النظر عن كلّ إنسجام. ولا تبقى من أغاني الألبوم سوى "حلوة يا بلدي" التي هي مجرّد إعادة توزيع لأغنية داليدا حرت في معرفة وجه الإبداع فيها أو سبب إقحامها في الألبوم.

قيل عن هذا الألبوم أنّه ينتمي إلى صنف الجاز، ولكنّ ذلك لا ينطبق على كلّ الأغنيات، ولا يتوافق مع التعويل على الأركسترا السمفونية الأكرانية. لا مجال للشكّ في طابعه الغربي، وقد أضفى عليه الاعتماد على البيانو خاصة بصفة دائمة شيئا من الفخامة. تتيح مختلف الأغنيات المجال لصوت هبة طوجي المميّز حتّى يستعرض قدراته في التدرّج من أخفض الدرجات إلى أعلاها، ويدخل في تجربة متعدّدة الأبعاد مع المستمع فيداعبه ويؤانسه ويؤسيه ويستفزّه. ويتعزّز صوت طوجي ببعض المؤثّرات التي تضفي على الأداء بعدا مسرحيّا: الضحكات، الصرخات وحتّى الزغاريد. على أنّه قلّما كان جمال الصوت وحده عنصرا محدّدا في نجاح التجربة. وإذا كان نجاح الأغنية يقاس ببراعة ترجمة الكلمات لحنا، فإنّ النجاح في هذا الألبوم كان جزئيّا. في عديد الأحيان، بدا كأنّ الإصرار على تقديم نمط موسيقيّ ما يأتي على حساب التقاط حساسية الكلمات، وإن غلبت على جلّ الكلمات بساطة تخلو، على خلاف البساطة الرحبانية، من العمق. وإذا كان هناك تشابه مع تجربة الأخوين رحباني، فأراه يكمن في نهايتهما، وتحديدا فيما قاما به في برنامج "ساعة وغنيّة" من إعادة توزيع لأغانيهما بطريقة أضفت عليها نزعة آليّة وسلبت منها صفاءها الشرقيّ.


التقييم العام للألبوم:


الأحد، 31 أغسطس 2014

موانئ لا تبنى

لبدء الحروبْ
ستحتاج ميناء سلم
يكون اليقينَ ببحر الشكوك
ملاذا لروحك عند زمان الخُطوبْ
لتبنيَ ميناء سلمك
تحتاج تاريخ حرب طويل
يكون الحجارة والكلمات     
على نصب جند مهيبْ
إذا لزم الدور، فابق مكانك
لا تبن شيئا
تمتّع بسلم يجيئك بخسا
رماديّة روحه مثل يوم خريف
دماءك قد هدرت، لم تعد لك
عش ما تبقّى لنفسك
وانعم بما فيك من صدإٍ

وانسَ قرع الحروبْ

الجمعة، 29 أغسطس 2014

أمراء الليل

تنقضي فتوّة الشمس عندما يخالجها حياء. يحمرّ وجهها، وتبدأ بالبحث عمّا يواري سوأتها من العيون الملتهمة. تجد ملاذا لها تحت صفحة الماء أو خلف الجبال الصمّاء فترتمي هناك مذعورة. تنذر بعهدها الجديد الّذي سيبدأ مع قرن الغزالة.
يدخل الليل بخطوات متمهّلة، كأنّما يختبر وقع قدومه على من يشهدونه. حتّى إذا اطمئنّوا للسكينة التي تسري فيهم بعد ضجيج الأنوار، يعلن سلطانه اللامحدود على الكون. فيما مضى، لم يكن هناك ما يخالط كأس سطوته سوى طعم خفيف لقناديل مبعثرة ربّما لا تزيدها إلّا لذّة. أمّا اليوم، فقد أصبحت تفيض بأضواء تغلب على مذاقها وتكاد تذهب بنشوتها.

ينصّب على مملكته الشاسعة أمراء اجتمعوا على أن يكون هو لهم حياة. ولأنّهم لا يملكون من زاد سوى النجوى، يؤاخي بينهم وبين منارات السماء. يصغون لهم ويسمعون شكواهم. وتلفظ ربّة الظلام من عينيها هيبنوس ليقود حملته المظفّرة دائما على كلّ من لم يكلّل جبينه بتاج الإمارة، فيخمد كلّ نشاز، حتّى إذا لم يعد هناك مكان إلاّ للموسيقى الصغيرة، جلس هو كذلك يستمع إلى الحكايا ويسجّل منها على دفتره ما يكفي لتقصير أبديّته الطويلة.
وعلى الأنوار الشاحبة لإخوة أضناهم الدوران وزاحمتهم الأقذاء، يلاقي الأمراء شياطينهم المصفدة نهارا، ويلقون معهم النصف الآخر من أنفسهم، النصف الذّي يعمي عن النظر إليه ضوء الشمس. يخيطون تلك الأنصاف إليهم، فيكونون كلّا لسويعات. وبذلك الكلّ تسري الدماء بين عروقهم كما لم تسري من قبل: يتنفّسون، يتحرّكون، يضحكون، يبكون، يثملون، يصلّون، يصرخون، يعشقون...وتمضي تلك الحياة في خفاء إلاّ عن عيون الإخوة والشياطين والورق الأصمّ.
تفاجئهم دائما نهاية المملكة. لا يكونون أبدا مستعدّين لذلك السقوط. ينسج الضوء المتلصّص خيوطه حول النصف النابض فيعتمه شيئا فشيئا حتّى يغيب تماما إذا استوى على العرش مغتصبه. يودّعونه بصمت من يفقد نفسه، كأن لن يكون لقاء...

الثلاثاء، 26 أغسطس 2014

عطر أنثى


كان يكفيه أنّها من فردوسه المفقود. لو عرف ذلك مسبّقا، لسعى إلى لقاءها بنفس أكثر انشراحا. ربّما كان اختار قميصا أكثر أناقة. ربّما كان أكثر من وضع عطره المفضّل. ربّما كان سأل أخته، بشيء من التوتّر الّذي يجتهد في إخفائه، عن رأيها في شكله. ربّما كان ألقى نظرة إلى المرآة قبل أن يخرج. لم يفعل شيئا من ذلك. نظر إلى ساعته في تبرّم وصفق الباب بقوّة كعادته عندما يضطرّ إلى فعل شيء بسبب الواجب ولا شيء غير الواجب. اضطرّ فيما بعد إلى الانتظار لعدّة دقائق حدّث نفسه فيها أنّه لا يأتي من ورائهنّ إلاّ وجع الدماغ. أقبلت تحثّ الخطى وهي تتمتم باسمة بكلمات اعتذار. دون أن يشعر وقف لاستقبالها. كان قد غفر لها قبل أن تنطق. منذ لمحها والفجر يلوح من شفتيها، صلّى في نفسه صلاة السكينة. لمّا مسّت يدها كفّه، سرت إليه كالعدوى ابتسامتها. لمّا نطقت، بلثغتها الظريفة، أيقن أنّه قطع المسافة كاملة من الضيق إلى الابتهاج في بضع ثوان.

لم يأخذ الواجب من لقاءهما سوى وقتا قصيرا. حرص هو على ذلك وانتقل بلباقة، تغيب عنه عادة، إلى حديث أكثر شخصيّة، ولم تمانع هي. سألها عن بلدتها، ولمّا أجابت، قال: "هذا يفسّر كلّ شيء". أغضت تخفي احمرار وجهها، وداخله شيء من ارتباك، إذ أدرك فجأة أنّه خطا عن غير وعي إلى الغزل. ولكنّه كان متوقّد البديهة في تلك الأمسية فلم ينثن. خاض بين قطع الرياض اللائي ملئن زهرا. طويت له الأرض في حديثهما ودنا بعيدُها، وكلّما انقضت أحدوثة، ودّ لو تعيدها...
لمّا ودّعها، تردّد في صدره قول إمرئ القيس:

أ لم ترياني كلّما جئت طارقا
وجدت بها طيبا وإن لم تطيّب
وما إن غابت عن ناظريه، حتّى وجد نفسه يطفو على غيمة من عطر.

الأحد، 24 أغسطس 2014

هبة القوّاس...حلم لم يكتمل

ليست هبة القوّاس من الأسماء ذائعة الصيت في الساحة الفنيّة العربيّة وليست معروفة كثيرا لدى الجمهور التونسي. والحقيقة أنّي على الأرجح لم أكن لأسمع بها لولا حفلها بالمسرح البلدي بالعاصمة سنة 2005. أذكر أنّي لمّا سمعت أنّها ستفتتح مهرجان المدينة لتلك السنة، وكانت المرّة الأولى الّتي يفتتح فيها فنّان غير تونسي هذا المهرجان، استغربت كيف يمنح هذا الشرف لفنّانة مجهولة. بعد ذلك شاهدت ومضة في التلفزة التونسية تتحدّث عنها وعن حلمها لإنشاء أوبرا عربية، وتبدّل الاستغراب فضولا. ذهبت إلى شبّاك المسرح البلدي أسأل عن ثمن التذاكر فاُخبرت بسعر خيالي بالنسبة إلى طالب مثلي في ذلك الوقت (على ما أذكر 25 و15 دينار). هممت بالانصراف، فاستوقفني الموظّف ليعلمني أنّ التذاكر بأعلى المسرح ("الخمّ" أو "بيت الدجاج" كما درجت العادة على تسميته) متوفرّة بسعر خمسة دنانير. اقتنيت تذكرة واحدة، فقد كان من الصعب عليّ إيجاد رفيق يقاسمني نفس التوق للاكتشاف. ذهبت إلى تلك الأمسية الرمضانية، وكان ندمي فيما بعد كبيرا لأنّي لم أضحّ بشيء من المال لحجز أفضل مكان ممكن. كان ذلك الحفل أحد أحلى المفاجآت في حياتي. خرجت منه بين النشوة والذهول: نشوة لذلك العناق الحميم بين فخامة الموسيقى الكلاسكية وعبق الكلمة العربيّة المنتقاة بعناية، وذهول عند الخروج من المسرح بشعور من هوى بعد طول تحليق. كان الحفل خطواتي الأولى في عالم جديد يتمازج فيه الشرق والغرب دون تنافر، عالم تتألّق فيه الأحلام كنجمات حانية تضيء الطريق. أغنيتان شدّتاني بشكل خاص وقتها: "روح واتركني" لطرافة ألحانها ولطف الجناس في كلماتها وتفاعل قائد الأوركسترا الأرمني معها ومع الجمهور، و"عرفت بيروت" لمسحة الحزن الجليل التي طبعتها. وعلى الفور، حلّت هبة الله من نفسي محلّا لا يضارعها فيه سوى القدّيسة والماجدة.
بعد الحفل، حاولت جاهدا البحث عن أغاني هبة القوّاس. لم تكن أسطواناتها متوفّرة بتونس ولم أجد على الانترنت سوى عدد ضئيل من الأغاني ومقتطعات الأغاني، ولم يكن نشر فيديوهات للأغاني رائجا، وكانت مواقع الفيديو العالمية مغلقة أمام العموم. اكتفيت مؤقّتا بما وجدت وظللت أتحيّن الفرص لالتقاط إبداعاتها أغنية بعد أغنية. ولم يخب أملي قطّ. لم أجد في السنوات الأخيرة ترجمة أصدق لعمق الكلمات من ألحان إبنة صيدا وصوتها. شيء نبيل يغزو الروح عند الاستماع إليها. أنشئ الشعر الصوفي خلقا آخر مع أغانيها: "يا نسيم الريح"، "لقد صار قلبي"، "سبحان من خلق القلوب"...
منذ حوالي ثلاث سنوات تقريبا، استمعت إلى أغنية "نجوم الدني بعينيك"، ولعلّها كانت آخر عمل موسيقي أطرب له إلى حدّ الدهشة. كانت من ذلك النوع من الأغنيات التي لا تجد بدّا من الاستماع إليها مرّة بعد مرّة بعد مرّة لتتشرّبها. تكتشفها من جديد في كلّ حين، ولا تعرف ريّا.
ومعها يستمرّ الظمأ...تضنّ علينا هبة فلا نظفر منها بعمل جديد إلا في الفينة بعد الفينة. كأنّي بها لا تتقدّم في طريق حلم الأوبرا العربية إلاّ بخطوات وئيدة جدّا. ربّما يكون ذلك لأنّها لا تجد ما بين المحيط والخليج من الاهتمام ما تجده في المحافل العالمية للموسيقى الكلاسيكية. ربّما يكون ذلك لأنّ من يتذوّقون فنّها قطرات من بحار من الجماهير الباحثة عن الوجبات السريعة. أو لعلّ ذلك يرجع إلى أنّ وسائل الإعلام ومديري المهرجانات يفضّلون الأصداف على اللآلئ، إلا من رحم ربّك، ولعلّها لذلك لم تعد إلى تونس منذ تسع سنوات، رغم أنّي على يقين من أنّ عرضها الوحيد ترك أثرا لا يمّحى في قلوب جميع من حضروه.
قد يكون الأمر مزيجا من ذلك كلّه. ولكنّ الحلم لا ينتهي إلا بالموت كما يقال. سنظلّ نغالب ظمأنا ونحفظ شوقنا، عسى الشوق إلى التحليق يصنع الأجنحة...

الجمعة، 22 أغسطس 2014

أرجلنا الراقصة

كتب يزيد بن الوليد إلى مروان بن محمد بالجزيرة، وكان قد بَلغه عنه أنّه يتلكّأ في بَيعته: "أما بعد. فإني أراك تُقدّم رجلاً وتُؤخِّر أخرى، فإذا أتاك كتابي هذا فاعتمد على أيهما شئتَ، والسلام". 

من الطبيعي أن تعرف حياتنا بضع مفترقات طرق. نقف عندها لمدّة قد تطول فنفكّر في جميع الخيارات التي أمامنا، ونمعن النظر فيها، نحاول أن نحسبها جيّدا، ثمّ نحسم فنسلك سبيلا لا رجوع منها.
لكن من غير الطبيعي أن تكثر فترات الوقوف فتتجاوز زمن الحركة، فنقضي وقتنا نعتمد على رجل تارة  ثمّ على أخرى طورا، فتمرّ أعمارنا ونحن بين تقديم وتأخر فنجد، قرب النهاية، أنّ الحياة مضت بنا ونحن في رقص ليس منه جدوى.
أن يشكل الأمر علينا مرّة كلّ عدّة سنوات فنتردّد ونحتار قبل أن نهدى الطريق شيء عادي، بل لعلّها علامة صحيّة، فالحياة الواضحة التي تسير دون تعرّجات هي إمّا حياة واهمة أو حياة لاواعية. كلّ إنسانيّتنا تقوم على فكرة الاختيار، لذلك لا بدّ أن نمارسها فيما يتعلّق بجوهريّات حياتنا بين الفينة والأخرى. أمّا أن تصبح الأسئلة الكبرى اللون الطاغي على عيشنا، فذلك يعني أنّنا لسنا نحيا...
قد تكون الحياة معقّدة. لكن من المفروض أن يكون لنا ما يكفي من اليقين الذّي نكوّنه بتراكم تجاربنا متى جزنا مرحلة المراهقة حتّى نتمكّن من الحسم في جلّ أمورنا دون حيرة. لا تكون لنا حياة حقّا أن لا يكون لنا هذا الحدّ الأدنى من اليقين.
الحيرة المزمنة سامة، تنزع المذاق من أيّامنا. ونحن نعرف أنّها لن تؤدّي بنا إلى أيّ مكان مادام ليس لنا ضوء نستنير به، وهو ما قد يجعلها قاتلة. الرقص المتواصل مرهق، معذّب، أسهل منه أن لا نفكّر...أن نتّخذ قراراتنا بعشوائية...برمي قطعة نقود إن لزم الأمر. أن نعتمد على الرجل الخطأ أكثر راحة بكثير من رقصة أبدية.

الأربعاء، 20 أغسطس 2014

شيء من المرض


يلزمنا أحيانا شيء من المرض لنتأكد أننا لسنا آلهة. ذاك الضعف هو شيء مما يميّزنا نحن معاشر بني آدم.... أن نكون في أقصى عنفواننا، في ذروة توهجنا، في أوج عطائنا، فيخيّل إلينا أنّنا فارقنا مرتبة الإنسانية وارتفعنا فوقها بخطوة أو بخطوات، ثم يأتي ذلك الانكسار من حيث لا نأتي. نصير حبيسي أنفسنا، أسارى للعجز، غير مستطيعين إلا بشق الأنفس، أو بغيرنا. ينال من وجوهنا الشحوب فيذوي بعض جمالنا. يضني أجسادنا التعب فتنهدّ وقد كنّا واثقين قبل لحظات أنّها تزحزح الجبال. يسكن أعيننا الأرق وقد كنّا من قبل نمرح متى شئنا ونستلقي فننام أنّى أردنا دون أن يخطر ببالنا أنّ الكرى قد يضحي سلطانا منيع الأبواب، شديد الحجّاب.
للمرض جمال. نكون معه في أقرب الأحوال إلى أنفسنا. ومهما بلغ بنا التشويش، فإننا ندرك أننا نلامس جوهر أنفسنا في تلك الحالة. لعلّنا إذ نجرّد من قناع التألّق، من رداء الصحّة،  لا نجد بدّا من الغوص في أعماقنا ونصافح نائما فينا قد نكون نسينا شأنه منذ أمد. في ذلك المزيج بين التشويش والاضطراب من ناحية ولقيا النفس من ناحية أخرى نصل مرحلة من السكينة المعذّبة ربمّا ليس لها طريق آخر.
للمرض جلال. هو رسالة اللّه إلينا أنّ الكمال سيظلّ حلما لا نطاله. هو نذيره إلينا أنّنا معرّضون في كل آن لمفارقة جذوة الحياة. هو بشيره لنا أنّنا لن نعرف الراحة إلا حين نلقاه...

الاثنين، 18 أغسطس 2014

"موزار: أوبرا الروك"" عرض شبه محترف يختتم دورة استثنائية


قبل المرور إلى نظام الاحتراف، مرّت بطولة كرة القدم التونسية بمرحلة انتقالية أطلق عليها إسم مرحلة "اللاهواية" كانت منزلة بين المنزلتين، وسطا بين الهواية والاحتراف، إذ كان كلّ فريق ملزما بأن يكون عدد معيّن من لاعبيه محترفين في حين تتكوّن بقية الرصيد البشري من الهواة. ولعلّها كانت مرحلة ضرورية للانتقال إلى الاحتراف، ولكنها لم تكن تخلو من الغرابة باعتبار تعايش نمطين مختلفين دون حسم واضح لصالح أحدهما.

وهذه التناقض بين الهواية والاحتراف كان السمة المميّزة للعرض المقرّر لاختتام مهرجان قرطاج الدولي، فقد كان من الصعب تصنيفه ضمن العروض الهاوية أو المحترفة نظرا لأنّه احتوى على عناصر من كلا الصنفين، وإن كانت الكفّة تبدو أرجح لصالح الهواية.

أمّا عناصر الاحتراف، فيمكن أن نلمحها في العدد الكبير للعاملين على العرض: أوركسترا تتكوّن في أغلبها من عازفي كمنجة، فرقة روك، خمسة مغنّين، عدد محترم من تقنيي الإضاءة والصوت...وهذا ما كان يوحي بعرض ذي مستوى راق، ولكنّ عناصر الهواية كانت الأغلب.

كان السؤال الذي حيّرني طوال العرض: هل لهذه الأوبرا المزعومة مخرج؟ كان كلّ من المغنّين يصعد على الركح فيؤدّي أغنية دون أن يبالي كثيرا بتجسيد شخصيّته ثمّ يخرج وتصمت الموسيقى حتّى دخول من يتلوه، وكأنّ العرض مجموعة من الأغاني المنفصلة، لا أوبرا مترابطة الفقرات من المفروض أن تقص علينا قصة موزار. غاب التنسيق وبدا جليا أنّ كلّ فرد من المغنّين يرتجل حركاته، فمؤدّي شخصية موزار كانت حركته المميّزة الركض على غير هدى على الركح والقفز في الهواء أحيانا، تحت تصفيق وصرخات جزء كبير من الجمهور يبدو أنّه كان مستعدّا للتهليل لأيّ شيء. 

ويبدو أنّ المفاهيم الأساسية "أوبرا" و"أوبرا روك" كانت مفاهيم غير واضحة بالمرّة في أذهان أصحاب العمل، فالعمل الأوبرالي يتطلب حدا أدنى من القصّ المسرحي والحوار بين الشخصيات، لكن كان من الصعب تتبّع القصّة، أيّ قصّة، في العمل. أمّا عن الحوار، فيكفي القول أنّ موزار لم يدخل في حوار مع إحدى الشخصيات إلا في مناسبة واحدة قبل المشهد الختامي للدلالة على الضعف الفادح لهذا الجانب في العمل. وفيما يتعلّق بجانب "الروك"، فما قيل عن العرض أنِّه تزاوج بين الموسيقى السمفونية وموسيقى الروك، لكن طيلة الساعة الأولى من العرض، ما سمعته في جميع الأغنيات "دخلة" سمفونية يقطع عليها الروك الطريق لينتقل صوت الكمنجات إلى الظل. أما في نصف الساعة الأخيرة، فقد كان هناك محاولة لإيجاد توليفة بين النمطين كانت نتيجتها "زنزانة"كبيرة.

أما عن تعامل المغنين مع "الأوبرا" ومع الجمهور، فقد كان شبيها بذاك الذي عرفناه عن أشباه النجوم من الشرق: خطاب من طينة "تونس بلدي التاني" وتبادل للتحيات وسط العرض، وكأنهم غافلون تماما أن الجانب المسرحي للعرض يقتضي امتناعا تاما عن مثل هذه التصرفات البدائية، التي يمكن أن نضيف إليها أنّ أصواتهم عوّضها فيما يبدو البلاي باك في أحيان كثيرة. كما لم يمتنع أحد أفراد الأركسترا (التي تبين أنها تونسية) عن مغادرة مكانه وسط العرض (ربما لحاجات طبيعية !) ثم العودة إليه تحت أنظار الجمهور الذي خاله ممثلا ينضم إلى الفريق.
وهكذا أسدل الستار على دورة كان من المفترض أن تكون استثنائية بما أنها تختم نصف قرن من عمر المهرجان بعرض هو أقرب للهواية منه للاحتراف رغم الهالة التي أحيطت به والجوائز التي تحصّل عليها والتي قد تكون نتيجة جديّة أكبر تم بها العرض في "بلاد برّة" بعيدة تماما عن الاستسهال الكبير الذي نفّذ به في تونس، استسهال يصل إلى مرتبة قلة الاحترام لتونس وجمهورها.

السبت، 16 أغسطس 2014

قهوة مؤقّتة

يلخّص أحد الأصدقاء علاقتنا بالمقاهي بقوله "يجب أن لا تقلّ مدّة الجلوس بالمقهى عن ساعة. أقلّ من ذلك يجعلها استراحة قهوة". نحن لا نذهب إلى المقاهي في مهمّة محدّدة ودقيقة تقضي بتناول مشروب ما، فذلك منوط بالكافيتيريات، بل أنّ المقاهي هي عندنا مكان التفاعل الاجتماعي (الحقيقي لا الافتراضي) بامتياز. ما نتناوله هناك هو إمّا مجرّد ذريعة لنتواصل مع غيرنا، أو مشروب مقدّس له طقوسه الّتي لا تقبل التهاون بها، وخاصة: لا تقبل العجلة. أمّا إذا تعلّق الأمر بلعبة ورق أو مشاهدة مباريات أو بتدخين شيشة، فعند ذلك نعلن تحرّرنا التام من الزمن، وندخل مرحلة "النيرفانا"...

ورغم أنّ هذه العلاقة الحميمة لا تخفى على أحد، فإنّ ذلك لم يمنع السيّد رئيس الغرفة الوطنية لأصحاب المقاهي ليدعو إلى تحديد توقيت تناول المشروبات الساخنة بالمقاهي، زاعما أنّ الدول الأروبية تحدّده بنصف ساعة (أيّ دول؟؟؟)، ومؤكّدا أنّ أصحاب المقاهي يتحمّلون خسائر كبيرة بسبب غياب مثل هذا التحديد وأنّهم يلجؤون إلى البيع المشروط لهذا السبب  بالذات.

ولا أفهم عن أيّ خسائر يتحدّث الرجل. فعلى حدّ علمي، كلّ المقاهي "تدخّل الخير والبركة" وقلّما سمعت عن مقهى أغلق بسبب قلّة الدخل. أمّا عن البيع المشروط، فمن المعروف أنّ القهواجية لا ينتظرونك لتطيل الجلوس كي يفرضوا عليك قارورة الماء أو قطعة المرطّبات أو الماركة الإيطالية (في آخر الأسبوع وفي أوقات الذروة، لا تتحدّث ماكينة القهوة إلّا بالإيطالية)، بل يبدأ ذلك فور دخول المحلّ. 

كما لا أفهم كيف ستكون الخطوات العمليّة لتكريس تحديد التوقيت. هل سيتمّ نصب ساعة لاحتساب الوقت قرب كلّ حريف؟ هل ستعطى سلطة تقديريّة مطلقة للنادل؟ هل سيتمّ تكريس نظام اللعب لجولة واحدة في أطراح "الرامي"؟ هل سيتمّ اللجوء إلى القوّة العامة لطرد الحريف الذّي يرفض الخروج بعد انتهاء وقته؟
هذا الاقتراح علامة على أنّ المؤقّت ضرب أطنابه في كلّ جوانب حياتنا حتّى مسّ أكثرها تحرّرا من الوقت. وإذا سلّمنا جدلا بجديّة هذا الاقتراح، فلا توجد إلّا كلمة واحدة تبرّره: الجشع. فبعد الحديث عن التحرير الكلّي لأسعار المشروبات الساخنة، يأتينا هذا الاقتراح ليمسّ من الهواية الوطنيّة الأولى (أو الشغل الوطني الأوّل باعتبار أعداد العاطلين عن العمل)، ويمكن اعتباره، بشكل من الأشكال، مسّا من المقدّسات.
يا سيّدي، في كلّ أمور حياتنا كثر "الجري واللهيط"، فاتركنا على الأقلّ نحتسي قهوتنا على مهل.

الجمعة، 15 أغسطس 2014

حول تصريحات راشد الغنّوشي بمناسبة عيد المرأة

استمعت إلى تصريحات السيّد راشد الغنّوشي رئيس حركة النهضة بمناسبة عيد المرأة التونسيّة، أو بالأحرى إلى جزء منها تناقلته وسائل الإعلام والمتعلّق بدعوته الشباب إلى الزواج بالمتقدّمات بالسنّ والمطلّقات.
وأثارت هذه التصريحات، كالعادة عندما يقوم "الشيخ" بأيّ تصريح تقريبا، ردود فعل مستنكرة. وإذا تجاوزنا التهكّم "التنبيري" الخالي من الجديّة حول من منحه الحقّ في التحدّث في هذا الشأن (وهي من الملاحظات المثيرة للدهشة، فمن يمنع أيّا كان عن تقديم وجهة نظره في مسائل اجتماعية، فضلا عن رئيس حزب سياسي يحمل مشروعا مجتمعيّا؟)، فيبدو أنّ أهمّ الاعتراضات على كلام الغنّوشي تتعلّق بتصنيفه في خانة الدعاية الانتخابيّة لاستجلاب أصوات فئة من النساء (وقد لا يخلو ذلك من صحّة ولكنّه يدخل في باب محاسبة النوايا إذا لم يقم الدليل عليه) وأنّه يقزّم من المرأة التونسية بتصوير البحث عن زوج هدفا رئيسيّا لها. وأخال أنّ هذا النوع من الاعتراضات يدخل في باب المثاليات النسوية البعيدة عن الواقع، فقد يطول الحديث عن مكاسب المرأة التونسيّة وسيرها في درب التقدّم ولكن من الصعب أن ننكر أنّنا مازلنا في مجتمع يحدّد إلى حدّ كبير مكانة المرأة بمدى نجاحها في تأسيس أسرة، ودعوة المرأة إلى عدم الاستجابة لهذه النظرة هو دعوة إيّاها للوقوف في وجه المجتمع، وهو طلب يتطلّب قدرات استثنائيّة قد يكون بلوغها صعبا على السواد الأعظم.
ولكنّ ذلك لا يعني أنّه لا اعتراض جديّا على تصريحات رئيس حركة النهضة. فيمكن على الأقلّ تقديم اعتراضين اثنين.
الاعتراض الأوّل يتعلّق بكون السيّد راشد الغنّوشي يدعو، عن وعي أو غير وعي، إلى ثورة اجتماعيّة حقيقيّة دون أن يقدّم أيّ وسائل لتحقيقها. فالفارق بين سنّ الزوج والزوجة لصالح الأوّل عادة متّبعة في غالب مجتمعات العالم يقع تبريرها بأسباب بيولوجية، فأرسطو، صاحب المنطق، مثلا يرى أنّه من الأفضل أن يتزوّج الرجل عندما يبلغ السابعة والثلاثين بامرأة في سنّ العشرين حتّى يتزامن بلوغها سنّ اليأس مع وصوله إلى الشيخوخة. ومن المشروع أن يدعو كلّ من شاء إلى انقلاب في المعايير المجتمعيّة، ولكن يبقى من السذاجة بمكان الاعتقاد أنّه ستتمّ الاستجابة إلى هذه الدعوة لمجرّد أنّها صادرة عن "الشيخ" (هذا إذا لم نعد إلى "النوايا").
أمّا الاعتراض الثاني فيكمن في التعامل الانتقائي مع الموروث الديني. فقد تحدّث الغنّوشي عن زواج الرسول عليه الصلاة والسلام وهو في الخامسة والعشرين بالسيّدة خديجة وهي في الأربعين كمثال يجدر اتّباعه. وبغضّ النظر عن بعض التجاوز في كلام "الشيخ" (إذ قال "امرأة فاقت الأربعين" في حين أنّ الرواية الغالبة أنّها كانت في تمام الأربعين، مع وجود روايات أخرى ترى أنّها كانت أصغر من ذلك)، فإنّ هذه الزيجة كانت استثناء بين زيجات الرسول الأكرم في خصوص الفارق في السنّ، في حين الزيجات الأخرى الاثنتي عشرة من الممكن أن يتمّ الاستدلال بها في الاتّجاه المخالف. كما أنّه من المعروف أنّ النبيّ عليه الصلاة والسلام نصح جابرا بن عبد الله بالزواج من بكر لا من ثيّب. وتوظيف القراءات بشكل متناقض حسب مقتضيات الحال من الاعتراضات التي لم تخفت على تيّار الإسلام السياسي.
بقي أن نضيف أنّ مثل هذه الدعوات لا يمكن أن تحلّ مشكل العنوسة كما يذهب "الشيخ" إلى ذلك. فهذا المشكل يرتبط بظاهرة العزوف عن الزواج التّي لا يمثّل فارق السنّ إلا هامشا بالنسبة إليها يتطلّب تحليلا معمّقا متعدّد الاختصاصات، لا مجرّد دعوات تبسيطية تختزل المشكل وتسطّحه، وهو ما سبق لنفس الشخص القيام به في خصوص تبرير تعدّد الزوجات.

الخميس، 14 أغسطس 2014

عندما تموت الضحكة اكتئابا

كان "جومانجي" أوّل فيلم أشاهده في قاعة سينما. كنت في الحادية عشرة من العمر. كنت على ما يكفي من الطفولة لأستمتع وأضحك ملء في. في نفس الفترة تقريبا، شاهدت على شاشة التلفاز "السيّدة دوبتفاير"، وتحوّل بسرعة إلى أحد كلاسيكيات الضحك لديّ. كلا الفيلمين ربطا إسم روبن ويليامز بالضحك من الأعماق. وتتابعت الأفلام التي شاهدتها بعد ذلك لتؤكّد ذلك الربط: "صباح الخير فيتنام"، "مجتمع الشعراء الأموات"، "الملك الصيّاد"، "فلابر"، "صاحب المائتي عام"، "غود ويل هانتينغ"، "رجل العام"... كنت أترقّب الضحك في كلّ فيلم يظهر فيه، مهما كان نوعه، حتّى أنّني لدى مشاهدتي فيلم "أرق"، وهو أبعد ما يكون عن الضحك، ظللت أترقّب انقلابا كوميديّا مفاجئا، فقط لأنّ روبن ويليامز ظهر فيه. لم يحصل ذلك الانقلاب الكوميدي، وفهمت وقتها أنّ إسمه يمكن أن يرتبط بغير الضحك...بالموت الذي يتيه معه كلّ معنى...بالعبثيّة.
ولعلّه لم يفعل بانتحاره سوى أن أكّد أنّه مهما قهقهنا، فلن تظلّ الحياة غير تراجيديا نخدّر أنفسنا خلالها بالضحكات بين الفينة والأخرى..الرجل الذّي أضحكنا حد الاستلقاء طوال السنوات الأخيرة كان سكّيرا مدمنا بلغ به الاكتئاب حدّ الانتحار...صانع الضحكات الذّي خفّف عنّا أعباء الحياة انتهى به الأمر أن لم يعد يجد لحياته معنى. 
خان مماته جميع ما أهداه إلينا في سنين حياته. كيف لنا أن نسترق الضحكات إذا كان المُضحك الأوّل قد خاتلنا، قد باعنا الضحكات الصافية من قلب مريض مهموم بالحياة؟ كيف لنا أن نصدّق أنفسنا إذا ضحكنا؟
ربّما علينا أن نتناسى النهاية ولا نذكر سوى الطريق...

الثلاثاء، 12 أغسطس 2014

الحياة هي التفاصيل

لا يسكن الشيطان التفاصيل، بل تسكنها الحياة. ستعجز إن حاولت إن تجد من كلّ شيء تقوم به أو تنوي القيام به معنى. لا معنى لشيء في ذاته. أنت من تخلق المعنى، ولن تفعل إن كنت تبحث عنه في كلّ التفاتة. لن تخلق المعنى إلاّ إذا استغرقت في الشيء بكلّك، فلم يعد يفوتك منه تفصيل. ليكن "الشيء" حبّا تعيشه أو مهنة تزاولها أو أكلة تطبخها أو شجرة تتعهّدها. لا يهمّ. لا تلتفت إلى الوراء وتتساءل: لم أفعل ذلك؟ هذا السؤال هو بداية الضياع. إن طرحته فعلى الأرجح سيتبخّر المعنى من كلّ شيء. لا تجعل التفاصيل حجّة على الشيء فتجمع منها أعذارا تتعثّر بها فتتوقّف. اعتنق الأشياء كما هي، بجمالها وعيوبها، بأفراحها وأحزانها، بثرثرتها وبصمتها، ولا تدع السبيل لأيّ مانع يحول دون التعمّق فيها واكتناهها حتّى الثمالة، وكلّما زاد تعبك وألمك، فأنت تسير في الطريق الصحيح. يقول ثيودور روزفلت "أفضل ما تمنحه لنا الحياة التعب فيما يستحقّ التعب" لكنّه لا ترهق نفسك كثيرا في البحث عمّا يستحقّ التعب، فلن تجده، بل سيجدك...

الاثنين، 11 أغسطس 2014

هل مضى زمان الشعراء؟

في مسرحيّة "بالنسبة لبكرا...شو؟" لزياد الرحباني التي عرضت سنة 1978، يؤدّي فايق حميصي دور شاعر يدعى الأستاذ أسامة. هو دور هامشي في أحداث المسرحيّة، بل أنّه يكاد يتقلّص ليكون جزءا من الخلفيّة الصوتيّة في عديد الأحيان، غير أنّه يفاجئنا أحيانا إذ يقوم منشدا لبعض روائعه، كقصيدته العصماء "متعاقب أنا":


متعاقب أنا في أصل الصورة
عاهدت اللوز والأشياء الأخر
بأنّني غدا على قرميدك المهزلة
سأمتطي...أمتطي...أين أمتطي؟
متعاقب أنا فيكِ يا أينك
يا أينك من أصل الصورة
تسكنني اللامركزية
يا أينك يا بهيّة
خبّريني، هل ضاجعك الهاتف وسط الرياح المنافقة؟
عفوا
اخلعني عنّي يا فجر المسامير
وأغرق بعيدا في أصل الصورة
إنّها المهزلة الأخيرة
ساورتني شكوك الصوف
و كان هيلاسيلاسي جاثما عند باب المستودع
مهلا يا زهرة الناريت
أبرق لهم وقل لهم حذار زهرة الناريت، حذار شكوك الصوف
معذور أنا أفلا تعذريني
أفلا تعذريني بعد أن سقطت حتى الأزل
و لم تزل تسقط حتى الريش صورة الأصل من أصل الصورة

ثمّ يقف قرب الطاولة ليقول:
اخلع عنك هذه البلابل المشبوهة، فإنّ اللون السابع بعد الألف أرجواني

يحاول نجيب، العامل بالمطعم، الاستفسار عن معنى ما قيل، فيجيبه الشاعر: هذا الشعر ليس لك وليس فهمه متاحا لكلّ من هبّ ودبّ. يغضب نجيب ويمسكه من خناقه صائحا "ما تقصد بأصل الصورة؟". يفصل رامز بينهما. يحاول الأستاذ أسامة الخروج دون أن يدفع الحساب، لكنّ نجيبا يتفطّن لذلك فيضطرّ الشاعر للدفع على مضض. إثر ذلك، يجري نقاش بين رامز ونجيب يعبرّ فيه رامز عن إعجابه بشعر الأستاذ أسامة، ويقول عنه: "شعره كلّه مغاز وعبر حتّى وإن لم نفهمها. المهمّ أنّه هو يفهمها "!

كنّا، وربّما لازلنا، نردّد عبارة "الشعر ديوان العرب" المنسوبة إلى ابن عبّاس ناسين أو متناسين أنّ هذه العبارة تمّ تجاوزها منذ زمن طويل (يقول الجاحظ "كان ديوانها"). كان الشعر ديوان العرب عندما كان حاملا للغتهم وقيمهم ومآثرهم وأيّامهم. في الزمن الماضي، كان الناس يسمعون القصيدة من الفرزدق أو جرير فينتظرون نقيضتها من صاحبه، كما ينتظر القوم اليوم حلقة من مسلسل. فيما مضى، كانت القصيدة الواحدة ترفع فردا خاملا، كالمحلّق، إلى مرتبة السادة، وتُنزل علية القوم، كبني نمير، إلى أسفل سافلين. في الزمن الغابر، كانت القصيدة، كمعلّقة عمرو بن كلثوم، نشيد القوم، شعارهم ودثارهم ومبعث فخرهم. فيما سلف، كان شاعر كالنابغة يسلّ سخيمة ملك غاضب فيعفو عنه ويجزل العطاء. في الزمن البائد، كان الناس يغتنمون حتّى الحروب ليسألوا أعدائهم من ذوي البصيرة بالشعر وأهله أن يفاضلوا بين شاعرين...


أمّا الآن...

"الأستاذ أسامة" تصوير كاريكاتوري بلا شكّ، لكنّه لا يبتعد كثيرا عن صورة الشاعر السائدة في مجتمعنا الآن. الشاعر اليوم يكتب ما لا تُدرى نسبته إلى الشعر (كان الشعر شكلا كلاما موزونا مقفّى، أمّا اليوم لم يعد هناك اعتبار لا للوزن ولا للقافية). الشاعر اليوم يكتب ما لا يُدرك معناه إلا بضرب من الكهانة. الشاعر اليوم لا يُعرف إلا في دائرة ضيّقة من مرتادي الصالونات. وكالأستاذ أسامة الذي أراد الهروب من دفع الحساب، بعض شعرائنا يمارسون ضروبا مماثلة من الصعلكة...لا صعلكة نبيلة كعروة بن الورد، بل ما ذمّه أبو الصعاليك في قوله:


لَحَى اللهُ صُعْلُوكًا إِذَا جَنَّ لَيْلُهُ ...مَضَى فِي المُشَاشِ آلِفًا كُلَّ مَجْزَرِ
يعُدُّ الْغِنَى مِنْ دَهْرِهِ كُلَّ لَيْلَةٍ...أَصَابَ قِراهَا مِنْ صَدِيقٍ مُيَسِّرِ
قَلِيلَ الْتِماسِ المالِ إلاَّ لِنفسِهِ...إذَا هو أَضْحَى كالعَرِيشِ المُجَوَّرِ
يَنَامُ عِشَاءً ثُمَّ يُصبِحُ قاعِدًا...يَحُتُّ الحَصَى عَنْ جَنْبِهِ المُتَعَفِّرِ
يُعِينُ نِسَاءَ الحَيِّ مَا يَسْتَعِنَّهُ...فَيُضْحِي طَلِيحًا كَالبَعِيرِ المُحَسَّرِ

لعلّها سيرورة طبيعيّة. قال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه "كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصحّ منه". لكن تطوّرت العلوم والفنون فيما بعد وأقبل عليها الناس فترك الشعر مكانه الرفيع كلسان للمجتمع وقيمه الأخلاقيّة والجماليّة ليتحوّل إلى أداة للتكسّب أساسا وزاد انحداره في عصور الانحطاط ليصبح مجرّد أداة للحذلقة اللغوية والبلاغيّة. تداركه الشعراء الإحيائون فأعادوه إلى حدّ ما ترجمانا لهموم الشعوب وطموحاتها وقرّبه الرومنطيقيون من دواخل الذات الإنسانيّة ثمّ لم يلبث أن دخل في مراحل تجديد متعاقبة ومتسارعة كاد معها يفقد معناه. مع الحداثة، أو ربّما مع وهم الحداثة، أضحى مقياس الشعريّة الإغراب في الصورة إلى حدّ الإبهام. لا يهمّ أن تكون الصور هلاميّة، لا تكاد تمسك منها إلا قبض الماء. وإيّاك أن يكون معنى قولك واضحا، فتلك مباشرتيّة لا تليق بعصرنا الآن. تحدّث عن "فجر المسامير" و"شكوك الصوف" و"اللون السابع بعد الألف" وسيجد النقّاد الأجلّاء سبيلا لتأويلها حتّى وإن لم تقصد بها شيئا (وبعضهم استخلص فعلا بعض المعاني من قصيدة الأستاذ أسامة التي قصد بها كاتبها تحديدا أن لا يكون فيها معنى !!)...ولعلّ شعر اليوم هو شعر على نمط عصره: شعر بلا معنى لعصر بلا معنى.

ولعلّ الشعر لم يعد له من مكان في مجتمع يعيش على نسق الاستهلاك. ربّما كان من المفترض أن يؤدّي تعميم التعليم إلى الارتفاع بالذائقة الجمالية العامة ولكنّه أدّى على العكس من ذلك إلى أن تصبح الثقافة إحدى السلع المعروضة كأكلات سريعة. لا صبر لأحد على تذوّق نصّ وتصيّد مواضع الجمال فيه. الكلّ يريد ما يلتهمه التهاما. ولو نزلت إلى الشارع فسألت عن الشعراء العرب المعاصرين، لن تظفر على الأرجح بغير اسمين: نزار (لكثرة ما غنّي من شعره) ودرويش (بفضل "ريتا"، ولأنّه الاسم الأكثر تردّدا على ألسنة المثقّفين هذه الأيّام). أمّا إن سألت عن الشعراء التونسيين، فسيكون جيّدا لو ظفرت بإسم، أيّ إسم. لا يصلح الشعر اليوم إلا لانتزاع بعض المقاطع، ربّما دون قراءتها حتّى وإن كانت تتحدّث عن هيلاسيلاسي أمام المستودع، لنشرها على فايسبوك قصد التباهي بالمستوى العالي من الثقافة. أمّا بعيدا عن الحياة الافتراضيّة، فعلى الأرجح أن لا يثير الترنّم ببعض الأبيات إلا السخريّة.


أو لعلّ لكلّ زمن شعره. شعر إمرئ القيس كان صالحا لزمن إمرئ القيس وشعر أبي فراس كان صالحا لزمن أبي فراس. ولكن كلّ مجتمع ينتج شعره. كان الملحون ولا يزال يُنشد ويُسمع ويُطلب في بعض المناطق من البلاد، ولعلّ "الراب"، مهما اختلفت التقييمات منه، هو شعر المناطق الحضرية والأحياء المهمّشة في هذا الزمن.


أو ربّما يكون الشعر يحتاج، مثل عديد الأشياء الأخرى، إلى مشروع....مشروع يُخرجه من الهامشيّة، من أن يكون مجرّد ضوضاء في الخلفيّة كشعر الأستاذ أسامة، ليكون دعوة متجدّدة إلى اكتشاف الجمال، أيّا كان مأتاه، في هذا العالم ويرأب الصدع الذي طال أمده بين طائفة الشعراء وباقي المجتمع...مشروع يجعلنا نتلمّس شيئا من الطريق أمام السؤال الخطير لمسرحيّتنا الكبرى: "بالنسبة لبكرا...شو؟"


الأحد، 2 فبراير 2014

رواية أخرى لقصّة الصرّار والنملة

حدّث يوحنّا الينبوعي قال:
في ظهيرة يوم من أيّام الصيف الحارة، والطرق قد خلت من جميع المارة، كانت النملة تدحرج أمامها حبّة قمح، وتكدح لذلك أشدّ الكدح، تمنّي النفس بطعام وافر، متى جاء الشتاء بغيثه الغامر، وعندما أوصلت حملها إلى دارها، تنبّهت إلى غياب جارها، ذلك المغنّي الصرّار، فعلى غير العادة لم تسمعه طيلة النهار، فأطلّت برأسها لعلّها تراه قريبا، فألفته حذو شجرة جاثما كئيبا، يدندن في همس لحنا شجيّا، متقطّعا لا يريد أن يكون سويّا، فاقتربت منه سائلة، أين كنت إلى حين القائلة؟ فرفع رأسه وقال: دعيني أيّتها النملة، لعلّي أنهي اليوم هذه الجملة، فقالت له: لا زلت في هذيانك، لا تنظر في شأن شرابك وطعامك، أما كان خيرا لك لو جمعت بعض المؤونة، فلا تسألني أيّام البرد المعونة؟ قال لها الصرّار: أ رأيتني إن فعلت ما تفعلين، فما منتهى ذلك للعاملين؟ قالت: حسبي ما يكفيني للعيش، وبعد ذهني على خلافك من نوازع الطيش، فقال: ليس مثلي من يقول حسبي، يأبى ذلك قلبي، فقالت: فإني تاركتك هذه السنة للجوع، عسى أن يكون منك لقولي خضوع، فقال: افعلي ما تشائين، فلست لك من المتّبعين، ثمّ قام وقال: لك منّي سلام، فما أظنّني ألقاك في قادم الأيّام، ومضى مسرعا حتّى غاب بعيدا، فتنهدت النملة وقالت: طالما كان مجنونا عنيدا.
وتعاقبت الفصول، وشأن الصرّار مجهول، حتّى كادت النملة تنسى ذكره، ويغيب عنها كلّ أمره، حتّى كان شتاء، بليت الكائنات فيه أشدّ البلاء، فلم تنزل فيه قطرة من مطر، واشتدّ على الجميع من العطش الخطر، وجفّت فيه فروع الأشجار، ومالت الوجوه فيه إلى الاصفرار، وتعالى الدعاء بكشف الغمّة، واستمطار الرحمة.
وفي ليلة شديدة القر، والكلّ يداري نفاد الصبر، تناهى إلى الأسماع صوت عزف حزين خافت، كأنّه ما بقي بالقلوب من نور باهت، يخرج من أعماق قرار، فأطلّت النملة تستطلع الأخبار، فإذا بالعازف جارها الصرّار، فصاحت به: عدت أخيرا أيّها الأفّاق، فلم يردّ إذ كان مستغرقا في عزفه أشدّ استغراق، كأنّه في غير دنيا المكان، أو يسبح بين أطراف الزمان، وفجأة ارتفع صوت العزف، وفي نفس اللحظة قصف الرعد أشدّ قصف، وتسارعت النغمات، كأنّها تناجي السماوات، ومع تسارعها بدأ المطر ينزل رذاذا، وكان وقعه في القلوب أخّاذا، وبدأت موسيقى الصرّار شيئا فشيئا تكتسي بالألوان، والغيوم تلبّيها وبها تزدان، حتّى صار المطر كأفواه القرب، وعجبت الكائنات من أمر الصرّار أشدّ العجب، وصرخت النملة: حسبك قد أحسنت، فاحتم ببيتي وإلا غرقت، فلم يلتفت إلى كلامها ولا زال عازفا لا ينقطع، ينوّع على مقطوعته والسماء لا تمتنع، وحجبه عن الأنظار الانهمار، وما عاد وجوده معلنا بغير الأوتار، وبعد ساعة أو بعضها صمت الصوت أو خمد، وانقطع من السماء المدد.
وخرجت الكائنات تبحث عن الصرّار، فلم يعثروا له على أيّ آثار، وقال قائلهم: أحسب أنّه قد جرفته السيول، بعد ما كان من شديد الهطول، فابكوا ذاك البطل المجهول، فدمعت العيون، وندبه النادبون، ورثاه الراثون، والنملة بينهم باهتة ناظرة، ثمّ انقلبت إلى بيتها حائرة، وقضمت من حبّة القمح قضمة، وبنفسها شيء من بقايا نغمة...