‏إظهار الرسائل ذات التسميات وطن. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات وطن. إظهار كافة الرسائل

الخميس، 3 مارس 2011

ما بقي من مواطن الاختلاف

استقال السيّد محمد الغنوشي يوم الأحد، و سيحكم التاريخ على ما قام به سلبا أو إيجابا. أرى أنّه تحمّل المسؤولية عندما قبل البقاء على رأس الحكومة في فترة صعبة و تحمّل المسؤولية لمّا استقال في فترة أصبح وجوده يقف عائقا أمام هو عمل الحكومة...قام بعمل كبير و لعلّ معضلته و معضلة حكومته، إضافة إلى التردّد في بعض القرارات، هي الفشل الذريع في التواصل الإعلامي مما ترك مناطق ظل عديدة في عمل الحكومة أدّت إلى زعزعة الثقة فيها. استقال الغنوشي، و تلت استقالته استقالة عدد من الوزراء، منهم من كان منتميا إلى "العهد البائد" و منهم من كان منتميا لأحزاب، و هو ما كان يتعارض مع كون الحكومة حكومة تكنوقراط. و بابتعاد هؤلاء عن كراسي الوزارات، انتهى أحد أكبر مواطن الخلاف في الشارع التونسي الذي كان منقسما أساسا بين مؤيدي الحكومة و معارضيها. و عيّن الباجي قائد السبسي وزير أوّل، و لا أظنّ أنّ كفاءته و خبرته السياسية موضع خلاف، و لم أسمع اعتراضا جدّيا على تعيينه، سوى رفض الاتحاد له بدعوى أنّه لم تقع مشاورته في التعيين، ثمّ تراجع بعد ذلك بعد أن تمّ القبول بكل الشروط التي وضعها. في كل الأحوال، لا توجد أي شخصيّة في تونس قادرة اليوم على تحقيق الإجماع حولها لقيادة الحكومة في هذه المرحلة الحاسمة.

و في انتظار إعلان التركيبة الجديدة للحكومة (التي ستكون إثر مشاورات، و لا أتصوّر أن تكون محل خلاف كبير بعد خروج الوجوه "الإشكاليّة" منها)، لا أرى أنّه ما زالت توجد خلافات كبيرة تمزّق المجتمع التونسي في الفترة الحاليّة إلا تعنّت بعض الأطراف...هناك شبه إجماع حول ضرورة القطع مع دستور 1959 و مؤسساته (و تحديدا مجلس النواب و مجلس المستشارين) و انتخاب مجلس تأسيسي يضع دستورا جديدا للبلاد. و الجميع متفقون حول ضرورة إيقاف نزيف المطالب القطاعية و إعادة الأمن إلى البلاد. الخلافات المتبقيّة تهم تفاصيل هامشيّة، و لكنّ طريقة عرضها المتشنجة و الإصرار عليها بعناد هو ما يجعلها تبدو كأنها خلافات عميقة. و لعلّ هذه الخلافات تكمن فيما يلي:

- المطالبة بنظام برلماني: من الطبيعي أن تكون الديمقراطيّة مطلبا شعبيّا، و لكن من غير المعقول بتاتا أن يكون النظام البرلماني كذلك. الكثيرون ممّن يطالبون به لا يفقهون منه شيئا سوى أنّه غير النظام الرئاسي، و من غير المتأكّد أن يكون هو النظام الأصلح لبلادنا. و ثمّ ماذا يبقى للمجلس التأسيسي إذا تمّ تقييده سلفا بشكل نظام معيّن؟ من الأفضل إذن ترك هذه النقطة للمجلس التأسيسي الذي سيحدد ،مستعينا بخبراء، النظام الأصلح لتجسيم الديمقراطية في مجتمعنا. و ليختر الناخبون ممثليهم حسب النظام الّذي يدعون إليه.

- تنظيم الفترة الانتقالية: إلى حين انتخاب مجلس تأسيسي، هل سيتم العمل بدستور 1959 أم لا؟ من الأكيد أنّ دستور 1959 فصّل على مقاس النظام، إلا أنّ القطع الفوري معه قد يعني نفي كل شرعية، بما في ذلك شرعية الرئيس المؤقت مما يهدد استمرارية الدولة. في هذا الإطار، اقترح الأستاذ قيس سعيّد مشروع أمر ينظّم مؤقتا السلط العمومية (http://www.assabah.com.tn/article-50000.html)، على غرار ما وقع في 1957، يمكّن من المحافظة على استمراريّة الدولة و في نفس الوقت يقطع مع دستور 1959.

- المجلس الوطتي لحماية الثورة: قبلت الحكومة بإنشاء هذا المجلس و اقترحت مشروع مرسوم ينظّمه، و لكن هذا المجلس رفض هذا المشروع و طلب تعديله مصرّا على طابعه التقريري (http://www.assabah.com.tn/article-50246.html). و هو تعنّت في غير محلّه. فهذا الطابع التقريري سيعني أنّ الحكومة ستتحوّل إلى مجرّد منفّذ لقرارات المجلس (الذي ليست له شرعية سوى مرسوم إحداثه و لا يملك مشروعية انتخابيّة، و العديد من المواطنبن يرفضون وجوده). الطابع الاستشاري في الظروف الحالية لن يقلّ أهمّية عن الطابع التقريري، بما أنّ الحكومة لن يمكنها تجاهل رأي المجلس في أي قرار من القرارات، و إلا ستصبح مهدّدة بالإسقاط كسابقتها.

إن تجاوز هذه الخلافات لا يتطلّب سوى حدّ أدنى من التنازلات للتوصل إلى تسويات تكون مقبولة من الجميع و تمكّن من عبور هذه المرحلة الانتقالية نحو الجمهوريّة الثانية. ربّما يكون المشكل الأكبر داخليا يهم اللاعب الأساسي الآن في الحياة السياسية و الاجتماعية في البلاد: الاتحاد العام التونسي للشغل. ما زالت قيادات هذه المنظمة العريقة التي لا يشكّك أحد في دورها التاريخي من الوجوه المتورطة مع النظام السابق (سياسيا على الأقل، في انتظار انجلاء الغموض عن تهم الفساد المالي). و مع ذلك، بقيت هذه القيادات تنشط، بل و تدّعي تزعّم الثورة، دون أن يطرح تنحّيها من قيادة الاتحاد، و هو ما يجعل الريبة تسود فيما يتعلّق بالدور الّذي يلعبه الاتحاد في هذه المرحلة.

الاثنين، 14 فبراير 2011

قراءة في إحداث المجلس الوطني لحماية الثورة

صدر اليوم بلاغ إعلامي (http://www.facebook.com/photo.php?fbid=176773552367904&set=a.101927069852553.961.100001057812095) يوضّح مهام الهيئة التي وقعت تسميتها "المجلس الوطني لحماية الثورة". هذا البلاغ يحمل توقيع عدة أطراف من المجتمعين المدني و السياسي. و يشكّل هذا المجلس على ما يبدو ثمرة مفاوضات تلت مبادرة أحمد المستيري منذ الأيام الأولى لسقوط النظام، و رغم أن الإعلان عن هذا المجلس تأجل أكثر من مرّة، إلا أنّه ما زال يطرح في صيغته المعلنة تساؤلات عديدة حول تركيبته و حول صلاحياته.

1)

يضم المجلس عددا من المنظمات و الأحزاب. و باستثناء الاتحاد العام التونسي للشغل، فمن الصعب القول أنّ بقيّة المنظمات الموجودة في المجلس تملك قاعدة عريضة فعدد منها له صبغة قطاعية (كعمادة المحامين و جمعية القضاة) و لا تمثّل إلا عددا محدودا من أعضائها. كما أنّه من الملاحظ أنّ هذه التركيبة تشهد غيابا لمنظمات كانت ناشطة بقوّة و تعرّضت للقمع في ظل النظام السابق (كرابطة حقوق الانسان و جمعية النساء الديمقراطيات).

و في خصوص الأحزاب، فإنّ عددا من الممثلين منها في هذا المجلس "تنويعات" على نفس الاتجاه (التيار البعثي/حركة البعث، الوطنيون الديمقراطيون/حركة الوطنيين الديمقراطيين) و من غير المرجّح، على ما أظنّ، أن يكون لها وزن هام في الشارع التونسي. كما أنّ عددا من الأحزاب "القديمة" غير موجود في هذه التركيبة، و إن كان يمكن تفسير ذلك بالطابع الديكوري لبعضها، فإنّ بعضها الآخر قد غيّر قياداته (كالديمقراطيين الاشتراكيين و حزب الوحدة الشعبية) معبّرا عن رغبة عن القطع مع ماضي الموالاة. و يلاحظ كذلك أن الأحزاب الموجودة في الحكومة غير ممثلة في المجلس، و لا أدري إن كان ذلك تعبيرا عن رغبتها أم عقابا لها على تواجدها في الحكومة.

عموما، يمثّل هذا المجلس أطيافا متعدّدة من المشهد السياسي من اليسار إلى اليمين (مع ميل على ما يبدو إلى اليسار) و عدة منظمات من المجتمع المدني و يبدو أنّ اتحاد الشغل سيشكّل مركز الثقل في المجلس. و لعلّ هذه التركيبة مرشّحة للتوسّع بما أنّ البلاغ يتحدّث عن ممثلين للجهات (دون تحديد واضح لكيفيّة اختيارهم) و بما أنّ المستقلين غابوا عنه، و على رأسهم أحمد المستيري صاحب مبادرة إحداث المجلس.

2)

إنّ المهام الّتي يوكلها هذا المجلس لنفسه تجعل له صلاحيات واسعة. و في جانب منها، تتماهى هذه المهام مع الدور الّذي من المفروض لأن يقوم به البرلمان : مراقبة الحكومة، المبادرة بالإصلاحات (يشبه المبادرة التشريعية) و السلطة التقديريّة في المصادقة على "التشريعات" (كذا، و الأصح: المراسيم). و بما أن عدم مشروعية البرلمان الحالي تكاد تكون محل إجماع، فإنّ إسناد مهامه إلى هذا المجلس (الّذي يملك تمثيليّة تفوق بكثير تمثيليّة البرلمان) مشروع ، و يمكن إيجاد شكل قانوني لهذا المجلس حتى إذا سلمنا جدلا أن دستور 1959 لا يزال حيز النفاذ.

و تجدر الإشارة أنه رغم أنّ هذا المجلس ليس بديلا للحكومة حسبما يبدو من عبارات البلاغ (بما انه لا يدعو لإسقاطها، و يراقب أعمالها، و يطلب إحداثه عن طريق مرسوم صادر عن الرئيس المؤقت)، فإنّ بعض المهام المسندة إليه تجعله يقتسم بعض الأدوار مع الحكومة كما يتجلّى ذلك في تزكية المسؤولين في الوظائف السامية، و هو ما قد يضفي مشروعية على عمل الحكومة العاجزة عن كسب ثقة الشارع إلى الآن، إضافة إلى تدخله في تحديد تركيبة و مهام اللجان (التي لم تحدد الحكومة إلى الآن مهامها بشكل واضح).

إنّ هذا المجلس الممثل للمجتمع المدني و السياسي يجد شبيها له في المؤتمرات الوطنية التي ساهمت في انجاح الانتقال الديمقراطي في عدد من الدول الإفريقية منذ نهاية الثمانينات (مع فرق جوهري يتمثل في كون المؤتمرات أعلنت نفسها سلطا تأسيسيّة، و هو ما لم يبح به مجلس حماية الثورة، إلى الآن على الأقل) و يرتبط نجاح المبادرة بقبول الحكومة المؤقتة لها (مع التذكير أنّ الرئيس المؤقت رفض مبادرة أحمد المستيري الأولى)، فإن تم الإصرار عليها حتّى أن رفضتها الحكومة قد يؤدي إلى وجود هيئتين متنازعتين، و هذا الرفض يبدو غير مرجّح نظرا لأنّ وضعيّة الحكومة الحالية لا تسمح لها أن لا تقبل بمثل هذه المبادرة. و في حالة إقرارها، يصبح وجود مؤسسات مثل البرلمان الحالي غير ذي معنى، و لعلّ الحلّ يكمن في الاعتراف بأنّ ما حدث في تونس ثورة بالمعنى الدستوري للكلمة، و بالتالي الإقرار بأنّ دستور 1959 لم يعد حيز النفاذ.

السبت، 29 يناير 2011

ما بعد التركيبة الجديدة الحكومة...أيّ دور لمجلس النواب؟

أعلنت مساء الخميس التركيبة الجديدة للحكومة المؤقّتة. و قد استجابت هذه التركيبة لضغط الشارع و أبعد منها الوزراء الّذين كانوا منتمين للتجمّع الدستوري الديمقراطي، باستثناء ثلاثة وزراء (من بينهم الوزير الأوّل) لم يعارض الإتحاد العام التونسي للشغل في بقائهم. يبدو أنّ التركيبة الجديدة هدّأت من غضب الشارع، و إن لم تطفئه تماما. و لنفترض جدلا أنّ الشارع رضي بهذه الحكومة وأنّه لن يقع القيام بمظاهرات و اعتصامات ضدّها في حجم تلك الّتي وقعت قبل الإعلان عن التركيبة الجديدة و أنّه سيقع المضي قدما في الانتقال الديمقراطي.

إنّ بعض الإجراءات الهامة لإنجاح الإنتقال الديمقراطي هي إجراءات تشريعيّة. و في هذا الصدد، هناك مشاريع قوانين أقرّتها الحكومة بعد (مثل مشروع العفو التشريعي العام) و هناك ما ترك النظر فيه للجنة الإصلاح السياسي (كتعديل المجلّة الإنتخابيّة و قانون الأحزاب و قانون الصحافة...). تتطلّب هذه الإجراءات تدخّل البرلمان، لكن هل يمكن أن ننتظر من البرلمان المساهمة في إنجاح الانتقال الديمقراطي؟

إنّ الغرفة السفلى للبرلمان، أي مجلس النواب، تتكوّن بكاملها تقريبا (باستثناء نائبين من حركة التجديد) من نواب موالين لنظام الرئيس السابق (75 بالمئة من أعضاء التجمّع و الباقون من الأحزاب الّتي كانت تدور في فلكه). منطقيّا، لا يمكن تصوّر مصلحة شخصيّة للنواب في إقرار مثل هذه القوانين. و رغم أنّ مجلس النواب لم يعترض يوما على قانون اقترحه رئيس الجمهوريّة، فإنّه لا يمكن التعويل على وفاء المجلس لـ "دوره التاريخي" لإقرار مشاريع القوانين المعروضة عليه، و ذلك في ظل الظروف الاستثنائيّة الّتي تعيشها تونس. سيبقى إقرار هذه القوانين رهين حسن نيّة النواب (و المستشارين في مرحلة ثانية، إذا صادق مجلس النواب) و إن لم تتوفّر هذه النيّة الحسنة، و من المنطقي جدّا أن لا تتوفّر، فسيقع الإبقاء على القوانين السارية اليوم، و هو ما سيجعل عمليّة الانتقال الديمقراطي عسيرة للغاية، أو ربّما مستحيلة خصوصا في ظل الأحكام الحالية للمجلّة الإنتخابية و أساسا الفصل 66 منها الّذي يشترط تزكية 30 نائب أو30 رئيس بلديّة للمترشّح لرئاسة الجمهورية، و ما من حزب اليوم باستثناء التجمّع يملك هذا العدد،أي أنّ إتمام الانتقال الديمقراطي إذن مرتبط بإرادة أعضاء الحزب الّذي ينادي المواطنون في الشوارع بسقوطه !

أ لا يمكن إقصاء مجلس النواب من هذه الإجراءات؟ إنّ رئيس الجمهورية يمكن له إتخاذ مراسيم يصادق عليها البرلمان أو أحد مجلسيه لاحقا لكن القيام بمثل هذا الإجراء، فيما عدا المراسيم الّتي يتخذها رئيس الجمهوريّة أثناء العطلة البرلمانيّة (الفصل 31)، يمرّ وجوبا عبر تفويض من البرلمان (الفصل 28 فقرة 5) ، و هنا نعود إلى الإرتباط بالنيّة الحسنة لأعضاء مجلسيه ! كما أنّ حلّ مجلس النواب في فترة رئاسة مؤقتة تالية لشغور منصب الرئاسة يمنعه الفصل 57 من الدستور الذي ينص في فقرته الرابعة: "ويمارس القائم بمهام رئيس الجمهورية بصفة مؤقتة المهام الرئاسية على أنه لا يحق له أن يلجأ إلى الاستفتاء أو أن ينهي مهام الحكومة أو أن يحل مجلس النواب أو أن يتخذ التدابير الاستثنائية المنصوص عليها بالفصل 46فضلا عن أنّ حل المجلس ليس من الحالات الّتي يمكن فيها لرئيس الجمهورية اتخاذ مراسيم إلا إذا كان الحل تاليا للائحة لوم ثانية ضد الحكومة يصادق عليها مجلس النواب (الفصل 63).

(ملاحظة: يجدر إعتبار إعلان الرئيس السابق في آخر أيام حكمه عن تنظيم انتخابات تشريعية سابقة لأوانها في ظرف ستة أشهر غير ذي أثر قانوني لأنّه لم يقع لا التصريح بحل مجلس النواب و لا تم المرور عبر تعديل للدستور للتخفيض من المدّة النيابية للأعضاء الحاليين للمجلس المحدّدة بخمس سنوات)

هنا، نحن أمام مأزق لا يمكن الخروج منه إلا إذا أبدى أعضاء مجلس النواب حسن نيّتهم و هو ما لا يمكن التعويل عليه.

لعلّ الحلّ يكمن في ترتيب النتائج الناجمة عن كون ما وقع بتونس ثورة بالمعنى الدستوري للكلمة، أي أنّ هناك قطيعة حدثت مع كل مكونات النظام الّذي كان سائدا في الفترة السابقة بما في ذلك الدستور. و بذلك يقع اعتبار دستور 1959 غير موجود (بما يتضمنّه من مؤسسات و منها مجلس النواب). و في هذه الحالة، يجب وضع دستور جديد للبلاد. و الطريقة الأكثر ديمقراطيّة لذلك تتمثّل في الدعوة إلى مجلس تأسيسي منتخب يعدّ هذا الدستور (الّذي يمكن أن تتم المصادقة عليه فيما بعد عن طريق استفتاء). لكن ليكون هذا الحل قابلا للتطبيق ينبغي التساؤل عن مشروعية السلطة الّتي ستدعو إلى هذا المجلس، فإذا افترضنا أنّها الحكومة الحالية، فإنّنا سنكون أمام مفارقة لأنّ شرعية هذه الحكومة تستند إلى دستور 1959 نفسه الّذي تم اعتباره في هذه الحالة لاغيا ! إنّ إقرار مثل هذا الحل يقتضي قبول الشعب بدور جديد لهذه الحكومة تقوم فيه لا بالإعداد لانتخابات رئاسية في ظرف 60 يوما كما يقتضي ذلك دستور 1959، بل بالإعداد لانتخاب مجلس تأسيسي يضع دستورا جديدا للبلاد، بما يتطلّبه ذلك من سن قوانين وقتيّة تضعه الحكومة نفسها لضمان حصول الانتقال الديمقراطي في أفضل الظروف و على رأسها قانون انتخابي.

الجمعة، 21 يناير 2011

تساؤلات حول الحكومة المؤقتة

لا يهمّ أن ضمّت حكومة الوحدة الوطنيّة المؤقتة وجوها من التجمّع الدستوري الديمقراطي (الّذي أرى أنّه يسير في طريق الاضمحلال، إن لم يقع حلّه)، لكن الشرط الأوّل الّذي ينبغي التقيّد به في اختيارهم هو أن يكونوا ممّن يبعثون على الثقة، أي أن يكونوا من أهل الكفاءة العالية و من الشرفاء الّذين لم يعرف عنهم ضلوع في الفساد و ذلك حتّى يتوفّر الحد الأدنى من الثقة في ظلّ رفض من عدد كبير من المواطنين لأيّ حكومة يكون أعضاد الرئيس السابق طرفا فيها، و لكن الحكومة بتركيبتها الحالية تضمّ وزراء يشكّ في توفّر هذا الشرط فيهم...من المريب أن تضمّ هذه الحكومة المنصف بودن الّذي قامت مظاهرات ضدّه و اتّهم بتقديم تسهيلات للطرابلسية عندما كان مديرا عاما للجباية. من المريب أن يكون رضا قريرة وزيرا و هو الّذي يشكّ في ضلوعه في التفويت في أملاك للدولة أيّام كان وزيرا لأملاك الدولة. من المثير للشك وجود المنصر الرويسي وزيرا و هو الّذي تغاضى عن الانتهاكات العديدة لحقوق الإنسان عندما كان رئيسا للجنة العليا لحقوق الإنسان. من المريب التمسّك بأحمد فريعة وزيرا للداخلية و هو البعيد كل البعد في تكوينه و مسؤولياته السابقة عمّا يهمّ هذه الوزارة و بعد خطابه الكارثي، مع احترامي لما عرف عن الرجل من نزاهة و قيمة علميّة في ميدانه.

قد تكون هذه "التهم" باطلة و لكنّ هذا لا يهمّ الآن، بل أنّ الأوكد هو تحقيق ثقة الشارع في هذه الحكومة. من الواضح أنّ هذه الحكومة هشّة للغاية و أنّ أيّ هزّة قد تطيح بها، و مع ذلك يقع الإصرار على الاحتفاظ بهؤلاء الوزراء و كأنّ الوحدة الوطنية لا يمكن أن تتحقّق إلا بوجودهم. يضاف إلى ذلك تباطؤ الوزراء في تقديم استقالتهم من التجمّع (و عدم الإعلان إلى الآن عن استقالة كتّاب الدولة منه) في حين أنّ هذه الاستقالة مطلب أساسي لأكثر من طرف لكي يقبل بالحكومة. كما أنّه لم يتمّ تحديد ميعاد إجراء الانتخابات الرئاسيّة في حين أنّه، إذا افترضنا أنّه سيقع الالتزام بشرعيّة دستور 1959، الواجب الأوّل للرئيس المؤقّت و حكومته و أنّها يجب أن تتمّ في أجل لا يتجاوز 60 يوما.

ثمّ أنّ السياسة الإعلاميّة للحكومة لم تنجح في إبعاد الشائعات لأنّ المعلومات الّتي تقدّمها المصادر الحكوميّة غير واضحة و غير مواكبة للأحداث. على سبيل المثال، لم يتمّ الإعلان رسميّا عن ماهية العصابات الّتي أثارت الرعب في البلاد و لا عن هويّة المقبوض عليهم منها و لا عددهم. تمّ تناقل فيديو في الانترنت يرى فيه عماد الطرابلسي على قيد الحياة دون ان تؤكّد الحكومة مقتله من عدمه. لم يتمّ الحديث رسميّا عن تتبّعات أو اجراءات اتخذت ضد أفراد عائلة الطرابلسي رغم أنّه قد تمّ تناقل إيقاف بعض أفرادها. أكّد البعض عن أنّ مخزون الذهب في البنك المركزي قد نقص فعلا بطنّ و نصف و لم يفلح الإعلام الرسمي في القضاء على هذه الشائعة في ظل توفّر معلومات مغايرة على الانترنت. تمّ نقلة قاضي التحقيق الّذي عهد إليه التحقيق مع علي السرياطي إلى وظيفة أخرى دون توضيح سبب نقلته، و هو الّذي حامت شبهات حول نزاهته. لم يتمّ الإعلان عن القيام بأيّ تتبّع ضد الرئيس السابق و زوجته و أموالهما الّتي بالخارج رغم أنّ سويسرا و الاتحاد الأروبي بادرا بتجميد الحسابات الموجودة لديها.

تحيط إذن نقاط ظلّ عديدة بعمل هذه الحكومة، من واجبها تسليط الضوء عليها و إيضاحها للعموم و إلا فإنّها لن تلقى من الشارع التونسي إلا الرفض و المعارضة و هو ما سيحول دون استمرارها، و حتى إن استمرّت، سيعطّل قيامها بأعمالها.

الثلاثاء، 18 يناير 2011

حتى لا تنحرف الثورة

لا شكّ في أنّ التجمّع الدستوري الديمقراطي حزب كان ينخره الفساد و أنّه قام بتجاوزات خطيرة للغاية في حق الشعب التونسي و أنّه يجب أن يقع حلّه. لكن، شئنا أم أبينا، فإنّ هذا الحزب، الّذي أخذ تسميته الحالية مع بن علي لكنّه وريث الحزب الحر الدستوري و الحزب الإشتراكي الدستوري، سيطر على الحياة السياسية في البلاد منذ أكثر من خمسين سنة و بالتالي فهو يضم في صفوف منخرطيه عددا كبيرا من الكفاءات الّتي لا يجوز اقصاؤها الآن بدعوى أنّها نشطت في صفوف الحزب. الكلّ يعلم أنّ الانضمام لهذا الحزب لم يكن اختياريّا بل مفروضا على كلّ الإطارات السامية للدولة و أنّ الخوف لا الاقتناع هو ما كان الداعي الأساسي إلى هذا الانتماء. هذا الحزب ضمّ نسبة كبيرة من الشعب التونسي (أكثر من مليوني منخرط) لا يجوز اقصاؤها بتعلّة انتمائها إليه، فالثورة جاءت لضمان حقّ جميع المواطنين في تسيير شؤون البلاد و لا ينبغي السقوط في إقصاء البعض لانتماءاتهم السياسية، على غرار ما كان سائدا في النظام السابق. الإقصاء لا يجب أن يشمل إلا من عرف عنه التواطؤ في الفساد و الممارسات المشبوهة دون غيرهم الّذين ينبغي أن تتم محاسبتهم على الجرائم الّتي اقترفوها. و السيّد محمد الغنوشي، رغم وظيفته كوزير أوّل في العهد السابق، لم يعرف عنه بتاتا أنّه كان طرفا في الفساد و هو الآن يسيّر أعمال الحكومة فقط لفترة انتقالية ينبغي انتظارها قبل الحكم له أو عليه، و الضامن الأساسي الّذي سيحمي من التجاوزات هو استفاقة الشعب و وقوفه بالمرصاد في وجه كلّ من يحاول التلاعب به . إنّ إقصاء من انتمى إلى هذا الحزب من تشكيل الحكومة يعني أنّ جميع الوزراء سيكونون ممّن يمارسون العمل الحكومي لأوّل مرّة، أي أنّهم سيكونون من غير ذوي الخبرة و لا يجب أن لا ننسى ما أدّى إليه اجتثاث حزب البعث في العراق من فراغ في أجهزة الدولة ملأته وجوه عاشت لمدّة طويلة في الخارج و لم تكن لها أيّ فكرة عن حالة البلاد و هو ما أدّى إلى شيوع الفوضى في هذا البلد.

إنّ هذه الثورة هي ثورة الشعب، الشعب و لا شيء غير الشعب دون أن يتزعمّه أيّ شخص أو حزب أو منظّمة. لم تسل دماء العشرات ليحكم فلان أو فلتان بل سالت للتخلّص من القهر و الطغيان و الفساد. لا ينبغي مصادرة هذه الثورة من قبل أيّ طرف، لا سيّما من كانوا يعيشون بالخارج منذ سنوات طويلة و انقطعت صلتهم بحياة الشعب. الآن وقع الاعتراف بجميع الأحزاب و المنظمات و بالتالي فالمجال مفتوح أمامهم للتعبير عن أفكارهم و مشاريعهم و ستكون الانتخابات، الّتي ينبغي أن تنظّم في أقرب وقت، المقياس الحقيقي لشعبيّتهم. أمّا الآن، فعلى الجميع التحلّي بالمسؤولية و الحرص على لمّ الشمل و تأطير الشعب و تحفيزه للعمل على تجاوز حالة الفوضى الحاليّة بسرعة و تحقيق الانتقال الديمقراطي. ليس هذا أوان تصفية الحسابات و الصراع على المناصب و لا ينبغي السقوط في هذه المزايدة الإعلاميّة في ظلّ وجود قنوات لا تهمّها مصلحة الشعب التونسي بقدر ما يهمها تحقيق السبق الصحفي، و بالتالي فهي تنشر كلّ خبر يردها دون تأكّد حقيقي من مدى صحّته أو تأثيره على الشعب التونسي.

الخميس، 12 فبراير 2009

الوطن الرحباني: أطلنتس الضائعة (2)


الوطن الرحباني كوطن رمزي


من "التهم" الّتي وجّهت إلى الرحابنة أنّهم تجاهلوا في الأعمال الّتي قدّموها طبيعة العلاقات الاجتماعيّة و السياسيّة القائمة في لبنان و رسموا لبلدهم صورة طوباويّة موغلة في المثاليّة للبنان "أخضر حلو"، وطن "للندى و الزنبق"، يغنّي "الميجانا" و يرقص "الدبكة" و ينشد للحبّ و السلام، و بعبارة أخرى، وجّهت للرّحابنة تهمة تخدير شعوبهم بالتغنّي عن وطن أشبه بـ "إرم" لا يوجد إلا في مخيّلتهم في حين كان لبنان على شفا الانفجار، و هو ما وقع سنة 1975 محطّما آمال شعب في وطن لم يوجد قطّ...أعتقد أنّ هذه النظرة تعكس خلطا غير مقبول بين الخيال و التخدير، فإذا كانت المخدّرات تغييبا سلبيّا يترجم هربا و استسلاما من مواجهة مشاكل الواقع، فإنّ الحلم هو خطوة ضروريّة لتجاوز مرارة الواقع و الارتقاء بالنفوس المتصارعة إلى ما فوق التناحر و الانشقاق، و كيف يقع الانعتاق من قسوة الواقع إن توقفنا عندها و غرقنا فيها و في وحشيّتها لم نتحدّث إلا عنها و لم نتخيّل صورة نريد أن يكون الواقع عليها و كما يقول توفيق الحكيم "الفاصل الوحيد بين الإنسان و الحيوان هو "الخيال".إنّ اليوم الّذي يستطيع فيه الحيوان أن يحيا دقيقة واحدة، خارج الواقع و المادة...اليوم الّذي يلجأ فيه الحيوان إلى طرق معنويّة غير مباشرة للوصول إلى غاياته...اليوم الّذي يستطيع فيه الحيوان أن يمضي الليل "يحلم" في غابته المقمرة بدلا من مطاردة الفريسة، هذا اليوم يكون آخر عهده بالحيوانيّة..."الحلم" هو العالم العلوي الّذي لا يدخله حيوان"...هذا ما حاول الرحابنة انجازه، أن يسموا باللبنانيين فوق ذلك الواقع الدموي الملفوف بالتمّزق و التشرذم إلى دعوة للمشاركة في حلم يكون فيه لبنان قطعة من السماء...و حتّى عندما انفجر لبنان، لم يزحزح الانفجار إيمانهم بحلمهم قيد أنملة، بل ظلّ راسخا كالطود، كإيمان الأنبياء...ففي أحلك الفترات الّتي عاشها لبنان كان صوت فيروز يأتي صادحا مؤكّدا أنّ لبنان "ما بيموت" و أنّه "راجع بأصوات البلابل"...و عندما كانت بيروت تدمّر، غنّت في ثقة "الإيمان الساطع" "ارجعي يا بيروت...ترجع الأيّام"...


هذا الإيمان بالوطن تجاوز صداه حدود لبنان فشارك في عيش الحلم الرحباني أفراد فرّقتهم حدود البلدان و الملل و لكن جمعهم صوت فيروز فكان لهم وطنا يجمعهم من دون باقي الأوطان...صوت لعلّ أصدق ما قيل فيه:" أغمض عينيك عندما تستمع إلى فيروز...إنّنا لا نستطيع أن نرى الملائكة، و لكن يحدث أحيانا أن نسمعها تغنّي"...صوت غنّى للبنان دون أن يشعرك بأنّ لبنان وطن بعيد عنك، لا تعنيك همومه بل تؤمن إذا استمعت إليه أنّه وطنك الّذي تنتمي إليه، لا سيما و نفس الصوت يغنّى لتونس و سوريا و مصر و العراق و غيرها من البلدان محطّما تلك الحدود الّتي لا توجد إلا في أذهان من رسموها...صوت غنّى للسيّد المسيح و السيّدة العذراء كما تغنّى بمدح النبيّ صلّى الله عليه و سلّم و بمكّة فكسر بذلك قيودا طالما كبّلت العقل عن الصراع بين الأديان...عندما تستمع لفيروز، فإنّك تحسّ أنّك تصلّي دون أن تكون مضطرّا لأن تركع أو تسجد أو أن تؤدّي أيّ طقس من الطقوس...فقط تحرّر جسدك من كلّ ما يقيّده و تستسلم لذلك الشعور بالخشوع الّذي يتملّكك و أنت تصغي لصوت آت من السماء...صوت قدّيسة...من يستمع إلى فيروز و يزعم أنّه لا يحسّ بروحه تعلو خفّاقة إلى الملأ الأعلى فاعلم إنّه إمّا عنيد مكابر أو أرضيّ شديد اللصوق بالثرى، قد سلبت روحه فلا يستطيع إلى السماء ارتفاعا...


موت الوطن


دخل الوطن الرحباني في حالة "موت سريري " منذ انفصال الأخوين رحباني عن فيروز و هو انفصال كان كما قال أحد الكتّاب "أشبه بزلزال و تصدّع فنّي..و ما حصل في الوجدان العربي كان أشبه ما يكون بنكسة جديدة و انحدار جديد لم يكن هذه المرّة سياسيّا و إنّما كان انحدارا فنيّا"...اتّجهت فيروز إلى العمل مع ابنها زياد فلم تعد "فيروزا" إذ فقد غناؤها لونه السماوي و نقاوته و قيمته، فزياد ، على نبوغه، اختار أن يكفر بالوطن الرحباني فجاء فنّه محمّلا بهموم الواقع و مشاكله و تعابيره فكانت فيروز زياد أرضيّة، شديدة البعد عن السماء و فقدت بذلك صفتها كـ"جارة للقمر" و "سفيرة للنجوم" و بذلك حرم زياد الإنسانيّة من صلة كانت تعصمه من الغرق في الماديّة، و لعلّه بذلك أكثر استحقاقا لأن يحاكم من أجل جرائم ضدّ الإنسانيّة من مجرمين مزعومين آخرين...

أمّا الأخوان رحباني فقد حاولا أن يتعاملا مع أصوات أخرى تواصل حمل رسالتهم و لكن أنّى يجود الزمان بقدّيستين؟ فقد جاءت أعمالهما بعد فيروز محاولة باهتة لإنعاش جسد هامد...ثمّ مات عاصي سنة 1986 و بقي منصور وحده وفيّا لتقاليد وطن بناه بيديه و رفض أن يتخلّى عنه فبقي في ذلك الوطن نفَس يتردّد و يعيش على أمل واه بالعودة يوما... حتّى رحل منصور و برحيله أسدل الستار نهائيّا على وطن...هوى كأطلنتس و ابتلعته مياه المحيط و طمست آثاره...إلا من ذكرى مضيئة لا تزال تخفق بها قلوب كلّ من كانوا مواطنين في ذلك الوطن الكبير.



الجمعة، 30 يناير 2009

الوطن الرحباني: أطلنتس الضائعة (1)

من المقولات الشهيرة لأمادو همباتي با: "في إفريقيا، إذا مات شيخ فإنّ مكتبة تحترق"، فالتراث في تلك المنطقة من العالم بقي في جزء كبير منه شفويا محفوظا في صدور الرّجال، لم يخطّ في صفحات الكتب، فإذا مات أحدهم فإنّ جزء من التراث يضيع إلى الأبد فالشيوخ هناك يقومون بنقله من جيل إلى جيل، و هو دور هام جدّا، لا شكّ في ذلك، فالتراث جزء من هويّة أيّ وطن من الأوطان، و بالتالي، فإذا مات شيخ هناك فإنّ جزء من الوطن يموت معه...و لكن في مناطق أخرى من العالم، هناك أشخاص إذا ماتوا تموت معهم أوطان بكاملها...

مات منصور رحباني، لحق بشقيقه عاصي إلى السماء الّتي كانا لها لسانا ردحا من الدهر و أصبح "الأخوان رحباني" صفحة تقرأ في تاريخ الفنّ...رحل آخر من تبقّى من أعمدة "الوطن الرحباني"، فغمرت مياه المحيط العاتية هذا الوطن الّذي اختفى، تماما كجزيرة أطلنتس الأسطوريّة الضائعة إلى الأبد...وطن كان شهابا مارا، و لكن شديد الشعاع...هو وطن طمست معالمه منذ أكثر من ربع قرن، لكن ظلّ منصور حاملا رايته طيلة تلك المدّة حتّى لبّى داعي الرحيل، و لعلّه كان يردّد في نفسه قبل أن يركب السفينة:"اللي بدّو يصير ما عاد يهم، أنا لعبت الدور و الدور المهم"، و كيف لا و هو قد ساهم في تكوين وطن رحباني بمعناه الفنّي و الرمزي.


الوطن الرحباني كوطن فنّي


لو شئنا اعتماد التعابير الشائعة، لتحدّثنا عن مدرسة رحبانيّة...لكن هذا المصطلح غير كاف للتعبير عن إضافة الرحابنة للموسيقى العربيّة إذ أنّهم لم يكونوا مجرّد اتّجاه له بعض الخصائص في إطار نموذج سائد بل كان فنّهم قلبا لجميع المعايير و القوالب الّتي سبقتهم حتّى أنّه يمكن الحديث عن فنّ "قبل رحباني" و فنّ "بعد رحباني". لقد كان الرحابنة كعلّيسة الّتي غادرت وطنها لتؤسّس في مكان بعيد وطنا جديدا...و يمكن القول أنّ الرحابنة قدّموا التجربة الوحيدة الّتي يمكن أن تعتبر مشروعا فنّيّا متكاملا..."وطنا فنيّا".


قبل الرّحابنة، كان هناك نوع من النمط الّذي يحكم الأغنية العربية و الأغنية المثال في إطار هذا النمط هي أغنية باللهجة المصريّة(قد يكون ذلك راجعا لكون مصر كانت البلد الأكثر حركيّة على المستوى الثقافي في الوطن العربي و هو ما تعزّز مع دور الشوام المهاجرين إليها أيّام الحكم العثماني إضافة إلى ما يمكن تسميته بنزعة المركزيّة المصريّة الّتي تريد أن تجعل من مصر محور كلّ ما يقع من أمر في أيّ مكان من البلاد العربيّة، و هي نزعة كان لها فيما أرى أثر سلبي خصوصا على المستوى السياسي) ،و هي أغنية تدوم لمدّة طويلة إذ أنّ أغنية لا تتجوز بضع دقائق كانت تعتبر هذرا و في أحسن الحالات أغنية غير جادّة ، و هي كلماتها تدور حول نفس المعاني (الحبّ و الهجر و الرغبة في الوصال...) ألحانها لم توضع إلا لإبراز القدرات الصوتيّة لمؤدّيها، يتكرّر فيها المقطع الواحد عدّة مرّات لتمكين المستمعين من "الطرب" و بالجملة كانت الأغنية المثال هي أغنية التخدير...هذا النمط قام الرحابنة بهدمه من أساسه.


استعمل الرحابنة في أغلب أغانيهم لهجة لبنانيّة تنتقى فيها الكلمة كما تنتقى اللآلئ في عقد يهدى لملكة، أو كما قيل في كلام الإمام الشافعي "ما سمعته تكلم بكلمة إلا اعتبرها المعتبر لا يجد كلمة في العربية أحسن منها"...هي كلمات غاية في البساطة، يفهمها الجميع حتّى من غير اللبنانيين بعيدة عن التعقيد و المتاهات الفكريّة (و هنا أتحدّث عن الأعمال الرحبانيّة "الخالصة"، ممّا يستثني الأعمال الّتي كتبها غير الرحابنة، لا سيما سعيد عقل رائد الرمزيّة)...و هي مع ذلك بعيدة عن كل إسفاف و ابتذال بل أنّها ببساطتها تخلق عالما أقرب إلى الخيال (و هو ما سيتم التطرّق إليه في الجزء الثاني)...تقترب لغة الرحابنة من الفصحى و تدانيها حتّى تكاد تلامسها، و لعلّها بذلك ترسم مثالا لعربيّة مبسّطة أو عاميّة مهذّبة تقع في منتصف الطريق بين العاميّة المبتذلة و الفصحى المتقعّرة...

أمّا عن مدّة أغاني الرحابنة، فهي قصيرة نسبيّا إذ لا يتجاوز أطولها الربع ساعة و عادة ما تكون في حدود ثلاث أو أربع دقائق و أحيانا تنزل إلى دقيقة و نيف، ذلك أنّ الرحابنة أعداء التمطيط الاصطناعي و الممجوج و المملّ لمقطع بعينه فغاية الأغنية ليس الإطراب في حدّ ذاته، و هو ما كان سهل التحقيق في ظلّ وجود صوت كصوت فيروز(و ربّما استسلم الرحابنة لهذا الإغراء في بعض الأغنيات الـ "شبه طربيّة" كـ "غنّيت مكّة")، بل أنّ الهدف هو إيصال رسالة في الوقت الّذي يستوجبه ذلك، فلا حاجة إلى تكرار نفس الكلمات لمدّة ساعة إذا كان المعنى يدخل إلى قلب المتلقّي في دقيقة (و ربّما يضيق به ذرعا بعد ذلك)...و لعلّ أفضل مثال على ذلك أغنية "بيقولو صغيّر بلدي" الّتي تدوم دقيقة و أربعا و عشرين ثانية و مع ذلك فليست بحاجة إلى أيّ ثانية إضافيّة ليصل المعنى...

و في ما يخصّ الألحان، بعث الرحابنة التراث اللبناني خلقا جديدا فخرجوا به من إطار الفلكلور الميّت الّذي يغنّيه الشيوخ متحسّرين على أيّام زمان و استلهموه، على اختلاف أشكاله(الحضري و الريفي و حتّى البدوي) في عدد كبير من الأغاني، حتّى أصبح من الصعب التمييز في أغلب الأحيان بين الأغنية التراثيّة و الأغنية الرحبانيّة...أصبح التراث مع الرحابنة نابضا عامرا بالحياة و أصبحت أغاني الرحابنة تراثا يغنّي "الدبكة" و "الميجانا"...و مع ذلك، لم ينغلق الرحابنة في حدود وطنهم و استفادوا من التجارب السابقة و حتّى المعاصرة لهم إذ تعاملوا مثلا مع محمّد عبد الوهّاب فقاموا بإعادة توزيع بعض أغانيه (كـ "يا جارة الوادي") و غنّت فيروز من ألحانه بعض أروع أغانيها ("اسهار" و "سكن الليل") كما أنّهم انفتحوا على الموسيقى الغربيّة و استعملوا آلاتها في بعض الأغنيات دون أن يظهر أثر للافتعال في هذا الإقحام (كما في أغنية "يا نسيم الدّجى" و "كنّا نتلاقى")...

و من مميّزات الوطن الرحباني تجربة المسرحيات الغنائية و هي تجربة فريدة، إذ لم تكن مسرحيّات الرحابنة مغنّاة من أوّلها إلى آخرها على غرار مسرحيات شوقي و لم تكن مسرحيّات "نثريّة" بل كانت مزيجا بين هذين النموذجين إذ يختلط السرد بالحوار و الغناء في إطار عجائبي تارة (كمسرحيّة "جسر القمر")، واقعي تارة أخر (كـ "لولو") و تاريخي طورا آخر (كـ"أيّام فخر الدّين")...


و زيادة على هذه الخصائص الّتي تهمّ شكل الفنّ الرحباني، قفز الرحابنة بمضمون تجربتهم إلى المستوى الّذي يخوّل الحديث عن وطن رحباني بالمعنى الرمزي للكلمة.
(يتبع)