كان الأستاذ يلقي محاضرته كالعادة عندما خرج عن موضوعها و تحدّث عن أشياء أخرى و هو شيء تعوّد أن يفعله و ينال عادة اعجاب الطلبة و لكن لمّا تجرّأ في هذه المرّة و قال أنّه يعتقد أنّ من حقّ المرأة أن تتساوى في مقدار الارث مع الرجل ضجّ المدرج و انقلب عليه و انطلقت تعليقات من قبيل "يا له من منافق"، "انّه زنديق" و استمرّت الجلبة مدّة ليست بالقصيرة و الغريب أنّ بعض المحتجّين لم يكونوا من المتديّنين. حجّة الجميع كانت في هذا اللغط: مخالفة النصّ الصريح.
النصّ الصريح، دائما النصّ الصريح و لا شيء غير النصّ الصّريح، هذه الحجّة المجلّلة بالقداسة تثار دائما كلّما نوقش أحد المواضيع المتعلّقة بالحداثة باعتبارها الكلمة الحاسمة و الجواب القاطع و البرهان الساطع و الحجة الدامغة الّتي لا تترك خيارا أمام الطرف الآخر للحوار سوى الاذعان لها و ان أبى الا مخالفتها فهو يعتبر من الكافرين أو الزنادقة أو المنافقين و عند المتسامحين للغاية فهو من الفسّاق العاصين الّذين يرتاب في ايمانهم.
ان النصّوص القرآنية المنظمة لأحكام الميراث هي نصوص صريحة، لا شكّ في ذلك و لكنّها ليست النصوص الصريحة الوحيدة في القرآن.. النصّ الصريح لم يحرّم الرق بل أنّه نظّمه و جعله كفّارة للقتل الخطأ( في قوله تعالى"و من قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة و دية مسلّمة الى أهله الا أن يصدّقوا فان كان من قوم عدو لكم و هو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة و ان كان من قوم بينكم و بينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله و تحرير رقبة مؤمنة") و كفّارة عن الظهار( في قوله تعالى" و الّذين يظاهرون من نسائهم ثمّ يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا") و غير ذلك من الأحكام الّتي تجعل الغاء العبودية تعطيلا لأحكام شرعية لا لبس فيها جاء بها النص الصريح الواضح الجلي. و النصّ صريح كذلك في السماح بتعدّد الزوجات و قطع يد السارق(الآية لا تجعل حدّا لقيمة المسروق ممّا يجعل تقييده بقيمة معيّنة(ربع دينار حسب بعض الفقهاء) تزيّدا على النص) و جعل شهادة الأنثى نصف شهادة الذكر و غيرها من النصوص.
لا أظنّ أنّ هناك من يدعو اليوم إلى التراجع عن الغاء العبودية رغم مخالفة ذلك للنصّ الصريح و لكي يقع تبرير ذلك، تفسّر الآيات الداعية الى العتق بأن النصّ القرآني و ان لم يأمر بتحرير العبيد فانّه حثّ على عتقهم اذ "لم يستطع الاسلام في حينه أن يقرّر حكما نهائيا غير اعلانه الرغبة في العتق و هو ما يعبّر عنه الفقهاء بتشوّف الشارع للعتق"(الطاهر الحدّاد، امرأتنا في الشريعة و المجتمع) و بالتالي فيمكن الغاء الرقّ متى تيّسرت الظروف. انّ مثل هذه التفاسير تعبّر عن فصام خطير اذ أنّ التعامل مع النصّ الصريح بتمّ بانتقائية فالأحكام ليس مصدرها النص الصريح و انّما هو تأويل معيّن للنصّ الصّريح، ففي حالة الرقّ يتمّ الاعتماد على المقصد الالهي لتجاوز النص الصريح و لكنّ هذا المقصد يتمّ التغاضي عنه تماما في قضيّة المساواة في الميراث فلا ينظر الى أنّ وضعيّة المرأة في الجاهلية لم تكن تسمح بأكثر من أن يجعل لها نصف نصيب الرجل من الميراث، بل أنّ اقرار مثل هذا النصيب لها يعتبر انجازا كبيرا في حينه لكن الفقهاء لا ينظرون الى ذلك و يزعمون هنا أنّ النص الصريح لا يمكن مخالفته و يصمّون الآذان عن مقصد الشارع من ذلك و كأنّ الله أقرّ أنّ المرأة أقلّ مستوى من الرجل و كرّس في كتابه حكما يمنع المساواة بينهما الى أبد الآبدين، تعالى الله عن الظلم علوّا كبيرا.
و الأكثر من ذلك أنّ الفقهاء يزعمون أنّ بعض التصوص صريحة و يرتّبون عليها أحكاما شرعيّة غير قابلة للنقض في حين أنّها ليست صريحة بالمرّة كما هو الحال في فرض الحجاب بناء على الآية 31 من سورة النور ففي هذه الاية " الحكم الشرعي ..هو امر المؤمنات بغض البصر والعفة ( حفظ الفرج ) وعدم التبذل والتهتك ( ابداء النحر والصدور) وكل هذا معناه الحشمة واللياقة والسلوك القويم ، ولم يرد في الاية اي شيء عن " حجاب "..اما تفسير " ولا يبدين زينتهن الا ما ظهر منها " انه يعني قطعيا اظهار الوجه والكفين فانه محل نظر وحتى لو سلمنا بهذا التفسير فلا يعني ذلك ان بالاية حكما شرعيا بما يزعمونه عن فريضة " الحجاب " وليس فيها ما يشير الى غطاء الراس"( محمد صالح حسن، أسطورة الحجاب وحكم البشر في ظل الواقع المعاصر للمسلمين).
أنّ قاعدة "لا اجتهاد في النص الصريح" هي قاعدة فقهية و ليست قاعدة الهيّة تؤخذ مأخذ الحكم الشرعي و بالتالي فليس في مخالفتها عصيان لارادة الله بل أنّ هذه المخالفة ضرورية للتحرّر من جمود بعض الفقهاء(أو أغلبهم ان شئنا الدقّة) مع البقاء في دائرة الدين دون الخروج عليه فالأخذ بالنص القرآني الصريح دون اعتبار لأسباب نزوله و الظروف الّتي حفّت به و لا للمقصد الالهي من وراء انزاله يجعل منه نصّا جامدا بعيدا كلّ البعد عن الكونيّة و المعاصرة و الغرب حين ينتقد الاسلام و يشيع عنه أنّه معاد للتقدّم و لا يضمن حقوق الانسان و غير ذلك من الاتهامات انّما ينتقد في الحقيقة قراءة معيّنة للنصّ تقف عند حرفيّته و لا تعير اهتماما للمقاصد من نزوله، قراءة ينظر عليها على أنّها الاسلام ذاته في حين أنّها ليست سوى تكريسا لطريقة جامدة في التفكير رسخت في الأذهان و منعت تحرّرها، قراءة ليس لها من مبرّر اليوم سوى قولهم " وجدنا آباءنا هكذا يؤولون".
و للحديث بقيّة.