‏إظهار الرسائل ذات التسميات فكر. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات فكر. إظهار كافة الرسائل

الخميس، 16 مايو 2013

الشيخ حسين العبيدي وانفلات الخطاب الديني

لم أعرف الشيخ حسين العبيدي، إمام جامع الزيتونة، إلا نتفا ممّا تناقلته عنه وسائل الإعلام وصفحات شبكات الاتصال الاجتماعي. وكان الانطباع الّذي تكوّن لي حوله، والحقّ يقال، سلبيّا. غير أنّي منحت الشيخ فائدة الشك إلى أن استمعت إليه في خطبة الجمعة ليوم 26 أفريل فـ” وَضَحَ الحقُّ المبينُ… وَنَفَى الشّكَّ اليَقيِنُ”
افتتح الشيخ خطبته بذكر الموت وعن وجوب إعداد المرء نفسه للقاء ربّه. ظننت الخطبة ستكون عظة تقليدية عن العمل الصالح الّذي ينفع الإنسان إثر مماته، غير أنّها عرفت تموّجات عجيبة أعجزت عقلي المحدود عن تبيّن الروابط بينها.
وجدت العبيدي ينتقل فجأة إلى الحديث عمّن استلموا الحكم ممّن كانوا في السجون، وعن تقصيرهم في ردّ الحقوق إلى أصحابها بدعوى أنّها تحتاج إلى مراسيم، صارخا بصوته الأجش “وهل يحتاج الحقّ إلى مراسيم؟” (يبدو أنّ الجواب، حسب منطق شيخنا، أنّ من يدّعي له حقّا يجب أن يذهب ويأخذه عنوة) ثمّ ألفيت الشيخ يتحدّث عن اتفاقيّة القضاء على جميع أشكال التمييز ضدّ المرأة (السيداو) لاعنا رئيس الوزراء “اللي ما يتسماش” الّذي وقّعها صحبة الرئيس المؤقت آنذاك دون تحفظات[1] ، ذاكرا أنّ بورقيبة وقّعها مع التحفّظ وأنّ بن علي وقعها مع التحفّظ (كأنّ كلّ تغيير في أعلى هرم السلطة يستوجب إعادة التوقيع !) وتعرّض إلى مضمون الاتفاقية فذكر، وأعاد ذلك ثلاث مرّات في مواقع مختلفة من الخطبة، أنّها تبيح زواج الرجل بالرجل (ولا أدري كيف يذكر ذلك في اتفاقية خاصة بالمرأة !) والمرأة بالمرأة وأنّها تدعو إلى اللواط والسحاق، وذلك وسط صيحات التكبير وهمهمات الاستغفار. وكان من الممكن أن أعتقد أنّ الشيخ “غلطوه”، فقال بما سمعه من دعايات مغرضة حول هذه الاتفاقية، لكنّه أكّد أنّه اطّلع عليها وأنّ بين يديه نسخة منها !!![2] وواصل الشيخ ابتداع الخرافات فأكّد أنّه لم توقّع على هذه الاتفاقيّة لا الولايات المتحدة  ولا بريطانيا ولا فرنسا[3]، وأنّ تونس وقّعت عليها لما وجدوه في أهلها من إقبال على المنكرات ووقوع في الزنا إلخ إلخ…
ثمّ عاد الشيخ إلى ذكر الإسلاميين وتقصيرهم في واجباتهم وعدم عملهم بالشريعة قائلا: “يا ليتهم ما وصلوا إلى الحكم”. وتحدّى وزارة الشؤون الدينية مصرّحا أنّه لن تكون لها أبدا سلطة على جامع الزيتونة. وزعم أنّ الوزارة أقرّت قانونا لإغلاق الكتاتيب والمدارس الدينية (طبعا سها أن يضيف عبارة: “غير المرخّص لها !”) وشنّ هجمة على الوزارة قائلا أنّها لا تعتني بشؤون الدين الإسلامي فحسب، بل بشؤون المسيحية واليهودية والبوذية… وتساءل : لم لا تتوجّه الوزارة بالمثل إلى الكنائس والبِيَع؟ (ولا أدري إن كانت للكنائس والبِيَع كتاتيب غير مرخص لها !) زاعما أنّ غاية الوزارة هي افتكاك أوقاف جامع الزيتونة لإعطاءها لليهود والنصارى !!!
ثمّ مرّ الشيخ إلى الحديث عن رجال الأمن ذاكرا قصّة، أرادها مؤثّرة فيما يبدو، عن شرطيّ رآه واقفا يحرس مبنى فتوجّه إليه الشيخ وبشّره بالجنّة، وتهدّج صوت الشيخ في هذه اللحظة وأجهش بالبكاء (حقيقة لا مجازا، وأظنّ ذلك هفوة في الإخراج المسرحي لأنّ اللحظة لم تكن تقتضي ذلك).
ومرّ العبيدي للحديث عن قضيّة الخلدونية، وهنا انقلبت الخطبة إلى مرافعة قانونية بحتة، فزعم الشيخ أنّ البلدية ليست لها الصفة للقيام بالدعوى، مستشهدا بدقّة بفصول من مجلة المرافعات المدنية والتجارية ومجلة الالتزامات والعقود، وهاجم القاضي الّذي حكم ضدّه قائلا أنّه سيحاسب على ذلك حسابا عسيرا يوم القيامة (طبعا لأنّه تجرّأ وحكم ضدّ شيخ الجامع الأعظم)
وأكّد الشيخ أنّ ما قاله إعلام العار عن عدم استئناف التعليم الزيتوني مغالطات، وأنّ الدروس تقام بانتظام بجامع الزيتونة، وإن كان المدرّسون في حاجة إلى رواتب، وهنا دعا أهل البرّ والإحسان إلى التبرّع للجامع لهذه الغاية. وعاد للحديث عن وزارة الشؤون الدينية زاعما أنّها تحث المسؤولين في الجهات على إغلاق فروع المدارس الزيتونية مغرية إياهم برحلات الحجّ والعمرة (الحجّ والعمرة أصبحا رشوة !). وتحدّث عن تغلغل فرنسا في تونس وعن أنّها لم تخرج من تونس إلا بعد التأكّد من أنّها ستبقى مسيطرة على الأوضاع فيها (ولا أدري علاقة ذلك بالشؤون الدينيّة !) وذكر أنّ هناك حربا على الإسلام في تونس الآن لم يقم بها لا بن علي ولا بورقيبة، واستدرك قائلا “بورقيبة حارب الإسلام مش ما حاربش، أم ما وصلش لهذا” معتبرا إغلاق المدارس القرآنية حربا على القرآن، ومن يفعل هذا فهو كافر بصريح النصّ !
وتحدّث الشيخ في خطبته الثانية عن أنّ الصراع أصبح مشخصنا، يتناول شخصه بينما المقصود هو إحكام السيطرة على جامع الزيتونة مؤكّدا أنّ هناك نيّة لإبعاده عن إمامة الجامع. وحذّر في هذا الصدد من الملايين الّتي ستزحف للحفاظ على استقلاليّة الزيتونة.
هذا ملخّص ما ورد بخطبة الجمعة بالجامع الأعظم. والحقّ أنّي رتّبت محتواها حسب تذكّري لها، فإن وجد بهذا الترتيب شيء من المنطق فعلى الأرجح أن يكون ذلك ذنبي، حاشا الشيخ أن يكون أراد منطقا، فهو لا يسأل عن ذلك، ولا يفترض أن يكون لخطبته موضوع، ولا أن تكون وعظا للمأمومين فيما يخص دينهم ودنياهم.
إذا أضفنا إلى انعدام الترابط بين أجزاء الخطبة والمغالطات العديدة الواردة فيها والمحاولات الساذجة لتجييش المشاعر الدينيّة المستوى العامي للخطاب والعبارات الّتي لا يجدر أن تقال من فوق منبر (فالشيخ لا يتورّع عن استعمال عبارات مثل “شلاكة” و”سخط” أو أن يقول عن الباجي قايد السبسي، الذي يرفض أن ينطق باسمه “خارج من متحف ويحب يولّي رئيس جمهوريّة”، علما أنّه لا يصغره إلا قليلا) ندرك أنّنا أمام جهل مرّكب يرتدي جبّة القداسة…خطاب تحريضي يفيض عنفا يكيّفه  صاحبه حسب أهواءه كيفما شاء ويماهي فيه بين الإسلام وبين جامع الزيتونة ويجعل نفسه رمزا لا ينبغي المسّ به لهذه المؤسسة العريقة. وإن كان الشيخ يزعم الغيرة على جامع الزيتونة وهيبته ومكانته، فإنّ صعوده على المنبر، لا عن جدارة أو وافر علم بل اغتصابا وانتزاعا بالقوّة، سيبقى نقطة سوداء في تاريخ هذه المؤسسّة، والأدهى والأمرّ عجز الدولة عن تدارك أمرها  ورضوخها إلى الآن بالأمر الواقع الّذي فرضه هذا الشيخ عليها. وإذا كان المشكل في الخطاب الديني قبل الثورة إمعانه في الرسميّة، فإنّ انفلاته الآن من كلّ عقال لا يمكن أن يكون حلاّ، وكلّ غلوّ مذموم.

الهوامش
[1] بغضّ النظر عن الفروق بين التوقيع والمصادقة ورفع التحفظات (والتي لا حرج على الشيخ أن لا يلمّ بها)، فإنّ الحكومة الانتقالية  بمقتضى مرسوم 24 أكتوبر 2011لم تقم بسحب الإعلان العام الّذي ينصّ على أنّ الدولة التونسية لن تقوم باتخاذ أيّ إجراء يخالف الفصل الأوّل من الدستور (الّذي ينصّ خصوصا على أنّ الإسلام دين الدولة)، فضلا عن انّه لم يتمّ إعلام الأمين العام للأمم المتّحدة برفع التحفّظات الخاصة ببعض الفصول.
[2] يمكن الاطلاع على النص الكامل للاتفاقية على الرابط التالي: http://www.un.org/womenwatch/daw/cedaw/text/0360793A.pdf
[3] القائمة الكاملة للدول التي صادقت على الاتفاقية موجودة على الرابط التالي: http://treaties.un.org/Pages/ViewDetails.aspx?src=TREATY&mtdsg_no=IV-8&chapter=4&lang=en


المقال على تونس الفتاة


http://tounesaf.org/?p=1871

الجمعة، 22 أغسطس 2008

ثقافة الخوف (4)

المشكل ليس في الدّين نفسه، بل في القراءة الّتي نحملها عنه، فدلالة نفس النصوص تختلف اختلافا بيّنا بحسب الطريقة الّتي نقرأها بها، إذ أنّ المعنى الّذي يستخلصه المعتزلي من القرآن الكريم ليس هو نفس المعنى الّذي يفهمه الأشعري أو الصوفي من نفس النص، و ليس إسلام الغزالي مثل إسلام إبن رشد و ما إيمان إبن تيميّة كإيمان الفارابي و لا الدّين عند حسن البنّا هو الدّين كما فهمه الطاهر الحدّاد أو الحبيب بورقيبة... المشكل أنّ القراءة الطاغية اليوم هي قراءة الخوف و هي قراءة تنفي كلّ القراءات و ترميها بالخروج عن الدّين و تقدّم نفسها على أنّها القراءة الصحيحة الوحيدة يضلّ من خرج عنها ضلالا بعيدا، قراءة تمنع التفكير خارج دائرتها و ترفض كلّ فكر مخالف لها ولا تقبل بالآخر و لا تتسامح مع فكره إلا في أضيق الحدود (كالقبول بالـكشطة بديلا عن "العرّاقيّة"، الشاشية فيها خلاف )، قراءة زعمت الالتصاق بالنصّ حتّى "أزهقت" روحه و أهملت حكمته و عزلته عن سياقه و جمّدته في مكانه، قراءة قلّصت الدّين إلى نظام شمولي قمعي يراقب الفرد في أدقّ حركاته و سكناته و يمسك بخناقه و يحاصره بدائرة "الحرام" حتّى لا يكاد يترك له متنفسّا، قراءة تكرّر نفسها منذ قرون و تعجز عن إنتاج الجديد و مع ذلك تزعم لأتباعها أنّها الحقّ الّذي لا محيد عنه و تغرقهم في طمأنينة التأسّي بالسلف الصالح، طمأنينة الأفيون... في حين أنّ الدّين أرحب بكثير من أن يقف عند حدود هذه النظرة الضيّقة..." صحيح أنّ الدّين استعمل في بعض الأحيان لتخدير الشعوب لكن الدّين في جوهره استجابة لحاجة إنسانيّة، و هو يجيب عن تساؤلات عميقة عند الإنسان، حول مصيره و حول علاقة الدنيا بالآخرة و عن عديد الأسئلة الأخرى الّتي تصنع المعنى. و بما أنّ الدّين يستجيب لحاجة إنسانيّة فإنّه يمكن توظيفه لصالح الشعوب و قد أثبتت ذلك العديد من التجارب التاريخيّة الّتي قام فيها الدّين بدور محدّد في تحرّر الشعوب" (القولة لبورقيبة، أوردها لطفي حجّي في كتابه "بورقيبة و الإسلام")، و لا يمكن أن يكون الدّين تحرّرا أن اختزلناه في قراءة واحدة تزعم امتلاك الحقيقة و تمجّد الخوف و ترهب التقدّم في حين أنّ تاريخنا يزخر بقراءات متنوّعة "ثوريّة" (ستكون موضوعا لتدوينات قادمة إن شاء الله) همّشت و اضطهدت و قمعت في ظلّ هيمنة ثقافة الخوف، هيمنة لا تجب أن تدعنا ننساق إلى التبسيط الاستسهالي و المماهاة بين الدّين و ثقافة تزعم أنّها الدّين...
ليست هناك حلول جاهزة لكسر هيمنة ثقافة الخوف و لكن أعتقد أنّ ذلك لا يكون إلا بتعريتها و كشف مساوئها و فضح تهافتها و هو ما يمكن للفنّ أن يقوم في إطاره بدور هام...الفنّ ثورة دائمة على ما هو بال و التزام أزلي بمعانقة المثالي و إدانة متجدّدة للقمع و التخويف و التخدير( مسرحيّة خمسون مثال جيّد على هذا الدّور، رأيت المشاهدين يخرجون منها باسمين جذلين (بعضهم كان يقهقه كأنّه كاد يشاهد عملا بلغ الغاية في الإضحاك) و ما ذاك إلا لأنّهم نفّسوا عن أعباء ثقيلة جاثمة فوق صدورهم كابتة إيّاهم و ذلك عبر مشاهدة عمل يدين، أخيرا، خمسين سنة من الخوف)... و كنموذج لدور الفنّ، اخترت في نهاية هذا المقال أن أورد هذا النص الّذي لعلّه يلخّص التربية القائمة على الخوف . النصّ للأديب الراحل إحسان عبد القدّوس و مقتطف من آخر مجموعاته القصصيّة "لمن أترك كلّ هذا؟ "...الحوار التالي دار بين الأب رحمي الّذي صفع ابنته بعد أن ضبطها متلبّسة بـ"الشخبطة" (على الورق و ليس على الحيطان) و بين المربيّة سميرة:
"-لا يهم..إنك تجالسينها و تعملين عندي منذ قريب.. و أمامي فرصة لأختبرك.. و على كل حال إنّ ضرب البنات هو أحسن الوسائل لتربيتهن..إني أربّي ابنتي على الخوف..يجب أن تخاف منّي حتّى تخاف من أن ترتكب أيّ خطأ..و حتّى تخاف أن تخرج عن طوعي عندما تكبر..
و قالت سميرة :
-هذه أسوأ طريقة لتربية البنات..البنت الخائفة هي البنت المعذّبة..و البنت المعذّبة هي الّتي تلقي بنفسها في أوّل مصيبة تصادفها..
و قال رحمي و هو يلوي شفتيه احتقارا لما يسمعه و ربّما احتقارا لسميرة نفسها :
-لقد عاشت أمّها معي وهي خائفة دائما..كلّها خوف..و كانت من أنظف و أشرف و أعقل الزّوجات..
و قالت سميرة برنّة ساخرة :
-و لهذا ماتت..رحمها اللّه..
و تجهّم وجه رحمي أكثر و قال بلهجة حادّة:
-إنها خالفتني و تحرّرت من الخوف منّي بأن ماتت..لم أكن قد سمحت لها بالموت .. و أحطتها بكلّ ما يضمن لي أنّها لن تموت..و رغم ذلك ماتت..وأبشع ما فعلته أن تموت و تركت لي ابنتنا فوزيّة لأحمل همّها وحدي، و دون أن تقدّر أنّي لا أستطيع أن أكون أمّا و إن كنت اعتبر خير أب..
و قالت سميرة و هي تنظر إلى رحمي في تعجّب و دهشة:
-ربّما ماتت من الخوف.."

الأحد، 10 أغسطس 2008

ثقافة الخوف (3)

نتاج هذه الثقافة إنسان خائف و الإنسان الخائف هو إنسان سلبي لا يفكّر و لا يفعل إلا إذا أذن له بذلك، وقلّما يؤذن له... يفكّرون بالنيابة عنه و يفعلون بالنيابة عنه و ليس أمامه إلا إحناء الرأس و الخضوع و إلا عدّ عاصيا فاسقا مارقا. الإنسان الخائف تحاصره المحظورات الكثيرة فتكبته و تسكته و تلجمه و تغتاله و تجعله يدمّر نفسه و يدمّر غيره و لا يجد طريقا للاحتجاج إلا في اللاشعور (من المثير للفضول أن يكون سبّ الدّين من الأمور الشائعة في حالات الغضب، أمّا مستويات السلطة الأخرى، فحدّث و لا حرج). الإنسان الخائف لا يستطيع أن يختار حياته لأنّها محدّدة سلفا بأطر ضيّقة يعدّ الخروج عنها انتحارا اجتماعيّا. الإنسان الخائف إنسان خائر العزم، لا يؤمن بنفسه لأنّه يعتقد أنّ مواهبه ستذهب سدى في ظلّ مجتمع لا يقدّرها بل و يرتاب منها بما أنّ ثقافة الخوف كفيلة بقتل أيّ شكل من أشكال الابتكار و الإبداع، أو على الأقلّ حصرها في أضيق نطاق ممكن(ككتابة قصص عن عذاب القبر)، لأنّ الإبداع لا يكون إبداعا إلا إذا كانت فيه جرأة، و الجرأة تثير في نفس من تربّى على الخوف أسئلة من قبيل : هل ما سأقوم به حرام؟ هل سيعاقبني الله إن قمت بذلك؟ و سيجيب نفسه في أغلب الحالات بما يمليه خوفه ، فحتّى إن كان العمل "مستساغا" فإنّ القواعد "الشرعيّة" من جنس "عدم الإلقاء بالنفس في المهالك" و "اتّقاء الشبهات" و الأمثال السائدة من نوع "اخطى راسي و اضرب" و "اللي خاف نجا" ستقوم بعملها. و إن تجرّأ و أبدع فإنّه سيخاطر أن يتعرّض للنبذ من مجتمع مستعدّ لأن يأخذ بأقوال أيّ من الّذين نصّبوا أنفسهم بوّابين للجنّة يدخلون إليها من يشاؤون و يخرجون منها من يريدون و الجاهزين على الدوام لإصدار فتاوى التكفير و الاتهامات بنشر الفسق و الفجور و البحث عن الشهرة الرخيصة و انتهاك المقدّسات و مخالفة النصّ الصريح و "إجماع العلماء" في حقّ أيّ مخلوق يمكن أن تصل به نفسه الأمّارة بالسوء إلى ارتكاب جريمة الإبداع و العياذ بالله !


و من المشروع التساؤل: لماذا يسود ثقافتنا كلّ هذا الخوف؟ لماذا يفرض علينا أن نخاف؟

لعلّ هذا السؤال يجد جوابه في هذه العبارة للأستاذ علي المزغنّي: " الخوف شعور من لا قدرة له على مواجهة الآخر"... التقينا بالآخر و علمنا أنّه "سبقنا إلى الحضارة بأحقاب" كما يقول ابن أبي الضياف فلم نقدر على مجاراته فآثرنا الانكفاء على أنفسنا و الاكتفاء بما نعرفه و لا نكاد نعرف غيره و هو ديننا. انكببنا عليه و ضخّمنا قشوره و فضلات قشوره و اعتبرناها الدّين نفسه، من تمسّك بها سلم و من حاد عنها ضل... غرقنا في تفاصيل تافهة عن الدّين و تشبّثنا بها و جعلنا منها قضايا مصيريّة (كالحجاب مثلا) و اتّهمنا من ناقشها بالتآمر مع الآخر لطمس معالم هويّتنا. نرفع رؤوسنا أحيانا فنجد أنّهم ابتعدوا عنّا شوطا آخر فلا نفكّر في اللحاق بهم بل ننكبّ أكثر على كتب السلف الصالح و نترحّم على زمنهم الّذي كنّا فيه سادة العالم (بل و نعيش في ذلك الزمن) و نظلّ نجترّ آراءهم و نكرّرها و لا نحيد عنها حتّى و إن كانت خرقا أبلاها الزمن ونظنّ بعد ذلك أنّنا تشبّثنا بهويّتنا و بلغنا طمأنينة المتمسّك بدينه..."هكذا نحن، فضّلنا الطمأنينة على مواجهة الأزمة، و لكنّها طمأنينة أفيون و ارتياح مؤسّس على تغييب للحاضر و إحضار للغائب"ّ(سليم اللغماني، المرجع السابق)...الخوف في الثقافة السائدة عندنا هو القيد الّذي يحول دون الانفلات من عقال "هويّتنا الدينيّة"، نربّى عليه حتّى لا نجرؤ على التفكير في التحرّر منها و نحن نراه أمامنا سيفا مشهرا في وجوهنا، و هو سلاح من فقد قدرته على الإقناع و لم يجد له ملاذا إلا الإرهاب و التخويف.

(يتبع: الجزء الرابع و الأخير)

الثلاثاء، 29 يوليو 2008

ثقافة الخوف (2)

إنّ فكرة الخوف المهيمن على ثقافتنا يمكن أن تفسّر(و لو بشكل جزئي) وجود اتّجاهين متضادين و متطرّفين (و كلّ تطرّف مذموم) في المجتمع اليوم: اتّجاه أوّل محدود و لكنّه موجود على كلّ حال يتمثّل في البعد عن الدّين الإسلامي سواء كان ذلك باتّباع طريق التنصّر ( و قد رأيت مقطعا في أحد المواقع يبرّر فيه أحدهم تنصّره بأنّه وجد الله في الإسلام بعيدا عن البشر، و أيّ بعد أكثر من أن يكون الله قامعا لخلقه، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا) أو باتّباع طريق الإلحاد أي نبذ فكرة الدّين نهائيّا و أعتقد أنه في الحالتين وقع هناك دمج في الأذهان بين ثقافة مصطبغة بالدّين تكرّس الخوف في جلّ جوانبها و تمنع من تحقيق الذات و بين الدّين ذاته ممّا أدّى بأصحاب هذا الاتّجاه أن يهربوا إلى حلّ جذريّ عنيف و تبسيطيّ للغاية إذ رفضوا الدّين (الإسلامي) اعتقادا أنّه تسبّب في وجود هذه الثقافة. أمّا الاتّجاه الثاني الأكثر انتشارا هذه الأيّام فهو "التديّن المفرط" الّذي يمارسه بعض الشبّان بإطلاق لحاهم و ارتداء "عرّاقية" و قميص فضفاض و الحرص على أن يكون السروال مشمّرا يعلو الكعبين بما لا يقلّ عن 2,5 مم و كذلك بعبوس الوجوه و التذمّر من الانحراف عن "السلف الصالح". هؤلاء هربوا من الخوف إلى مزيد من الخوف فداووا خوفهم المتولّد من الخضوع لسلطة الخوف إلى الانخراط في هذه السلطة و ممارستها ضدّ الآخرين. هؤلاء يظنّون أنّهم امتلكوا الطمأنينة و راحة البال في طرفة عين و لكن ما امتلكوه حقّا هو السلطة، سلطة الاستحواذ على "الحقيقة المطلقة" و التحدّث باسمها و حتّى إجبار الآخرين على الانصياع إليها فتراهم يعظون الفسّاق العاصين (الّذين كانوا منهم بالأمس) بل و يمارسون أحيانا الإفتاء في ثقة المتيقّن من علمه الغزير الّذي قضّى في تحصيله أكثر من 24 ساعة ( كما يقول عنهم أحد الأصدقاء: يصلّي ركعتين ثمّ يفتي).


و لا تقتصر آثار هذه الثقافة على إنتاج التطرّف باتّجاهيه، فمثل هذه المواقف تبقى، إلى حدّ الآن فيما أرى، هامشيّّة و مقتصرة على عدد محدود من الأفراد ولكن لعلّ خطورة هذه الثقافة تكمن في كونها لا تقتصر على الجانب الديني "البحت" بل تمتدّ لتشمل كافة جوانب الحياة و تؤسّس للاستبداد و القمع في جميع مستوياتها وهو ما يعزى إلى ما يمكن تسميته " الطابع التأسيسي للدّين" (لعلّها سمة مشتركة لمجتمعات ما قبل الحداثة) إذ أنّ جميع السّلط في المجتمع،انطلاقا من العائلة (سلطة الزوج، الأب) وصولا إلى الدّولة، تستمدّ مشروعيّتها بشكل من الأشكال من الدّين حتّى و إن كانت علاقتها بالدّين لا تعدو أن تكون شكليّة، إذ أنّ النظرة إلى الدّين في هذه المجتمعات لا تعرف الوقوف عند حدود العبادات و الغيبيّات بل لا بدّ أن يكون له (أي الدّين) موقف من كلّ ما يحدث في المجتمع، فلا تتأسّس سلطة داخله إلا بمباركته، ففيما يخصّ السلطة السياسيّة مثلا نجد أنّ بعض الدّول "الحديثة" تستند إلى مفهوم الإجماع المأخوذ من علم أصول الفقه ( و هو مفهوم غامض لا يكاد يتّفق على مضمونه فقيهان و هذا الغموض يستغلّ من طرف من يملك القوّة اللازمة للتحدّث باسمه) لتبرّر قمعها لجميع من يخالفها بدعوى حماية المجتمع من الطغمة الفاسدة الّتي تهدّد "إجماع" المجتمع. و تتعزّز هذه المشروعية إذا كانت السلطة السياسيّة تحتكر الحديث باسم الدّين و ذلك من خلال تدويل مؤسسّاته كدور الإفتاء(انظر أسماء نويرة بن دعيّة، مفتي الجمهوريّة في تونس) و احتكار وظيفة الإشراف عليه و تعميم الدعاء لوليّ الأمر على المنابر، و لا ننسى أنّ طاعة وليّ الأمر مبدأ متّفق عليه بين جلّ المذاهب على اختلاف أسسها إذ يؤسّسه الشيعة على نظريّة عصمة الإمام (وهي نظريّة يبدو أنّه وقع تبنّيها من قبل أنظمة معاصرة غير شيعيّة) و يؤسّسه السنّة على الخوف من الفرقة حتّى إن كان الحاكم وصل إلى الحكم بطريقة غير شرعيّة إذ يقول الشافعي أنّ أيّ قرشيّ غلب على الخلافة بالسيف حتّى بايعه الناس فهو خليفة (انظر محمّد الجويلي، صورة الزعيم في المخيال العربي الإسلامي). فالعلاقة بين الحاكم و المحكوم في مثل هذه المجتمع لا تتأسّس على عقد اجتماعي عقلاني يقوم على توازن بين حقوق و واجبات كلّ منهما بل أنّ كفّة الميزان تميل بشكل واضح في اتّجاه تكريس واجب الطاعة المطلقة لوليّ الأمر، باعتبارها فريضة دينيّة، بما تعنيه هذه الطاعة من خضوع و امتثال و..خوف، إذ يكون من يعارض هذه السلطة أو يجرؤ على مناقشتها زائغا ضالا مضلا منحرفا عن "إجماع المجتمع" يجب استئصاله للحفاظ على كيان "الأمّة". لذلك إذا ما تمادى صاحب السلطة في الظلم فإنّ الحلّ هو الصبر "الجميل" على الأذى (فرارا من وصمة الانحراف هذه) و انتظار قد يبلغ الأبديّة لمجيء الحاكم المثالي الّذي تتماهى صورته عندنا مع صورة "المستبدّ العادل"، ذلك المستنير الّذي يمسك بزمام جميع الأمور بيده و يقودنا بعصاه إلى تحقيق الفردوس الأرضي و هذا النوع من الحكم "يفترض إماما معصوما و مالكا للحقيقة بالكشف و الإلهام، حكم يفصل بين الراعي و الرعيّة و يجعل بينهما نفس المسافة الّتي تفصل راعي الإبل عن إبله" (سليم اللغماني، "الحداثة و الديمقراطيّة"، في "مقالات في الحداثة و القانون").

(يتبع)

الاثنين، 28 يوليو 2008

ثقافة الخوف (1)

جاءتني منذ أشهر رسالة عبر البريد الالكتروني أقل ما يمكن في وصفها أنّها مرعبة. تروي هذه الرسالة "حياة" امرأة بعد موتها داخل قبرها في تفاصيل دقيقة مخيفة حتّى يبدو كأنّ كاتب الرسالة عاشها بنفسه. هذه المرأة و رغم أنّها كانت مؤمنة فإنّها أوشكت أن تتعرّض للعذاب، و بئس المصير، لأنّها كانت تؤخّر صلاة الفجر و فعلا " سارت أمام منكر ونكير في سرداب طويل حتى وصلت إلى مكان أشبه بالمعتقلات ..." و كادت أن تعذّب فعلا لولا هدف الدقيقة 90، إذ جاءها دعاء من ولدها قام بترشيحها إلى الدور القادم، و هي نهاية مفتعلة ذكّرتني بالحلقات الأخيرة لبعض المسلسلات المصريّة الفاشلة.
أغضبتني هذه الرسالة جدّا و قمت بتسجيل"احتجاج شديد اللهجة" لمرسلها (تشبّثا بتقاليدنا العريقة في الشجب و التنديد و الاستنكار) إذ اعتبرتها تكريسا لهروب من مواجهة الواقع و إغراق في تفاصيل غيبيّة لا تزيد و لا تنقص (و لو أنّ في الرسالة نقطة ايجابيّة إذ أنّها كتبت بأسلوب سليم يكشف عن موهبة قصصيّة من المؤسف أن تذهب في مثل هذا الاتجاه). ..حكاية عذاب القبر هذه لم تثر في يوم من الأيّام اهتمامي لأنّي أعتبر أنّي لست في حاجة لمعرفة شيء عنها. كلّ ما أحتاج لمعرفته عن مرحلة ما بعد الموت أنّ من يعمل عملا صالحا سيعيش النعيم الأبدي و أنّ من يغلب شرّه سيعيش عذابا أبديّا. كانت حكاية هذه الرسالة ستذهب طيّ النسيان لكنّني فوجئت مؤخّرا بأنّها موجودة مرّة ثانية في صندوق بريدي غير أنّ شخصا آخر هذه المرّة قام بإرسالها ممّا يعني أنّها ظلّت طوال هذه الفترة تتنقل من شخص إلى آخر و لا أتصوّر أنّ كلّ من يتسلّمها تبلغ به "المتعة" حدّا يجعله يرغب في أن يشاركه فيها أشخاصا آخرين بل الأرجح أنّ ذلك يعود إلى خوف من سوء العاقبة خاصة أنّ كاتب الرسالة يقسم "بالعزيز الجبّار"(اختيار دقيق للصفات الإلهية) على من يتسلّم هذه الرّسالة أن يبعثها "لكلّ الموجودين" و لعلّ ذلك يعني تهديدا لمن لم يفعل بعذاب أشدّ من المذكور في الرسالة. بعدها بأيّام قرأت في الركن الدّيني لإحدى الصحف اليوميّة التونسيّة حكاية عن أحد الزهّاد سمع من يتحدّث عن عذاب القبر فخاف خوفا شديدا و ركض بعيدا ثمّ وجد بعد ذلك ميّتا (و هي فرصة له ليحيط علما بالجانب التطبيقي لعذاب القبر بعد أن استمع لجانبه النظري). الأسلوب الّذي وردت به هذه القصّة كان لا يخلو من التمجيد و التعظيم من شأن هذا العابد الزاهد المتبتّل الّذي بلغت به التقوى حدّا جعله يموت خوفا لتتماهى بذلك صورة المسلم التقيّ مع الإنسان الخائف المرعوب. الكتب الّتي تتحدّث عن عذاب القبر و أهوال يوم القيامة تباع أحيانا على قارعة الطريق و تلقى إقبالا كبيرا. خطباء المساجد لا يقصّرون في الإشارة إلى عذاب العصاة في الآخرة و حتّى في الدنيا... كلّ هذا و غيره يدلّ على أنّ ثقافتنا موسومة بالخوف و التخويف....
نربّي منذ الصغر على الخوف، الخوف من الله القويّ الجبّار العزيز المنتقم و يحذّرنا آباؤنا من ارتكاب أيّ هفوة و لو كانت بسيطة بدعوى أنّ الله "سيحرقنا بالنار" إن فعلنا. إذا استعملت يدك اليسرى للأكل، حتّى و إن كنت ولدت أعسر، فإنّ ذلك يعني أنّك مثيل للشيطان(قرأت في إحدى المجلات العربيّة الموجّهة للأطفال و الّتي تعرف انتشارا واسعا أنّ استعمال الشوكة و السكّين بما يعنيه من تناول للأكل باليسرى بدعة غربيّة تبعدنا عن ديننا)...إذا أبديت جرأة و نشاطا توصف بأنّك "شيطان" و ليس مثيلا له هذه المرّة (رأيت أمام إحدى المدارس الابتدائيّة فتاة تتحدّث مع أمّ صديقتها بثقة و جرأة نالتا إعجابي فلمّا انصرفت وصفتها هذه الأمّ بـ"الشيطنة" و قلّة الأدب! فالطفل المثالي لدى الأولياء هو "العاقل" أي الخامل المرعوب الّذي لا يجرؤ على التلفظ بكلمة)...نكبر و يكبر خوفنا معنا... عدم طاعة الوالدين، حتّى و إن كان ما يطلبانه بادي التعسّف، عقوق و هو أحد الكبائر. الحبّ معصية كبرى تستنزل غضب الله (أو حتّى ما دون الحبّ، ففي إحدى المرّات عبّرت عن إعجابي بجمال إحدى الممثّلات أمام طفلة من العائلة لا يتجاوز عمرها عشر سنوات فما كان من هذه الأخيرة إلا أن شهقت في استنكار و أسرعت إلى أولي الأمر لتبلغهم بهذه الخطيئة)... إطلاق العنان للإبداع قد يصبح تطاولا على الذات الإلهية يستحقّ سخط الله (كفّر بعضهم أبا القاسم الشابي عندما قال بيته الشهير: "إذا الشعب يوما أراد الحياة..فلا بدّ أن يستجيب القدر" بهذه التعلّة)... أمّا التفكير في تحديث التشريع الإسلامي ،حتّى و إن كان ذلك بالاستناد على روح القرآن الكريم و مقاصده، فهو الطامة الكبرى الكفيلة باقتطاع تذكرة مباشرة إلى الجحيم و الخلود فيها أبد الآبدين (رحم الله بورقيبة رحمة واسعة)...
كيف يمكن أن تكون علاقتنا بالله إذا كنّا نربّى منذ الصغر على الرعب منه؟ هل يمكن أن نكون مؤمنين حقّا إذا كان الله يقدّم إلينا كجبّار ساديّ يتلذّذ بتعذيب خلقه حتّى على أصغر الهفوات؟ أ ليس الإيمان هو المحبّة الخالصة للّه؟ أ تجتمع المحبّة مع الخوف البالغ درجة الرعب؟ أ ليس الرعب أقوى المبرّرات للوقوع في الكره و بالتالي الخروج عن دائرة الإيمان بما أنّه من الصعب على الإنسان أن يحبّ قامعه؟ أ ليس في هذه النوع من التربية انحرافا عن جوهر الذات الإلهية بما أنّ الله هو كذلك الرحمان الرحيم الغفور التوّاب العفوّ؟ لماذا تنسى هذه الصفات و تظلّ فقط نظريّة ولا تذكر إلا على مضض و افتعالا كما في قصّة عذاب القبر آنفة الذكر؟

(يتبع)

الأحد، 20 أبريل 2008

"إيماني ساطع"

في مسرحيّة المحطّة الّتي عرضت ببيروت سنة 1973، تقوم فيروز بدور فتاة تأتي إلى حقل و تزعم أنّ هناك محطّة مطمورة تحته و أنّ القطار سيصل إليها فيسرع الناس لاقتناء التذاكر و لكن بعد مرور فترة طويلة دون أن يظهر للقطار المزعوم أيّ أثر يفقدون ثقتهم في الفتاة و يأتي رجال الشرطة للقبض عليها لنشرها أنباء كاذبة و لكنّها لا تفقد لحظة إيمانها بنفسها و تؤدّي أغنية هي أقرب من أن تكون ترتيلا:
إيماني ساطع يا بحر الليل
إيماني الشمس المدى و الليل
لا بيتكسر إيماني
و لا بيتعب إيماني..
و فجأة يظهر القطار
تذكّرت هذه الأغنية عندما قرأت التدوينة الأخيرة لبيل سون و خصوصا عبارتها الختاميّة: "إذا أردت أن يقدّرك الناس فعليك أن تبدأ بتقدير نفسك"، و لعلّ هذه الجملة تلخّص وضعنا الحالي و مآلنا أيضا...
لماذا لم نتقدّم ؟ هذا السؤال العويص الّذي نطرحه على أنفسنا منذ عدّة قرون قد يكون جوابه بسيطا للغاية: لأنّنا لا نؤمن في قرارة نفوسنا أنّنا نستطيع التقدّم و هذا الإيمان هو الخطوة الأولى لتحقيق أيّ نهضة. في بلداننا الناس يعيشون لمجرّد العيش و لا يهمّهم كثيرا التفكير في أسباب تخلّفهم و إذا عنّ لأحدهم أن يفكّر و يحاول أن يبدع و يجد وسيلة للتغيير فإنّ ردّ الفعل هو ضحكات سخريّة و سؤال تهكّمي: "من تظنّ نفسك؟" لأنّ كلّ محاولة للخروج من النواميس الاجتماعيّة الّتي تحدّد حياة الفرد منذ ميلاده حتّى وفاته مرفوضة مسبّقا من كلّ المحيطين به و كأنّ الفرد يتحدّى القدر المرسوم في اللوح المحفوظ إذا فكّر لمجرّد لحظة في تغيير مجرى حياته. لذلك فإنّ الهجرة إلى الغرب هي الحلم الكبير الّذي يدغدغ أفئدة كلّ الشباب و كيف لا و هو يعلم أنّ الإبداع هناك غير معاقب عليه و أنّه يمكن له أن يحلم كما يريد و أن يسعى لتحقيق أحلامه الّتي تبدو تافهة لأبناء وطنه دون أن يتّهم بالجنون...
و قد وصل انعدام الإيمان في أنفسنا إلى درجة جعلتنا نشككّ في هويّتنا و ننكر عروبتنا و نتنكر لإسلامنا ونطالب بهويّة مستوردة لكي نتقدّم و أحسب أنّ أصحاب مثل هذه المقولات هم من بلغ منهم اليأس من هذا الشعب حدّا جعلهم يرون أنّ لكي يتقدّم فعليه أن ينقلب شعبا آخر و بعبارة أخرى فعليه أن يقتل نفسه كي يمكنه أن يتدرّج في سلّم الحداثة، و يرحم الله محمّد فاضل الجمّالي لمّا سئل إن كانت اللغة العربية تصلح للتدريس الجامعي فأجاب:"إنّه لما يحزّ في النفس ...أن يوجّه إلى عربي سؤال بهذه الصيغة و كان الأجدر أن يكون السؤال: هل يصلح العرب للبقاء في هذا العصر أم هم أجدر بالفناء؟".
أعتقد أنّه مهما رسمنا من مخطّطات دقيقة و مهما اخترنا من إيديولوجيات مغرية و مهما استوردنا من وسائل حديثة فأنّ كلّ هذا المجهود سيذهب هباء منثورا إذا كنّا نعتقد أنّنا بشر من درجة ثانية، من درجة وضيعة محكوم علينا أن نعيش ما عشنا قانعين مستهلكين نهذي بتقديس أجداد لنا بنوا حضارة عظيمة أو حتّى أسلاف أقرب من ذلك فنتحسّر على زمن الفنّ الجميل و زمن الزعماء الكبار( المفارقة أنّ هؤلاء الزعماء هم من صنعوا النكسة!) و نكرّر إلى حدّ الملل هذه الاسطوانة أو ننظر إلى الغرب المتقدّم الراقي نظرة المتأمّل في الشمس حتّى يعمى، و بين الأسلاف العظام و" الجيران" العظام نسترق اللحظ أحيانا إلى أنفسنا و نقارنها بهم فنجد أنفسنا نفاية أمامهم على أحسن تقدير إن لم نكن عدما فنرتعب و نكره أنفسنا . هذه هي النظرة الّتي نحملها عن أنفسنا و هذه هي النظرة الّتي منعت تقدّمنا و ستظلّ تمنعه، و هذه هي النظرة الّتي يجب أن تمحى من صدورنا و تجتثّ من جذورها و يعوّضها في النفوس "إيمان ساطع" بقدرتنا على أن نغيّر واقعنا و نتحكّم في مصيرنا و هو ما يستدعي النظر قبل كلّ شيء في جذور هذه النظرة ، الشيء الّذي يستوجب عملا أكثر تعمّقا و تفصيلا من هذه التدوينة "البرقيّة" التمهيديّة...

الاثنين، 24 مارس 2008

مخدّرات قانونية

تسمح بعض الدول ،كهولندا مثلا، باستهلاك بعض الأنواع من المخدّرات ممّا يعني أنّه يمكن في هذه البلدان للشخص أن يتعاطى مواد مخدّرة دون أن يخشى التعرّض إلى عقاب قانوني ما و يبرّر عادة هذا السماح بالليبراليّة الّتي تعطي للإنسان جميع الحريّات بما فيها حريّة أن يدمّر نفسه و لعلّ خطورة مثل هذا السماح تكمن في أنّ مستهلك المخدّرات لا يشعر بأنّه يرتكب خطأ إذ يمكنه الاستسلام لشهوة الانفلات من قيود الوعي دون أن يخشى عقابا، و لعلّه يفتخر بذلك على "سجناء الوعي" الّذين لا يسمحون لأنفسهم بالانعتاق من القيود الّتي تكبّلهم و لكن ان كان الاستهلاك غير معاقب عنه، فالأمر ليس كذلك بالنسبة للترويج الّذي يظلّ مجرّما و ذلك عكس بعض الدّول الّتي تحرص على توفير مقوّمات النشوة و الذّهول و الخروج عن الوعي لشعوبها بصورة دائمة اذ لا تفرض عقوبات لا على المستهلكين و لا على المروّجين بل أنّ هؤلاء يحظون بتقدير كبير و مكانة مرموقة و هم المعروفون عندنا بالمطربين و أصحاب "الطرب الأصيل"..
و حسب الأمثلة الّتي تعرض دوما كنماذج لهذا "الطرب الأصيل"، يبدو أنّ هذا المصطلح يشمل كلّ أغنية تدوم لمدّة طويلة و الّتي يتكرّر فيها المقطع الواحد عديد المرّات(تكفي في العادة لحفظ الأغنية من أوّل سماع) و لا يخرج موضوعها عن المعاني المتكرّرة و الممجوجة : الهجر و الصدود و العواذل و الحبّ الضائع و الرغبة في الوصل، وحتّى تعابيرها معروفة و محفوظة :" الغزال" و "القمر" و "البدر" و"غصن البان" و" روحي" و "حياتي" إضافة طبعا إلى "الليل" و "العين"، إلى درجة تجعل من الصعب التمييز بين مختلف هذه الأغاني و رغم ذلك يقابلها الجمهور في كلّ مرّة بصيحات الإعجاب و الاستحسان و التصفيق الحار كأنّه يسمع في كلّ مرّة فريدة عصره و لا غرابة في ذلك بما أنّه قد وضع تحت تأثير موسيقى من نسل ما عزفه الفارابي في ختام لقائه الأوّل بسيف الدّولة و تأثير مغنّ يتفنّن في ابراز امكانيّاته الصوتيّة(و هذه النوعيّة من الأغاني لا يميّزها سوى هذه الامكانيات الصوتيّ) و في اظهار التفاعل الشديد مع ما يؤدّيه و يتلاعب بالجمهور كيفما شاء، الجمهور الّذي يستولي عليه الذهول و يغرق في هذه النشوة إلى حدّ يجعله مسلوب الإرادة، غير قادر على التمييز بين غثّ المعاني و سمينه فيعيض لحظة من الغياب عن العالم يستيقظ منها و هو يعاني آثار الخُمار..
و أحبّاء "الطرب الأصيل" عريقون في الدّيمقراطيّة و حريّة التعبير اذ أنّهم يتمتّعون بالحقّ المطلق في نقد كلّ ما يصنّفونه خارج دائرة الطرب(في أغلب الأحيان هي "سخريّة عصبية" و ليست نقدا) و يترحّمون على زمن العمالقة، و لكن إذ اجترأ شخص على ذكر كلمة نقد واحدة في أحد المطربين العظام، فستكون الطامة الكبرى و داهية الدواهي و سيتّهم بالمسّ بالمقدّسات الفنيّة و الاضرار الفادح بالنظام العام الفنّي و ربّما بالتعامل مع أطراف أجنبيّة تريد طمس معالم هويّتنا الفنيّة الأصيلة.. أما "المطربون" الحاليون، فانّهم لا يحتاجون إلى كبير عمل اذ يكفي حفظ بعض الأغنيات القديمة من "زمن الفنّ الجميل" و الطواف بها في المهرجانات و الحضور في البرامج التلفزية و التباهي بالقدرات الصوتيّة الخارقة للعادة الّتي نوّه بها فلان و أثنى عليها علان و التحسّر على الحظ الأحرف و انحطاط الأذواق و تآمر المنحطّين فنيّا عليهم..
أجد من الصعب أن أعتبرهذا "الطرب الأصيل" فنّا بالمعنى الحقيقي للكلمة، لأنّ تخدير المجتمع و تنويمه و الإصرار على اغراقه في الغيبوبة لا يمكن أن يكون عملا ابداعيّا.. عندما يتحدّث البعض عن "الست" و يعتبرها، هزلا أو جدّا لست أدري، مسؤولة عن النكسة فإنّ في هذا القول جانبا من الصحّة، اذ الأمر لا يقتصر على مطرب بعينه بل الإقبال على هذه النوعيّة من الغناء هو مرآة لثقافة كاملة ترفض الوعي و تحرص على أن تغيب عن مشاكل واقعها بمختلف أنواع المخدّرات، ثقافة تكرّس الخمول و تؤمن بالحظّ(قرأت مرّة مقالا لصحفي شهير يهاجم فيه ماجدة الرومي، و هي من القلائل الّذين يمكن وصفهم بالفنّانين، و يتّهمها يضعف الامكانيات الصوتيّة و يمجّد أمينة فاخت و يلعن الحظ الّذي جعلها أقلّ شهرة منها) و تبكي على الأطلال و لا تحرص على حسن توظيف مواهبها.. الفنّ لا يمكن أن يكون مجرّد صوت جميل و كفى، صوت يؤدّي من الأغاني ما لا يلامس وجدانك أو يخاطب عواطفك أو يحرّك احساسك أو يعالج أيّ مشكلة من مشاكلك(في هذا الإطار، يمكن أن تكون أيّ أغنية مزود، النوعيّة الّتي بقيت مهمّشة طويلا، أرقى فنيّا ممّا يسمّونه طربا)..الفنّ، رسالة مقدّسة تهدف للرقيّ بالمجتمع و إصلاحه دفعه نحو الأفضل، رسالة ينبغي على حاملها الّذي ألقى الله في نفسه الموهبة أن يلتزم بها و يحارب دفاعا عنها و يصبر لنشرها صبر الأنبياء و إلا لن يكون جديرا بتلك الموهبة و يكون من الأفضل له و للجميع أن يجعلها نسيا منسيّا..

الجمعة، 7 مارس 2008

تساؤلات حول العلمانيّة


الموضة من الأشياء الّتي لا أفهمها أو ربّما أرفض فهمها لأنّه لا يمكنني قبول فكرة اعتبار شيئا ما جميلا و محبّذا و مرغوبا فيه لفترة محدّدة قصيرة نسبيا ثمّ يصبح بعدها شيئا تجاوزه الزمن و نسيا منسيّا.. هذا الانتقال من النقيض إلى النقيض في " لمح البصر" لا يمكن أن يكون في نظري إلا تقليدا غير واع نقع فيه رغبة في أن نبدو مواكبين للعصر بأيّ ثمن. و يبدو أنّ الموضة لا تكون "مظهرية" فقط بل يمكن أن تكون فكريّة أيضا و الدّليل على ذلك أنّ موضة فيفري 2008 في المدوّنات التونسية كانت العلمانية اذ صارت حديث الجميع فجأة، و لعلّ السبب في انطلاق هذه الحملة هو مقال "جون أفريك" عن المسألة في عدد 3 فيفري 2008. و تمسّكا بموقفي من الموضة، انتظرت حتّى ينتفي عنها وصف الموضة رغم أنّي أعدّ هذه التدوينة منذ دخولي عالم التدوين. خفتت الموجة و أظنّ أنّه يمكن لي أن أتحدّث و أطرح تساؤلات عن العلمانيّة و عن الجمعيّة التونسيّة للدفاع عن العلمانيّة المزمع انشاؤها(رغم أنّ الحديث عنها بدأ منذ شهور عديدة كافية لتتّخذ الدولة قرارها امّا بمنح الترخيص و امّا بالرفض) في جوّ أقل تشنّجا من "موسم الموضة".
أ ليس إحداث جمعيّة للدّفاع عن العلمانيّة يفترض أنّنا نعيش في دولة علمانيّة؟ أ لا يتناقض هذا مع كون دين الدّولة هو الإسلام حسبما يقتضيه الفصل الأوّل من الدستور؟
قد يرى البعض أنّ هذا الفصل تمّ تجاوزه في تونس و يرجعون إلى "تاريخ علماني" يجسّمه الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة خاصة في مجلّة الأحوال الشخصيّة، و لكن الملاحظ أنّ الإصلاحات الّتي تضمّنتها هذه المجلّة لم تأتي بالقطع مع الإسلام بل حرص بورقيبة على أن تكون تأويلا للنصّ القرآني ذاته كما فعل مع مفهوم العدل في مسألة تعدّد الزوجات و هو تفسير قابل للنقاش بالتأكيد و لكن المهمّ أنّه تفسير من داخل الإسلام و ليس من خارجه، و حتّى لمّا طرح في خطاب 18 مارس 1974 مسألة المساواة في الإرث فانّه أكدّ فيه أنّ "من حقّ الحكّام بوصفهم أمراء المؤمنين أن يطوّروا الأحكام بحسب تطوّر الشعب .. " و لا أظنّ أنّ أمراء المؤمنين مفهوم علماني. و الأكثر من ذلك، فإنّه حتّى لمّا دعا إلى الإفطار في رمضان فإنّه لم يقم بذلك تحدّيا للدّين بل أنّه استند إلى رخصة شرعيّة تبيح الفطر في حالة الجهاد و حاول أن يطبّقها على "الجهاد ضدّ التخلّف" و قد سانده في ذلك بعض المفتين. و يتبيّن موقف بورقيبة من العلمانيّة في خطابه الشهير أمام البرلمان التركي الّذي انتقد فيه العلمانيّة الّتي فرضها أتاتورك على تركيا(انظر لطفي حجّي، بورقيبة و الإسلام).

ليست لنا في تونس علمانيّة إذن لكي ندافع عنها و لكن لا أظنّ أنّ ذلك مشكل لأنّه يمكن أن تبدّل تسمية الجمعيّة لتتحوّل إلى جمعيّة المطالبة بالعلمانيّة(و هو ما سيضطرّها إلى الكفّ عن ادّعاء التمسّك بالتراث البورقيبي) و بذلك تسمّى الأمور بمسمياتها، و لكنّ المشكل في العلمانيّة ذاتها..
ما هي العلمانيّة قبل كلّ شيء؟ في تعريفها الأكثر شيوعا هي فصل الدّين عن الدّولة. أ لا يعني قبول العلمانيّة إذن الانتقال من دين رسمي للدّولة إلى "لا دين رسمي" للدولة، بمعنى أنّ الدّولة كان لها دين ثمّ أصبحت بدون دين؟ أ لا يعني ذلك التحوّل من "دولة مسلمة" إلى "دولة ملحدة"، و بالتالي تتحوّل من دولة تتبنّى الإسلام كعقيدة إلى دولة تتبنّى "اللادين" كعقيدة؟ أ لا يؤكّد ذلك كون الغالبيّة الساحقة من المتمسّكين بالعلمانيّة من اللا دينيين؟ كيف يمكن لإنسان متديّن أن يدخل دائرة السياسة إذا كان ذلك يعني أن يتخلّى عن معتقداته الدّينيّة الّتي يؤمن بها و يشرع في التفكير خارجها حتّى يلبّي شروط العلمانيّة؟ إذا كان يؤمن بالأحكام الواردة في القرآن و يرى تطبيقها كيف يمكن اقناعه بأن يرمي بها عرض الحائط و يفكّر خارجها دون أن يعتبر أنّ في ذلك خروجا على الدّين؟ أ لا يعني قبوله بذلك أنّه مصاب بانفصام في الشخصيّة؟ إذا كان جزء كبير من المجتمع يقحم الجنّ و الشياطين في كلّ ما يستعصي عليه لمجرّد أنها مذكورة في القرآن، و يصل في ذلك حدّ التكفير(انظر
التدوينة السابقة) أ يمكن اقناعه بأنّ عدم تطبيق أحكام الدّين لا يتنافى مع الدّين؟ و إذا كانت أخلاق المجتمع مستمدّة من الدّين أ لا يعني ذلك أنّ الدولة العلمانيّة هي دولة بلا أخلاق أم أنّها سـ"تستورد أخلاقا" لتعبئة هذا النقص؟ و إذا كان المجتمع مسلما في أغلبيّته الساحقة على الأقل أ لا يكون فصل الدّين عن الدّولة هو فصلا للدّين عن المجتمع؟ أ لا يؤسّس ذلك لعلاقة عدائيّة بين الدّولة و المجتمع؟ أ ليس وصول أحزاب اسلاميّة(حتّى ان لم يكن العدالة و التنمية اسلاميا كما يزعم فالرفاه و الفضيلة "أدينا" بالاسلاميّة) إلى السلطة في تركيا بعد 80 سنة من العلمانيّة تجسيما لفشل هذا المفهوم المزروع قسرا في هذا البلد؟
و إذا كانت العلمانيّة في سياقها الأروبي تعني فصل السلطة السياسية عن سلطة الكنيسة فعن أيّ سلطة دينيّة نريد فصل السياسة في العالم العربي الإسلامي؟ أ يمكن مقارنة المؤسسات الدينيّة كالأزهر و الزيتونة بالكنيسة في أروبا في حين أنّ هذه المؤسسات كانت خاضعة للسياسي طول الوقت بما أنّ تعيين و عزل الشيوخ و المفتين و القضاة و الأئمة كان دائما بيد الحاكم ؟ و حتّى إذا سلّمنا جدلا بأنّ هذه المؤسسات هي مرادفة للكنيسة أ لا يمكن اعتبار وجودها انحرافا عن مبادئ الإسلام الّذي يرفض الوساطة بين الإنسان و الله و المطالبة بالتالي بالعودة إلى "الإسلام الأصلي"؟
لا تعبّر هذه الاستفهامات الانكاريّة، أو على الأقل جانب كبير منها، عن رأيي فما سبق هو حوصلة للاعتراضات الّتي يمكن أن تثار ضدّ العلمانية و هي اعتراضات لها وجاهتها في نظري.. لست ضدّ العلمانيّة كفكر و إنّما أنا ضدّ العلمانيّة كاستيراد لمفهوم جاهز..رفع شعار "فصل الدّين عن الدّولة" الّذي تكوّن في ظلّ خلفيّة تاريخيّة معيّنة و في إطار جغرافي و ثقافي معيّن و محاولة اسقاطه على مجتمعات لها خصوصيّتها و ظروفها المختلفة أراه غير مجد.. العلمانية نتيجة لتطوّر فكري استمرّ قرونا في أروبا و لا يمكن نسخه كما هو و القاءه في مجتمع يتّجه حالياّ في الاتجاه المعاكس، في اتجاه تقديس الشيوخ و يهتمّ بفتاواهم و يزدري من يكفّرونه لأنّ ذلك سيكون سباحة ضدّ التيار، فالمطالبة بالعلمانيّة الآن حتّى و ان كانت مطالبة صادقة ترمي فعلا لإصلاح المجتمع أراها منهجيا مخطئة.. محاولة نسخ العلمانيّة تبدو لي مثل الغشّ في الامتحانات لأنّها نقل للنتائج دون اتّباع المنهج، فلكي تقبل العلمانيّة يجب أن تكون نابعة من داخل المجتمع و تعبّر عن مطلب حقيقي في المجتمع و لا يمكن ذلك إذا كانت المجتمع يعتبرها كفرا و إلحادا و لتجاوز ذلك يحب أن تكون مقبولة في وجهة النظر الدينيّة الغالبة و لا يمكن ذلك الا بمشروع إصلاح ديني كبير سيكون موضوع تدوينة أو تدوينات قادمة ان شاء الله.

السبت، 1 مارس 2008

الشياطين و الساحر الّذي يطير


لي صديق مولع بالساحر الأمريكي كريس أنجل إلى حدّ الجنون (تقريبا) و يعتبره فنّانا موهوبا و ساحرا خارقا. عرض هذا الصديق عليّ و على آخرين مجموعة من العروض الّتي قام بها هذا الساحر و طلب رأينا فيها، فأجاب أحدهم بهدوء و ثقة يحسد عليهما:"هذا الشخص يتعامل مع الشياطين..هذا شيء معروف". ضحكت من هذا الردّ و سخرت من الرجل و اتّهمته بجمود التفكير، لكن يبدو أنّي كنت مخطئا في حقّه لأنّه يبدو أنّ رأيي لا يعبّر الا عن الأقلّية..
لمّا دخلت موقعا لمقاطع الفيديو و قرأت ما كتب من
تعليقات حول عرض قام فيه هذا الساحر بالطيران في الفضاء، أصبت بصدمة، فنسبة كبيرة جدّا من الّذين علّقوا باللغة العربية أرجعوا الأمر الى الشياطين بصفة آلية، بل أنّ أحدهم أصدر حكما باتا غير قابل للنقض في ذلك و اعتبر أنّ الشك فيه هو عدم ايمان بالقرآن:"..الشياطين تطير بالسماء وهذا الساحر تحمله الشياطين طبعا اذا كنت تأمن بالقران لانه القرأن تحدث عن الجن والشياطين وكيف يطيرون فشغل دماغك هذه حقيقه وهذا الساحر من عبدة الشيطان في امريكا"(أعجبتني "شغل دماغك" الّتي تنسجم جدّا مع التعليق!). أمّا البعض الآخر فاستشهد بأحاديث نبوية عن الساحر الّذي تحمله الشياطين و أحسن ردّ أعجبني ذلك الّذي بعد أن أكّد دور الجنّ في العرض، أعطى رقم هاتقه باعتبار أنّه "باحث و معالج بالرقية الشرعية"! صحيح أنّ هناك من ساندوا نظريةّ الخدعة البصرية أو التواطؤ مع الجمهور و لكنّهم ذابوا في زحام تعليقات "الاتجاه المعاكس".
داهية الدّواهي: في مقطع آخر يقوم فيه كريس أنجل بقطع امرأة الى نصفين، قام ناشر المقطع بارفاقه صوتيّا بتلاوة لسورة الجنّ، و لست أدري ما أراد بذلك، هل يعني هذا أنّ المقطع هو الدليل الّذي لا يرد على وجود الجنّ المذكورين في القرآن الكريم؟ أم أنّه أراد تكفير جميع من لم يعتقد بالصفقة المبرمة بين هذا الساحر و الشياطين أم ماذا؟
ليس ما يهمّني في هذه المسألة وجود الجنّ أو عدم وجوده و لكن ما يقلقني هو ذهاب نسبة كبيرة من المشاهدين الناطقين بالعربية إلى هذا التفسير مباشرة دون أن يحاولوا أن يجدوا تفسيرا أكثر منطقيّة، فليس معنى كون الانسان مؤمنا أن يردّ كلّ ما يحار في فهمه الى الجنّ أو الملائكة أو أيّ قوّة غيبيّة أخرى و انّما من المفروض أن لا يتمّ اللجوء الى مثل هذا الحلّ الا بعد استيفاء الحلول المنطقيّة الأخرى، و حتّى في هذه الحالة لا يجب أن يكون ردّ الأمر بمثل هذا الجزم بل من المفروض ابقاء قدر من الشك في امكانيّة وجود حلّ منطقي لم يقع تصوّره.
المشكل أنّنا نميل إلى مثل هذه الحلول و نبرّرها بايماننا بالدّين في حين أنّ المبرّر الأعمق لمثل هذه التفاسير أنّها سهلة و تريحنا من بذل ذلك الجهد المضني و الشاق المسمّى تفكيرا(عافى الله الجميع منه).. اذا مرض شخص فهو مسحور و اذا أصابه نقص في المال فهو محسود و إذا أصيب بأزمة نفسيّة فهو مسكون بجنّ، و لقد قرأت مرّة في احدى المجلات العربيّة الموجّهة للأطفال(انظروا على أيّ قيم نربّي الناشئة) أنّ المسلم الحقيقي لا يمكن أن يصاب بأمراض نفسيّة (هل المريض النفسي اذن كافر؟!!!!). يكفي أن تتصفّح أي جريدة و تنظر في ركن قضايا المجتمع لنعرف الى أيّ قدر يستفيد النصّابون و المحتالون من هذا البحث عن المكاسب السهلة فيقنعون ضحاياهم، الّذين يكونون أحيانا من المتعلّمين، بوجود كنوز أو عبارات سحريّة لقلب الأوراق دولارات(يبدو أنّ الجنّ لا يتابعون الاقتصاد العالمي و الا لعلموا بتدهور قيمة الدولار و حوّلوا الأوراق إلى اليورو).
نعم، تحدّث الدّين عن وجود الجنّ و الشياطين و لكنّه لم يرجع جميع الظواهر إلى الجنّ و الشياطين فالدّين يحتوي على جانب غيبيّ لا يمكن انكاره و لا أرى ضرورة في انكاره لأنّي أعتقد أنّ للعقل حدودا و من وظائف الدّين أن يقدّم تفسيرا لما تجاوز هذه الحدود، تفسيرا لا يفترض بطبيعة الحال أن يكون عقلانياّ و لكنّه معقول (هذه العبارة لمحمّد الطالبي في كتابه "عيال الله") لكنّ الدّين يحثّ كذلك على اعمال العقل و التفكّر في الكون بل أنّ ما ينعاه على المشركين هو عبادتهم للأوثان دون تفكير و بتقليد أعمى للآباء. الدّين توازن بين هذين الجانبين أمّا طغيان الجانب الغيبي على الجانب العقلي فهو لا يعود إلى طبيعة الاسلام في حدّ ذاته و الا لما برزت تياّرات "عقلانيّة"(كالمعتزلة مثلا) و انجازات علميّة في اطار الاسلام و لكنّه يعود الى أفكار سادت لظروف تاريخيّة معيّنة و نشرها أمثال "حجّة الاسلام" الغزالي الّذي قال " انّ وظيفة العقل هي أن يثبت النبوّة ثمّ يعزل نفسه" وغيره ممّن كرّسوا استقالة العقل و خنقوا تطوّر العلوم و كفّروا جميع من خالفهم حتّى أصبح الاسلام في نظر الكثيرين يتماهى مع فكرهم. أرى من الضرورة أن نبحث عن هذا التوازن المفقود في الدّين نفسه فنمكّن العقل من وصول أقصى مداه(و "أقصى مدى" قابل للتغيّر و التطوّر في اتّجاه الزيادة دائما) قبل أن نستورد مفاهيم جاهزة و نحاول أن نطبّقها قسرا على مجتمع غير جاهز فكريّا لتقبّلها و هذا ما سيكون موضوع تدوينة قادمة ان شاء الله.

الأربعاء، 13 فبراير 2008

الحبّ في عيد الحبّ

يوم 14 فيفري هو ذكرى تولّي أوباسانجو الحكم في نيجيريا و ذكرى فتوى الخميني المهدرة لدم سلمان رشدي و ذكرى اغتيال الرئيس رفيق الحريري و ذكرى حصول المنتخب الوطني لكرة القدم على كأسه الافريقيّة اليتيمة و ووو... ولكن كلّ هذه الأحداث التاريخيّة البارزة تتضاءل شعلتها أمام الحدث الأبرز لأنّ 14 فيفري لا يمثّل عند الجميع الا شيئا واحدا..عيد الحبّ.
قبل أن أحرّر هذه التدوينة حرصت على سؤال عدد من المحيطين بي حول رأيهم في عيد الحبّ، هل هو شيء جيّد أم شيء سيّء و لماذا و كانت الأغلبية الساحقة رافضة للاحتفال بعيد الحب. الأسباب؟ "ما هوش متاعنا"، "رويّق متاع مراهقين"، "الحبّ يلزمو أكثر من نهار في العام" و حاول بعضهم اثنائي عن الكتابة في هذا الموضوع لأنّه "حكاية فارغة" الكتابة عنها ستنقص من شأن مدوّنتي وهذا ما راعني في الحقيقة و لأنّني في عناد البغل أصررت الحاحا على الكتابة في هذا الموضوع.
من الأكيد أنّ هذه المناسبة تستغلّ تجاريّا أبشع استغلال، فهي فرصة لعديد التجّار لبيع العديد من السلع الكاسدة كالورود و الدمى و الشكلاطة(لم أتمكّن الى حدّ الآن من فهم العلاقة بين الشكلاطة و الحبّ!)و فرصة للمذيعين لكي يملؤوا برامجهم بأغاني الحب كما أنّ العديد يستغلّها للتظاهر
بحبّ كاذب لا يدوم أكثر من 24 ساعة يترك بعدها حلو الكلام و أجمل الابتسام ليعود إلى التجهّم و السباب، كلّ هذه انحرافات موجودة لا محالة ولكن ذلك لا يمنع من القول فكرة الاحتفال بالحبّ في حدّ ذاتها شيء رائع،و ما هو الشيء الأجدر بالاحتفال من الحبّ؟ طبعا لكلّ قصّة حبّ تاريخها المميّز المليء يالذكريات الّتي تستحقّ احتفالا خاصا من قبل أشخاصها و لكن تخصيص يوم للاحتفال بالحبّ و الحبّ فقط، الحبّ كقيمة، الحبّ كشيء مشترك بين الجميع لا يجب النظر اليه باستخفاف. أفضل اجابة تلقّيتها من الّذين سألتهم عن عيد الحبّ هي اجابة الصديق بيل سون الّذي قال : "الحبّ هو الحرّية..هو الحرّية الوحيدة المطلقة".
نعم، الحبّ هو تحرّر من كلّ القيود فعندما نحب تنتفي جميع الضوابط الّتي تكبّلنا في قوالب معيّنة من الواجبات و المحظورات. ضوابط البيئة و المجتمع و العادات و التقاليد و الأعراف و... الّتي تتبعنا منذ ميلادنا الى مماتنا تنتفي كلّها في اللحظة الّتي يدخل فيها الحبّ باب قلوبنا. نتخلّى حينها عن كلّ شيء دون أن نطلب شيئا لأنّ "المحبّة لا تعطي الا نفسها و لا تأخذ الا من نفسها، المحبّة لا تملك شيئا و لا تريد أن يملكها أحد لأنّ المحبّة مكتفية بالمحبة".. هو القمّة في كرم النفوس لأنّه ليس هناك جود يفوق أن تبذل روحك لشخص آخر دون أن تنتظر المقابل.. هو الروح الجديدة الّتي تنفخ في فؤادك فتجعلك ترى الأشياء بمنظار مختلف،
بمنظار الابداع.. هو القوّة الّتي تملأ جنبات روحك و لا تفارقك أبدا لأنّ "الحب هو الحرف ليس بممّح اذا خطّ في لوح القضاء المغيّب"..الحبّ هو تحقيق لنوع من "الانسان الأعلى" و تجسيم للكمال الّذي تنشده الانسانيّة.. هو السبيل لتكون، كما قال جبران، في قلب الله.
أ فلا يستحقّ هذا الحبّ عيدا سنويّا يحتفل به الانسان في كلّ عام بتحرّره الأكبر؟ أمّا من يرى فيه بدعة غربيّة و تقليدا للنصارى و يتغاضى على أنّه لا دين و لا جنسيّة للحبّ فما عليه الا أن يبحث في طيّات تاريخنا عن يوم جنون مجنون ليلى مثلا، أو عن تاريخ زواج قيس بلبنى أو تاريخ لقاء يزيد بن عبد الملك بحبّابة أو تاريخ وفاة عروة بن حزام و يجعل منه عيدا لأنّ العبرة ليست بالتأكيد أن يكون عيد القدّيس فالنتين أو القدّيس أوغسطين أو سيدي فلان بل المهمّ هو تخصيص يوم للحبّ.
انّنا في مجتمعنا نعيش في فقر مدقع، فقر في الحبّ. فنحن نخاف من الوقوع فيه و اذا حصل المحذور منه و وقعنا فانّا نسعى للجمه و نحرص على أن نتحكّم فيه في حين أنّه هو من يجب أن يتحكّم فينا، و نحذر من أن نبوح بحبّنا لأنّه عيب و لأنّه ضعف و نرضى من أن نعيش حياتنا من دونه فتكون حياة في جفاف الصحارى لأنّنا لا نفعل شيئا بحبّ، بل كلّ ما نفعله نكون مجبرين على فعله فنقوم به و كأنّنا نتجرّع العلقم "دون أن نضع في كلّ عمل من أعمالنا نسمة من أرواحنا" . لذلك نحن أجدر المجتمعات بأن نخصّص يوما نحتفل به بالحب حتّى لا ننساه تماما و يضيع منّا في زحمة هذه الحياة الصاخبة السريعة و نتذكّر الشيء الّذي نستكمل به انسانيّتنا حتّى ان كان ذلك مرّة في العام عسانا اذا فكّرنا في الحبّ يوم عيده نعقد العزم أن نتشبّث به و نحارب دفاعا عنه مدى الأيّام و عسانا اذا شاهدنا "العشّاق اثنين اثنين، ما حدا عارف لوين"(كما غنّت فيروز) نفجّر تلك الصخور القاسية الجاثمة فوق قلوبنا فتلين ونفتح الطريق لدخول ذلك الشعور المقدّس إليها.
لكلّ المحبّين في العالم أتمنّى دوام محبّتهم و إلى الّذين لم يحبّوا أرجو من الله أن ينعم عليهم بالنهل من ذلك النبع العذب الّذي سيرويهم إلى الأبد.
و كلّ عام، بل كلّ يوم و أنتم بحبّ.

الجمعة، 1 فبراير 2008

المساواة في الارث و النص الصريح

كان الأستاذ يلقي محاضرته كالعادة عندما خرج عن موضوعها و تحدّث عن أشياء أخرى و هو شيء تعوّد أن يفعله و ينال عادة اعجاب الطلبة و لكن لمّا تجرّأ في هذه المرّة و قال أنّه يعتقد أنّ من حقّ المرأة أن تتساوى في مقدار الارث مع الرجل ضجّ المدرج و انقلب عليه و انطلقت تعليقات من قبيل "يا له من منافق"، "انّه زنديق" و استمرّت الجلبة مدّة ليست بالقصيرة و الغريب أنّ بعض المحتجّين لم يكونوا من المتديّنين. حجّة الجميع كانت في هذا اللغط: مخالفة النصّ الصريح.
النصّ الصريح، دائما النصّ الصريح و لا شيء غير النصّ الصّريح، هذه الحجّة المجلّلة بالقداسة تثار دائما كلّما نوقش أحد المواضيع المتعلّقة بالحداثة باعتبارها الكلمة الحاسمة و الجواب القاطع و البرهان الساطع و الحجة الدامغة الّتي لا تترك خيارا أمام الطرف الآخر للحوار سوى الاذعان لها و ان أبى الا مخالفتها فهو يعتبر من الكافرين أو الزنادقة أو المنافقين و عند المتسامحين للغاية فهو من الفسّاق العاصين الّذين يرتاب في ايمانهم.
ان النصّوص القرآنية المنظمة لأحكام الميراث هي نصوص صريحة، لا شكّ في ذلك و لكنّها ليست النصوص الصريحة الوحيدة في القرآن.. النصّ الصريح لم يحرّم الرق بل أنّه نظّمه و جعله كفّارة للقتل الخطأ( في قوله تعالى"و من قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة و دية مسلّمة الى أهله الا أن يصدّقوا فان كان من قوم عدو لكم و هو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة و ان كان من قوم بينكم و بينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله و تحرير رقبة مؤمنة") و كفّارة عن الظهار( في قوله تعالى" و الّذين يظاهرون من نسائهم ثمّ يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا") و غير ذلك من الأحكام الّتي تجعل الغاء العبودية تعطيلا لأحكام شرعية لا لبس فيها جاء بها النص الصريح الواضح الجلي. و النصّ صريح كذلك في السماح بتعدّد الزوجات و قطع يد السارق(الآية لا تجعل حدّا لقيمة المسروق ممّا يجعل تقييده بقيمة معيّنة(ربع دينار حسب بعض الفقهاء) تزيّدا على النص) و جعل شهادة الأنثى نصف شهادة الذكر و غيرها من النصوص.
لا أظنّ أنّ هناك من يدعو اليوم إلى التراجع عن الغاء العبودية رغم مخالفة ذلك للنصّ الصريح و لكي يقع تبرير ذلك، تفسّر الآيات الداعية الى العتق بأن النصّ القرآني و ان لم يأمر بتحرير العبيد فانّه حثّ على عتقهم اذ "لم يستطع الاسلام في حينه أن يقرّر حكما نهائيا غير اعلانه الرغبة في العتق و هو ما يعبّر عنه الفقهاء بتشوّف الشارع للعتق"(الطاهر الحدّاد، امرأتنا في الشريعة و المجتمع) و بالتالي فيمكن الغاء الرقّ متى تيّسرت الظروف. انّ مثل هذه التفاسير تعبّر عن فصام خطير اذ أنّ التعامل مع النصّ الصريح بتمّ بانتقائية فالأحكام ليس مصدرها النص الصريح و انّما هو تأويل معيّن للنصّ الصّريح، ففي حالة الرقّ يتمّ الاعتماد على المقصد الالهي لتجاوز النص الصريح و لكنّ هذا المقصد يتمّ التغاضي عنه تماما في قضيّة المساواة في الميراث فلا ينظر الى أنّ وضعيّة المرأة في الجاهلية لم تكن تسمح بأكثر من أن يجعل لها نصف نصيب الرجل من الميراث، بل أنّ اقرار مثل هذا النصيب لها يعتبر انجازا كبيرا في حينه لكن الفقهاء لا ينظرون الى ذلك و يزعمون هنا أنّ النص الصريح لا يمكن مخالفته و يصمّون الآذان عن مقصد الشارع من ذلك و كأنّ الله أقرّ أنّ المرأة أقلّ مستوى من الرجل و كرّس في كتابه حكما يمنع المساواة بينهما الى أبد الآبدين، تعالى الله عن الظلم علوّا كبيرا.
و الأكثر من ذلك أنّ الفقهاء يزعمون أنّ بعض التصوص صريحة و يرتّبون عليها أحكاما شرعيّة غير قابلة للنقض في حين أنّها ليست صريحة بالمرّة كما هو الحال في فرض الحجاب بناء على الآية 31 من سورة النور ففي هذه الاية " الحكم الشرعي ..هو امر المؤمنات بغض البصر والعفة ( حفظ الفرج ) وعدم التبذل والتهتك ( ابداء النحر والصدور) وكل هذا معناه الحشمة واللياقة والسلوك القويم ، ولم يرد في الاية اي شيء عن " حجاب "..اما تفسير " ولا يبدين زينتهن الا ما ظهر منها " انه يعني قطعيا اظهار الوجه والكفين فانه محل نظر وحتى لو سلمنا بهذا التفسير فلا يعني ذلك ان بالاية حكما شرعيا بما يزعمونه عن فريضة " الحجاب " وليس فيها ما يشير الى غطاء الراس"( محمد صالح حسن، أسطورة الحجاب وحكم البشر في ظل الواقع المعاصر للمسلمين).
أنّ قاعدة "لا اجتهاد في النص الصريح" هي قاعدة فقهية و ليست قاعدة الهيّة تؤخذ مأخذ الحكم الشرعي و بالتالي فليس في مخالفتها عصيان لارادة الله بل أنّ هذه المخالفة ضرورية للتحرّر من جمود بعض الفقهاء(أو أغلبهم ان شئنا الدقّة) مع البقاء في دائرة الدين دون الخروج عليه فالأخذ بالنص القرآني الصريح دون اعتبار لأسباب نزوله و الظروف الّتي حفّت به و لا للمقصد الالهي من وراء انزاله يجعل منه نصّا جامدا بعيدا كلّ البعد عن الكونيّة و المعاصرة و الغرب حين ينتقد الاسلام و يشيع عنه أنّه معاد للتقدّم و لا يضمن حقوق الانسان و غير ذلك من الاتهامات انّما ينتقد في الحقيقة قراءة معيّنة للنصّ تقف عند حرفيّته و لا تعير اهتماما للمقاصد من نزوله، قراءة ينظر عليها على أنّها الاسلام ذاته في حين أنّها ليست سوى تكريسا لطريقة جامدة في التفكير رسخت في الأذهان و منعت تحرّرها، قراءة ليس لها من مبرّر اليوم سوى قولهم " وجدنا آباءنا هكذا يؤولون".
و للحديث بقيّة.

الجمعة، 18 يناير 2008

أحزاب عديدة..لماذا؟

لمّا أعلمت أحدهم أنّ موضوع تدوينتي سيكون حول الأحزاب المعارضة في تونس قال لي :"هذا لا يعنيني..لو كان الأمر متعلقا بالكورة أو السياسة العالمية لاهتممت ولكنّ الحكايات الفارغة لا تعنيني". هذا الموقف تتقاسمه الأغلبية الساحقة من الشباب اليوم بل أنّه يتجلّى بصورة أكثر سلبيّة أحيانا اذ أنّ البعض من الشباب الجامعي المثقف يفرّ من أيّ نقاش يذكر فيه اسم لحزب سياسي و ذلك حتّى داخل بعض كليات الحقوق التي من المفروض أن تكون ساحة غنية لمثل هذه النقاشات.
لنا في تونس اليوم 8 أحزاب معارضة معترف بها..عدد لا بأس به و يكفي لتحقيق الاكتفاء الذاتي منها و لكنّ وزنها يبقى ضعيفا و أقلّ من الضعيف. أذكر أنّه منذ قرابة العام أعلن حزب الوحدة الشعبية، و هو ثاني الأحزاب المعارضة تمثيلا في البرلمان، أعلن بكلّ فخر و اعتزاز أنّ عدد منخرطيه قد وصل الى 5000 و هو رقم ضئيل للغاية بالنسبة لأيّ حزب فما بالك بحزب في مثل هذه العراقة خاصة اذا علمنا أنّ عدد المنخرطين في الحزب الحاكم ناهز المليونين؟ أمّا الأحزاب الأقلّ وزنا، فربّما لا يتجاوز عدد منخرطيها عدد أعضاء مكتبها السياسي!
كيف يمكن تفسير ذلك؟
اذا صنّفنا الأحزاب حسب ايديولوجيّتها المعلنة، سنجد تركّزا رهيبا لها في يسار الخارطة السياسيّة(كقائمة السيّد لومار الّتي احتوت 3 مدافعين يلعبون في مركز الظهير الأيسر، و لكن هذا موضوع آخر!) اذ تنتمي 6 أحزاب لليسار مع وجود حزب قومي واحد و حزب ليبرالي واحد ممّا يجعل من الصعب على المواطن العادي أو حتّى المثقّف أحيانا التمييز بين برامجها اذ يبدو ذلك أحيانا مثل البحث عن الفرق بين توأمين، و حتّى هذه الفروقات الضئيلة لا تكاد تبدو في خطاب هذه الأحزاب اذ يبدو انّ الايديولوجيا المعلنة ليست سوى بند يضاف الى النظام الداخلي للحزب حتّى يحصل على التأشيرة بما أنّ قانون 3 ماي 1988 يمنع وجود أحزاب لها نفس الاتجاهات(أذكر في هذا الاطار أنّ الأمين العام لحزب الخضر للتقدّم حضر في برنامج في قناة عربية و لم يكن يعرف هل حزبه من أحزاب اليمين أو اليسار حتّى أخبره المقدّم بذلك!)، اذ أنّ التصنيف الحقيقي لأحزاب المعارضة المكرّس في الشارع هو بين أحزاب المعارضة الّتي تعارض(أحزاب اللاءات الأزلية) و بين أحزاب المعارضة الّتي لا تعارض(أحزاب الوي-الوي) و في كلتا الحالتين فانّ الخطاب المستعمل منفّر، فالأحزاب الّتي لا تعارض لها خطاب يقوم على الولاء غير المشروط و الدعم المطلق و التنويه بالمكاسب و الانجازات المحقّقة بطريقة فجّة لا يستعملها أعضاء الحزب الحاكم أنفسهم و هذه بالتالي تنفي علّة وجودها، فما الفائدة من الانضمام إلى حزب "معارض" اذا كان الواقع ورديّا إلى هذه الدرجة؟ أمّا أحزاب(أو حزب) المعارضة الّتي تعارض فعلى العكس تماما لا تعترف بوجود أيّ نقطة ايجابية فالحال في تونس حسب خطابهم متردّ و متأزّم و كارثي و ينذر بالانفجار و هو تحليل مهوّل و مبالغ فيه
و اذا أردنا أن نبحث عن مدى استجابة هذه الأحزاب للتعريف المكرّس للحزب السياسي كتنظيم سياسي يهدف الى الوصول الى السلطة و البقاء فيها، فسنجد أنّها جميعا لا تستجيب لهذا التعريف فلا يوجد حزب منها يدّعي رغبته للوصول إلى السلطة نظرا لأنّه مطلب غير واقعي و من الطرائف الّتي تذكر في هذا الصدد أنّ أحد من ترشّحوا للانتخابات الرئاسية الأخيرة كان قد أعلن عن مساندته لترشّح الرئيس قبل ذلك. غنيّ عن الاشارة أنّ حزبا ليس يطمح للوصول الى السلطة لا يمكن أن يكون حزبا، فما هي طبيعة هذه التنظيمات اذن؟
أحد الأصدقاء ابتكر تسمية طريفة و معبّرة للغاية وهي تسمية النادي السياسي.. فأعضاء هذه الأحزاب هم مثل اعضاء النوادي (على طريقة المسلسلات المصرية)يتقابلون و يحتسون القهوة و يثرثرون في عدّة مواضيع من بينها السياسة ثمّ ينفضّون حتّى الاجتماع القادم، و ربّما يعقدون ندوات حول بعض المواضيع الساخنة دون اشتراط أن يكون التحليل جديّا أو معمّقا. أذكر أنّي حضرت مرّة ندوة أقامها أحد الأحزاب حول حقّ التدخّل الانساني و انّي على استعداد أن أقسم أنّ تسعين في المائة من الحاضرين لم يكونوا يعرفون شيئا عن هذا الموضوع كما تجلّى ذلك من خلال النقاشات، فعلى الرغم من أنّ هذه الأحزاب تدّعي كونها أحزاب كوادر، مع العلم أنّ هذه التفرقة بين أحزاب الكوادر و أحزاب الجماهير عفى عليها الزمن لأنّه لا وجود لحزب يقتصر نشاطه على "النخبة" و يهمّش دور" العامة" و يحقّق نتائج معتبرة في الانتخابات، الا أنّها تبقى أحزاب كوادر بلا كوادر(أحد المسؤولين في الحزب الاجتماعي التحرّري اعترف أنّ حزبه تنقصه الكوادر) و بالتالي فتقييماتها للأوضاع تبقى سطحيّة لعدم توفّرها على محلّلين مؤهّلين للقيام بدراسات جادة(مع وجود استثناءات في بعضها) و هي في الحقيقة لا ترى أنّ من دورها القيام بمثل هذه التحليلات لأنّ طموحاتها لا تصل لأن تصلح واقع البلاد و لكن أن تصلح واقع أعضائها كما عبّر عن ذلك توفيق الحكيم في حواراته مع حماره(مع اختلاف الظرفية لأنّ الأحزاب المصرية انذاك كان رهانها فعلا السلطة)، فالتنافس على السلطة لا يظهر في الانتخابات بين حزب و حزب و لكن في حالة عرض منصب على حزب و ذلك في اطار نفس الحزب اذ ترى حينئذ "النضال" السياسي في أعلى مستوياته و تبلغ المناورات السياسية درجة عالية من الدّهاء و "التكمبين" رغم أنّ المنصب قد يعود في النهاية لأحد أصدقاء الأمين العام من غير المنضمّين للحزب(هل أقصد حزبا معيّنا؟ ربّما) فالقتال ليس حتّى على "الثريد الأعفر" بل على فتاته و في مثل هذه الوضعيات لا يكون من صالح الأعضاء المحترمين أن تنضمّ أحد الكفاءات الحاصلة على أعلى الشهادات (و الساذجة لاعتقادها وجود ايديولوجية و رغبة في الاصلاح) لأنّ ذلك قد يمثل منافسة محتملة على المنصب القادم
و رغم الضعف الفادح لهذه الأحزاب فانّها تصل الى مجلس النواب، و يعود ذلك الى طريقة منح المقاعد في تونس و هي طريقة فريدة و لا أظنّ أنّها معتمدة في أيّ بلد آخر اذ أنّ 20 في المائة من المقاعد تمنح للاحزاب الخاسرة في الدوائر حتى ان كانت لا تمثل الا نسبة ضعيفة جدّا من المواطنين ففي انتخابات 1999 مثلا كانت أكبر نسبة تحصّل عليها حزب في مستوى الدوائر في حدود 6% و لم تتطوّر في انتخابات 2004، فالمقاعد لا تمنح لأنّ الأحزاب تستحقّها بل تمنح منّة و تعطّفا و هو ما يشجّع هذه الأحزاب على التمادي في تقاعسها بما أنّ المقاعد مضمونة (للأحزاب الّتي لا تعارض طبعا) بأقلّ مجهود ممكن
و لكي لا نظلم هذه الأحزاب تنبغي الاشارة إلى بعض العوامل الخارجة عن نطاقها و الّتي ساهمت في ضعفها، فالنظرة الّتي تعتبر أنّ المعارضة هي تهمة خطيرة و تآمر على مصلحة البلاد و أمنها و هي النظرة الموروثة من زمن الحزب الواحد ما زالت متغلغلة و مكرّسة على نطاق واسع سواء كانت من بعض المسؤولين في الحزب الحاكم(منذ أسابيع تهيّأت لي الفرصة لأسمع أحد هؤلاء المسؤولين يجيب عن سؤال تعلّق عن اختلافه في الرأي مع أحد الأشخاص فأجاب منزعجا: ليس اختلافا في الرأي و لكن هو سوء تفاهم لأنّ الاختلاف في الرأي يعني أنّ احدنا معارض، ثمّ استرسل في ذم هؤلاء المنحرفين الخطرين المدانين بالتهمة الفظيعة، تهمة الاختلاف في الرأي) و كذلك من طرف بعض الصحافيين(انظر
هذا التعليق) و هو ما يجعل المواطن يخاف من مجرّد التفكير في الانضمام لهذه الأحزاب. و لا يشجّع الاعلام الرسمي على تجاوز هذه النظرة اذ أنّ تغطية أنشطتها تكون برقيّة و تقتصر على بعض الثواني في ذيل نشرة الأنباء مقابل وقت طويل مخصص لنشاط الحزب الحاكم مع اهمال تام لنشاط لأحزاب اللاء الأزلية، فحتّى ان كان نشاطها جادّا و ثريّا فانّ وصول أصدائه الى الجمهور لا يتحقّق خاصة في ظلّ الخوف من اقتناء صحف الأحزاب للأسباب سابقة الذكر. و لا ينبغي نسيان أنّ موارد هذه الأحزاب و المتأتّية أساسا من التمويل العمومي(و هو الآن في حدود 120.000 دينار في انتظار مضاعفته كما اعلن) عاجزة عن التكفّل بمصاريف جمعيّة رياضية في القسم الثاني، فما بالك بحزب من المفترض أن يسعى للوصول الى السلطة، ممّا يجعل الأحزاب تتخلّى مضطرّة عن بعض الأنشطة لضعف الميزانية. أمّا الأحزاب غير البرلمانية فهي لا تتلقّى أيّ دعم و انّي أتسلءل كيف استطاعت أن تواصل" العيش"؟
و في النهاية يبقى التساؤل مطروحا: أ ليس وجود كل هذه الأحزاب من باب الحصيرة قبل الجامع؟ ألا تفترض التعدّدية قبل كل شيء وجود مناخ سياسي يسمح بها؟