الأربعاء، 10 سبتمبر 2014

إثم البحث عن روح رحبانية في ألبوم "يا حبيبي" لهبة طوجي

لم أكن ممّن قصدوا الحفل الذي أحيته هبة طوجي رفقة أسامة الرحباني بالمهرجان الدولي للحمّامات. كانت فكرة الذهاب قد خطرت ببالي فقط لأنّ بي ضعفا لا أنكره تجاه لقب "الرحباني". على أنّ الخشية من الوقوع على تجربة ليس لها من الرحبنة دون الإسم إضافة إلى بعد الشقّة (وشيء من الكسل كذلك) كانت عوامل حسمت الموقف فلم أذهب. لم أسمع فيما بعد الكثير عن الحفل، حتّى شاهدت منذ أيّام تغطية تلفزية شديدة الإطراء له، وذهب المذيع إلى حدّ اعتبار هبة طوجي فيروز الجديدة. طبعا، كفيروزيّ عريق، اعتبرت الأمر محض هرطقة وهمست لنفسي: "اللهمّ اغفر لقومي فإنّهم لا يعلمون". ولكن ليطمئنّ قلبي، لم أستطع الامتناع عن البحث عن أغاني الألبوم الجديد  لهبة طوجي المعنون "يا حبيبي".

يضمّ الألبوم 15 أغنية كلّها من ألحان أسامة الرحباني. أربع منها كتبها منصور رحباني، واحدة كتبها هنري زغيّب والبقيّة كانت من كلمات غدي الرحباني. على أنّ أغنية "قصّة ضيعة"، وهي استلهام طريف لموسيقى رقصة زوربا اليوناني، وإن لم يكتبها الراحل منصور، فقد كتبت على نمطه. كلماتها رحبانيّة مولّدة إن صحّ التعبير.

حاول أصحاب العمل أن يكون هناك توازن بين الأغاني العاطفية والأغاني التي تحمل هموما إنسانية ووطنية. وفي الحقيقة، غلبت السذاجة في التعبير على هذا الصنف الثاني، وهو ما يظهر في "الربيع العربي" و"صباح الخير" و"المرأة العربية". والسذاجة في حدّ ذاتها لا تشين الأغاني، فهي ليست مطالبة بتقديم تحاليل معمّقة عن الأوضاع السائدة، بل أنّها ميزة طبعت الأعمال الوطنية للرحابنة الكبار، غير أنّ ما يصنع الفارق هو الدور الذي يلعبه اللحن في إيصال الروح الكامنة في الكلمات. وهنا، كان النجاح نسبيّا ومتفاوتا من أغنية إلى أخرى. ففي "الربيع العربي"، وهي أكثر الأغنيات تحيّزا، كان اللحن ساترا يحجب هذه السذاجة، وخصوصا عندما يدخل فيه ما يشبه المارشات العسكرية وعندما يطلق العنان لصوت هبة طوجي للهمس تارة والصراخ تارة أخرى، والكلّ في موضعه. نفس الشيء يمكن ملاحظته بالنسبة إلى "المرأة العربية" الّتي استمدّت طرافتها إضافة إلى كلماتها من نسقها السريع. ويشدّ في "إلي وإلك السماء"  منذ البداية الطباق في إسمها (غير المقصود على الأرجح)  مع "الأرض لكم" التي لحّنها زياد رحباني، وقد لخّصت، بشيء من الهدوء، المثاليات الرحبانية.  يختلف الأمر بالنسبة إلى "صباح الخير" التي كانت دون روح وذكّرتني بالوطنيّات المناسبتية التي طالما عرفناها في بلادنا. وكان الانطباع الذي خلّفته الأغنية  لديّ أنّ مصير "بحبّك يا لبنان" مثلا كان سيكون مشابها لو وقعت بين الأيدي الخطأ. لديّ  أمّا "بيروت"، فهي كلمات تمّت خيانتها موسيقيّا، ولولا مقطع الفالس، على ما آل إليه من جموح، لكانت ممّا يُنسى فور سماعه.

وينطبق هذا التفاوت كذلك على باقي أغاني الألبوم. ففي "يا حبيبي"، ورغم كلاسيكيّة الكلمات التي توحي بأنّ أقرب سبيل لتلحينها هو النمط الشرقي التقليدي (وقد توقّعت أن تكون من طراز "يا حبيبي كلّما هبّ الهوى" للأخوين رحباني)، يفاجئنا أسامة باختيار نمط الجاز، وقد كان اختيارا موفّقا نجح في العثور على إيقاع القصيدة والتناغم معه رغم بعض الهنات في نطق بعض الكلمات، فـ"الأرض الحزينة" تُنطق بالخفض في موضع النصب، وكلمة "قرصان" تنطق مكسورة القاف. وفي "معقول"، كانت تجربة الاستماع ممتعة من خلال التمازج البديع بين "الجاز"و"اللاتينو". كثير من البهجة ظلّت مصحوبة بصوت الكونترباس الرتيب والهادئ في الخلفيّة، ولو أنّ "اللاتينو" لم يلائم في بعض الأحيان شيئا من الحزن في الكلمات. وتأتت طرافة "أنا حبيتو" من الدور الذي لعبه البيانو في تأمين الإيقاع، وهي أغنية دافئة رغم إيغال الكلمات في البساطة. وكانت "خلص" أغنية فراق هادئة، وهي مفارقة عجيبة أن لا يحظى الفراق بشحنة عاطفية من غضب أو حزن. وينطبق على "لمّا بيفضى المسرح" نفس ما قيل عن "بيروت" فالكلمات الشبيهة بتصوير سينمائي يقلب السمع بصرا لم تحظ موسيقيّا بما يفيها حقّها. أمّا في "أوّل ما شفتو"، فقد كان يمكن أن تكون مستساغة، على فتور كلماتها، لولا إيقاعها المزعج والإسراف في اعتماد تقنيات التلاعب بالصوت، وهو ما تخلّصت منه "حبّي اللي انتهى" الرومانسيّة الهامسة. أمّا "يمامة"، فقد تكوّن رأيي منها في الثواني الأولى وتحديدا مع عبارة "لكلّ من في الأرض لا أعرفهم" التي كان لحنها العجول غاية في "التبلفيط"، وتساءلت إن لم يكن اللحن وضع مسبّقا ثمّ وقع الإصرار على اعتماده قسرا على الكلمات بصرف النظر عن كلّ إنسجام. ولا تبقى من أغاني الألبوم سوى "حلوة يا بلدي" التي هي مجرّد إعادة توزيع لأغنية داليدا حرت في معرفة وجه الإبداع فيها أو سبب إقحامها في الألبوم.

قيل عن هذا الألبوم أنّه ينتمي إلى صنف الجاز، ولكنّ ذلك لا ينطبق على كلّ الأغنيات، ولا يتوافق مع التعويل على الأركسترا السمفونية الأكرانية. لا مجال للشكّ في طابعه الغربي، وقد أضفى عليه الاعتماد على البيانو خاصة بصفة دائمة شيئا من الفخامة. تتيح مختلف الأغنيات المجال لصوت هبة طوجي المميّز حتّى يستعرض قدراته في التدرّج من أخفض الدرجات إلى أعلاها، ويدخل في تجربة متعدّدة الأبعاد مع المستمع فيداعبه ويؤانسه ويؤسيه ويستفزّه. ويتعزّز صوت طوجي ببعض المؤثّرات التي تضفي على الأداء بعدا مسرحيّا: الضحكات، الصرخات وحتّى الزغاريد. على أنّه قلّما كان جمال الصوت وحده عنصرا محدّدا في نجاح التجربة. وإذا كان نجاح الأغنية يقاس ببراعة ترجمة الكلمات لحنا، فإنّ النجاح في هذا الألبوم كان جزئيّا. في عديد الأحيان، بدا كأنّ الإصرار على تقديم نمط موسيقيّ ما يأتي على حساب التقاط حساسية الكلمات، وإن غلبت على جلّ الكلمات بساطة تخلو، على خلاف البساطة الرحبانية، من العمق. وإذا كان هناك تشابه مع تجربة الأخوين رحباني، فأراه يكمن في نهايتهما، وتحديدا فيما قاما به في برنامج "ساعة وغنيّة" من إعادة توزيع لأغانيهما بطريقة أضفت عليها نزعة آليّة وسلبت منها صفاءها الشرقيّ.


التقييم العام للألبوم: