الجمعة، 29 يناير 2021

قصتي مع الشعر (الجزء الثاني)

 


كنت دائما مُقلّا في المشاركة في المسابقات الشعرية. طبعا يمكنني من الناحية النظرية أن أسوق مبرّرات عديدة لذلك، من طينة عدم الثقة في نزاهة اللجان وضعف العمل في الورشات (إن وُجدت) بما يصعب معه حصول تطوير حقيقي للمستوى والديناميكية داخل مثل هذه المناسبات التي عادة ما تقرّب أولاد الدار وتقصي "الدخلاء"، وكلّ ذلك موجود فعلا. ولكنّ الحجّة الحقيقيّة لا تعدو أن تكون نرجسيّة الشاعر. طالما كان يصعب عليّ أن أسلّم نصّا كتبته بدم قلبي إلى الغرباء ينهشونه. كنت أرى ذلك جرحا في كبريائي يغرقني في غضب مكظوم غالبا ما يتحوّل إلى شعور عميق بالأسى.

لذلك كانت مشاركاتي معدودة، حقيقة (بمعنى أنه يمكن أن أعدّها فعلا) وليس مجازا. لم يكن المعهد النموذجي بأريانة من أمكنتي المفضّلة لكن بفضله وقفت لأوّل مرّة لأُسمع العموم شعري. بين سنتي 2002 و2004، دأب المعهد ببادرة من الأستاذتين عائدة الفرشيشي وريم عُمار على تنظيم أمسيات شعرية يوم 8 أفريل من كلّ عام. كان تنظيم هذه الأمسيات على درجة عالية من الحرفية وقلّما حضرت بعد ذلك أمسيات في نفس مستواها. أتيحت لي الفرصة لأسمع حينها لأوّل مرّة شعراء بارزين في تونس مثل جمال الصليعي وجميلة الماجري وخالد الوغلاني الذي قدّم في إحدى المرّات عرضا مميّزا للغاية يجمع بين الشعر والموسيقى رفقة الموسيقار مراد الصقلي. كانت للمعهد قاعة عروض حسنة التجهيز أتاحت أن تجري هذه الأمسيات في ظروف جيّدة تقنيّا.

اشتملت هذه الأمسيات كذلك مسابقة شعريّة مفتوحة لأبناء المعهد. كنت قد أتممت قصيدة "القدّيسة" في العام الأوّل من هذه الأمسيات، ولمّا أعلمتنا أستاذة العربية خولة الشابي بشأن المسابقة، كنت الوحيد الذي أكتب الشعر في القسم، وأخال أنّ أحد الزملاء حينها فضح أمري، فحثّتني الأستاذة على المشاركة ففعلت دون حماس كبير. في تلك الليلة، اصطحبني أبي، راعيّ الفنّي الدائم، إلى الأمسية. كنت شديد الارتباك، وكان ذلك باديا عليّ، فلأوّل مرّة تُعرض إحدى "بناتي" على الملأ. كانت أستاذتي تجلس في الصفّ الذي أمامي، وحانت منها التفاتة فلاحظت توتّري. ابتسمت وخاطبتني قائلة: لا تخش شيئا، فقد فزت بالجائزة الثانية. سريّ عنّي حينها وتنهّدت في راحة. صعدت بعدها إلى الركح لألقي نصّي، وكنت أحفظه، فألقيته كما تُلقى المحفوظات. فيما بعد، تعرّضت لنقد لاذع من أبي حول طريقة إلقائي ودافعت عن نفسي بالقول أنّ جو القصيدة كان يستدعي شيئا من الخشوع ويجب أن ينأى عن الاستعراض. كنتُ أكابر، فإلقائي كان تعيسا حقّا. والحقيقة أنّني طالما اعتبرت مسألة الإلقاء ثانوية للغاية أمام جودة النص، ولم أعتن بها فعلا إلا في فترة متأخّرة.

بعد تلك الأمسية بفترة قصيرة، دعتني أستاذتي للمشاركة في المسابقة الشعرية لمهرجان عيد الورد بأريانة. لم يكن لديّ نصّ جاهز ولكنّي وعدت بالمشاركة. اقترب الأجل ولم أكتب شيئا، وصار الموضوع يؤرّقني. صرت أفتح جميع الدواوين التي بحوزتي راجيا أن أستلهم بعض الأفكار. جاء الغوث من ابن الرومي، إذ بذرت إحدى قصائده فكرة ما في رأسي، ولمّا كنت أستحمّ، تحوّلت هذه الفكرة إلى بيت، ولم يطلع الصبح إلّا وقد استوت القصيدة على سوقها. حاز هذا النصّ (نشيد الورد) جائزة المهرجان، غير أنّه ظلّ طويلا من أبغض النصوص إلى قلبي. كتبته بصنعة متكلّفة ودون أيّ إحساس، فقط بغرض الفوز وقد فُزت! تزامن حفل تسلّم الجائزة مع حدث مأساوي، إذ تحطّمت طائرة مصرية على جبل النحلي. أعلن مدير المهرجان أنّه نظرا للظرف الحزين الّذي تعيشه مدينتنا، لن يقع تسليم الجوائز يومها ويؤجّل ذلك إلى موعد لاحق. لا أعرف الرابط بين الأمرين، لكنّي إلى حدّ الآن لم أتسلّم سوى شهادة تقدير لمجهوداتي في إنجاح عيد الورد.

الاثنين، 25 يناير 2021

قصّتي مع الشعر (الجزء الأوّل)



يمكنني أن أحدّد بشيء من الدقّة متى كتبت الشعر أوّل مرّة. كان ذلك في الثلاثية الأخيرة من سنة 1999. كنّا شرعنا وقتها في دراسة العروض على يد أستاذتي شيراز سلامة، وبدأنا بحور الشعر بالمتقارب. كتبتُ وقتها قطعة من ثلاثة أو أربعة أبيات على مجزوء المتقارب مطلعها:

أقول وسهد أذاني... ألا تشعرين بحالي

لم أر ضيرا حينئذ في تكثيف الجوازات الشعرية، حتّى إن كانت ثقيلة. كلّ الهدف كان ملاحقة الوزن. أبهرني العروض حدّ الهوس. تلك المقاطع الصوتيّة التي تتتالى في انتظام موسيقي بديع أذهلتني، حتّى صرت شغوفا بالتقطيع العروضي لكلّ ما يعترضني، حتّى إن كان مقالا في صحيفة. لم أبلغ نهاية ذلك العام إلّا وقد أحطت علما بجميع بحور الخليل، حتّى ما لم يدخل منها في البرنامج الدراسي، عمدتي في ذلك كتاب شاعرنا نور الدّين صمّود "العروض المختصر" الّذي صار رفيقي الدائم.

في أوائل سنة 2000، قسّمتنا الأستاذة إلى فرق بهدف إعداد بحث عن موضوع الحرب والسلام، وضمن فريقي، كنت مكلّفا بكتابة مقال حجاجي حول الموضوع. كنت مزهوّا بهذه القدرة الناشئة على النظم، فاخترت، بحثا عن التميّز، ألّا أكتب مقالا بل قصيدة. كتبت نصّا من خمسة عشر بيتا، كان أوّل ما أعدّه قصيدا مكتملا لا مجرّد قطعة، كان مطلعه:

الكون باكٍ بعد كونه باسما... للارتياح وللسكينة عادما

لسبب لا أذكره، ألغيت الحصّة التي كانت مقرّرة حول هذا الموضوع. ولكنّني كنت شديد الفخر بنصّي ذاك، واندفعت في كتابة الشعر. بسبب إهمالي، ضاع شيء ممّا كتبته في هذه الفترة المبكّرة إذ أنّي كنت أكتب ما يخطر لي على أيّ ورقة منفصلة ولم أعبأ بجمعه. ليس في الأمر خسارة عظمى على أيّ حال، فلم تكن تعدو أن تكون سوى خربشات منظومة لم يكن فيها شعور حقيقي بل مجرّد استعراض لغوي إيقاعي، شعر عمودي "مضروب بالسفود" كما يقول شاعرنا يوسف رزوقة. لو كان ما كتبته حينها بقي، أخالني كنت سأتنصّل منه.

أحسب أنّ أوّل قصيدة لا أزال أفتخر بنسبتها إليّ إلى الآن هي "القدّيسة" التي كتبتها سنة 2001. كُنت في بدايات تعرّفي إلى فيروز، وفي حالة تشبه الوجد الصوفي، كتبت نصّي ذاك الّذي ظلّ على مدى سنوات أحبّ النصوص إلى قلبي، وإن كنت لم أوقّعه باسمي. كنت أمهر كلّ ما كنت أكتبه باسم "أبي معاذ المطوي". لم يكن ذلك لميول سلفية ولا لرغبة في التخفّي. كنت غارقا في نصوص الشعراء القدامى، وأولعت بشكل خاص بشعر حبيب بن أوس، المكنّى بأبي تمّام الطائي، فاخترت لنفسي كنية مماثلة. انتسبتُ إلى بلدة آبائي، وتكنيّت باسم كان يمكن أن يكون اسمي. حين ولدتُ، لم يكن الأمر حُسم في شأن تسميتي. كان اسم "حمزة" مطروحا بقوّة (ولعلّ ذلك من تأثيرات فيلم الرسالة) ولكن كانت هناك اقتراحات أخرى من بينها "معاذ" الذي كان اقتراح عمّي رحمه الله. لحسم المسألة، اقترحت خالتي أن تكتب جميع الاقتراحات على قصاصات وأن يُنظر على أيّها تقع يدي، فكان أن وقعت على اسم حمزة. يا لها من بداية شعرية للحياة: الرجل الذي اختار اسمه!


الثلاثاء، 5 يناير 2021

ما كُنت من الثائرين... مسارات شخصية في عشريّة الثورة (الجزء الأوّل)


عشر سنوات مرّت على انطلاق الثورة... من العاديّ لشخص تزامنت زهرة شبابه مع هذه المدّة أن يعتبر أنّها مرّت بسرعة، كما من المفروض أن تمضي سنين الشباب. الشعور بالزمن نسبيّ للغاية. لكنّها في الحقيقة لم تكن بهذه السرعة. إذا عُدّت هذه الفترة بالأحداث التي احتوتها، فلا شكّ أنّها مرادفة لثلاثين أو أربعين سنة ممّا سبقها. تذكرون تلك السنوات؟ لم يمرّ فيها شيء يُذكر. انقضت كلّها تقريبا بين نفس الألفاظ (من طينة "العناية الموصولة" و"معا من أجل تونس"...) ونفس الوجوه (التي حتّى إن تغيّرت، تبقى نفسها!) ... أذكر أنّه عندما سقطت طائرة في جبل النحلي، خرج المواطنون أفواجا لمواكبة هذا الحدث. طبعا تعلّق الأمر بكارثة، لكن كان في وجوه الجميع فرح طفولي لا يقدرون على إخفائه: شيء ما وقع في هذه البلاد!

يمكن أن يتجادل الجميع (دون أيّ نقاش حقيقيّ): قبل الثورة خير؟ بعد الثورة خير؟ غدوة خير؟ أنتمي إلى تلك الفئة التي تحاول منذ مدّة أن تحافظ على تفاؤلها، ولكنّي أراني أكاد أعجز عن ذلك. الثورة حدث قلب مسار حياتي بشكل كامل، ولعلّ أكبر فضل له عليّ أنّه حرّرني من جانب كبير من الخوف، ولكنّني أجد نفسي بعد عشر سنوات مكبّلا بمخاوف أخرى.

مسار التحرّر من الخوف: 2011-2014

سنة 2011 كانت بالتأكيد سنة غير عاديّة. كانت سنة التغييرات الكبرى، على الصعيد الوطني والشخصي. أوقدت شعلة في داخلي ظلّت شديدة اللهيب إلى حدود 2014.

ما قبل 14 جانفي: بين اليأس والمثالية والواقعية

عندما انطلقت شرارة الثورة في سيدي بوزيد، استقبلتها ببرود كبير... شخص يحرق نفسه احتجاجا على مصادرة عربته... وهل سيسترجعها الآن إذ تفحّم؟ ليس الأوّل ولن يكون الأخير، ولن يكون مآل لهيب الاحتجاجات إلا الخمود، كما حدث قبل ذلك بثلاث سنوات بالحوض المنجمي... لم يكن برودي ناتجا عن قلّة اهتمام بالشأن السياسي، فقد كنت متابعا جيّدا للسياسة منذ صغر سنّي. قبل عام ونيف، كنت قدّمت استقالتي من وزارة الشؤون الخارجية بعد شهرين فقط على التحاقي بها (إثر مناظرة دخلها خمسة آلاف مترشّح اختير منهم ثمانية عشر فقط!)، لأنّني لم أحتمل الجوّ الخانق هناك، لا سّيما في سنة مثل 2009 كان عنوانها التهليل لفوز جديد في الانتخابات وخاصة بعدما كنت تعوّدت في السنة الأولى من الماجستير على مناخ من الحريّة النسبية يمكنك فيه أن تنقد بعض الشيء ما دمت ملتزما بالضوابط الأكاديمية. عدت وقتها إلى إكمال مذكّرة الماجستير، فالتدريس بصفة عرضية في كليّتي.

كان موقفي يأسا من هذا الشعب. قبل أكثر من ربع قرن، بمجرّد كلمة ألقاها "المجاهد الأكبر"، نسي فلذات أكباده الّذين احتوتهم القبور وتغاضى عن دمائه السائلة ليخرج مصفّقا مهللّا لـ"نرجعوا وين ما كنّا"...خان هذا الشعب من ناضلوا من أجله قبل ذلك وبعده كثيرا، فما الّذي تغيّر الآن؟ ألم تصبح الأوضاع أسوأ مع تفشّي عقليّة المحسوبيّة و"الأكتاف" والمناشدة و "الصبّان" و "مشّيلي ونمشّيلك" و "اخطى راسي واضرب" في كلّ الأوساط تقريبا؟ كنت أؤمن أنّ أيّ تغيير ممكن يستوجب عملا فكريّا وثقافيا كبيرا على مدى جيلين أو ثلاثة، وقبل ذلك فكلّ حركة احتجاجيّة لن تجد صدى يذكر وستقع خيانتها كما وقع ذلك مرارا وتكرارا. ولذلك، كنت أرى أنّ أيّ عمل حقيقي يجدر أن يكون مع الأطفال..."فات الفوت" فيما يخصّنا، لكن لعلّ البقيّة الباقية من الأمل يمكن أن تغرس فيهم...وفي الحقيقة، لم يكن موقف اليأس هذا يخصّ رأيي في الحياة العامة، بل أنّه كان من تداعيات اليأس الّذي ضرب أطنابه في كلّ جوانب حياتي ...في بداية جانفي 2011، ذهبت لإجراء مقابلة مع محامية بهدف العمل في مكتبها. بصراحة فجّة، قالت لي: لا أعترف بأيّ من آليات التشغيل التي تعتمدها الدولة، بإمكانك أن أمنحك مرتّبا قدره 300 دينار. لم أعتبر، وأنا الأوّل على دفعتي في الأستاذية والماجستير، ذاك العرض إهانة. قلت لها ببساطة: سأفكّر في الأمر. الأمر عادي، وقد "تعفّن قلبي من العادي" كما تقول الأغنية. كنت سأستسلم حينها إلى أيّ قدر تحملني إليه قدماي، لأنّي لم أكن أرى آفاقا غير هذا "العادي".

ومع ذلك، هُززت صباح العاشر من جانفي. كانت الاضطرابات قد وصلت إلى العاصمة، وكنت لا أزال غارقا في لا مبالاتي. صرخ أحدهم في وجهي "اتّخذ أيّ موقف، حتّى لمساندة السلطة، لكن لا تبقى بهذه السلبيّة!"...أصابتني هذه الكلمات في مقتل، ومع توارد الفيديوهات عن عمليات القنص في الوسط الغربي، لم يكن بإمكاني أن أحافظ على سلبيّتي.

منذ ذلك الحين، بدأت في القيام بشيء من التحريض ضدّ النظام، وخاصة ضدّ خطابي "400 ألف موطن شغل" و "أنا فهمتكم"، ولكن حتّى مع اتخاذي لموقف، شاب حماستي الكثير من التردّد... اقتصرت على الفضاء الافتراضي وبعض المحادثات في دائرة شخصيّة ضيّقة جدّا ولم أخرج يوما إلى الشارع. ذلك أنّه لم تكن لديّ أدنى فكرة عمّا يمكن أن تؤول إليه البلاد. لم أكن أثق لا بمعارضة الداخل ولا بمعارضة الخارج، فلم أكن يوما من المتحمّسين للخطابات السفسطائيّة والرجعيّة والطوباويّة ولا للإيديولوجيات الميّتة الّتي يراد إحياؤها.

طبعا كان يرافق هذا الموقف "المعقلن" الكثير من الخوف ممّا يمكن أن يقع لي لو تورّطت في مثل هذه الأحداث. منذ قرأت "شرق المتوسّط" لعبد الرحمان منيف وأنا في سنّ الخامسة عشرة، صرت أشعر بكثير من الإكبار تجاه من خاضوا عذابات التجربة السجنية، ممزوج بخوف عميق من عيشها. المثالية كانت تدفع إلى التشبّث بالمبدأ حتّى الموت في سبيله والواقعيّة كانت تدفع في اتّجاه طلب السلامة.

لم يكن لي نشاط سياسي حقيقي قبل الثورة. كان لي بعض الأصدقاء المنتمين إلى حزب كرتوني حضرت معهم بعض المناسبات إلى أن سوّلت لي حماقتي الإدلاء بتعليق ساخر حول الطابع الديكوري لذلك الحزب لأمينه العام، فوجدت كلّ الأعين ترمقني شزرا، وردّ عليّ السيّد الأمين العام  (الّذي أصبح اليوم محلّلا سياسيا) بخطابة متوجّسة، فلم أعد بعد ذلك إلى حضور مثل تلك المناسبات. في 2005، شاركت في تظاهرة منظمّة في الكليّة للاحتجاج على زيارة شارون المرتقبة إلى تونس في إطار قمة مجتمع المعلومات، وهي تظاهرة تدخّل الأمن لتفريقها. 

عندما كنت في المعهد، كانت لي تجربة فريدة تركت أثرا عميقا في نفسي. أردتُ ومجموعة من الزملاء تنظيم شيء ما للاحتجاج على غزو العراق. لم نتمكّن إلا من جمع عدد ضئيل من المتحمّسين (لا أظنّهم كانوا يتجاوزون أصابع اليدين)، ومع ذلك سرنا معا حتى وصلنا إلى كليّة العلوم القانونية فوجدنا جمعا كبيرا هلّلوا لمجيئنا، على قلّتنا ويفاعتنا، ومشينا معهم في محيط محطّة 10 ديسمبر يحيط بنا عن كثب جمع من رجال الشرطة الّذين ما لبثوا أن رفعوا هراواتهم وشرعوا في ضرب المحتجّين. كنت في الصفوف الأماميّة، لكنّي اكتشفت في نفسي عدّاء ماهرا، فما أسرع أن ركضت حتّى وجدت نفسي أبتعد عن ساحة المعركة في ظرف دقيقة. كان هناك من الزملاء من لم يكن في سرعتي لكنّ الطلبة قاموا بإدخالهم إلى الكليّة وحمايتهم حتّى خلا الجوّ فعادوا إلى المعهد. لعلّي اتّخذت قراري بالالتحاق بكليّة العلوم القانونية منذ تلك اللحظة. 

المفارقة تكمن في كوني لم أعرالنشاط الطلّابي اهتماما يذكر حين التحقت بالجامعة. كنت شديد الحرص على فرديّتي، راغبا في إعمال النقد في كلّ شيء ولم تقنعني البتّة الإضرابات العديدة التي كان اتّحاد الطلبة يقوم بها، ولا يزال من السخف بالنسبة إليّ حتّى الآن الإضراب دفاعا عن الحقّ في الترسيم الرابع أو الالتحاق الآلي بالماجستير. أظنّ أنّ النشاط الطلابي الوحيد، خارج الإطار الدراسي، الذي حضرته كان ناديا يسمّى "نادي الحكمة" يناقش مختلف القضايا الاجتماعية والسياسية، ولم يلبث أن تعطّل بعد لقائين أو ثلاثة. دعاني أحد أعضائه (صار فيما بعد من كبار الناشطين السلفيين) مرّة إلى المشاركة في تظاهرة بمقرّ الحزب الديمقراطي التقدّمي، لكنّي تهيّبت ذلك. كان مجرّد المواظبة على اقتناء جريدة "الموقف" داعيا لبائع الصحف إلى مساءلتي، فما بالك بالانتقال إلى حضور الأنشطة؟؟ 

رغم إعجابي وقتها بجرأة الديمقراطي التقدّمي وجريدته، كان لي موقف متحفّظ منه لسبب ظلّ يلاحقني بعد ذلك في كلّ المجالات: أنّه لا يملك مشروعا. كتبت مرّة مقالا نقديّا في مدوّنتي تجاه إعلان أحمد نجيب الشابي ترشّحه لانتخابات 2009، وقد تفاعل معه هو شخصيّا ممّا أثار إعجابي، ولكن لم يغيّر موقفي من حزبه، وهو موقف أظنّه الآن موغلا في المثالية، كما كانت عادتي في أغلب ما أكتبه. 

كان اكتشاف عالم التدوين في أواخر سنة 2007 فرصة لي لأتحرّر بعض الشيء فأخوض في الشأن العام باسم مستعار. كنت أحاول أن أنقد ولكن بحذر مدروس، وأحيانا بشيء من التورية التي لا يخفى معناها (كما في نصّ: المقامة الكروية). خصّصت للخوف نفسه مقالا من أربعة أجزاء كان من أطول ما كتبت حينها، وإن أكن اهتممت وقتها بالخصوص بجذوره الدينية. تعرّفت في ذلك الحين على عدد من الأقلام الساخرة والناشطين السياسيين ممّن برز بعضهم بعد 2011. ولكن منذ 2009، أخذ حماسي في الفتور وارتفع منسوب الخوف خاصة لمّا سمعت باعتقال بعض المدوّنين الذين كنت أعرفهم.

لازمني هذا التخبّط في مقاربة الشأن العام حتّى جانفي 2011. ومع خطاب 13 جانفي، هنّأت نفسي على تردّدي تجاه الأحداث التي سبقته... خدعتني جموع المهلّلين والسيارات المستأجرة، وذكّرتني بجانفي 1984. فترت الحماسة (الّتي لم تكن كبيرة بطبيعتها) وظننت أنّنا وصلنا إلى آخر الطريق، وسيتمّ الاقتصار على بعض الإصلاحات البسيطة، الّتي سيتمّ تقديمها في شكل إنجازات، قبل محاولة امتصاص روحها فيما بعد...وعلى كلّ حال، ذلك خير من لا شيء! حتّى تلك الأمسية التلفزيونية التي قدّمها سامي الفهري ليلتها بدت لي مؤشّرا جيّدا للغاية، إذ لأوّل مرّة نشاهد حقوقيين كان يُضيّق عليهم يجاهرون بانتقادهم للنظام على قناة 7 وما أدراك ما قناة 7!

ولذلك لم أخرج يوم 14 جانفي...لم أكن كذلك أثق بالاتّحاد ولم أكن أنتظر الكثير من المظاهرة الّتي ينظّمها. يوم 14 جانفي نمت إلى منتصف النهار.

(يتبع)