الجمعة، 13 مايو 2016

خطب كالسياط

اعتلى الإمام المنبر واشرأبّت إليه الأعناق. هو دكتور في الحضارة الإسلامية، ومن أساطين ما يعرف بالإسلام التونسي الزيتوني المالكي الوسطي المعتدل، وقد نال شهرة واسعة لمّا أشرف منذ سنوات على إدارة إذاعة قرآنية (زيتونية مالكية وسطية معتدلة كذلك). كرّر في مفتتح كلامه ما تعوّده كلّ أسبوع: "إنّ شرّ الأمور محدثاتها، وكلّ محدثة بدعة، وكلّ بدعة ضلالة، وكلّ ضلالة في النار".
شرع في خطبته، وكانت عن الرياء. ولم يلبث أن قطعها بعد دقائق، صارخا إذ لاحظ أنّ أحد المصلّين قد انتابه النعاس. لا حول ولا قوّة إلّا بالله ! كيف ينام المرء عن ذكر ربّه، ووسط خطبة الجمعة؟ لو كان فيه خير لاستعدّ منذ الخميس، ولما جاء وهو يميد نعاسا. ثمّ دعاه إلى أن يعيد وضوءه الذي انتقض. ولو كان للمصلّي المسكين أن يجيب لقال: ما أصابني النعاس إلّا من كلامك يا شيخ، أمّا النوم جالسا، فلو كنت من المتفقهين، لعلمت أنّه لا ينقض وضوءا. 
وواصل الشيخ تحسّره، فقال أنّه يجب (وليس يسنّ أو يستحبّ، بل يجب وجوبا) على كلّ مسلم أن يغتسل يوم الجمعة. ثمّ أبدى امتعاضه من قصر الوقت المخصّص للصلاة في سائر الوظائف، وقال أنّه من المفروض أن تسمح لموظّفيها بالخروج منذ الساعة الحادية عشرة ليتفرّغوا لذكر الله.
لا أذكر كثيرا من خطبة الشيخ مما ذكره عن موضوعها (الرياء). ولكن ما أذكره أنّها كانت جلدا حقيقيا للذات (الجماعية المسلمة) وتتفيها لها وتذكيرا متواصلا أنّها لا تساوي قلامة ظفر أمام السلف الصالح العظيم 'الذي تربّى على القرآن". وكان يختم كلّ سلسلة من الجلدات باستفهام: "ونحن؟" ثمّ يصمت لهنيهة، قبل أن يضيف في أسى: الله أعلم بنا. وأذكر كذلك أنّه، لسبب أجهله، أشار إلى من يدعون إلى المساواة في الميراث واصفا إيّاهم بـ"الكلاب التي تنهش أعراض الأمة". أذكر كذلك أنّ الدكتور الخطيب لم  يمتنع أن يستشهد بأحاديث لم ترد في الصحاح، ولعلّها أقرب أن تكون من وضع القُصّاص.
وجدتُني في النهاية لا أذكر شيئا من موضوع الخطبة، وإنّما أذكر ما تركته من أثر سلبي بنفسي. فكّرت أن أغيّر الجامع، حتّى إن تجشمت عناء التنقّل إلى مكان بعيد، لكنّ المشكل أنّ كلّهم، تقريبا، سواء، حتّى إن كان بعضهم يُمدح باعتداله ووسطيته والآخر ينقد لتطرّفه وتشدّده. الفرق هو أنّ البعض أكثر صراحة وأشدّ مباشرة في التعبير عن ضيق أفقه من البعض الآخر. وجميعهم يُمنح منبرا يعظ فيه المئات، فيجلدهم ويخدّرهم ويحرّضهم وينفّرهم، دون أن يقدر أحد أن يردّ عليه كلمة. هو نفس الخطاب القائم على الترهيب والتخويف والعاجز تماما على أن يحفّز المؤمنين لينهضوا، أفرادا وأمّة. ولله علم غيب فيما نحن إليه صائرون...