السبت، 13 فبراير 2021

قصتي ‏مع ‏الشعر ‏(الجزء ‏الخامس)



أكتب الشعر منذ أكثر من عشرين سنة، ولا أزال أطرح على نفسي السؤال: هل أنا شاعر؟
لا أعلم الجواب. ما أنا موقن منه أنّ في داخلي شاعرا. هو يتخبّط بين جنبات نفسي، ويصارع ليكشف وجهه أمام الجميع، لكنّه يلاقي من أمري عسرا. أقمعه بشدّة وأحشره في زاوية مظلمة، فلا يعرف طريقه إلى النور إلا في لحظات قليلة: حين يلفّني السواد وتحاصرني الغيوم، وحين أنفعل بشكل حاد... من تلك اللحظات، أذكر أنني تعرّضت منذ أربع سنوات أو يزيد إلى ما اعتبرتُه طعنة في الظهر، وفي فورة الغضب، تدفّقت الكلمات تجري كالنهر الهادر. كان نصا من بضعة عشر بيتا على الرمل كتبتها في دقائق، حمما أقذفها لتجرف ذلك السدّ في رأسي... لم أنشر النصّ في "ماليخوليا"، إذ اعتبرته شخصيّا ومباشرا، ولكن ما أظنني، ودع عنك آراء النقّاد، كنتُ قطّ أشعر منّي في تلك اللحظة...
فيما عدا تلك الفلتات، من الصعب عليّ أن أكون نفسي، وما الشاعر إن لم يكن نفسه؟ رسمت الحياة الاجتماعية لي صورة ربّما أعجبتني في وقت ما فتشبّثت بها، وأخمدت جزءا كبيرا منّي. لذلك تشكّل في رأسي ما سميته السدّ، وهو أكبر من أن يكون فكرة. هو شعور حسّي، صداع يقسم جمجمتي كلّما دعا الأمر أن أفاضل بين ما أريده حقّا، وبين ما هو "مقبول".. وما أكثر ما يدعو الأمر!!
ربّما تكون صورة الشاعر كما تشكّلت في المخيال العام، وكما خبرتها بنفسي، هي من بين ما يجعلني أتردّد في تبنّيها... قسم كبير من الشعراء الذين عرفتهم هم من الصعاليك، لا بالمعنى النبيل للكلمة، بل بمعنى النذالة والانتهازية والحسد والحذلقة، وفي بعض الأحيان ينضاف إليها ثقل دم فوق الطاقة البشرية وكمّ هائل من العقد النفسية الظاهرة والباطنة... هناك قلّة ممّن سلموا من ذلك، وهم الشعراء حقّا وإن لم يكونوا أشعر القوم، وهم وحدهم من يتركون للأمل سبيلا...
حتّى نشر مجموعتين شعريتين لم يجعلني أتماهى مع صورة الشاعر، بل بالعكس، صرت أكثر ارتيابا منها. قطاع النشر في بلادنا تعيس بدرجة لا توصف. في أغلب الحالات، الناشر هو "مطبعاجي" أو وسيط مع المطبعة همّه الوحيد أن يبتزّ من شغفك دراهم يموّل بها عددا محدودا من النسخ يبيع جانبا منها لوزارة الثقافة، ويمدّ ساقيه. لا توزيع ولا تسويق وطبعا من العبث أن تبحث عن تعويض عن حقوق الملكية الأدبية والفكريّة، فالناشر يضحي "صاحب مزيّة" إذ قبل أن يطبع لك. والأدهى والأمرّ أنّه لا وجود لمعايير دنيا يمكن أن تضمن جودة ما سينشر. لا لجان قراءة ولاتدقيق لغوي ولا هم يحزنون، وأحيانا، الناشر نفسه لا يقرأ ما أرسلته. ما دمت تدفع، فلا مشكل. ذهب ذلك الزمان الذي كان فيه إصدار الكتاب حدثا واعترافا. الآن يمكن لصاحب موهبة من الدرجة العاشرة، وحتى لعديم الموهبة، أن ينشر دون مشاكل.
حين جهّزت مخطوطة "ذهب الزمان الضائع"، كنت متعجلا لرؤية عملي الأوّل فعميت عن رؤية عيوبه: إخراج فنّي ضعيف جدّا وصورة غلاف من تصميمي أنا (ولا موهبة تذكر لي في المجال) وعدد من الأخطاء التي تسرّبت إلى النصوص نفسها. مع "ماليخوليا"، تأنّيت أكثر. قضيت أكثر من ثلاث سنوات وأنا أبحث عن ناشر. راسلت عددا من دور النشر العربية والتونسية. من أجابوني مرحّبين، اشترطوا مبالغ خيالية وحجّتهم أنّ الشعر لا يُقرأ، والكثير منهم لم يجبني إطلاقا. هناك دور نشر كنت أظنّها محترمة، تنقّلت إليها بنفسي لأسلّمهم المخطوطة. مرّت الأشهر وأنا أحاول المتابعة، ولا جواب. في النهاية، كنت أريد القطع مع مرحلة الماليخوليا واقتحام آفاق أخرى، فرضخت للواقع وتعاقدت مع ناشر-طابع وحرصت أكثر ما يمكن على جودة النسخة إخراجا ورقنا، بما أنّني كنت موقنا أنها ستُطبع كما هي دون أيّ تدقيق.
كان لـ"ماليخوليا" صدى أوسع من سابقتها. لا يعود ذلك بالضرورة إلى جودة النصوص أو تطوّر تجربتي الشعرية. تلك أمور ثانوية! لم أقرأ مقالا نقديا واحدا فيها، وكم كان ليسرّني حتى لو وجدت سياط نقد جاد انصبّ عليها، فذلك كان سيدلّ على الأقل أنّ هناك من اهتمّ وقرأ! كان هذا الصدى يرجع إلى أنني أصبحت، بفضل نشاطي في تونس الفتاة، معروفا أكثر في الساحة الثقافية. على أنني كنت جذلا لأنّ هذا الانتشار النسبي مكّنني من الانفتاح أكثر على أصدقاء رائعين من مختلف الجهات، فشاركت بدعوة منهم في عدد من الأمسيات الرائقة بنفزة وجندوبة والمطويّة والعاصمة...

ليست هناك تعليقات: