الاثنين، 25 أغسطس 2008

ليلة سقوط السماء

لم أكن أنوي الذهاب...لكنّ نفسا مرّة كالعلقم، حادّة كشوك القتاد، معذّبة كبروموثيوس أمسكت بخناقي و صرخت و السياط تجلدها: لو فررت من قدرك إلى آخر الكون فسيظلّ يتبعك...أذعنت و عجت على الطلل القديم أسائله... جلت بين أرجائه مستذكرا: هنا غرست الورد و ارتقبت تفتّحه و لكنّه ذبل و مات مع قدوم الربيع...في تلك الزاوية عرّجت إلى السماء و شربت حتّى الثمالة من خمر الجنّة...هناك أطلق الرّصاص على الجواد المصاب و اغتيل منديل أو انتحرت يد...على ذلك الكرسيّ أوحي إليّ أن اقطع شرايينك و ليكن دمك مداد قصائدك...فجأة ظهر بلباسه الأبيض الفضفاض كأنّه شبح... نفس الابتسامة الهادئة على شفتيه و نفس الدّماء منذ أربع قرون على يديه...غير أنّي لم ألمح السماء...ربّما كان الغبار الكثيف يحجبها عنّي...رفعت مسدّسي بيد مرتعشة...ابتسم ساخرا و اقترب أكثر...صرخت فيه أن يقف مكانه لكنّه دنا حتّى كاد يلامسني...أغمضت عينيّ و ضغطت على الزناد...لمّا فتحتهما كان الظلام يعمّ المكان...خلت للحظة أنّي فقدت قدرتي على الإبصار...بعد ثانية، أحسست بالدّماء تنزف بغزارة من صدري...لم أر جثّته و لكن في ركن بعيد كان هناك قلب دام تُدقّ طبوله الأخيرة...أقبلت ثلاث فتيات في لباس الحداد...حملنه معا...غسّلنه بماء دموعي و كفنّه بمسودّة قصيدتي الأولى ثمّ دفنّه في أعماق سحيقة لا يصل إليها نور...أظلمت ثانية...ثمّ وجدت نفسي تحلّق من جديد غير أن لا سماء...لقد سقطت السماء...

الجمعة، 22 أغسطس 2008

ثقافة الخوف (4)

المشكل ليس في الدّين نفسه، بل في القراءة الّتي نحملها عنه، فدلالة نفس النصوص تختلف اختلافا بيّنا بحسب الطريقة الّتي نقرأها بها، إذ أنّ المعنى الّذي يستخلصه المعتزلي من القرآن الكريم ليس هو نفس المعنى الّذي يفهمه الأشعري أو الصوفي من نفس النص، و ليس إسلام الغزالي مثل إسلام إبن رشد و ما إيمان إبن تيميّة كإيمان الفارابي و لا الدّين عند حسن البنّا هو الدّين كما فهمه الطاهر الحدّاد أو الحبيب بورقيبة... المشكل أنّ القراءة الطاغية اليوم هي قراءة الخوف و هي قراءة تنفي كلّ القراءات و ترميها بالخروج عن الدّين و تقدّم نفسها على أنّها القراءة الصحيحة الوحيدة يضلّ من خرج عنها ضلالا بعيدا، قراءة تمنع التفكير خارج دائرتها و ترفض كلّ فكر مخالف لها ولا تقبل بالآخر و لا تتسامح مع فكره إلا في أضيق الحدود (كالقبول بالـكشطة بديلا عن "العرّاقيّة"، الشاشية فيها خلاف )، قراءة زعمت الالتصاق بالنصّ حتّى "أزهقت" روحه و أهملت حكمته و عزلته عن سياقه و جمّدته في مكانه، قراءة قلّصت الدّين إلى نظام شمولي قمعي يراقب الفرد في أدقّ حركاته و سكناته و يمسك بخناقه و يحاصره بدائرة "الحرام" حتّى لا يكاد يترك له متنفسّا، قراءة تكرّر نفسها منذ قرون و تعجز عن إنتاج الجديد و مع ذلك تزعم لأتباعها أنّها الحقّ الّذي لا محيد عنه و تغرقهم في طمأنينة التأسّي بالسلف الصالح، طمأنينة الأفيون... في حين أنّ الدّين أرحب بكثير من أن يقف عند حدود هذه النظرة الضيّقة..." صحيح أنّ الدّين استعمل في بعض الأحيان لتخدير الشعوب لكن الدّين في جوهره استجابة لحاجة إنسانيّة، و هو يجيب عن تساؤلات عميقة عند الإنسان، حول مصيره و حول علاقة الدنيا بالآخرة و عن عديد الأسئلة الأخرى الّتي تصنع المعنى. و بما أنّ الدّين يستجيب لحاجة إنسانيّة فإنّه يمكن توظيفه لصالح الشعوب و قد أثبتت ذلك العديد من التجارب التاريخيّة الّتي قام فيها الدّين بدور محدّد في تحرّر الشعوب" (القولة لبورقيبة، أوردها لطفي حجّي في كتابه "بورقيبة و الإسلام")، و لا يمكن أن يكون الدّين تحرّرا أن اختزلناه في قراءة واحدة تزعم امتلاك الحقيقة و تمجّد الخوف و ترهب التقدّم في حين أنّ تاريخنا يزخر بقراءات متنوّعة "ثوريّة" (ستكون موضوعا لتدوينات قادمة إن شاء الله) همّشت و اضطهدت و قمعت في ظلّ هيمنة ثقافة الخوف، هيمنة لا تجب أن تدعنا ننساق إلى التبسيط الاستسهالي و المماهاة بين الدّين و ثقافة تزعم أنّها الدّين...
ليست هناك حلول جاهزة لكسر هيمنة ثقافة الخوف و لكن أعتقد أنّ ذلك لا يكون إلا بتعريتها و كشف مساوئها و فضح تهافتها و هو ما يمكن للفنّ أن يقوم في إطاره بدور هام...الفنّ ثورة دائمة على ما هو بال و التزام أزلي بمعانقة المثالي و إدانة متجدّدة للقمع و التخويف و التخدير( مسرحيّة خمسون مثال جيّد على هذا الدّور، رأيت المشاهدين يخرجون منها باسمين جذلين (بعضهم كان يقهقه كأنّه كاد يشاهد عملا بلغ الغاية في الإضحاك) و ما ذاك إلا لأنّهم نفّسوا عن أعباء ثقيلة جاثمة فوق صدورهم كابتة إيّاهم و ذلك عبر مشاهدة عمل يدين، أخيرا، خمسين سنة من الخوف)... و كنموذج لدور الفنّ، اخترت في نهاية هذا المقال أن أورد هذا النص الّذي لعلّه يلخّص التربية القائمة على الخوف . النصّ للأديب الراحل إحسان عبد القدّوس و مقتطف من آخر مجموعاته القصصيّة "لمن أترك كلّ هذا؟ "...الحوار التالي دار بين الأب رحمي الّذي صفع ابنته بعد أن ضبطها متلبّسة بـ"الشخبطة" (على الورق و ليس على الحيطان) و بين المربيّة سميرة:
"-لا يهم..إنك تجالسينها و تعملين عندي منذ قريب.. و أمامي فرصة لأختبرك.. و على كل حال إنّ ضرب البنات هو أحسن الوسائل لتربيتهن..إني أربّي ابنتي على الخوف..يجب أن تخاف منّي حتّى تخاف من أن ترتكب أيّ خطأ..و حتّى تخاف أن تخرج عن طوعي عندما تكبر..
و قالت سميرة :
-هذه أسوأ طريقة لتربية البنات..البنت الخائفة هي البنت المعذّبة..و البنت المعذّبة هي الّتي تلقي بنفسها في أوّل مصيبة تصادفها..
و قال رحمي و هو يلوي شفتيه احتقارا لما يسمعه و ربّما احتقارا لسميرة نفسها :
-لقد عاشت أمّها معي وهي خائفة دائما..كلّها خوف..و كانت من أنظف و أشرف و أعقل الزّوجات..
و قالت سميرة برنّة ساخرة :
-و لهذا ماتت..رحمها اللّه..
و تجهّم وجه رحمي أكثر و قال بلهجة حادّة:
-إنها خالفتني و تحرّرت من الخوف منّي بأن ماتت..لم أكن قد سمحت لها بالموت .. و أحطتها بكلّ ما يضمن لي أنّها لن تموت..و رغم ذلك ماتت..وأبشع ما فعلته أن تموت و تركت لي ابنتنا فوزيّة لأحمل همّها وحدي، و دون أن تقدّر أنّي لا أستطيع أن أكون أمّا و إن كنت اعتبر خير أب..
و قالت سميرة و هي تنظر إلى رحمي في تعجّب و دهشة:
-ربّما ماتت من الخوف.."

الأحد، 10 أغسطس 2008

ثقافة الخوف (3)

نتاج هذه الثقافة إنسان خائف و الإنسان الخائف هو إنسان سلبي لا يفكّر و لا يفعل إلا إذا أذن له بذلك، وقلّما يؤذن له... يفكّرون بالنيابة عنه و يفعلون بالنيابة عنه و ليس أمامه إلا إحناء الرأس و الخضوع و إلا عدّ عاصيا فاسقا مارقا. الإنسان الخائف تحاصره المحظورات الكثيرة فتكبته و تسكته و تلجمه و تغتاله و تجعله يدمّر نفسه و يدمّر غيره و لا يجد طريقا للاحتجاج إلا في اللاشعور (من المثير للفضول أن يكون سبّ الدّين من الأمور الشائعة في حالات الغضب، أمّا مستويات السلطة الأخرى، فحدّث و لا حرج). الإنسان الخائف لا يستطيع أن يختار حياته لأنّها محدّدة سلفا بأطر ضيّقة يعدّ الخروج عنها انتحارا اجتماعيّا. الإنسان الخائف إنسان خائر العزم، لا يؤمن بنفسه لأنّه يعتقد أنّ مواهبه ستذهب سدى في ظلّ مجتمع لا يقدّرها بل و يرتاب منها بما أنّ ثقافة الخوف كفيلة بقتل أيّ شكل من أشكال الابتكار و الإبداع، أو على الأقلّ حصرها في أضيق نطاق ممكن(ككتابة قصص عن عذاب القبر)، لأنّ الإبداع لا يكون إبداعا إلا إذا كانت فيه جرأة، و الجرأة تثير في نفس من تربّى على الخوف أسئلة من قبيل : هل ما سأقوم به حرام؟ هل سيعاقبني الله إن قمت بذلك؟ و سيجيب نفسه في أغلب الحالات بما يمليه خوفه ، فحتّى إن كان العمل "مستساغا" فإنّ القواعد "الشرعيّة" من جنس "عدم الإلقاء بالنفس في المهالك" و "اتّقاء الشبهات" و الأمثال السائدة من نوع "اخطى راسي و اضرب" و "اللي خاف نجا" ستقوم بعملها. و إن تجرّأ و أبدع فإنّه سيخاطر أن يتعرّض للنبذ من مجتمع مستعدّ لأن يأخذ بأقوال أيّ من الّذين نصّبوا أنفسهم بوّابين للجنّة يدخلون إليها من يشاؤون و يخرجون منها من يريدون و الجاهزين على الدوام لإصدار فتاوى التكفير و الاتهامات بنشر الفسق و الفجور و البحث عن الشهرة الرخيصة و انتهاك المقدّسات و مخالفة النصّ الصريح و "إجماع العلماء" في حقّ أيّ مخلوق يمكن أن تصل به نفسه الأمّارة بالسوء إلى ارتكاب جريمة الإبداع و العياذ بالله !


و من المشروع التساؤل: لماذا يسود ثقافتنا كلّ هذا الخوف؟ لماذا يفرض علينا أن نخاف؟

لعلّ هذا السؤال يجد جوابه في هذه العبارة للأستاذ علي المزغنّي: " الخوف شعور من لا قدرة له على مواجهة الآخر"... التقينا بالآخر و علمنا أنّه "سبقنا إلى الحضارة بأحقاب" كما يقول ابن أبي الضياف فلم نقدر على مجاراته فآثرنا الانكفاء على أنفسنا و الاكتفاء بما نعرفه و لا نكاد نعرف غيره و هو ديننا. انكببنا عليه و ضخّمنا قشوره و فضلات قشوره و اعتبرناها الدّين نفسه، من تمسّك بها سلم و من حاد عنها ضل... غرقنا في تفاصيل تافهة عن الدّين و تشبّثنا بها و جعلنا منها قضايا مصيريّة (كالحجاب مثلا) و اتّهمنا من ناقشها بالتآمر مع الآخر لطمس معالم هويّتنا. نرفع رؤوسنا أحيانا فنجد أنّهم ابتعدوا عنّا شوطا آخر فلا نفكّر في اللحاق بهم بل ننكبّ أكثر على كتب السلف الصالح و نترحّم على زمنهم الّذي كنّا فيه سادة العالم (بل و نعيش في ذلك الزمن) و نظلّ نجترّ آراءهم و نكرّرها و لا نحيد عنها حتّى و إن كانت خرقا أبلاها الزمن ونظنّ بعد ذلك أنّنا تشبّثنا بهويّتنا و بلغنا طمأنينة المتمسّك بدينه..."هكذا نحن، فضّلنا الطمأنينة على مواجهة الأزمة، و لكنّها طمأنينة أفيون و ارتياح مؤسّس على تغييب للحاضر و إحضار للغائب"ّ(سليم اللغماني، المرجع السابق)...الخوف في الثقافة السائدة عندنا هو القيد الّذي يحول دون الانفلات من عقال "هويّتنا الدينيّة"، نربّى عليه حتّى لا نجرؤ على التفكير في التحرّر منها و نحن نراه أمامنا سيفا مشهرا في وجوهنا، و هو سلاح من فقد قدرته على الإقناع و لم يجد له ملاذا إلا الإرهاب و التخويف.

(يتبع: الجزء الرابع و الأخير)