الأحد، 9 فبراير 2020

مجلة ماجد... كيف كبرت قبل الأوان؟

أدين لمجلة ماجد بجزء كبير من تكويني الثقافي طوال سنين الطفولة والمراهقة. بدأت في قراءتها منذ أوائل التسعينات، وأظن أن ما كانت تقدٌمه كان لا يضاهى، رغم وجود عدد من مجلات الأطفال التونسية والعربية المتنافسة على الساحة: في الجانب التونسي كانت هناك "عرفان" و"قوس قزح" وكان مستواهما يسير نحو الانحدار. حدث أن اقتنيت من معرض الكتاب مجلدات لعرفان من فترة السبعينات ووجدت أن مستوى المجلة كان أرفع بكثير. كانت هناك أيضا "علاء الدين" التي كانت تبدو لي جافة إلى حد ما. في وقت ما ظهرت مجلة "الشيماء" التي حاولت تقديم مضمون جدي بشكل جذاب، غير أنها كانت باهظة الثمن نسبيا، ولم تستمر طويلا. أما المجلات العربية، فكانت تصلنا منها "باسم" السعودية التي  كانت تعتمد على الإبهار أكثر من العمق، و"العربي الصغير" الكويتية، ولا أذكر عنها الكثير، و"سامر" اللبنانية التي على ثراء محتواها كان وصولها إلينا متقطعا.
كانت مجلة ماجد الوحيدة التي واظبت على قراءتها لسنوات طويلة دون انقطاع، ولا أزال أحافظ على مئات من نسخها القديمة التي كانت رفيقة لياليّ. لم يكن أحبّ إليّ متى وجدت شيئا من الفراغ من نفض الغبار عن نسخة قديمة واستعادة ما بها.
في البداية، كطفل في بدايات التعلّم، كانت تجذبني الصور المتسلسلة، فكنت أتمتع بمطالعة حكايات "كسلان جدا" وأبي الظرفاء وأحاول فهم ما تسرده زكية الذكية وتثيرني مغامرات النقيب خلفان والمساعد فهمان قبل أن  تنضمّ إليهما الملازم مريم. أذكر منها حكاية كانت تملؤني ضحكا عن شاعر شهد حادثا فنظم حوله قصيدة:
بيوت قائمة 
والفجر يعزف أنغامه
لماذا تتلونين أيتها الفتاة بالأحمر؟
سنذهب بالسيارة إلى سنغافورة
توقفوا فالسيارة تطير
والفتاة وردة مكسورة
عنق بجعة. أسنان مشط. طبل. عصاتان.
وبقي فهمان يحاول فكّ رموز هذه القصيدة ليكتشف من ارتكب الحادث. من العجيب أن أتجه إلى كتابة الشعر فيما بعد رغم هذا الموروث الناضح سخرية.
لما كبرت، صار لي صبر على مطالعة النصوص الطويلة نسبيا. أزعم أن المجلة كانت تقدّم محتوى متكاملا يفوق مستوى الثقافة الذي يمكن أن نتوقعه من طفل أو مراهق. كانت العلوم الطبيعية والتجريبية تقدّم بشكل مبسّط في "من كل بستان زهرة". أما "أحباب الله" فكان يقدّم محتوى دينيا تاريخيا. وكانت دائرة المعارف، التي ولعت بجمع قصاصاتها، تقدّم محتوى متنوعا في الجغرافيا والتاريخ والعلوم والفنون وحتى في الطبخ. أما جميع النكت التي كنت أحفظها آنذاك، فلم تكن تعدو ما ينشر في "ضحك ولعب وجد". أذكر أنه كان هنالك كذلك ركن رياضي أخاله كان غير قار، تعلمت من خلاله الكثير بالخصوص عن تاريخ كرة القدم، فأغرمت من خلاله بمنتخب المجر الذهبي الذي لعب نهائي 1954، وبقي ذلك الولع، حتى أنني كتبت حوله مقالا بعد سنوات طويلة. أما أكثر ما كان يعبّر عن جانب الالتزام في الطرح الذي تقدّمه مجلة ماجد فهو اعتناؤها البالغ بالقضية الفلسطينية. كان ذلك بالخصوص من خلال ركن "عيون تراقب العدو" الذي يقدًم نظرة عن تاريخ الصراع العربي الصهيوني ولمحات عمّا تكتبه الصحف الاسرائيلية. تصوّروا طفلا في العاشرة يعرف ما تكتبه "يدعوت أحرونوت" و"معاريف" و"عال همشمار" ويدرك النزاعات بين الأشكيناز والسفارديم! أذكر جيدا قصة العميل 512 وهي قصة عملية استخبارية على طراز رأفت الهجان داخل الأراضي المحتلة وداخل مفاعل ديمونا تحديدا. الانتماء إلعربي كان كذلك مما وعيته من مجلة ماجد، التي كانت تكرّر دائما شعار "من المحيط إلى الخليج". في حلقة لزكية الذكية حول العملة الأروبية الموحدة، حلم أخوها بدينار عربي موحًد. يا له من حلم لا يزداد إلا بعدا!
لا أكاد أحصي عدّا لآثار مجلة ماجد عليّ. أحسب أن جميع محاولاتي الأدبية الأولى كانت تقليدا لما كان يرد في ماجد. كنت أكتب وأرسم مجلة أغلب أركانها مستقاة مما في ماجد، فيصبح النقيب خلفان مثلا الجنرال حمزة. تعلّقي باللغة العربية بدأ كذلك مع ماجد. غير أني أخال أن أكبر أثر لها عليّ كان في تلك النظرة المثالية المترفعة تجاه الحياة بأسرها، وأخال أن ظلال هذه النظرة لا تزال ماثلة فيّ إلى الآن.
لم تخل مجلّة ماجد من بعض الشوائب. في جانب  منها، كانت من أجنحة الدعاية لدولة الإمارات ونظامها الحاكم. كانت أكثر الأعداد التي تضجرني تلك التي تعنى بعيد الجلوس وما شابهه إذ كان الجانب الاحتفالي يحتل حينها قسما كبيرا من المجلة، حتى صار ذكر الشيخ زايد، رحمه الله وغفر له، يكلفني من أمري رهقا. كما لم يخل باب "أحباب الله" من نظرة ماضوية، أقرب للسلفية. مما أذكره منه النظرة التمجيدية للغاية للإمام أحمد بن حنبل على حساب المعتزلة الذي لم يكن فكرهم يقدّم إلا بكونه معتقدا خاطئا. كانت هذه النظرة التمجيدية تشمل كل الصحابة والتابعين وحتى المتأخرين إذ نجد مثلا إكبارا  للمستعصم، الخليفة الذي أضاع ضعفه بغداد والخلافة، لعطفه على الفقراء والمساكين! كان خليل الحداد، محرّر هذا الباب، يشرف كذلك على باب "أنا عندي مشكلة" الذي كان يبثّ من خلاله أفكارا من قبيل أن المسلم الحقيقي لا يصاب بأزمات نفسية!
لم يمنعني ذلك من مواصلة الإقبال على مجلة ماجد إلى مرحلة متأخرة، لا سيما أن سعرها بقي طوال سنوات في حدود ستمائة مليم. حتى لما كبرت، بقيت أتعلل بأختي الصغرى لأواصل اقتناءها. ولم أكفّ عن قراءتها إلا وأنا في الجامعة. حدث بعد سنوات أن اقتنيت منها نسخة فوجدتها تتّجه نحو الإبهار في الصورة والتخفيف من المحتوى، فأضربت عنها، ولا أدري إلام آلت الآن.

ليست هناك تعليقات: