الثلاثاء، 5 نوفمبر 2019

خطبة حبيب في قومه


خطب حبيب في قومه، فقال: يا بني المختار، كيف علمتموني بينكم؟ قالوا: خيرا، أسمحنا وأتقانا. قال: أما والله إنّ ما مدحتموني به لهو أشدّ الأشياء عليّ، وما هذه السوداء التي تأبى أن تفارقني إلاّ من مداراتكم. لو علمتم ما بي، لأنكرتموني ولما نزلت فيكم هذا المنزل. لو أنّني أرسلت نفسي على سجيّتها لكان لي فيكم المحبّ والمبغض، ولما كان لصدري ليضيق هذا الضيق أو لهذا السدّ أن يُرفع بيني وبيني. قد رضت نفسي على ما تبغون ثلاثين عاما، فكنت فيكم شيخا قبل شبابي حتّى إذا أردت أن أحلّ عقالي وأغتسل بنور الشمس قلتم: أ بعد أن سوّدناه وبلغ فينا ما بلغ يريد أن ينزع إلى الصبا؟ هيهات هيهات، إن كنت غفلت عن نفسي دهرا، فلن أضيعها بعد اليوم ساعة. أنا من أنا، أحبّ وأكره، أشتهي وأنفر، أغضب وأرضى، أضحك وأبكي، ولم تروا منّي إلاّ ما اتشّح بالغمام ولبس الرماد. أما إنّكم سترون منّي ألوانا، ولو أنّكم جميعا سلكتم فجّا ورأيت سبيلي في غيره، لسلكت غير ما تسلكون. ونزل فاعتزل في بيته أيّاما.

الأربعاء، 21 أغسطس 2019

جرعات من العقل


-1-
لست مجنونا بما يكفي
ليجري الشعر منّي مثل سَيلٍ
ليس لي في الدمع حظّ
عندما يهرع نحوي ما يسمّونه خطبا
-خطبنا الأكبر في أنّا هنا نحيا-
فلا يعلو أنينٌ للقوافي
ربّما تفتح عينا في الكرى
لكنها عند جبال الثلج تبني حصنها
تنفي وتنفي بعناد
في انتظارٍ صُبْحُهُ أبلج
أن يصبح للأشياء معنى
-2-
ليس لي عقل بما يكفي
لكي أنفِيَ منه كلّ ما ينفيه
يلقي شمسه في خطواتي
بوضوح ألمح السهل قريبا
غير أنّي أشتهي التيه قليلا
ليلِيَ الساري رفيق تالد الصحبة
نمشي مسرعي الخطو
لَئِلّا يلحق الضوء بذكرانا
نواري في ظلال الغاب
ما نجمعه في العتم لحنا
-3-
نصف عقل معه ربع جنون
وفراغ شاطح بينهما
يَجهَلُ "كُلَّ المَيْلِ"... لا يعرف إلا بعضه
أملؤه بالوقت حينا
بخوف أزرق النابين طورا
بحُلْمٍ دونه سدّ
بصبر صُبغت ناصيته
(كاذبة؟ لم تتعمّد كذبا
خاطئة؟ قد عُمّدت في خطأ)
بين محطّات مضت دون قطار
لم تعد تعرف سنّا...


الأربعاء، 19 يونيو 2019

"باب العلوج"... التاريخي في انتظار الروائي

لا أنكر ضعفي تجاه الروايات التاريخية. في صغري، نشأت على روايات جرجي زيدان التي غذّت، على ضعف بنيتها السردية، ولعي بالغوص في أعماق التاريخ. إذ كان زيدان يعتبر أنّ عموم القرّاء لايهتمّون بالتاريخ إذا لم يقدّم إليهم في قالب روائي شائق، ولعلّه لا يجانب الصواب في ذلك. ولئن تعرّض زيدان إلى جانب من تاريخ البلاد التونسية، وتحديدا الحقبة الفاطمية، في روايته "فتاة القيروان"، فإنّ اهتمام الروائيين بالتاريخ التونسي ظلّ عموما محدودا. فرغم أنّ بواكير الرواية التونسية كانت مع عمل تاريخي وهو "الهيفاء وسراج الليل" لصالح سويسي في بداية القرن العشرين، فإنّ الرواية التاريخية ظلّت شبه غائبة في النثر الأدبي التونسي، وظلّت رواية "برق الليل" للبشير خريّف ما يشبه بيضة الديك، واستمرّ الظمأ إلى مطالعة تاريخنا، المليء حدّ الثقل بالمشاريع السردية، في قالب روائي...
على  أنّ غزارة أعمال الروائي حسنين بن عمّو توحي بمشروع جاد لإرواء هذا الظمأ. عالج كاتبنا فترات مختلفة من تاريخ تونس في أعماله: أواخر العهد الحفصي والاحتلال الإسباني مع "رحمانة" و"باب الفلة"، عهد البايات "مع الخلخال"، ثورة علي بن غذاهم مع "عام الفزوع"... أمّا "باب العلوج"، باكورة أعماله الروائية المنشورة (صدرت طبعتها الأولى سنة 1988 وقرأتها في طبعتها الصادرة عن "نقوش عربية" سنة 2019)، فقد تعرّض إلى النصف الأوّل من القرن الخامس عشر، وهو ما يوافق أواخر العهد الذهبي للدولة الحفصية، أي الأعوام الاخيرة من حكم أبي فارس عبد العزيز وحكم حفيده المنتصر وبداية حكم أبي عمرو عثمان...
تأخذنا الرواية في رحلة أنطونيو، عاشق ماريا، في مدينة البندقية ومحاولته للتقرّب منها. يقعان معا في أسر قراصنة وتأخذهما الرحلة إلى مدينة تونس حيث تدخل ماريا قصر القصبة ويعمل أنطونيو في التجارة محاولا اقتناص الفرص للوصول إلى حبيبته...
لا نجد الكثير من الأحداث التاريخية (أو السياسية التاريخية على نحو أدق) في أكثر من نصف الرواية. إذ يقتصر وجود التاريخ على ضبط الإطار العام مكانا وزمانا. ولعلّ إضافة الرواية البارزة تكمن في التفاصيل الهامة التي تقدّمها عن مدينة تونس في العهد الحفصي، وخاصة منها عن المعالم الدارسة كالأبواب التي اختفت والأسواق التي تغيرت وجنان أبي فهر ورأس الطابية وقصر باردو. لا نجد في المقابل الكثير من التفاصيل حول التاريخ الاجتماعي لتلك الفترة، ماعدا بعض الإشارات العابرة حول العادات في الحمّام مثلا، أو حول مظاهر الفقر بالمدينة
تتركّز الأحداث في فترة أولى حول قصة الشخصيتين الرئيسيتين أنطونيو وماريا، دون أن يتقاطع ذلك كثيرا مع مسار الأحداث التاريخي. طابع السرد الشائق يجعلنا نتناسى ذلك ونتطلّع إلى نهاية قصتهما. لكن أملنا يخيب بسبب بناء شخصياتهما ذاته. لانجد تطوّرا يذكر  في هذا البناء على امتداد الرواية. يظلّ أنطونيو شابا (فكهلا) أخرق يراكم الحماقات ليقترب من معشوقته. قد نشعر أحيانا أنّ له قابليّة للتطوّر خصوصا في رجعته إلى البندقية وتحصيله لثروة معتبرة، لكنه مايلبث أن يعود إلى طبعه الأوّل. نراه أحيانا يحمل توقعات غريبة، أو لنقل سخيفة، مقارنة بعصره: كيف له أن يرجو مثلا أن يُعوّض في مخازنه التي راحت هباء مع غزوة القائد رضوان لجزيرة مالطا؟ أما ماريا، فإن كانت البوادر توحي بشخصية تملك بذور القوة، فإنها لا تلبث أن تصبح نموذجا للاستكانة. كل "النجاحات" التي تحققها تأتيها دون أن تسعى هي إليها. هذه الاستكانة تصل إلى حدود غير مفهومة، وبشكل خاص عندما تتيح الفرصة لصديقتها ريحانة لتشاركها حبيبها!!
 يبدأ دخول الشخصيات التاريخية مع وليّ العهد محمد المنصور. ولئن ظلّ عموما يوحي بالرزانة والاعتدال، خصوصا مع تعلّقه بماريا منذ لقائهما الأوّل، فإنّ نجد أنّ هذا الاتّزان يختلّ أحيانا، خصوصا في المشهد الإيروسي الذي يجمعه بريحانة، وهو مشهد قد لا يخلو من جمال في ذاته، لكنّه يظل منعزلا تماما عن مجرى الأحداث ولا يؤثّر فيها بالمرّة، ولو شئنا استعارة "الكليشيهات" حول مشاهد الإغراء في السينما، لقلنا أنه مشهد غير موظّف.
ننتظر الكثير من شخصية السلطان أبي فارس عزّوز، أحد مفاخر دولة بني أبي حفص، لكن الرواية لا تتعمّق في شخصيته كثيرا. ولعلّ السلاطين هم أكثر "المظلومين" في هذا العمل. إذ نجد أن الأحداث تُطوى طيّا لنتجاوز بسرعة حكم محمّد المنتصر الذي يستحقّ، على قصره، حيّزا أكبر بكثير. أمّا السلطان عثمان، فلئن كانت شخصيته تبشّر بنوع من التركيب لا سيّما مع تسلّمه السلطة وهو لايزال مراهقا، فإنّ نسق الأحداث يغمره ويغمر عهده على ثرائه، إلى حدّ إهمال حدث فارق في تاريخ البلاد كطاعون 1443، ذلك أنّ التعجّل طغى على الصفحات الأخيرة التي طبعها هاجس الوصول إلى سرّ العنوان...
 لا نلمح كذلك دورا يذكر لعبد الله الترجمان (سيدي تحفة) في أحداث الرواية، على أهميّة الحيّز النصّي الممنوح له. أمّا سيدي بن عروس، فرغم أنّ وجوده أضفى طابعا عجائبيا مميّزا، فإنّ الأسلوب المعتمد للإشارة إليه لم يخلُ من الإسقاط إذ نجد الوزير يدخل، أثناء حواره مع المنتصر، في سرد طويل لسيرة حياته يبدو وكأنّه مقتطع من كتب التراجم. والحقيقة أنّ الحوارات عموما اتّسمت بالضعف، خاصة منها ما كان له طابع تبشيري برسالة الإسلام أمام المسيحية، حتّى أنّه يبدو من الغريب أن تؤدّي هذه الخطابات النمطية إلى تغيّر في قناعة المخاطَب، على غرار ما حصل لماريا.
أمّا لغة الرواية، فقد اتّسمت عموما بالابتعاد عن التعقيد، مع إقحام بعض العبارات العامية في الحوار، وهو ما لا يعاب، لكنّنا نجد كذلك بعض التراكيب العامية في السرد ذاته. كما أنّ النصّ عموما لا يخلو من أخطاء لغوية (أكثر ما استفزّني منها، لتكرارها، أنّ كلمة "جنان" لا يُعترف قطّ أنّها جمع "جنّة")  وهي وإن لم تؤثّر على مقروئيته، فإنّها تطرح السؤال حول وجود تدقيق لغوي قبل النشر.
لا تُنقص هذه الملاحظات من قيمة "باب العلوج" كمحاولة جادة لاقتحام الرواية التاريخية تثير فضولي لاكتشاف كتابات حسنين بن عمّو اللاحقة، التي آمل أن تكون اقتربت أكثر إلى التوازن بين الروائي والتاريخي.


الجمعة، 14 يونيو 2019

مجموعات القرّاء والأمية الجديدة


يورد توفيق الحكيم في روايته "عصفور من الشرق" آراء قد تبدو غريبة عن تعميم التعليم، إذ تربطه بتردّي حالة الأدب. إذ يعتبر (أو ينقل رأي ألدوس هكسلي، موافقا إيّاه) أنّ جمهور القرّاء كان محدودا، بحكم ارتفاع نسبة الأميّة، غير أنّ قراءاتهم كانت تقتصر على كتب قليلة لكنّها على درجة عالية من الرقيّ. لكن لمّا تضخّمت سوق القراءة، أسرع أصحاب الأعمال إلى تعويمها بسلع للاستهلاك لا تعدو أن تكون أدبا من الدرجة العاشرة، وتجد رغم تفاهتها جمهورا عريضا.

لمّا دخلتُ عالم الفايسبوك، كان ممّا أسعدني أن أجد عددا من المجموعات التي تُعنى بالكتب وتتخصّص في نقاشها. لكن لم ألبث أن تذكّرت الحكيم، وحكمته التي غابت عنّي في حينها. رحمة الله عليه!
يتداول جمهور القرّاء الافتراضي كتبا، وخاصة روايات، يغدقون عليها من الأوصاف بما يجعلها جديرة بجائزة نوبل. كان الإسم الأوّل الّذي وجدته يتكرّر "في قلبي أنثى عبريّة". رغم أنّي لم أرتح إلى عنوانه، إلّا أنّي غالبت حدسي وحدّثت نفسي أنّه لا يجوز أن أحكم على كتاب دون الاطّلاع عليه. كانت قراءة هذه الرواية في الحقيقة تجربة فريدة. أذكر أنّ زوجتي (خطيبتي آنذاك) كانت تسألني عنها، فأقول: هي من أردأ ما قرأت على الإطلاق. تسألني: لم لا تتوقّف عن مطالعتها إذن!؟ فأجيبها: هي رداءة ممتعة! أريد أن أعرف كيف تنتهي الحكاية. فقد "شدّتني" هذه الوثبات غير المفهومة الّتي ميّزت الأحداث: الأب المسلم الذي يترك عند وفاته ابنته لتنشأ عند صديقه اليهودي، إلى الفدائي الفلسطيني الذي يأوي (صدفة) إلى بيت عائلة يهودية بلبنان (علما وأنّ عدد اليهود بلبنان لا يتجاوز بضع عشرات)، وانتهاء بحادثة فقدان الذاكرة واستعادتها، كما كان يحصل في بعض المسلسلات المكسيكية. أخال أنّ الكاتبة اعتبرت هذا التفكّك الّذي يطبع الأحداث، والشخصيات كذلك، مغفورا بما أنّه يقود إلى النهاية السعيدة: الجميع يسلم ويعتنق الدين الحق. هذا "الجهاد الأدبي" في سبيل الدين الحق قد يكون كذلك مبّرر الكاتبة لاستعراض بعض المعطيات، غير الدقيقة في أحسن الأحوال، حول اليهودية وطابعها التحريفي.
لئن كان لهذه الرواية من ميزة، فقد تكون في سلامة لغتها عموما، وهو ما لم أكن أعتبره في البداية ميزة وأفترض توفّره في كلّ عمل منشور. لكن تغيّر رأيي بعد أن اطّلعت على العنوان الثاني المتداول "حبيبي داعشي". كالعادة، كان حدسي يخبرني أنّ العنوان غير مشجّع. غير أنّي فضّلت مجدّدا أن أكون "موضوعيا" وأطّلع على العمل. لم أصل إلى ثُلث الرواية إلّا بعد مشقّة. علاوة على الرابط غير المنطقي (أو غير الموجود) بين الأحداث، تتالت الأخطاء النحوية والإملائية والصرفية والتصريفية على النص لتحطّمه تحطيما. لم أملك إلّا أن أغلق الكتاب متنهّدا: كيف يقرؤون هذا الغثاء؟
لندع عنّا المثاليات، من قبيل: المهمّ أنّهم يقرؤون. ألّا يقرأ المرء على الإطلاق أفضل بكثير من أن يقرأ مثل هذا. ربّما تلبّي مثل هذه الأعمال حاجات لدى قارئيها، مثل الشعور بتفوّق الإسلام أو حتّى مجرّد الشعور بالإثارة لتتابع الأحداث. لكن من المفروض أن لا تحظى بهذه الشعبية أعمال لا يتوفّر فيها الحدّ الأدنى من الشروط الفنّية. ربّما يتعلّق الأمر ببناء الذائقة منذ الصغر، إذ أنّ نظامنا التعليمي يفرض علينا نصوصا معيّنة، ولا يدعونا إلى تذوّقها بل فقط إلى تحليلها، أو حفظ ما قيل في تحليلها. نتمّ تعليمنا ولا نعرف ما الذي يميّز النصّ الجميل عن النصّ الرديء. نعرف فقط أنّ هناك نصوصا جميلة لأنّه قيل لنا أنّها كذلك. أمّا إذا دُعينا -بعد أن ننسى في أشهر ما درسنا- إلى أن ننتقي بأنفسنا خبطنا خبط عشواء. لا يقتصر ذلك على الاعمال الأدبية، بل يشمل الأعمال الفنية عموما (موسيقى، مسرح، سينما، أعمال تلفزية...). ومع غياب نقّاد مؤثّرين على الساحة، لا توجد "سلطة" حقيقية تحدّد ما هو جميل، إلّا سلطة الجمهور... وهي سلطة ليس مستعدّا لها.

الثلاثاء، 12 مارس 2019

كتاب حبيب إلى حدث


كان حبيب عهد إلى حدث توسّم فيه مخائل النجابة بعض أعماله، فقصّر ولها عنها، ولمّا رأى أنّ أمره قد اشتهر، كتب إلى حبيب يستعفيه ويذكر له كثرة مشاغله، فأرسل إليه حبيب كتابا صدّره بقول ابن الزبير: "يا له فتحا لو كان له رجال" وفيه:
أمّا بعد، فأردناك لأمر وأردت غيره. أردناك للمعالي وللقلم الأعلى ولمفاخرة الحدثان بالتعب الأسمى، وأردت الفتات البوالي، والمدح الأجوف وتصيّد المجد من طريقه الأدنى. فلا تثريب عليك، فلك من غضاضة سنّك ما يقوم لك عند الناس شافعا، وإن لم يكن عندنا كذلك، ولكنّا الملومون إذ وضعنا الشرف في غير أهله، وقدّرنا لجلائل الأمور ما تضيق به صغار النفوس، فحمّلناك من ذاك ما لا تطيق. وايم الله، لو علمت أنّي أقدر لما تركت من دقائق هذا الأمر شيئا، ولكان لي بنفسي غنى، لكنني احتجت إلى من أشركه فيه كي يتمّ فما وجدت إلّا الخذلان، وكذلك عهدنا إلى من قبلك فلم نجد له عزما، فانصرف غير محمود، لا أبا لك.

الثلاثاء، 5 مارس 2019

حديث حبيب مع الجبل -2-

سار حبيب في الطريق المهملة حتى بدأت معالمها تنطمس... كان كلّما تقدّم زادت الخضرة وقلّ البياض حتى وجد نفسه بعد ساعة أو بضع ساعة منقطعا لا يحيط به سوى الشجر والأعشاب. كانت الحمرة بدت تتسلّل إلى السماء، وفكّر أنّه لا مناص عن العودة من حيث أتى. لكنّه بقي في مكانه. لم يكن يريد أن يخسر تحدّي النور والعتمة. بعد دقيقة من التردّد كان يفترش الأرض قرب شجرة سرو ضخمة، ينظر إلى تعانق أغصانها مع بقايا الزرقة. كان الحفيف يبثّ البرد وشيئا من السلام في نفسه، ويمتصّ أشلاء الحمّى إلى مكان سحيق لا يُدرك من الأرض. موسيقى عن ليال عشق مجهولة كانت تجوب كيانه. بين الصحو والغفوة مضى زمنه. قام متراخيا. الرجعة أيسر السبل، لكنه محاها من باله. عليه أن يسير غربا، لو كان يدري أين الغرب. مشى حيثما اتفق، لا يسمع سوى تكسّر الأغصان اليابسة تحت قدميه. في البداية، كان يتحسّس الفجاج بين الأشجار، لكنّه كان في كلّ مرّة ينتهي إلى أجمة فينكص. تكرّر الأمر ثلاث أو أربع مرّات. طرقه مسدودة، وقد فقد الإحساس بالاتّجاه...
قد يكون تاه. لكنّه أنكر من نفسه أنّه لم ينزعج من ذلك. رغم وجيبه، كان يملؤه يقين لم يعهده. السماء لحافه وقد غابت الشمس الهازئة، والسّرى محمود، وقد بدت قناديل فيهنّ الذبال المفتّل. اقتحم أقرب أجمة وسار لا يلوي على شيء. لا يعرف إلى أين، كل ما يدريه أنه اختار أن يمشي. على غير هدى ربّما، لكن عسى أن يدركه الهدى وهو يسير. اجتاز الغابة الكثيفة إلى أرض رحبة أكثرها مكسّو حلفاء. عبرها عاثر الخطو، وكاد يسقط غير مرّة. أشرف فبدا له السهل عن بعد. حثّ السير مكدودا، حتّى لاحت له أعمدة النور. لمّا وصل إلى أقربها كان يبتسم ملء شدقيه. مرّ به بعض السيّارة ونأى عنه لمّا لمح ابتسامته الغريبة... ابتسامته الطافحة أنسا، حتّى تكاد تعانق من تراه. فرد ذراعيه وهو يمشي تابعا خطّا لا يراه غيره وهو يترنّم بأغنية قديمة... حتّى ابتلعه الطريق...

الاثنين، 4 مارس 2019

حديث حبيب مع الجبل



وظلّ حبيب، الباحث عن نفسه، الهارب من أمسه، المرتاب من غده، في حمّاه تلك أيّاما... يهذي بما لا يُعرف عن الناس والروح والشعر والسماء... حتّى أبلّ من علّته قليلا، وكان ذلك يوم اثنين. ضاق من محبسه، ورنا إلى شمسه، فرآها باسمة على غير ما تعوّد في دهره الأخير، فنظر ودبّر، واتّفق أن يلاقيها أعلى الجبل ساعة توشك أن تنحدر...
مشى على قدميه ميلا وبعضه فلمّا بلغ الفجّ رأه ينشعب إلى ثنيّتين... الناس يسلكون ثنيّة الجنوب ويزدحمون على امتدادها، أمّا ثنيّة العين فيندر من يسلكها. تردّد شيئا، ثمّ ذكر أنّه لم يبلّل جسده بماء تلك العين البارد منذ كان طفلا، فحملته أقدامه من هناك.
صعد التلّ الأوّل ببعض مشقّة. وقف على حافته ينظر الأفق. لم ير الكوخ القديم ولا الهيكل المهجور. لعلّهما تهدّما أو هدّما. لم يلمح سوى بعض الخرب الناظرة ببلاهة إلى الأعلى. نفض خيبته، وواصل المسير.
جدّ في المشي إلى أن وصل مفترق الطرقات الأربع. كان يذكر أنّ العين في منتهى إحداها لكن بعد به العهد ولم تسعفه الذاكرة. لم يجد بدّا من أن يجرّبها واحدة بعد أخرى. أمّا الطريق المعبّدة، فقادته إلى حائط أصمّ لا علم له بما وراءه. كان شاهقا مهيبا، حاول أن يتسلّقه لكنه ما لبث أن تعب. كأنّ الدنيا تنتهي عند حدوده. عاد على اعقابه وأخذ الطريق المنحدرة. لم يمش فيها غير خطوات حتّى سمع أصوات الخلق تبلغه منها، فرجع. لم تكن العين يوما بمقربة من الصخب. أخذ في الطريق العالية، ومشى فيها حثيثا. لمح المجرى النديّ فأيقن أنّه لم يخطئ السبيل. هيّئ إليه أنّه يسمع حسّ قطرها وهو يعانق التراب، فانتعش. بلغ الصنوبرة الكبيرة. يذكر أنّ الماء كان يحاذي جذعها العجوز، غير أنّه لم ير غير أخدود تملؤه الأوراق الجافة. تبعه صعودا والأمل يتساقط عنه شيئا فشيئا. وصل إلى ذلك الكرسيّ الأخضر. كان بجنب المنبع تماما. بقي الكرسيّ، ولم يبق من الماء شيء. سنوات العطش لا ترحم ساقيا.
رجع إلى المفترق. نظر إلى الأعلى، فرأى الشمس تهزأ منه. سيخلف ميعاده كما أخلفت. همّ بالرجوع ثم وقف. قد سلك الطرقات جميعها، فلم لا يكمل الرابعة؟ لا يذكر أنّه سار قطّ في الطريق المهملة. نظر في ساعته وبدأت الوساوس تنهشه. إنّ عدّى وقت الغروب، فسيكون الضياع. ما من ضوء هناك. لن يكون إلّا فريسة للظلام. كسر سدّه وهمهم: قد كنت طويلا فريسة للنور. ألقى بساعته في عين الشمس ومشى...

السبت، 23 فبراير 2019

بعد كل شيء

سيمضي كل شيء...
جلسة المقهى المطلّ على القوافي
موج بحر يغمر النغمات
أشواق المواعيد البشيرة بالرؤى
صوت السماء وقد تعثّر لاحنا
زمن الجلوس على تخوم الصفو والخطر
ستأتي ليلة لا تنتهي...
لا شيء تحكيه سواك
تظلّ وحدك...
هكذا قد كنت
هذا أنت، لا تنكر
فضوء الشمس يحجب عنك إسمك
هل نسيته؟
كالمراكب في المجاز قد أحرقته
تلتهم المسافة 
نحو ضفّتك الخفيّة عن مدى البصر
سيرجع من رماده
كلّ حرف فيك يلقي غرسه
ويعود يجني أمسه
يغدو نفسه
أنّى لك الذكرى؟
مداها لا يجاوز منك فجرا
سمّ نفسك ما يشاء هواك
في بطء الكواكب أنت
 قيد الروح بين الرفض والقدر...