الخميس، 13 فبراير 2020

ما الذي تغيّر بعد مشاهدة الخطّاب على الباب للمرّة الألف؟ 4/1

أنهت القناة الوطنية الثانية يوم الإثنين عرض مسلسل "الخطّاب على الباب" بجزئيه للمرّة الألف. لعلّ من فوائد هذه القناة القليلة جدّا أنّها تعيدنا إلى استرجاع تلك اللحظات المميّزة مع أعمال طبعت ماضينا، والحقّ أنّها لا تعتاش إلّا من ذلك. فعلى الرغم من أنّ هذا المسلسل، كغيره، متوفّر على الانترنت، إلّا أنّ في مشاهدته على التلفزة متعة أخرى. نستعيد ذلك الترقّب اللذيذ لسماع شارة بدايته، ونقلق إن طال انتظاره، فنلعن البرلمان أو ألعاب القوى أو غير ذلك ممّا يؤخّر علينا مشاهدته. نعود مع "الخطّاب على الباب" إلى أجواء المدينة العتيقة في رمضان منتصف التسعينات، هذه المدينة التي كانت تشهد تحوّلات اجتماعية عميقة. ولئن كنّا كدنا نحفظ الحوار في جميع الحلقات من كثرة المشاهدة، إلّا أنّ الإعادة قد تتيح لنا التركيز على بعض النقاط التي ربّما لم ننتبه إليها ونحن ننساق مع لذّة الحكي.


تبدو لي العلاقة بين منّانة وصفيّة من أكثر العلاقات التي تستوجب الوقوف عندها. لطالما كنت منحازا إلى منّانة، وذلك مفهوم. من لا يحبّ الجدّة التقليدية التي توحي بالطيبة المطلقة والتي يكون وجودها في المنزل محلّ كلّ بركة؟ في مقابل ذلك، لا تقصّر للا صفيّة في أن تنفّر الجميع منها: بضيق صدرها وأسلوبها الحاد والمتعجرف أحيانا وحتى في نظراتها التي تقطر سمّا. لكنّ العلاقة أعقد من ذلك. وراء تلك الطيبة الظاهرية، نرى أنّ منّانة تبدع في التلاعب فيمن حولها. كامرأة تعيش وسط الأطلال، لا تقصّر منّانة في تسليط ضغط كبير على ابنها الشاذلي لكي يرتقي إلى المستوى المطلوب منه كسليل وحيد لأسرة عريقة. نرى ذلك واضحا منذ الحلقة الأولى. عندما يأتي سي عثمان إلى منزل العائلة، نرى منّانة تنهر ابنها آمرة "قوم لضيفك" فيهبّ هو مذعورا، وتذكّر هي بماضي الدار التليد في استقبال الضيوف. تقوم بدور الأمينة على تراث العائلة، وتديم التحسّر، بمناسبة أو غير مناسبة، على زوال التقاليد الأصيلة: "وعد الله على هالدار، لاعاد عيدها عيد ولا رمضانها رمضان". تتفنّن في استفزاز كنّتها، فلا تتردّد في دعوة ابنة أختها إلى المنزل على معرفتها بما يثيره ذلك من حساسيات تاريخية، ثمّ تتصنّع بعد ذلك البراءة والغضب، وكأنّها لم تفعل ما يستوجب ملاما. تبرع في إيغار صدر ابنها على زوجته، بكلماتها الموجعة التي تدسّها بدم بارد وسط الحديث، وبزعمها اللامبالاة: "بيناتكم، أنا ما زلت نقول حاجة". يتحوّل التلميح تصريحا في بعض المواقف، عندما طالبت صفيّة بالخروج إلى العمل مثلا. مطالبها مشروعة تماما، خصوصا لامرأة تونسية في التسعينات. هي تزوّجت في سنّ صغيرة فتركت عملها بالبريد، ثمّ انساقت إلى تربية الأبناء والاعتناء بالبيت، فلم تعد إلى العمل. ترفض كلّ الامتيازات المادية المغرية: راتب شهري معتبر، مصوغ باهظ الثمن... وتعلن أنّ هدفها الوحيد هو تحقيق ذاتها. مع ذلك، لا يقابلها زوجها وحماتها إلّا بالاستهجان، بلا سبب حقيقي سوى المحافظة على مظاهر الارستقراطية القديمة: إذ كيف تعمل زوجة الشاذلي التمّار أجيرة؟؟
مع تقدّم الحوار، يصبح الأمر أكثر سخفا، إذ يعترض الشاذلي بكون عملها سيحرمه من قهوته المسائية من يديها، مع قطرة زهر. لمّا تجيبه: ستعدّها لك أمّك، تتدخّل منّانة ساخرة: أنا الزهر بالقطرة ما نعرفوش! تستحقّ صفيّة الإعجاب على تمسّكها العنيد بموقفها حتى تحقيق طموحها. تكمن المفارقة في إهداء الشاذلي المصنع إليها في نهاية الجزء الأوّل، وتحوّلها من أجيرة إلى سيّدة أعمال. لم لم يفكّر منذ البداية في فتح مشروع تجاري لزوجته؟ أخال أنّ العناد وغياب تقاليد الحوار هما ما منع ذلك. نجحت صفية في أن تثبت نفسها كسيدة أعمال مهابة في الجزء الثاني. وبصرف النظر عن مزاجها، يبدو أنّ أكبر فشل لها هو في علاقتها مع ابنتيها التي بقيت على قدر كبير من التوتّر، وهو ما يبدو أنّ صفية توعزه إلى تكبّر آل التمار على عائلتها، وهو ما لم تكن منانة تقصّر في إشعارها به (بنت ناس دافين، أما على قدهم) وكأنّ الشاذلي تنازل ليقبلها زوجة. وأتى رفض ابنتها سعاد الزواج من فوزي تحيفة ليؤكد عند صفيّة هذا التوجّه. "تنتقم" هي، لمّا أصبحت سيّدة أعمال، بمزيد من الصلف، وبتقريب أفراد عائلتها وإيكال وظائف بارزة إليهم على قلّة كفاءتهم، والمقصود هنا إلياس تحيفة.
(يتبع)

ليست هناك تعليقات: