الأحد، 1 نوفمبر 2020

نازلة دار الأكابر لأميرة غنيم... وشْيٌ مُتْقَن على صفحات مخفية‎

 لا أبالي كثيرا في العادة عندما أقرأ أيّ كتاب بالجوائز التي حصل عليها، فقد تعوّدت على الصدمات. الكثير من الأعمال المتوّجة مرارا وتكرارا كانت أكثر ما قرأت إضجارا، وهو ما يزهّدني في قراءة كلّ كتاب يكون أوّل لفظ في تقديمه "حاز". رُشّحت لي رواية "نازلة دار الأكابر" لأميرة غنيم الصادرة هذا العام عن دار مسكلياني، فذهبت لاقتنائها. غير أنّي لمّا وجدتها موشٌحة بذلك الشريط الأزرق المنتشي بفوزها بجائزة لجنة التحكيم في مسابقة الكومار، تردّدت للحظة.

لكنّي سعيد أنني غالبت تردّدي. كانت الرواية، التي التهمتها في يومين أو ثلاثة، من أفضل الأعمال الروائية التونسية التي اطّلعت عليها في الأعوام الأخيرة.

تسرد هذه الرواية قصّة عائلة تونسية "بَلْديّة" عريقة وانقلاب حالها ذات ليلة من شهر ديسمبر سنة 1935. ولعلّ في لفظ "تسرد" شيئا من التجاوز، إذ لا يتعلّق الأمر بسرد خطّي كلاسيكي، وإنّما بمناظير عشر شخصيّات مختلفة إلى ما وقع، تُنقل إلينا منجَّمَة على حيّز زمني طويل، إذ أنّ أقرب الأحاديث لتاريخ الوقائع كان بعد حوالي ثماني سنوات (حديث سي المهديّ الرصّاع سنة 1943) أمّا أبعدها فرُوي بعد زهاء ثمانين عاما (حديث الخالة لويزة سنة 2013). الرواية إذن روايات، وناقلوها كُثُر. وإن تكن جمعت بينهم مدينة تونس العتيقة في وقت ما، فقد فرّق بينهم الانتماء الطبقي والمكانة الاجتماعية وتجارب الحياة وتباين الأعمار. كلّ سارد ينفض الغبار عن ذكرياته عن تلك الفترة وينقلها من منظوره الذاتي البحت إلى مُخاطَب مختلف في كلّ مرّة، حتى أنّه ليعسر علينا تبيّن حقيقة موضوعية من مجمل تلك الروايات فيضحي القارئ أشبه بمفتّش شرطة وهو يقارن بين الشهادات ويحاول أن يوازن بين ما تقاطع منها وما تناقض، وهو ما يمنح الرواية ما يُشبه أن يكون طابعا بوليسيا طريفا يعزّزه التفنّن في نقل الأحداث. كلّ رواية للوقائع تجلو بعض الغموض عمّا سبقها لكنّها تضيف غموضا في جوانب أخرى، ويتواصل هذا التشويق حتى النهاية إذ لا يرتوي، مع آخر الصفحات، ظمؤنا الطفولي إلى معرفة كلّ شيء ونظلّ نرتقب المزيد.

نجد وراء كلّ هذه الأحداث طرفا من تاريخ تونس الاجتماعي والسياسي يغطّي ما يقارب قرنا من الزمن، بل أنّنا نجد تفاصيل دقيقة عن سير الحياة اليومية داخل البيوت التونسية تستعمل ألفاظا عتيقة قد يكون ذهن القارئ المعاصر خليّا عنها فلا يفهمها إلا بقراءة التفسير المصاحب أسفل الصفحة. تتقاطع الحقيقة، كما عرفناها وقرأناها في كُتب التاريخ، مع التخييل فتصدمنا صورة الطاهر الحدّاد في ثنايا الكتاب إذ نلقاه، لا مفكرا وشاعرا وصحفيا ونقابيا ورائدا لتحرير المرأة، بل عاشقا ومُتّهَما بجناية خطيرة بعد موته. ويلفت انتباهنا أنّه على الرغم من كون علاقته بزبيدة المحور الأساسيّ للأحداث، فإنّنا لم نسمع له ولا لها قولا فيما وقع. فما بلغنا عنهما ترويه شخصيّات أخرى، قد يكون موقعها من سيرورة الأحداث ثانويا، ممّا يزيد صورتهما سحرا، وخصوصا زبيدة الّتي تشعّ بألق استثنائي. هي تلك الفتاة المستقلة بتفكيرها، التي تلقّت تربية حديثة رغم أصولها المحافظة، والتي مع ذلك تتزوّج زواجا تقليديا تنالها منه شآبيب عذاب فلا نفهم على وجه اليقين مدى تمسّكها بالحفاظ عليه، أو لعلّها كانت ممزّقة بين نوازع هي نفسها لا تدرك جذورها، ومَن مِن شخصيات الحكاية لا يخلو من ذلك؟

تتقن أميرة غنيم في "نازلة دار الأكابر" وشيها للشخصيات والأحداث على نسيج من صفحات تاريخ نعلم بعضه ويخفى علينا بعضه الآخر. وأخال أنّ هذا العمل يمكن أن ينتقل بنجاح بالغ إلى الشاشة الصغيرة أو الكبيرة إن قُيّضت له أياد بارعة.