‏إظهار الرسائل ذات التسميات نقد. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات نقد. إظهار كافة الرسائل

الأحد، 1 نوفمبر 2020

نازلة دار الأكابر لأميرة غنيم... وشْيٌ مُتْقَن على صفحات مخفية‎

 لا أبالي كثيرا في العادة عندما أقرأ أيّ كتاب بالجوائز التي حصل عليها، فقد تعوّدت على الصدمات. الكثير من الأعمال المتوّجة مرارا وتكرارا كانت أكثر ما قرأت إضجارا، وهو ما يزهّدني في قراءة كلّ كتاب يكون أوّل لفظ في تقديمه "حاز". رُشّحت لي رواية "نازلة دار الأكابر" لأميرة غنيم الصادرة هذا العام عن دار مسكلياني، فذهبت لاقتنائها. غير أنّي لمّا وجدتها موشٌحة بذلك الشريط الأزرق المنتشي بفوزها بجائزة لجنة التحكيم في مسابقة الكومار، تردّدت للحظة.

لكنّي سعيد أنني غالبت تردّدي. كانت الرواية، التي التهمتها في يومين أو ثلاثة، من أفضل الأعمال الروائية التونسية التي اطّلعت عليها في الأعوام الأخيرة.

تسرد هذه الرواية قصّة عائلة تونسية "بَلْديّة" عريقة وانقلاب حالها ذات ليلة من شهر ديسمبر سنة 1935. ولعلّ في لفظ "تسرد" شيئا من التجاوز، إذ لا يتعلّق الأمر بسرد خطّي كلاسيكي، وإنّما بمناظير عشر شخصيّات مختلفة إلى ما وقع، تُنقل إلينا منجَّمَة على حيّز زمني طويل، إذ أنّ أقرب الأحاديث لتاريخ الوقائع كان بعد حوالي ثماني سنوات (حديث سي المهديّ الرصّاع سنة 1943) أمّا أبعدها فرُوي بعد زهاء ثمانين عاما (حديث الخالة لويزة سنة 2013). الرواية إذن روايات، وناقلوها كُثُر. وإن تكن جمعت بينهم مدينة تونس العتيقة في وقت ما، فقد فرّق بينهم الانتماء الطبقي والمكانة الاجتماعية وتجارب الحياة وتباين الأعمار. كلّ سارد ينفض الغبار عن ذكرياته عن تلك الفترة وينقلها من منظوره الذاتي البحت إلى مُخاطَب مختلف في كلّ مرّة، حتى أنّه ليعسر علينا تبيّن حقيقة موضوعية من مجمل تلك الروايات فيضحي القارئ أشبه بمفتّش شرطة وهو يقارن بين الشهادات ويحاول أن يوازن بين ما تقاطع منها وما تناقض، وهو ما يمنح الرواية ما يُشبه أن يكون طابعا بوليسيا طريفا يعزّزه التفنّن في نقل الأحداث. كلّ رواية للوقائع تجلو بعض الغموض عمّا سبقها لكنّها تضيف غموضا في جوانب أخرى، ويتواصل هذا التشويق حتى النهاية إذ لا يرتوي، مع آخر الصفحات، ظمؤنا الطفولي إلى معرفة كلّ شيء ونظلّ نرتقب المزيد.

نجد وراء كلّ هذه الأحداث طرفا من تاريخ تونس الاجتماعي والسياسي يغطّي ما يقارب قرنا من الزمن، بل أنّنا نجد تفاصيل دقيقة عن سير الحياة اليومية داخل البيوت التونسية تستعمل ألفاظا عتيقة قد يكون ذهن القارئ المعاصر خليّا عنها فلا يفهمها إلا بقراءة التفسير المصاحب أسفل الصفحة. تتقاطع الحقيقة، كما عرفناها وقرأناها في كُتب التاريخ، مع التخييل فتصدمنا صورة الطاهر الحدّاد في ثنايا الكتاب إذ نلقاه، لا مفكرا وشاعرا وصحفيا ونقابيا ورائدا لتحرير المرأة، بل عاشقا ومُتّهَما بجناية خطيرة بعد موته. ويلفت انتباهنا أنّه على الرغم من كون علاقته بزبيدة المحور الأساسيّ للأحداث، فإنّنا لم نسمع له ولا لها قولا فيما وقع. فما بلغنا عنهما ترويه شخصيّات أخرى، قد يكون موقعها من سيرورة الأحداث ثانويا، ممّا يزيد صورتهما سحرا، وخصوصا زبيدة الّتي تشعّ بألق استثنائي. هي تلك الفتاة المستقلة بتفكيرها، التي تلقّت تربية حديثة رغم أصولها المحافظة، والتي مع ذلك تتزوّج زواجا تقليديا تنالها منه شآبيب عذاب فلا نفهم على وجه اليقين مدى تمسّكها بالحفاظ عليه، أو لعلّها كانت ممزّقة بين نوازع هي نفسها لا تدرك جذورها، ومَن مِن شخصيات الحكاية لا يخلو من ذلك؟

تتقن أميرة غنيم في "نازلة دار الأكابر" وشيها للشخصيات والأحداث على نسيج من صفحات تاريخ نعلم بعضه ويخفى علينا بعضه الآخر. وأخال أنّ هذا العمل يمكن أن ينتقل بنجاح بالغ إلى الشاشة الصغيرة أو الكبيرة إن قُيّضت له أياد بارعة.



الجمعة، 10 يوليو 2020

العثور على البيتلز

طبعا كنت أعرف البيتلز، لكنّي لم أعرفهم حقّا. أعني أني لم أكن أعلم عنهم سوى العناوين: فرقة موسيقية بريطانية في الستينات، ولا شيء غير ذلك سوى ما اعترضني أثناء دراسة الأنجليزية من نصوص عنهم. في حقيقة الأمر، لم يكن يعنيني أمر الموسيقى الغربية كثيرا. صحيح أنني كنت أستمع قليلا إلى الموسيقى الكلاسيكية وأحضر حفلات الأركسترا السمفونية التونسية لكنّ ذلك لم يكن غير انفتاح عرضي وجزئي. كنت أعيش في عالم مغلق تهيمن عليه فيروز خصوصا والموسيقى اللبنانية بشكل عام. كوّنت لنفسي نظريات شديدة الصرامة عن ماهية الموسيقى الجيدة جعلتني أدور في إطار محدود للغاية لا يتجاوز بضعة أسماء.
في الفترة التي تلت تخرّجي من الجامعة، عرفت بعض الانفتاح. أصبح بإمكاني مثلا أن أستمتع بما يقدّمه زياد رحباني الذي كنت أعدّه فيما مضى عدوي الأوّل بما أنّه "دنّس" تراث الرحابنة الكبار. لكن أخال أنّ لأختي ياسمين أكبر الأثر في القفزة الانفتاحية التي حصلت فيما بعد. عندما كانت طفلة، كنت حريصا أن أنقل إليها نظرياتي الجامدة وأسمعها فقط الموسيقى التي أراها جيّدة، فكانت وهي لا تزال في سنوات الابتدائي الأولى تحفظ مقاطع كاملة من مسرحية "ميس الريم". غير أنها تمرّدت بعد ذلك، لحسن حظّها وحظّي. كنت أسخر في البداية مما تسمعه، فكل صوت يتجاوز 20 ديسيبيل كان عندي ضجيجا خالصا لا معنى له، والصور الشعرية التي تتغنى بسيارة مازيراتي في نهاية الطريق لا تدعو لغير الضحك. لكن فيما بعد، وجدت في نفسي فضولا للتعرّف على عالمها هذا لا سيّما وقد كان لها من الحجج الموسيقية ما يقنعني. وما لبثتُ أن وجدت نفسي أبحر في هذا العالم، عالم الموسيقى الغربية، ترشدني هي، كما قاد فرجيل دانتي في العالم السفلي.
شهور الحجر الشامل وما بعده كانت ثريّة للغاية، والطريف أن الرحلة فيها كانت عكس التيار. لم نبدأ من الينابيع، بل مما هو كائن الآن. بدأنا بتايلور سويفت، حيث اختارت لي فرجيل منتخبات من أغانيها تعكس تطوّر مسيرتها الغنائية. وجدت طرافة كبيرة في الصور المستعملة، وأبهرني خاصة الطابع الشخصي الواضح لأغانيها. ما تكتبه انعكاس يكاد يكون مباشرا لما تعيشه. بدا لي ذلك مُفتقدا إلى حدّ كبير في الأغنية العربية. لا يزال مفهومنا للأغنية الجيدة من رواسب ثقافة الطرب (رغم محاولات اختراقها العديدة على مدى عقود)، حيث تتكرّر نفس الكلمات لتعيد نفس المعاني، ولا يهمّ سوى أن "نتسلطن".
انتقلنا بعد ذلك إلى كوين، وهذه المجموعة تحتاج تحليلا مطوّلا. حسبي الإشارة أنّ معظم أغانيها تعكس تجربة وجودية عميقة منذ زمن البدايات حتى تبلغ ذروتها مع أغان مثل  "الملحمة البوهيمية" و"أغنية النبي" حيث تتجاور الأنماط الموسيقية دون أن تتنافر إذ تصهرها رؤية أصيلة تعرف بالضبط أين تبغي الوصول يجسّدها صوت فريدي مركوري الجبّار وحضوره المسرحي الباهر، إضافة إلى تصوّر سابق لعصره يخصّ دور الصورة والفيديو. صالحتني كوين مع الصخب، فصار يمكن أن يكون عندي تعبيرا فنيّا راقيا أنسجم معه إلى أبعد حد.
بعد درس نظري قصير جدا ولكن مفيد للغاية عن الهارموني وصعوبة تطبيقها في الموسيقى العربية، وصلنا إلى البيتلز. كنت قد عرفت عنهم بعض الأشياء خلال السنوات الأخيرة، فقرأت بعض المقالات وشاهدت وثائقيا حولهم واستمعت لبضع أغان من أشهر ما أدّوا. اتّبعت مرشدتي نفس المنهجية: ثلاثة وخمسون أغنية مختارة تتبع تطوّر مسيرتهم من أوّل إلى آخر ألبوم أصدروه. استمعت إلى كل القائمة دون تركيز كبير في البداية، فكنت أضع موسيقاهم وأنا بصدد القيام ببعض الأشغال أو المشي لمسافة طويلة. ثم أعدت الاستماع إلى المختارات، ثم إلى أغان بعينها، ثم إلى ألبوماتهم جميعها، ثم إلى مختارات مجموعة بطريقة مختلفة. احتجت إلى أن أستمع عديد المرّات إلى "حقول الفراولة إلى الأبد"  لكيلا أعتبرها مجرّد ترنّم "مزطول".
عندما تتبع مسيرة البيتلز، تشعر وكأنك تتوغّل داخل غابة. في أطرافها، تجد الأشجار متباعدة ومتشابهة، وكلّما مشيت أكثر نحو قلبها يتنوّع ما تراه ويتكثّف حتى تعترضك أصناف نادرة لم تكن تعتقد في وجودها حتى تجد أنّك تهت ولم تعد تعرف كيف تخرج، وتودّ مع ذلك أن يطول تيهك.  في بداياتهم، كانت الكلمات بسيطة تعبّر في أغلب الأحيان عن الحب المراهق، مع تركيز على نغم رئيسي بسيط بدوره ولكنّه سهل الحفظ فيعلق بخاطرك فورا. ليست البساطة سهلة بالضرورة، وقد حققت للبيتلز قدرا كبيرا من النجاح في البدايات، ولكنّهم لم يبقوا هناك. يقول بول مكارتني أنهم كانوا يرفضون الاستسلام للضجر، فيتجهون إلى التنويع في تجاربهم. كان التطوّر كبيرا، والمثير للانتباه أنه وقع في زمن قصير للغاية. تشعر بفرق شاسع بين الاستماع إلى "Love me do" سنة 1962 وبين الاستماع إلى أغاني ألبوم "فرقة نادي القلوب الوحيدة للرقيب بيبر" سنة 1967، حيث بلغت الأغاني درجة عالية من التطوّر على مستوى الكلمات وعلى مستوى التركيب اللحني. في سنوات قليلة مرّوا من "السكيفل" و"الروك آند رول" في تمثّله الساذج إلى أنماط تستوحي التعقيد السمفوني وتنفتح على موسيقى العالم أينما وجدت، وخاصة الموسيقى الهندية. في تطوّرهم هذا، كان البيتلز مدفوعين بحسّهم الفني المترفّع الذي يرفض الاستسلام للدوافع التجارية على إغراءاتها وقوة ضغطها لا سيّما بالنسبة إلى شباب في بداية مسيرتهم. في سنة 1966، وحين كانت الفرقة في أوج نجاحها، قرّر الأربعة التوقف عن إحياء حفلات عامة، ذلك أنهم ولشدّة الهوس بهم (البيتلمانيا) كان صراخ المعجبات والمعجبين يمنعهم من الاستماع إلى أنفسهم وهم يعزفون. يقول رينغو ستار عن ذلك: كنت أحاول تبيّن أين وصلت الأغنية من حركات زملائي وأنا أنظر إليهم من الخلف، لا أظن أننا كنا نعزف موسيقى جيّدة آنذاك. لذلك تخلّى البيتلز عن الحفلات، وهي مصدر أساسي للشهرة والدخل، ليتفرّغوا لإنتاج ما يعتبرونه موسيقى جيّدة في الاستوديو. كان ذلك جنونا بلا ريب بالمنطق التجاري، ولكن هذه "الهبلة" هي من سماتهم الأساسية. البيتلز منذ بدايتهم رفض لكل أنواع السلطة مهما كان مأتاها: رفض أن تُقرّر لهم الموسيقى التي يعزفونها، رفض للخضوع للنواميس الاجتماعية، وإصرار على أن يقرّروا مقاييسهم بأنفسهم. كانوا تعبيرا حيا عن تمرّد الشباب وتحدّيه للقيم السائدة وعدم مبالاته بأيّ شيء. رغم توسيمهم من قبل الملكة، لم يمتنع جون لينون عن التعريض بسخرية بالملكة الأم لمّا حضرت إحدى المناسبات التي غنوا فيها. ربما يكون لانحدارهم من الأوساط الشعبية في ليفربول دور في تغذية هذا التمرّد ولعلّ ذلك ما حدا بهم إلى الغناء "أعطني المال، ذاك ما أريده" أو مهاجمة سياسة الحكومات البريطانية الضريبية بشكل لاذع في "رجل الضرائب" أو حتى التغني الساخر بالعدوّ اللدود في "عودة إلى الاتحاد السوفياتي". لكنهم قاموا بتمرّدهم هذا بكثير من المثالية التي دفعتهم إلى الانتصار إلى كل ما يعتبرونه قضيّة عادلة. رفض البيتلز الغناء في جاكسونفيل في الولايات المتحدة لمّا علموا أن السلطات ستطبّق الفصل العنصري على جمهورهم، وأهدوا إلى حركة الحقوق المدنية الأمريكية أغنية "الطائر الأسود" الاستعارية الجميلة، وأصبحت أغنيتهم "كلّ ما تحتاجه هو الحبّ" هي النشيد الرسمي لصيف الحب سنة 1967. 
ربّما يمكن إرجاع شيء من هذه المثالية إلى طفولة أبت أن تكبر عند البيتلز. الكثير من أعمالهم محكوم بمنطق اللهو، مجرّد الرغبة في العبث الصبياني أو حيرة الصغير أمام تعقّد العالم. الطفولة من منابع الإبداع لدى البيتلز. نجدها حاضرة بوضوح مثلا في "لوسي في السماء مع الماسات" أين التقط جون لينون عبارة نطق بها ابنه ليبني عالما كاملا من الخيال الخصب النازع نحو السريالية. حزن نفس الطفل كان دافع بول مكارتني ليكتب "هاي جود" لمواساته. أغنية "الغواصة الصفراء" هي بامتياز أنشودة للأطفال. ترتبط الطفولة بتشكّل اللاوعي لدى المرء، وهو ما يجد أجلى مظاهره في الحلم الذي نراه كذلك من دواعي التأليف لدى البيتلز. "أوحِيَ" نغم أغنية "أمس" إلى بول بشكل غامض أثناء نومه، وكان حواره مع أمه الراحلة في المنام دافع كتابة "لِيَكُنْ Let it be". يتحفّز اللاوعي كذلك بشكل إرادي من خلال استعمال العقاقير، وهو ما يتجلّى في المرحلة البسيكيليدية لدى البيتلز، منذ ألبوم "ريفولفر ".
قد تكون هذه الينابيع المتحرّرة من كلّ قيد هي ما جعل موسيقى البيتلز ما هي عليه: مكثّفة الشعور، نابضة بالحياة، تتدفّق إلى النفس بلا أيّ حواجز. هذا ما أوصل أغانيهم إلى ذرى جمالية عالية فتنظر بشكل أصيل إلى مختلف المشاعر والمواقف الإنسانية: لا شيء يعبّر عن الوحدة مثل "اليانور رجبي"، لا شيء يعبّر عن الوقوع في الحب مثل "شي ما something"، لا شيء يعبّر عن الأمل مثل "ليكن". لاشيء يعبّر عن الارتباك الحائر مثل المقطع الأركسترالي في "يوم في الحياة". طريقة وضع هذا المقطع تكشف في نفس الوقت عن بساطة وعبقرية الطرح. طلب بول من الأركسترا السمفونية المصاحبة أن يبدأ كل فرد منهم في العزف من أدنى نوتة ممكنة في آلته إلى أعلى نوتة، كلّ بوتيرته الخاصة. لم يفهم أفراد الأركسترا المطلوب، ويبدو أن بعضهم امتعض من تضييع وقته مع شباب لا يبدو أنهم يفهمون الموسيقى، فتدخّل المنتج جورج مارتن ليترجم المطلوب باللغة اللتي يفهمونها. كانت النتيجة عملا فريدا من نوعه.
لم يكن من الممكن للبيتلز أن ينجزوا ما أنجزوه لولا الديناميكية الداخلية الثرية للغاية التي كانت بينهم. جمع بينهم الكثير، ولكنّ كلا منهم كان شخصية فريدة من نوعها: جون لينون بطبعه المتمرد وحسّه الساخر وقدرته على التجريب، بول مكارتني بحسّه التنظيمي وخياله الواسع وانفتاحه الموسيقي الكبير، جورج هاريسون بهدوئه العجيب وروحانيته العميقة وتفرّده في العزف، رينغو ستار بلطفه الساحر ودقّة إحساسه وقدرته الاستثنائية على التحكم في سرعة الإيقاع. هيمن الثنائي لينون ومكارتني على التأليف في البداية، ولكن لم يكن النجاح ليتحقق لولا جهود كل فرد من الأربعة، وفي المراحل اللاحقة أثبت جورج أنه لا يقلّ موهبة في التأليف عن زميليه. كلهم كانوا يؤدون أغاني المجموعة، فلم تشتهر بصوت أحد منهم فحسب، عكس ما وقع لكوين مع فريدي مركوري. عندما ضُربت هذه الديناميكية، بدأت نهاية البيتلز. يعبّر جون لينون عن ذلك عندما قال عن ألبوم "طريق آبي"، وهو آخر ألبوم سجّله البيتلز معا وذلك عندما تعمّقت الخلافات بينهم: "كان ألبوما جيدا، مثل "رابر سول"... لكن لم تكن هناك حياة في "طريق آبي" ". هذه الديناميكية كانت تتعزز بمجهود أشخاص من خارج الأربعة، منهم المنتج جورج مارتن وخاصة المدير براين ابستاين، الذي شكّلت وفاته ضربة قاصمة للمجموعة. بمثل هذه الروح الجماعية، كان البيتلز نموذجا للمشروع الذي يتجاوز أفرادَه. بعد الانفصال، عرف كل فرد من الأربعة طريقه إلى النجاح، ولكنه لم يكن أبدا بمثل النجاح الذي حقّقوه كمجموعة. ظلّ كلّ منهم يعرّف بكونه "بيتل" سابقا أكثر من كونه فنانا منفردا.
لم تتجاوز فترة البيتلز الإبداعية ثماني سنوات (1962-1970) لكن انتاجهم في هذه الفترة القصيرة بلغ قرابة المائتي أغنية، أغلبها، وخاصة في سنينهم الأخيرة، "عيون" كما كان يقال عن روائع الشعر العربي قديما. في الأسابيع الأخيرة، لم أفعل غير الاستماع إليهم. تفجٌر لي عالم من الجمال غرقت فيه بكلّي، ولا أخالني أخرج منه قريبا.
غلاف ألبوم "مجموعة نادي القلوب الوحيدة للرقيب بيبر"

الأربعاء، 10 سبتمبر 2014

إثم البحث عن روح رحبانية في ألبوم "يا حبيبي" لهبة طوجي

لم أكن ممّن قصدوا الحفل الذي أحيته هبة طوجي رفقة أسامة الرحباني بالمهرجان الدولي للحمّامات. كانت فكرة الذهاب قد خطرت ببالي فقط لأنّ بي ضعفا لا أنكره تجاه لقب "الرحباني". على أنّ الخشية من الوقوع على تجربة ليس لها من الرحبنة دون الإسم إضافة إلى بعد الشقّة (وشيء من الكسل كذلك) كانت عوامل حسمت الموقف فلم أذهب. لم أسمع فيما بعد الكثير عن الحفل، حتّى شاهدت منذ أيّام تغطية تلفزية شديدة الإطراء له، وذهب المذيع إلى حدّ اعتبار هبة طوجي فيروز الجديدة. طبعا، كفيروزيّ عريق، اعتبرت الأمر محض هرطقة وهمست لنفسي: "اللهمّ اغفر لقومي فإنّهم لا يعلمون". ولكن ليطمئنّ قلبي، لم أستطع الامتناع عن البحث عن أغاني الألبوم الجديد  لهبة طوجي المعنون "يا حبيبي".

يضمّ الألبوم 15 أغنية كلّها من ألحان أسامة الرحباني. أربع منها كتبها منصور رحباني، واحدة كتبها هنري زغيّب والبقيّة كانت من كلمات غدي الرحباني. على أنّ أغنية "قصّة ضيعة"، وهي استلهام طريف لموسيقى رقصة زوربا اليوناني، وإن لم يكتبها الراحل منصور، فقد كتبت على نمطه. كلماتها رحبانيّة مولّدة إن صحّ التعبير.

حاول أصحاب العمل أن يكون هناك توازن بين الأغاني العاطفية والأغاني التي تحمل هموما إنسانية ووطنية. وفي الحقيقة، غلبت السذاجة في التعبير على هذا الصنف الثاني، وهو ما يظهر في "الربيع العربي" و"صباح الخير" و"المرأة العربية". والسذاجة في حدّ ذاتها لا تشين الأغاني، فهي ليست مطالبة بتقديم تحاليل معمّقة عن الأوضاع السائدة، بل أنّها ميزة طبعت الأعمال الوطنية للرحابنة الكبار، غير أنّ ما يصنع الفارق هو الدور الذي يلعبه اللحن في إيصال الروح الكامنة في الكلمات. وهنا، كان النجاح نسبيّا ومتفاوتا من أغنية إلى أخرى. ففي "الربيع العربي"، وهي أكثر الأغنيات تحيّزا، كان اللحن ساترا يحجب هذه السذاجة، وخصوصا عندما يدخل فيه ما يشبه المارشات العسكرية وعندما يطلق العنان لصوت هبة طوجي للهمس تارة والصراخ تارة أخرى، والكلّ في موضعه. نفس الشيء يمكن ملاحظته بالنسبة إلى "المرأة العربية" الّتي استمدّت طرافتها إضافة إلى كلماتها من نسقها السريع. ويشدّ في "إلي وإلك السماء"  منذ البداية الطباق في إسمها (غير المقصود على الأرجح)  مع "الأرض لكم" التي لحّنها زياد رحباني، وقد لخّصت، بشيء من الهدوء، المثاليات الرحبانية.  يختلف الأمر بالنسبة إلى "صباح الخير" التي كانت دون روح وذكّرتني بالوطنيّات المناسبتية التي طالما عرفناها في بلادنا. وكان الانطباع الذي خلّفته الأغنية  لديّ أنّ مصير "بحبّك يا لبنان" مثلا كان سيكون مشابها لو وقعت بين الأيدي الخطأ. لديّ  أمّا "بيروت"، فهي كلمات تمّت خيانتها موسيقيّا، ولولا مقطع الفالس، على ما آل إليه من جموح، لكانت ممّا يُنسى فور سماعه.

وينطبق هذا التفاوت كذلك على باقي أغاني الألبوم. ففي "يا حبيبي"، ورغم كلاسيكيّة الكلمات التي توحي بأنّ أقرب سبيل لتلحينها هو النمط الشرقي التقليدي (وقد توقّعت أن تكون من طراز "يا حبيبي كلّما هبّ الهوى" للأخوين رحباني)، يفاجئنا أسامة باختيار نمط الجاز، وقد كان اختيارا موفّقا نجح في العثور على إيقاع القصيدة والتناغم معه رغم بعض الهنات في نطق بعض الكلمات، فـ"الأرض الحزينة" تُنطق بالخفض في موضع النصب، وكلمة "قرصان" تنطق مكسورة القاف. وفي "معقول"، كانت تجربة الاستماع ممتعة من خلال التمازج البديع بين "الجاز"و"اللاتينو". كثير من البهجة ظلّت مصحوبة بصوت الكونترباس الرتيب والهادئ في الخلفيّة، ولو أنّ "اللاتينو" لم يلائم في بعض الأحيان شيئا من الحزن في الكلمات. وتأتت طرافة "أنا حبيتو" من الدور الذي لعبه البيانو في تأمين الإيقاع، وهي أغنية دافئة رغم إيغال الكلمات في البساطة. وكانت "خلص" أغنية فراق هادئة، وهي مفارقة عجيبة أن لا يحظى الفراق بشحنة عاطفية من غضب أو حزن. وينطبق على "لمّا بيفضى المسرح" نفس ما قيل عن "بيروت" فالكلمات الشبيهة بتصوير سينمائي يقلب السمع بصرا لم تحظ موسيقيّا بما يفيها حقّها. أمّا في "أوّل ما شفتو"، فقد كان يمكن أن تكون مستساغة، على فتور كلماتها، لولا إيقاعها المزعج والإسراف في اعتماد تقنيات التلاعب بالصوت، وهو ما تخلّصت منه "حبّي اللي انتهى" الرومانسيّة الهامسة. أمّا "يمامة"، فقد تكوّن رأيي منها في الثواني الأولى وتحديدا مع عبارة "لكلّ من في الأرض لا أعرفهم" التي كان لحنها العجول غاية في "التبلفيط"، وتساءلت إن لم يكن اللحن وضع مسبّقا ثمّ وقع الإصرار على اعتماده قسرا على الكلمات بصرف النظر عن كلّ إنسجام. ولا تبقى من أغاني الألبوم سوى "حلوة يا بلدي" التي هي مجرّد إعادة توزيع لأغنية داليدا حرت في معرفة وجه الإبداع فيها أو سبب إقحامها في الألبوم.

قيل عن هذا الألبوم أنّه ينتمي إلى صنف الجاز، ولكنّ ذلك لا ينطبق على كلّ الأغنيات، ولا يتوافق مع التعويل على الأركسترا السمفونية الأكرانية. لا مجال للشكّ في طابعه الغربي، وقد أضفى عليه الاعتماد على البيانو خاصة بصفة دائمة شيئا من الفخامة. تتيح مختلف الأغنيات المجال لصوت هبة طوجي المميّز حتّى يستعرض قدراته في التدرّج من أخفض الدرجات إلى أعلاها، ويدخل في تجربة متعدّدة الأبعاد مع المستمع فيداعبه ويؤانسه ويؤسيه ويستفزّه. ويتعزّز صوت طوجي ببعض المؤثّرات التي تضفي على الأداء بعدا مسرحيّا: الضحكات، الصرخات وحتّى الزغاريد. على أنّه قلّما كان جمال الصوت وحده عنصرا محدّدا في نجاح التجربة. وإذا كان نجاح الأغنية يقاس ببراعة ترجمة الكلمات لحنا، فإنّ النجاح في هذا الألبوم كان جزئيّا. في عديد الأحيان، بدا كأنّ الإصرار على تقديم نمط موسيقيّ ما يأتي على حساب التقاط حساسية الكلمات، وإن غلبت على جلّ الكلمات بساطة تخلو، على خلاف البساطة الرحبانية، من العمق. وإذا كان هناك تشابه مع تجربة الأخوين رحباني، فأراه يكمن في نهايتهما، وتحديدا فيما قاما به في برنامج "ساعة وغنيّة" من إعادة توزيع لأغانيهما بطريقة أضفت عليها نزعة آليّة وسلبت منها صفاءها الشرقيّ.


التقييم العام للألبوم:


الأحد، 24 أغسطس 2014

هبة القوّاس...حلم لم يكتمل

ليست هبة القوّاس من الأسماء ذائعة الصيت في الساحة الفنيّة العربيّة وليست معروفة كثيرا لدى الجمهور التونسي. والحقيقة أنّي على الأرجح لم أكن لأسمع بها لولا حفلها بالمسرح البلدي بالعاصمة سنة 2005. أذكر أنّي لمّا سمعت أنّها ستفتتح مهرجان المدينة لتلك السنة، وكانت المرّة الأولى الّتي يفتتح فيها فنّان غير تونسي هذا المهرجان، استغربت كيف يمنح هذا الشرف لفنّانة مجهولة. بعد ذلك شاهدت ومضة في التلفزة التونسية تتحدّث عنها وعن حلمها لإنشاء أوبرا عربية، وتبدّل الاستغراب فضولا. ذهبت إلى شبّاك المسرح البلدي أسأل عن ثمن التذاكر فاُخبرت بسعر خيالي بالنسبة إلى طالب مثلي في ذلك الوقت (على ما أذكر 25 و15 دينار). هممت بالانصراف، فاستوقفني الموظّف ليعلمني أنّ التذاكر بأعلى المسرح ("الخمّ" أو "بيت الدجاج" كما درجت العادة على تسميته) متوفرّة بسعر خمسة دنانير. اقتنيت تذكرة واحدة، فقد كان من الصعب عليّ إيجاد رفيق يقاسمني نفس التوق للاكتشاف. ذهبت إلى تلك الأمسية الرمضانية، وكان ندمي فيما بعد كبيرا لأنّي لم أضحّ بشيء من المال لحجز أفضل مكان ممكن. كان ذلك الحفل أحد أحلى المفاجآت في حياتي. خرجت منه بين النشوة والذهول: نشوة لذلك العناق الحميم بين فخامة الموسيقى الكلاسكية وعبق الكلمة العربيّة المنتقاة بعناية، وذهول عند الخروج من المسرح بشعور من هوى بعد طول تحليق. كان الحفل خطواتي الأولى في عالم جديد يتمازج فيه الشرق والغرب دون تنافر، عالم تتألّق فيه الأحلام كنجمات حانية تضيء الطريق. أغنيتان شدّتاني بشكل خاص وقتها: "روح واتركني" لطرافة ألحانها ولطف الجناس في كلماتها وتفاعل قائد الأوركسترا الأرمني معها ومع الجمهور، و"عرفت بيروت" لمسحة الحزن الجليل التي طبعتها. وعلى الفور، حلّت هبة الله من نفسي محلّا لا يضارعها فيه سوى القدّيسة والماجدة.
بعد الحفل، حاولت جاهدا البحث عن أغاني هبة القوّاس. لم تكن أسطواناتها متوفّرة بتونس ولم أجد على الانترنت سوى عدد ضئيل من الأغاني ومقتطعات الأغاني، ولم يكن نشر فيديوهات للأغاني رائجا، وكانت مواقع الفيديو العالمية مغلقة أمام العموم. اكتفيت مؤقّتا بما وجدت وظللت أتحيّن الفرص لالتقاط إبداعاتها أغنية بعد أغنية. ولم يخب أملي قطّ. لم أجد في السنوات الأخيرة ترجمة أصدق لعمق الكلمات من ألحان إبنة صيدا وصوتها. شيء نبيل يغزو الروح عند الاستماع إليها. أنشئ الشعر الصوفي خلقا آخر مع أغانيها: "يا نسيم الريح"، "لقد صار قلبي"، "سبحان من خلق القلوب"...
منذ حوالي ثلاث سنوات تقريبا، استمعت إلى أغنية "نجوم الدني بعينيك"، ولعلّها كانت آخر عمل موسيقي أطرب له إلى حدّ الدهشة. كانت من ذلك النوع من الأغنيات التي لا تجد بدّا من الاستماع إليها مرّة بعد مرّة بعد مرّة لتتشرّبها. تكتشفها من جديد في كلّ حين، ولا تعرف ريّا.
ومعها يستمرّ الظمأ...تضنّ علينا هبة فلا نظفر منها بعمل جديد إلا في الفينة بعد الفينة. كأنّي بها لا تتقدّم في طريق حلم الأوبرا العربية إلاّ بخطوات وئيدة جدّا. ربّما يكون ذلك لأنّها لا تجد ما بين المحيط والخليج من الاهتمام ما تجده في المحافل العالمية للموسيقى الكلاسيكية. ربّما يكون ذلك لأنّ من يتذوّقون فنّها قطرات من بحار من الجماهير الباحثة عن الوجبات السريعة. أو لعلّ ذلك يرجع إلى أنّ وسائل الإعلام ومديري المهرجانات يفضّلون الأصداف على اللآلئ، إلا من رحم ربّك، ولعلّها لذلك لم تعد إلى تونس منذ تسع سنوات، رغم أنّي على يقين من أنّ عرضها الوحيد ترك أثرا لا يمّحى في قلوب جميع من حضروه.
قد يكون الأمر مزيجا من ذلك كلّه. ولكنّ الحلم لا ينتهي إلا بالموت كما يقال. سنظلّ نغالب ظمأنا ونحفظ شوقنا، عسى الشوق إلى التحليق يصنع الأجنحة...

الاثنين، 18 أغسطس 2014

"موزار: أوبرا الروك"" عرض شبه محترف يختتم دورة استثنائية


قبل المرور إلى نظام الاحتراف، مرّت بطولة كرة القدم التونسية بمرحلة انتقالية أطلق عليها إسم مرحلة "اللاهواية" كانت منزلة بين المنزلتين، وسطا بين الهواية والاحتراف، إذ كان كلّ فريق ملزما بأن يكون عدد معيّن من لاعبيه محترفين في حين تتكوّن بقية الرصيد البشري من الهواة. ولعلّها كانت مرحلة ضرورية للانتقال إلى الاحتراف، ولكنها لم تكن تخلو من الغرابة باعتبار تعايش نمطين مختلفين دون حسم واضح لصالح أحدهما.

وهذه التناقض بين الهواية والاحتراف كان السمة المميّزة للعرض المقرّر لاختتام مهرجان قرطاج الدولي، فقد كان من الصعب تصنيفه ضمن العروض الهاوية أو المحترفة نظرا لأنّه احتوى على عناصر من كلا الصنفين، وإن كانت الكفّة تبدو أرجح لصالح الهواية.

أمّا عناصر الاحتراف، فيمكن أن نلمحها في العدد الكبير للعاملين على العرض: أوركسترا تتكوّن في أغلبها من عازفي كمنجة، فرقة روك، خمسة مغنّين، عدد محترم من تقنيي الإضاءة والصوت...وهذا ما كان يوحي بعرض ذي مستوى راق، ولكنّ عناصر الهواية كانت الأغلب.

كان السؤال الذي حيّرني طوال العرض: هل لهذه الأوبرا المزعومة مخرج؟ كان كلّ من المغنّين يصعد على الركح فيؤدّي أغنية دون أن يبالي كثيرا بتجسيد شخصيّته ثمّ يخرج وتصمت الموسيقى حتّى دخول من يتلوه، وكأنّ العرض مجموعة من الأغاني المنفصلة، لا أوبرا مترابطة الفقرات من المفروض أن تقص علينا قصة موزار. غاب التنسيق وبدا جليا أنّ كلّ فرد من المغنّين يرتجل حركاته، فمؤدّي شخصية موزار كانت حركته المميّزة الركض على غير هدى على الركح والقفز في الهواء أحيانا، تحت تصفيق وصرخات جزء كبير من الجمهور يبدو أنّه كان مستعدّا للتهليل لأيّ شيء. 

ويبدو أنّ المفاهيم الأساسية "أوبرا" و"أوبرا روك" كانت مفاهيم غير واضحة بالمرّة في أذهان أصحاب العمل، فالعمل الأوبرالي يتطلب حدا أدنى من القصّ المسرحي والحوار بين الشخصيات، لكن كان من الصعب تتبّع القصّة، أيّ قصّة، في العمل. أمّا عن الحوار، فيكفي القول أنّ موزار لم يدخل في حوار مع إحدى الشخصيات إلا في مناسبة واحدة قبل المشهد الختامي للدلالة على الضعف الفادح لهذا الجانب في العمل. وفيما يتعلّق بجانب "الروك"، فما قيل عن العرض أنِّه تزاوج بين الموسيقى السمفونية وموسيقى الروك، لكن طيلة الساعة الأولى من العرض، ما سمعته في جميع الأغنيات "دخلة" سمفونية يقطع عليها الروك الطريق لينتقل صوت الكمنجات إلى الظل. أما في نصف الساعة الأخيرة، فقد كان هناك محاولة لإيجاد توليفة بين النمطين كانت نتيجتها "زنزانة"كبيرة.

أما عن تعامل المغنين مع "الأوبرا" ومع الجمهور، فقد كان شبيها بذاك الذي عرفناه عن أشباه النجوم من الشرق: خطاب من طينة "تونس بلدي التاني" وتبادل للتحيات وسط العرض، وكأنهم غافلون تماما أن الجانب المسرحي للعرض يقتضي امتناعا تاما عن مثل هذه التصرفات البدائية، التي يمكن أن نضيف إليها أنّ أصواتهم عوّضها فيما يبدو البلاي باك في أحيان كثيرة. كما لم يمتنع أحد أفراد الأركسترا (التي تبين أنها تونسية) عن مغادرة مكانه وسط العرض (ربما لحاجات طبيعية !) ثم العودة إليه تحت أنظار الجمهور الذي خاله ممثلا ينضم إلى الفريق.
وهكذا أسدل الستار على دورة كان من المفترض أن تكون استثنائية بما أنها تختم نصف قرن من عمر المهرجان بعرض هو أقرب للهواية منه للاحتراف رغم الهالة التي أحيطت به والجوائز التي تحصّل عليها والتي قد تكون نتيجة جديّة أكبر تم بها العرض في "بلاد برّة" بعيدة تماما عن الاستسهال الكبير الذي نفّذ به في تونس، استسهال يصل إلى مرتبة قلة الاحترام لتونس وجمهورها.

الاثنين، 11 أغسطس 2014

هل مضى زمان الشعراء؟

في مسرحيّة "بالنسبة لبكرا...شو؟" لزياد الرحباني التي عرضت سنة 1978، يؤدّي فايق حميصي دور شاعر يدعى الأستاذ أسامة. هو دور هامشي في أحداث المسرحيّة، بل أنّه يكاد يتقلّص ليكون جزءا من الخلفيّة الصوتيّة في عديد الأحيان، غير أنّه يفاجئنا أحيانا إذ يقوم منشدا لبعض روائعه، كقصيدته العصماء "متعاقب أنا":


متعاقب أنا في أصل الصورة
عاهدت اللوز والأشياء الأخر
بأنّني غدا على قرميدك المهزلة
سأمتطي...أمتطي...أين أمتطي؟
متعاقب أنا فيكِ يا أينك
يا أينك من أصل الصورة
تسكنني اللامركزية
يا أينك يا بهيّة
خبّريني، هل ضاجعك الهاتف وسط الرياح المنافقة؟
عفوا
اخلعني عنّي يا فجر المسامير
وأغرق بعيدا في أصل الصورة
إنّها المهزلة الأخيرة
ساورتني شكوك الصوف
و كان هيلاسيلاسي جاثما عند باب المستودع
مهلا يا زهرة الناريت
أبرق لهم وقل لهم حذار زهرة الناريت، حذار شكوك الصوف
معذور أنا أفلا تعذريني
أفلا تعذريني بعد أن سقطت حتى الأزل
و لم تزل تسقط حتى الريش صورة الأصل من أصل الصورة

ثمّ يقف قرب الطاولة ليقول:
اخلع عنك هذه البلابل المشبوهة، فإنّ اللون السابع بعد الألف أرجواني

يحاول نجيب، العامل بالمطعم، الاستفسار عن معنى ما قيل، فيجيبه الشاعر: هذا الشعر ليس لك وليس فهمه متاحا لكلّ من هبّ ودبّ. يغضب نجيب ويمسكه من خناقه صائحا "ما تقصد بأصل الصورة؟". يفصل رامز بينهما. يحاول الأستاذ أسامة الخروج دون أن يدفع الحساب، لكنّ نجيبا يتفطّن لذلك فيضطرّ الشاعر للدفع على مضض. إثر ذلك، يجري نقاش بين رامز ونجيب يعبرّ فيه رامز عن إعجابه بشعر الأستاذ أسامة، ويقول عنه: "شعره كلّه مغاز وعبر حتّى وإن لم نفهمها. المهمّ أنّه هو يفهمها "!

كنّا، وربّما لازلنا، نردّد عبارة "الشعر ديوان العرب" المنسوبة إلى ابن عبّاس ناسين أو متناسين أنّ هذه العبارة تمّ تجاوزها منذ زمن طويل (يقول الجاحظ "كان ديوانها"). كان الشعر ديوان العرب عندما كان حاملا للغتهم وقيمهم ومآثرهم وأيّامهم. في الزمن الماضي، كان الناس يسمعون القصيدة من الفرزدق أو جرير فينتظرون نقيضتها من صاحبه، كما ينتظر القوم اليوم حلقة من مسلسل. فيما مضى، كانت القصيدة الواحدة ترفع فردا خاملا، كالمحلّق، إلى مرتبة السادة، وتُنزل علية القوم، كبني نمير، إلى أسفل سافلين. في الزمن الغابر، كانت القصيدة، كمعلّقة عمرو بن كلثوم، نشيد القوم، شعارهم ودثارهم ومبعث فخرهم. فيما سلف، كان شاعر كالنابغة يسلّ سخيمة ملك غاضب فيعفو عنه ويجزل العطاء. في الزمن البائد، كان الناس يغتنمون حتّى الحروب ليسألوا أعدائهم من ذوي البصيرة بالشعر وأهله أن يفاضلوا بين شاعرين...


أمّا الآن...

"الأستاذ أسامة" تصوير كاريكاتوري بلا شكّ، لكنّه لا يبتعد كثيرا عن صورة الشاعر السائدة في مجتمعنا الآن. الشاعر اليوم يكتب ما لا تُدرى نسبته إلى الشعر (كان الشعر شكلا كلاما موزونا مقفّى، أمّا اليوم لم يعد هناك اعتبار لا للوزن ولا للقافية). الشاعر اليوم يكتب ما لا يُدرك معناه إلا بضرب من الكهانة. الشاعر اليوم لا يُعرف إلا في دائرة ضيّقة من مرتادي الصالونات. وكالأستاذ أسامة الذي أراد الهروب من دفع الحساب، بعض شعرائنا يمارسون ضروبا مماثلة من الصعلكة...لا صعلكة نبيلة كعروة بن الورد، بل ما ذمّه أبو الصعاليك في قوله:


لَحَى اللهُ صُعْلُوكًا إِذَا جَنَّ لَيْلُهُ ...مَضَى فِي المُشَاشِ آلِفًا كُلَّ مَجْزَرِ
يعُدُّ الْغِنَى مِنْ دَهْرِهِ كُلَّ لَيْلَةٍ...أَصَابَ قِراهَا مِنْ صَدِيقٍ مُيَسِّرِ
قَلِيلَ الْتِماسِ المالِ إلاَّ لِنفسِهِ...إذَا هو أَضْحَى كالعَرِيشِ المُجَوَّرِ
يَنَامُ عِشَاءً ثُمَّ يُصبِحُ قاعِدًا...يَحُتُّ الحَصَى عَنْ جَنْبِهِ المُتَعَفِّرِ
يُعِينُ نِسَاءَ الحَيِّ مَا يَسْتَعِنَّهُ...فَيُضْحِي طَلِيحًا كَالبَعِيرِ المُحَسَّرِ

لعلّها سيرورة طبيعيّة. قال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه "كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصحّ منه". لكن تطوّرت العلوم والفنون فيما بعد وأقبل عليها الناس فترك الشعر مكانه الرفيع كلسان للمجتمع وقيمه الأخلاقيّة والجماليّة ليتحوّل إلى أداة للتكسّب أساسا وزاد انحداره في عصور الانحطاط ليصبح مجرّد أداة للحذلقة اللغوية والبلاغيّة. تداركه الشعراء الإحيائون فأعادوه إلى حدّ ما ترجمانا لهموم الشعوب وطموحاتها وقرّبه الرومنطيقيون من دواخل الذات الإنسانيّة ثمّ لم يلبث أن دخل في مراحل تجديد متعاقبة ومتسارعة كاد معها يفقد معناه. مع الحداثة، أو ربّما مع وهم الحداثة، أضحى مقياس الشعريّة الإغراب في الصورة إلى حدّ الإبهام. لا يهمّ أن تكون الصور هلاميّة، لا تكاد تمسك منها إلا قبض الماء. وإيّاك أن يكون معنى قولك واضحا، فتلك مباشرتيّة لا تليق بعصرنا الآن. تحدّث عن "فجر المسامير" و"شكوك الصوف" و"اللون السابع بعد الألف" وسيجد النقّاد الأجلّاء سبيلا لتأويلها حتّى وإن لم تقصد بها شيئا (وبعضهم استخلص فعلا بعض المعاني من قصيدة الأستاذ أسامة التي قصد بها كاتبها تحديدا أن لا يكون فيها معنى !!)...ولعلّ شعر اليوم هو شعر على نمط عصره: شعر بلا معنى لعصر بلا معنى.

ولعلّ الشعر لم يعد له من مكان في مجتمع يعيش على نسق الاستهلاك. ربّما كان من المفترض أن يؤدّي تعميم التعليم إلى الارتفاع بالذائقة الجمالية العامة ولكنّه أدّى على العكس من ذلك إلى أن تصبح الثقافة إحدى السلع المعروضة كأكلات سريعة. لا صبر لأحد على تذوّق نصّ وتصيّد مواضع الجمال فيه. الكلّ يريد ما يلتهمه التهاما. ولو نزلت إلى الشارع فسألت عن الشعراء العرب المعاصرين، لن تظفر على الأرجح بغير اسمين: نزار (لكثرة ما غنّي من شعره) ودرويش (بفضل "ريتا"، ولأنّه الاسم الأكثر تردّدا على ألسنة المثقّفين هذه الأيّام). أمّا إن سألت عن الشعراء التونسيين، فسيكون جيّدا لو ظفرت بإسم، أيّ إسم. لا يصلح الشعر اليوم إلا لانتزاع بعض المقاطع، ربّما دون قراءتها حتّى وإن كانت تتحدّث عن هيلاسيلاسي أمام المستودع، لنشرها على فايسبوك قصد التباهي بالمستوى العالي من الثقافة. أمّا بعيدا عن الحياة الافتراضيّة، فعلى الأرجح أن لا يثير الترنّم ببعض الأبيات إلا السخريّة.


أو لعلّ لكلّ زمن شعره. شعر إمرئ القيس كان صالحا لزمن إمرئ القيس وشعر أبي فراس كان صالحا لزمن أبي فراس. ولكن كلّ مجتمع ينتج شعره. كان الملحون ولا يزال يُنشد ويُسمع ويُطلب في بعض المناطق من البلاد، ولعلّ "الراب"، مهما اختلفت التقييمات منه، هو شعر المناطق الحضرية والأحياء المهمّشة في هذا الزمن.


أو ربّما يكون الشعر يحتاج، مثل عديد الأشياء الأخرى، إلى مشروع....مشروع يُخرجه من الهامشيّة، من أن يكون مجرّد ضوضاء في الخلفيّة كشعر الأستاذ أسامة، ليكون دعوة متجدّدة إلى اكتشاف الجمال، أيّا كان مأتاه، في هذا العالم ويرأب الصدع الذي طال أمده بين طائفة الشعراء وباقي المجتمع...مشروع يجعلنا نتلمّس شيئا من الطريق أمام السؤال الخطير لمسرحيّتنا الكبرى: "بالنسبة لبكرا...شو؟"


الخميس، 9 أغسطس 2012

ألبوم “غزل” لماجدة الرومي: لم يكن المطر زخّات…


أدمن أحبّاء ماجدة الرومي انتظار جديدها…فآخر ألبوماتها “اعتزلت الغرام” يعود إلى سنة 2006. منذ عام تقريبا، كانت البشارات تتوالى بقرب صدور الألبوم الجديد  غير أنّها كانت جميعها وعود الكمّون بالسقي. ورغم طول الفترة، مازجت مرارة الترقّب حلاوة الشوق…الشوق لزخات مطر تجود بها ديمة، إسمها والرقيّ مترادفان، في أرض تصحّرت، أو تكاد، من الفنّانين. واستجيب للمستسقين، فخرج الألبوم الجديد الّذي يحمل عنوان “غزل” إلى الأسواق منذ بضعة أسابيع.
غير أنّ المطر كان رذاذا… فالألبوم لم يكن جديدا إلا مجازا. فمن مجموع أربع عشرة أغنية، نجد سبع أغنيات يعود تاريخها إلى ثلاث سنوات أو أكثر. بل أنّ بعضها أصبح ركنا شبه قار في الحفلات الّتي تؤدّيها ماجدة الرومي منذ فترة. ويلفت الانتباه منذ البداية الإسم الباهت للألبوم. لا بحث ولا ابتكار في اختياره (ولعلّه لم يتطلّب سوى بضع ثوان)، بل أنّه لا يحيط موضوعا بجميع أغاني الألبوم، فأربع منها بعيدة كلّ البعد عن الغزل. ربّما كان من الأجدى أن يعنون الألبوم، كسابقيه، باسم إحدى الأغنيات الواردة فيه عوض إيراد إسم يكاد يخلو من المعنى.
أربع من الأغنيات القديمة أدّتها ماجدة الرومي في حفل البيال سنة 2009، ويتعلّق الأمر بـ”العالم النا” و “ما تقلّي حبيتا” و”ملك قلبي” و”نشيد الشهداء”. وهذه الأغنيات كانت ذروة عطاء ماجدة في السنين الأخيرة وكان من شأنها أن تكون النجوم الّتي تضيء سماء الشريط “الجديد”، لولا أنّه ليست جديدة ! وقد صاحبت بعضها تغييرات غير مفهومة مقارنة بنسختها الأصليّة، فـ”العالم النا”، وهي انتقاء فائق العناية للكلمات جعلت الفالس المشهور لديمتري شوستاكوفيتش يبدو كأنّه ألّف خصّيصا لماجدة، عرفت تحويرا غير مبرّر للكلمات (من “إني حب” إلى “هيك الحب”، و من”الليل المجنون مطيّرنا” إلى “الليل المجنون  مغازلنا” وإضافة نافرة لهمهمة المجموعة الصوتيّة في البداية، بحيث تظلّ النسخة الأولى الّتي قدّمت في البيال أجمل في بثّها المباشر النابض بالحياة مع الأركستر السمفوني البيلاروسي ومع دهشة التذوّق الأوّل لرائعة فنيّة. أمّا “ملك قلبي” فقد عرفت بعض التكثيف لاستخدام الأكورديون في بعض مقاطعها وصوتا مرتفعا للإيقاع في مقاطع أخرى ممّا أضفى طابعا آليّا خنق روح الأغنية. وفي “ما تقلّي حبيتا”، تغيّرت  ”صارت همّك الوحيد” إلى “طاير بحبّها وسعيد”، وطغى الإيقاع أحيانا على هذه الأغنية الطريفة.
وإضافة إلى أغاني حفل البيال، تشمل الأغاني القديمة كلّا من “ما رح ازعل ع شي” و “يلادي أنا” و “سلونا”. ورغم أنّ “ما رح ازعل ع شي” سابقة في أدائها الأوّل لحفل البيال، فإنّ لسماعها لذّة لا تنضب، فقد كتبت ماجدة كلماتها بمداد من دمها (رغم بساطتها وبعض التعبيرات غير الموفّقة) يصاحبها لحن يموج مع الكلمات أنّى ماجت وحين ينفلت من عقالها (في الفواصل بين المقاطع) فإنّه يصعد ليعانق الذات الإنسانيّة في أنبل آلامها. أمّا “بلادي أنا”، فقد سبق أن أدّتها ماجدة مع يوسو ندور في افتتاح الألعاب الفرنكوفونيّة الّتي دارت ببيروت سنة 2009، وإقحامها في الألبوم مع المحافظة عليها بنفس الشكل ومع الإبقاء على المقطع الفرنسيّ يفقدها ذاك الطابع الاحتفالي الّذي يميّزها. ويبقى إدراج “سلونا” في الألبوم لغزا محيّرا، فقد سبق أن كانت هذه الأغنية في ألبوم “يا ساكن أفكاري” سنة 1988، وإذا كان القصد من إدراجها هو تقديم تحيّة إلى روح الفنّان حليم الرومي، بما أنّ الأغنية قدّمت في شكل دويتو معه، فقد سبق لماجدة أن قامت بنفس الشيء مع أغنية “اليوم عاد حبيبي” في ألبوم “طوق الياسمين” سنة 1998، ممّا يجعل تكرار نفس الشكل عملا يفتقر إلى الإبداع.
 أمّا فيما يخصّ ما هو جديد فعلا في الألبوم، فإنّ ثلاث أغنيات يمكن أن تصنّف في إطار ما أسميّه “الرومانسيّة المريضة”. ومن خصائص هذا الصنف تضمين عبارات مستهلكة وممجوجة عن الحبّ تخلو من أيّ ابتكار مع نغمات خافتة وأداء هامس، ولو تعلّق الأمر بغير ماجدة لقيل أنّ المغنّي يخفي محدوديّة إمكانياته الصوتيّة. والأغاني المعنيّة هي “اقبلني هيك” و “لو تعرف” و “بس قلّك حبيبي” مع تميّز لهذه الأغنية فيما يخصّ اللحن غير أنّه تميّز لا فضل فيه لمجهود ملحّن جديد، فاللحن لشارلي شابلن واقتصر دور جان ماري رياشي على إعادة التوزيع. وأعتبر أنّ أداء ماجدة لمثل هذا الصنف من الأغاني نذير تحوّل خطير، فقبل ألبوم “اعتزلت الغرام” (2006)، كان رصيدها يكاد يخلو من مثل هذه الرومانسيات المريضة. فهل اتّجهت إلى هذه النوعيّة انخراطا في موجة لها جمهور واسع (كجمهور إليسا) اليوم؟ ربّما… ولا تفضل “وبتتغيّر الدقايق” هذه الأغاني إلا قليلا، وتبقى مع ذلك أغنية عادية للغاية كلمات ولحنا (ما عدا بعض اللحظات المميّزة في مقدّمتها الموسيقيّة).
ومن الأغاني الجديدة قصيدتان: “الطير طربا يغرّد” و “وعدتك”. أمّا أولاهما، فرغم المجهود المبذول في التلحين وخاصة في المقدّمة الموسيقيّة، فمن الصعب أن تصنّف حقّا كقصيدة. فمن الواضح أنّ كاتب الكلمات (سلطان بن محمّد القاسمي) أرادها أن تكون قصيدة عموديّة، ويظهر ذلك خاصة من خلال التقفية، ولكن الكلمات لا تستجيب لأيّ وزن من أوزان بحور الخليل، ولا غير بحور الخليل! أمّا القصيدة الثانية، فهي من شعر الراحل نزار قبّاني وألحان كاظم الساهر، ومن أسبر لأعماق نزار من كاظم (حتّى سجن نفسه فيه، ولكنّ ذلك موضوع آخر)؟ غير أنّ نسق الأغنية كان أهدأ بكثير من نسق القصيدة، إذ تمّ الاقتصار على مقاطع متفرّقة من القصيدة وتلحينها بشكل حجب عنها الانفعالات الّتي تتأجّج بها، وهو ما يحول دون أن تكون هذه الأغنية تحفة فنيّة على غرار “الجريدة” و”كن صديقي” وغيرها، ويضاف إلى ذلك قصرها النسبيّ (خمس دقائق ونيف).
 وتبقى أغنية “متغيّر ومحيّرني” جوهرة العقد. وهي أغنية خفيفة الروح تفوّق في تلحينها عبد الرب إدريس على نفسه، وهو الّذي عرفناه قبل ذاك ملحّنا مجدّدا للقصائد، خاصة مع “في ليلك الساري”، فنراه تحوّل ليراقص النغمات الغربيّة للجاز الّتي تميّز في توزيعها جان ماري رياشي.
ويلاحظ أنّ ماجدة الرومي كتبت كلمات ثمان من أغاني الألبوم (مقارنة مع ستّ في الألبوم السابق، منها أربع بالاشتراك مع نزار فرنسيس) وأصبحت بذلك أثبت قدما وأكثر ثقة في كتابة الكلمات. بعضها كان موفّقا (‘العالم النا”، “ملك قلبي”، “ما رح ازعل ع شي” مثلا) والبعض الآخر أقلّ توفيقا. أحيانا تكتب فتكون المرأة الّتي تهدر أعماقها فتصرخ ملبيّة نداءها وتأبى أن تكون صدى، وأحيانا أخرى تكتب فتبدو كلماتها رتيبة معادة لا روح فيها. وكأنّ في ماجدة شاعران: شاعر يفيض إحساسه عن سجن نفسه فينساب كلمات، وشاعر يكتب لأنّه لا مناص من أن يكتب (ربّما لقلّة من يكتبون أشعارا جديرة أن تغنّى في الوقت الحاضر).
أربع عشرة أغنية…سبع منها ليست بالجديدة…أربع دون ما اعتادت ماجدة أن تقدّمه…قصيدة ليست بقصيدة…وأغنيتان تستحقّان أن تذكرا. لو أنّ الألبوم صدر مباشرة بعد سابقه لقلنا أنّ العجلة هي الّتي جعلت العمل على ما عليه، ولكنّ سنين ستّا تفصل بين الشريطين. فهل أنجزت ماجدة هذا الألبوم فقط لتثبت أنّها موجودة؟ فقط ليظهر إسمها في سباق الأغاني؟ فقط ليهلّل معجبوها بالانجاز الجديد؟ أوَ تحتاج إلى ذلك، وهي الأيقونة؟

الرابط على تونس الفتاة: 
http://tounesaf.org/?p=1367

الجمعة، 20 فبراير 2009

"سينيشيتا" أو الخيبة الجديدة للسينما التونسيّة


يروي الأديب الراحل طه حسين في "أيّامه" أنّه لمّا كان يدرس في فرنسا طًلب منه و من زملائه كتابة موضوع عن الحياة الحزبيّة في فرنسا بعد سقوط نابليون، فحاول إعداده كما ينبغي و قدّمه إلى الأستاذ. "و جاء يوم النقد فاستعرض الأستاذ ما قدّم إليه من الواجبات ناقدا ساخرا مندّدا متندّرا موبّخا بعض الطلاب أحيانا حتّى إذا ذكر اسم الفتى لم يزد على أن ألقى إليه واجبه معقّبا بهذه الجملة المرّة الّتي لم ينسها قطّ : "سطحيّ لا يستحقّ النقد". و كان لهذه الكلمة وقع لاذع في نفس الفتى أمضّه بقيّة يومه" و كيف لا و عمله لم يصل حتّى إلى مستوى أعمال باقي زملائه فيستحقّ السخريّة و التنديد و التندّر و التوبيخ... لعلّ الأستاذ كان قاسيا مع صاحبنا، و لكن بغضّ النظر عن هذه الحادثة، فإنّ الناقد قد يقف حائرا أمام غثاثة بعض الأعمال و تفاهتها و عدم جدّيتها و قد لا يجد عبارة تصلح لتقييمها غير تلك الّتي استعملها أستاذ صاحبنا: "سطحيّ لا يستحقّ النقد"... هذه العبارة قفزت إلى ذهني مباشرة بعد أن شاهدت "الشريط الحدث" "الّذي حطّم الأرقام القياسيّة في عدد المشاهدين"، شريط "سينيشيتا" أو "7 شارع الحبيب بورقيبة". و لكنّي مع ذلك سأكون أكرم من أستاذ عميد الأدب العربي و أمنح هذا الشريط شرفا لا يستحقّه، شرف النقد...

و لكي لا أتّهم بالسلبيّة و التجنّي على الإنتاج التونسي و الاستخفاف بالقدرات المحليّة، يجب أن أعترف بأنّ في الشريط نقطتين إيجابيّتين: أولاهما أنّه لم يحصل على دعم عمومي، و بذلك لم تذهب أموال الشعب هدرا و هو ما يشكر عليه مسؤولو وزارة الثقافة، إذ أنّهم كانوا ينبغي أن يحاسبوا على سوء التصرّف لو كانوا وافقوا على منح الدّعم لمثل هذا الشريط...أمّا ثانيتهما، فهي أنّ الدّعاية لهذا الشريط كانت ناجحة للغاية و تمثّل قفزة نوعيّة للأفلام التونسيّة في مجال التسويق، إذ رغم سطحيّة الفيلم، نجح منتجوه في دغدغة فضول عدد كبير من المواطنين الأبرياء المتعطّشين لمشاهدة انجاز تونسي راق و ذلك بالقضايا الّتي زُعم أنّه يطرحها، و قد كنت ممّن وقعوا في فخّ هذه الدّعاية، فرغم أنّي قرأت مقالا في صحيفة الصباح الأسبوع الماضي (أظنّه لمحسن الزغلامي) يصفه بأنّه شريط لا يقدّم قضايا تهمّ بحقّ المواطن التونسي، فإنّي لمّا قرأت قصّة الشريط كما أوردتها بعض الصحف و المواقع (مجموعة من الشبّان ترفض الرقابة شريطهم فيقومون بالسطو على بنك لتمويله) اعتبرت أنّ مجرّد طرح مثل هذه المشاكل يعتبر جرأة كبيرة و اتّهمت ظلما كاتب المقال بالتعسّف في نقده على الشريط قبل أن أكتشف أنّ ما قاله كان ملطّفا جدّا قياسا إلى مستوى الشريط.

يمكن اعتبار الشريط ممتازا...إلى حدود مرور ثلاث دقائق بعد بدايته، إذ يستنفد قضاياه كلّه في هذه المدّة و كأنّ صاحب العمل يقول "تحبّو عالقضايا؟ أهيّة القضايا ! ". رفض لجنة التمويل العمومي( و ليست لجنة الرقابة) لسيناريو الشبّان الثلاثة(رغم أنّه يتّضح بعد ذلك أنّ السيناريو لم يكتمل إذ يعدّل باستمرار) بتعلّة إثارته لقضايا التطرّف الديني يتمّ التعرّض إليه بسرعة طائرة نفّاثة دون الرجوع إليه بعد ذلك، إذ أنّ الشريط لم يوضع لكي يعالج قضايا، بل ليتاجر بقضايا...قضايا أقحمت إقحاما لتمكّن المخرج و صحبه من التفاخر بالعمل النضالي و البطولي و الاستشهادي الّذي قاموا به في سبيل الفنّ و من استغلال أولئك المساكين الّذين يعتقدون فعلا فيما قد قيل عن الشريط و جاؤوا يمنّون النفس بمشاهدة عمل تونسي جريء...لا يمكن أن أقتنع أنّ ثلاث دقائق في أوّل الفيلم و ملاحظة عابرة لا معنى لها حول اللون البنفسجي لغطاء السرير أو حول الرقم سبعة المكتوب فوق السيّارة يمكن أن يجعل منه ذا قضيّة...و تتأكّد النزعة التجاريّة من خلال تلك المشاهد الساخنة الّتي تتخلّل الشريط و الّتي لا علاقة لها من قريب أو من بعيد بموضوعه بل هي بادية الافتعال إلى حدود الفجاجة، و لعلّ من أنجز العمل أحسّ بأنّ شريطه مضجر للغاية(الشبّان يختبئون طيلة الوقت في شقّة منتظرين الفرج) و لا يمكن للمشاهد أن يتمّه فاختار أن يضع بعض "التوابل" الّتي قد تبقيه مكانه لبعض الوقت و هو ما يعكس قلّة احترام و استهانة بوعي المشاهدين. كان بالإمكان مثلا أن يكون هذا الشدّ عبر إضفاء نوع من التشويق من خلال عرض تفاصيل التخطيط للسرقة و تنفيذه عوض الاقتصار على تصوير شخص يجري حاملا كيسا !

أمّا في ما يخص أداء الممثّلين، فأقلّ ما يقال عنه أنّه لا يليق بممثّلين محترفين، بل أنّه لا يليق حتّى بالهواة...فجميعهم (كبارهم و صغارهم) دون استثناء أدّوا دورهم دون إتقان و بالغوا في حركاتهم. قد ألتمس للشبّان منهم عذرا في نقص تجربتهم و الضعف الفادح للسيناريو و الإخراج الّذي من المفروض أن يقوم بتوجيههم، و لكن ما عذر" نخبة ممثّلي تونس" و لماذا قبلوا تلطيخ سيرتهم الفنيّة بالمشاركة في شريط بهذا المستوى الهزيل؟ أ بلغ اليأس منهم درجة تجعلهم يقبلون بالمشاركة في أيّ عمل مهما كان مستواه؟ حتّى اللقطات الّتي من المفروض أن تثير الضحك كانت تهريجا تجاوزه حتّى مهرّجو السيرك، إذ أنّه كان بالدرجة الأولى إضحاكا بالحركات كان من الممكن أن تقبل لو كان الشريط موجّها للأطفال...

مشاهدة هذا الشريط أكّدت لي أنّنا ما زلنا في "العالم الثالث الفنّي" و هو ما لا يمكن أن يكون راجعا إلى ضعف الإمكانيات لأنّ تجارب أخرى (كسينما أميركا اللاتينيّة و أوروبا الشرقيّة و خاصة السينما الإيرانيّة) تمكّنت من بلوغ مستوى راق للغاية بميزانيات تقلّ عن تلك المخصّصة للأفلام التونسيّة، و يبقى السؤال المطروح هو: لماذا نعيش أزمة إبداع؟

الخميس، 12 فبراير 2009

الوطن الرحباني: أطلنتس الضائعة (2)


الوطن الرحباني كوطن رمزي


من "التهم" الّتي وجّهت إلى الرحابنة أنّهم تجاهلوا في الأعمال الّتي قدّموها طبيعة العلاقات الاجتماعيّة و السياسيّة القائمة في لبنان و رسموا لبلدهم صورة طوباويّة موغلة في المثاليّة للبنان "أخضر حلو"، وطن "للندى و الزنبق"، يغنّي "الميجانا" و يرقص "الدبكة" و ينشد للحبّ و السلام، و بعبارة أخرى، وجّهت للرّحابنة تهمة تخدير شعوبهم بالتغنّي عن وطن أشبه بـ "إرم" لا يوجد إلا في مخيّلتهم في حين كان لبنان على شفا الانفجار، و هو ما وقع سنة 1975 محطّما آمال شعب في وطن لم يوجد قطّ...أعتقد أنّ هذه النظرة تعكس خلطا غير مقبول بين الخيال و التخدير، فإذا كانت المخدّرات تغييبا سلبيّا يترجم هربا و استسلاما من مواجهة مشاكل الواقع، فإنّ الحلم هو خطوة ضروريّة لتجاوز مرارة الواقع و الارتقاء بالنفوس المتصارعة إلى ما فوق التناحر و الانشقاق، و كيف يقع الانعتاق من قسوة الواقع إن توقفنا عندها و غرقنا فيها و في وحشيّتها لم نتحدّث إلا عنها و لم نتخيّل صورة نريد أن يكون الواقع عليها و كما يقول توفيق الحكيم "الفاصل الوحيد بين الإنسان و الحيوان هو "الخيال".إنّ اليوم الّذي يستطيع فيه الحيوان أن يحيا دقيقة واحدة، خارج الواقع و المادة...اليوم الّذي يلجأ فيه الحيوان إلى طرق معنويّة غير مباشرة للوصول إلى غاياته...اليوم الّذي يستطيع فيه الحيوان أن يمضي الليل "يحلم" في غابته المقمرة بدلا من مطاردة الفريسة، هذا اليوم يكون آخر عهده بالحيوانيّة..."الحلم" هو العالم العلوي الّذي لا يدخله حيوان"...هذا ما حاول الرحابنة انجازه، أن يسموا باللبنانيين فوق ذلك الواقع الدموي الملفوف بالتمّزق و التشرذم إلى دعوة للمشاركة في حلم يكون فيه لبنان قطعة من السماء...و حتّى عندما انفجر لبنان، لم يزحزح الانفجار إيمانهم بحلمهم قيد أنملة، بل ظلّ راسخا كالطود، كإيمان الأنبياء...ففي أحلك الفترات الّتي عاشها لبنان كان صوت فيروز يأتي صادحا مؤكّدا أنّ لبنان "ما بيموت" و أنّه "راجع بأصوات البلابل"...و عندما كانت بيروت تدمّر، غنّت في ثقة "الإيمان الساطع" "ارجعي يا بيروت...ترجع الأيّام"...


هذا الإيمان بالوطن تجاوز صداه حدود لبنان فشارك في عيش الحلم الرحباني أفراد فرّقتهم حدود البلدان و الملل و لكن جمعهم صوت فيروز فكان لهم وطنا يجمعهم من دون باقي الأوطان...صوت لعلّ أصدق ما قيل فيه:" أغمض عينيك عندما تستمع إلى فيروز...إنّنا لا نستطيع أن نرى الملائكة، و لكن يحدث أحيانا أن نسمعها تغنّي"...صوت غنّى للبنان دون أن يشعرك بأنّ لبنان وطن بعيد عنك، لا تعنيك همومه بل تؤمن إذا استمعت إليه أنّه وطنك الّذي تنتمي إليه، لا سيما و نفس الصوت يغنّى لتونس و سوريا و مصر و العراق و غيرها من البلدان محطّما تلك الحدود الّتي لا توجد إلا في أذهان من رسموها...صوت غنّى للسيّد المسيح و السيّدة العذراء كما تغنّى بمدح النبيّ صلّى الله عليه و سلّم و بمكّة فكسر بذلك قيودا طالما كبّلت العقل عن الصراع بين الأديان...عندما تستمع لفيروز، فإنّك تحسّ أنّك تصلّي دون أن تكون مضطرّا لأن تركع أو تسجد أو أن تؤدّي أيّ طقس من الطقوس...فقط تحرّر جسدك من كلّ ما يقيّده و تستسلم لذلك الشعور بالخشوع الّذي يتملّكك و أنت تصغي لصوت آت من السماء...صوت قدّيسة...من يستمع إلى فيروز و يزعم أنّه لا يحسّ بروحه تعلو خفّاقة إلى الملأ الأعلى فاعلم إنّه إمّا عنيد مكابر أو أرضيّ شديد اللصوق بالثرى، قد سلبت روحه فلا يستطيع إلى السماء ارتفاعا...


موت الوطن


دخل الوطن الرحباني في حالة "موت سريري " منذ انفصال الأخوين رحباني عن فيروز و هو انفصال كان كما قال أحد الكتّاب "أشبه بزلزال و تصدّع فنّي..و ما حصل في الوجدان العربي كان أشبه ما يكون بنكسة جديدة و انحدار جديد لم يكن هذه المرّة سياسيّا و إنّما كان انحدارا فنيّا"...اتّجهت فيروز إلى العمل مع ابنها زياد فلم تعد "فيروزا" إذ فقد غناؤها لونه السماوي و نقاوته و قيمته، فزياد ، على نبوغه، اختار أن يكفر بالوطن الرحباني فجاء فنّه محمّلا بهموم الواقع و مشاكله و تعابيره فكانت فيروز زياد أرضيّة، شديدة البعد عن السماء و فقدت بذلك صفتها كـ"جارة للقمر" و "سفيرة للنجوم" و بذلك حرم زياد الإنسانيّة من صلة كانت تعصمه من الغرق في الماديّة، و لعلّه بذلك أكثر استحقاقا لأن يحاكم من أجل جرائم ضدّ الإنسانيّة من مجرمين مزعومين آخرين...

أمّا الأخوان رحباني فقد حاولا أن يتعاملا مع أصوات أخرى تواصل حمل رسالتهم و لكن أنّى يجود الزمان بقدّيستين؟ فقد جاءت أعمالهما بعد فيروز محاولة باهتة لإنعاش جسد هامد...ثمّ مات عاصي سنة 1986 و بقي منصور وحده وفيّا لتقاليد وطن بناه بيديه و رفض أن يتخلّى عنه فبقي في ذلك الوطن نفَس يتردّد و يعيش على أمل واه بالعودة يوما... حتّى رحل منصور و برحيله أسدل الستار نهائيّا على وطن...هوى كأطلنتس و ابتلعته مياه المحيط و طمست آثاره...إلا من ذكرى مضيئة لا تزال تخفق بها قلوب كلّ من كانوا مواطنين في ذلك الوطن الكبير.



الجمعة، 30 يناير 2009

الوطن الرحباني: أطلنتس الضائعة (1)

من المقولات الشهيرة لأمادو همباتي با: "في إفريقيا، إذا مات شيخ فإنّ مكتبة تحترق"، فالتراث في تلك المنطقة من العالم بقي في جزء كبير منه شفويا محفوظا في صدور الرّجال، لم يخطّ في صفحات الكتب، فإذا مات أحدهم فإنّ جزء من التراث يضيع إلى الأبد فالشيوخ هناك يقومون بنقله من جيل إلى جيل، و هو دور هام جدّا، لا شكّ في ذلك، فالتراث جزء من هويّة أيّ وطن من الأوطان، و بالتالي، فإذا مات شيخ هناك فإنّ جزء من الوطن يموت معه...و لكن في مناطق أخرى من العالم، هناك أشخاص إذا ماتوا تموت معهم أوطان بكاملها...

مات منصور رحباني، لحق بشقيقه عاصي إلى السماء الّتي كانا لها لسانا ردحا من الدهر و أصبح "الأخوان رحباني" صفحة تقرأ في تاريخ الفنّ...رحل آخر من تبقّى من أعمدة "الوطن الرحباني"، فغمرت مياه المحيط العاتية هذا الوطن الّذي اختفى، تماما كجزيرة أطلنتس الأسطوريّة الضائعة إلى الأبد...وطن كان شهابا مارا، و لكن شديد الشعاع...هو وطن طمست معالمه منذ أكثر من ربع قرن، لكن ظلّ منصور حاملا رايته طيلة تلك المدّة حتّى لبّى داعي الرحيل، و لعلّه كان يردّد في نفسه قبل أن يركب السفينة:"اللي بدّو يصير ما عاد يهم، أنا لعبت الدور و الدور المهم"، و كيف لا و هو قد ساهم في تكوين وطن رحباني بمعناه الفنّي و الرمزي.


الوطن الرحباني كوطن فنّي


لو شئنا اعتماد التعابير الشائعة، لتحدّثنا عن مدرسة رحبانيّة...لكن هذا المصطلح غير كاف للتعبير عن إضافة الرحابنة للموسيقى العربيّة إذ أنّهم لم يكونوا مجرّد اتّجاه له بعض الخصائص في إطار نموذج سائد بل كان فنّهم قلبا لجميع المعايير و القوالب الّتي سبقتهم حتّى أنّه يمكن الحديث عن فنّ "قبل رحباني" و فنّ "بعد رحباني". لقد كان الرحابنة كعلّيسة الّتي غادرت وطنها لتؤسّس في مكان بعيد وطنا جديدا...و يمكن القول أنّ الرحابنة قدّموا التجربة الوحيدة الّتي يمكن أن تعتبر مشروعا فنّيّا متكاملا..."وطنا فنيّا".


قبل الرّحابنة، كان هناك نوع من النمط الّذي يحكم الأغنية العربية و الأغنية المثال في إطار هذا النمط هي أغنية باللهجة المصريّة(قد يكون ذلك راجعا لكون مصر كانت البلد الأكثر حركيّة على المستوى الثقافي في الوطن العربي و هو ما تعزّز مع دور الشوام المهاجرين إليها أيّام الحكم العثماني إضافة إلى ما يمكن تسميته بنزعة المركزيّة المصريّة الّتي تريد أن تجعل من مصر محور كلّ ما يقع من أمر في أيّ مكان من البلاد العربيّة، و هي نزعة كان لها فيما أرى أثر سلبي خصوصا على المستوى السياسي) ،و هي أغنية تدوم لمدّة طويلة إذ أنّ أغنية لا تتجوز بضع دقائق كانت تعتبر هذرا و في أحسن الحالات أغنية غير جادّة ، و هي كلماتها تدور حول نفس المعاني (الحبّ و الهجر و الرغبة في الوصال...) ألحانها لم توضع إلا لإبراز القدرات الصوتيّة لمؤدّيها، يتكرّر فيها المقطع الواحد عدّة مرّات لتمكين المستمعين من "الطرب" و بالجملة كانت الأغنية المثال هي أغنية التخدير...هذا النمط قام الرحابنة بهدمه من أساسه.


استعمل الرحابنة في أغلب أغانيهم لهجة لبنانيّة تنتقى فيها الكلمة كما تنتقى اللآلئ في عقد يهدى لملكة، أو كما قيل في كلام الإمام الشافعي "ما سمعته تكلم بكلمة إلا اعتبرها المعتبر لا يجد كلمة في العربية أحسن منها"...هي كلمات غاية في البساطة، يفهمها الجميع حتّى من غير اللبنانيين بعيدة عن التعقيد و المتاهات الفكريّة (و هنا أتحدّث عن الأعمال الرحبانيّة "الخالصة"، ممّا يستثني الأعمال الّتي كتبها غير الرحابنة، لا سيما سعيد عقل رائد الرمزيّة)...و هي مع ذلك بعيدة عن كل إسفاف و ابتذال بل أنّها ببساطتها تخلق عالما أقرب إلى الخيال (و هو ما سيتم التطرّق إليه في الجزء الثاني)...تقترب لغة الرحابنة من الفصحى و تدانيها حتّى تكاد تلامسها، و لعلّها بذلك ترسم مثالا لعربيّة مبسّطة أو عاميّة مهذّبة تقع في منتصف الطريق بين العاميّة المبتذلة و الفصحى المتقعّرة...

أمّا عن مدّة أغاني الرحابنة، فهي قصيرة نسبيّا إذ لا يتجاوز أطولها الربع ساعة و عادة ما تكون في حدود ثلاث أو أربع دقائق و أحيانا تنزل إلى دقيقة و نيف، ذلك أنّ الرحابنة أعداء التمطيط الاصطناعي و الممجوج و المملّ لمقطع بعينه فغاية الأغنية ليس الإطراب في حدّ ذاته، و هو ما كان سهل التحقيق في ظلّ وجود صوت كصوت فيروز(و ربّما استسلم الرحابنة لهذا الإغراء في بعض الأغنيات الـ "شبه طربيّة" كـ "غنّيت مكّة")، بل أنّ الهدف هو إيصال رسالة في الوقت الّذي يستوجبه ذلك، فلا حاجة إلى تكرار نفس الكلمات لمدّة ساعة إذا كان المعنى يدخل إلى قلب المتلقّي في دقيقة (و ربّما يضيق به ذرعا بعد ذلك)...و لعلّ أفضل مثال على ذلك أغنية "بيقولو صغيّر بلدي" الّتي تدوم دقيقة و أربعا و عشرين ثانية و مع ذلك فليست بحاجة إلى أيّ ثانية إضافيّة ليصل المعنى...

و في ما يخصّ الألحان، بعث الرحابنة التراث اللبناني خلقا جديدا فخرجوا به من إطار الفلكلور الميّت الّذي يغنّيه الشيوخ متحسّرين على أيّام زمان و استلهموه، على اختلاف أشكاله(الحضري و الريفي و حتّى البدوي) في عدد كبير من الأغاني، حتّى أصبح من الصعب التمييز في أغلب الأحيان بين الأغنية التراثيّة و الأغنية الرحبانيّة...أصبح التراث مع الرحابنة نابضا عامرا بالحياة و أصبحت أغاني الرحابنة تراثا يغنّي "الدبكة" و "الميجانا"...و مع ذلك، لم ينغلق الرحابنة في حدود وطنهم و استفادوا من التجارب السابقة و حتّى المعاصرة لهم إذ تعاملوا مثلا مع محمّد عبد الوهّاب فقاموا بإعادة توزيع بعض أغانيه (كـ "يا جارة الوادي") و غنّت فيروز من ألحانه بعض أروع أغانيها ("اسهار" و "سكن الليل") كما أنّهم انفتحوا على الموسيقى الغربيّة و استعملوا آلاتها في بعض الأغنيات دون أن يظهر أثر للافتعال في هذا الإقحام (كما في أغنية "يا نسيم الدّجى" و "كنّا نتلاقى")...

و من مميّزات الوطن الرحباني تجربة المسرحيات الغنائية و هي تجربة فريدة، إذ لم تكن مسرحيّات الرحابنة مغنّاة من أوّلها إلى آخرها على غرار مسرحيات شوقي و لم تكن مسرحيّات "نثريّة" بل كانت مزيجا بين هذين النموذجين إذ يختلط السرد بالحوار و الغناء في إطار عجائبي تارة (كمسرحيّة "جسر القمر")، واقعي تارة أخر (كـ "لولو") و تاريخي طورا آخر (كـ"أيّام فخر الدّين")...


و زيادة على هذه الخصائص الّتي تهمّ شكل الفنّ الرحباني، قفز الرحابنة بمضمون تجربتهم إلى المستوى الّذي يخوّل الحديث عن وطن رحباني بالمعنى الرمزي للكلمة.
(يتبع)

الخميس، 13 نوفمبر 2008

مفهوم الصداقة بين الحقيقة و الخرافة

من أقوال العرب في الجاهليّة: "المستحيلات ثلاث: الغول و العنقاء و الخلّ(الصديق) الوفيّ". في رأيي أنّ في هذا القول تعسّفا في أحد جوانبه و حقيقة في الجانب الآخر. من قال أنّ الغول و العنقاء لا يمكن أن يوجدا؟ قد تتاح الفرصة لأحد من الناس ليصارع غولا (كما زعم "تأبّط شرّا" في شعره) أو يشهد بعث عنقاء من تحت الرّماد، و حتّى إن لم يوجدا حقيقة، فإنّ رمزيّة الكائن المتوحّش الخارج عن حدود البشريّة و الطائر الّذي يحترق ثمّ ينبعث من بعد موته جميلا فتيّا قويّة الحضور في كافة مستويات الحياة ممّا ينفي عنها صفة المستحيل. أمّا الجانب الثاني من القول فهو الّذي يكشف بحقّ عن حكمة العرب القدامى: الصداقة من المستحيلات. قد تختلف نظرتنا إلى الصداقة و لكنّني أراها أنّ مجمل التعريفات الممكنة لها لا تخرج في مجملها عن نظرتين: نظرة تجعلها منها شيئا مستحيلا فعليّا و نظرة تجعلها شيئا مفروضا علينا بشكل يؤدّي أيضا إلى القول بعدم وجودها.

الصداقة المستحيلة
بالرجوع إلى المعاجم العربيّة، تغيب كلمة الصداقة تماما عن القاموس المحيط للفيروزآبادي، أمّا لسان العرب فيورد ما يلي: "الصَّداقةُ والمُصادَقةُ: المُخالّة. وصَدَقَه النصيحةَ والإخاء:أَمْحَضه له. وصادَقْتُه مُصادَقةً وصِداقاً: خالَلْتُه، والاسم الصَّداقة" و هو بذلك يعطي مرادفا و لا يقدّم تعريفا. و لعلّ غياب تعريف واضح للصداقة في أشهر المعاجم العربيّة يعود، و لو جزئيّا، إلى النظرة الموروثة من الجاهليّة و القائلة باستحالة الصداقة. و بالانتقال إلى معجم Encarta بالفرنسيّة، نجد التعريف الآتي، "إحساس بودّ عاطفي و بعطف نحو شخص معيّن دون أن يشكّل ذلك انجذاب حبّ". هذا التعريف يطرح مشكل أنّه لا يضع الحدود بين الصداقة و الحبّ إذ يفهم منه أنّ الصداقة حبّ لم يكتمل أو حبّ في طور البناء ممّا يعني أنّ عواطف الإنسان يمكن قياسها بمقياس ما، مثلا إذا بلغت عاطفة الإنسان نحو شخص آخر 20 درجة فذاك احترام و في 25 درجة يتحوّل إلى إعجاب و في 30 درجة يتحوّل إلى صداقة أمّا في الأربعين فيصبح حبّا. هذا التعريف "التدرّجي" للعاطفة الإنسانيّة يبدو غير مقبول لأنّه يجعل منها شيئا أحاديّ الطبيعة خاضعة لنفس المقياس في حين أنّ العواطف الّتي تعتمل في فؤاد الإنسان متناقضة تستعصي على مثل هذا التحديد، كما أنّها قابلة للتغيير المفاجئ من الطرف إلى الطرف دون أن تمرّ ضرورة بالمراحل الّتي قد يوحي بها وجود مقياس.
لننتقل إلى مستوى آخر، مستوى التعريف التيليولوجي(باستعمال الأهداف) و لنطرح السؤال بالطريقة التالية: ما الّذي ينتظره الناس من الصداقة؟
أجاب أحدهم على هذا السؤال "يجب أن تمازج روحه روحي فيفهمني من غير كلام و يساعدني من غير طلب و أن يكون مرآة صادقة لي أرى فيها عيوبي و خصالي...أريده أن يعظني دون أن يلبس عمامة الواعظ و ينتشلني من همومي دون أن يدّعي حكمة الحكماء و أن يضحيّ بنفسه دون أن يظهر بمظهر الشهيد...أريده صادق اللهجة مثل أبي ذر، قويّا في الحقّ مثل عمر، حليما مثل الأحنف، وفيّا مثل السموأل، مؤثرا على نفسه مثل كعب بن مامة". قد يبدو هذا الكلام شديد العاطفيّة، موغلا في المثاليّة إلى حدّ الطفوليّة و لكن يكفي أن تستعمل أحد محرّكات البحث على الانترنات لتعرف أنّ الجواب العام عن سؤال "ما هو الصديق؟" لا يختلف كثيرا. من الواضح أنّنا هنا إزاء كائن صبّت فيه جميع الفضائل الإنسانيّة صبّا، كائن يتعالى عن البشريّة ليكون أقرب ما يكون إلى الملائكة، و باختصار هو كائن خرافي وجود العنقاء و الغول أيسر منه منالا.
و لئن كان هذا التعريف يؤدّي إلى القول بعدم وجود الصداقة، فإنّ "تعريفا اجتماعيّا" يؤدّي إلى نفس النتيجة رغم اختلافه الجذري عن سابقه.


الصداقة المفروضة
أقصد بالتعريف الاجتماعي رؤية معيّنة شائعة للصداقة عزّزتها في الوقت الحالي الشبكات الاجتماعيّة الموجودة على الانترنات.
منذ أن يكون الطفل في سنواته الأولى في المدرسة، يعتاد أن يطلق لفظ "صاحبي" على كلّ من يدرس معه في نفس القسم، بغضّ النظر إن كانت تربطه به علاقة مميّزة أو لا. لا يختلف كثيرا الأمر فيما بعد، فـ"صاحبك" يصبح شخصا تعرفه في المقهى أو يدرس معك في الكليّة أو يعمل معك في نفس المكتب. و بعمليّة تأليفيّة، تجد أنّ كلّ شخص تربطك به علاقة اجتماعيّة تدعوه صديقا. هذه العادة تؤكّدها الشبكات الاجتماعيّة كالفايسبوك، و ما أدراك ما الفايسبوك، إذ تجد أنّ بعضهم قد يصل عدد "الأصدقاء" الموجودين عنده المئات و أحيانا الآلاف دون أن يكون على اتصال وثيق بهم و هو ما يترجمه وجود بعض المجموعات من نوع "إذا أضفتني كصديق في الفايسبوك، فقم على الأقلّ بالسلام عليّ ! "
حسب هذه النظرة إذن كلّ علاقة اجتماعيّة هي صداقة و بما أنّ الإنسان مدنيّ بالطبع فهو مضطرّ لعقد علاقات اجتماعيّة و بالتالي يصبح كلّ شكل من أشكال التواصل الاجتماعي صداقة ! أمّا إذا شئنا معرفة الجواب على سؤال "ما الّذي تنتظره من الصديق؟" فإنّ الجواب يصبح حسب هذه الرؤية: لا شيء، و أتساءل عن أيّ معنى لصداقة لا يمكن أن تحقّق أيّ هدف.
كثرة الأصدقاء تعني أن لا أصدقاء بالمعنى الّذي قصده دعبل الخزاعي لمّا قال" أنّي لأفتح عيني حين أفتحها..على كثير و لكن لا أرى أحدا". و قد تكون هذه الصداقة المزعومة أيضا عبء ثقيلا، إذ قد تجد الأحيان شخصا لا تكاد تذكر وجهه يصيح إذ يراك "خويا !" و يسلّم عليك بالقبلات ثمّ يطلب منك خدمة من النوع الثقيل و يكون عليك أن تذعن لطلبه و إلا ستكون انسانا سافلا حقيرا جاحدا بالصداقة، و هذه الوضعيّة لخّصها ببراعة من قال : "الاستعباد كثرة الإخوان".


كيفما تمّ تعريف الصداقة إذن، تبقى في كلّ الأحيان مفهوما مستحيل التحقيق يتأرجح بين المثاليّة المفرطة و الواقعيّة الفجّة، مفهوما لا يمكن أن يتجسّم في مجتمع بشري و هو ما عبّر عنه الشاعر العتابيّ لمّا سئل: من تجالس اليوم؟ قال: من أبصق في وجهه و لا يغضب؟ قيل: من؟ فأجاب: الحائط !

الجمعة، 22 أغسطس 2008

ثقافة الخوف (4)

المشكل ليس في الدّين نفسه، بل في القراءة الّتي نحملها عنه، فدلالة نفس النصوص تختلف اختلافا بيّنا بحسب الطريقة الّتي نقرأها بها، إذ أنّ المعنى الّذي يستخلصه المعتزلي من القرآن الكريم ليس هو نفس المعنى الّذي يفهمه الأشعري أو الصوفي من نفس النص، و ليس إسلام الغزالي مثل إسلام إبن رشد و ما إيمان إبن تيميّة كإيمان الفارابي و لا الدّين عند حسن البنّا هو الدّين كما فهمه الطاهر الحدّاد أو الحبيب بورقيبة... المشكل أنّ القراءة الطاغية اليوم هي قراءة الخوف و هي قراءة تنفي كلّ القراءات و ترميها بالخروج عن الدّين و تقدّم نفسها على أنّها القراءة الصحيحة الوحيدة يضلّ من خرج عنها ضلالا بعيدا، قراءة تمنع التفكير خارج دائرتها و ترفض كلّ فكر مخالف لها ولا تقبل بالآخر و لا تتسامح مع فكره إلا في أضيق الحدود (كالقبول بالـكشطة بديلا عن "العرّاقيّة"، الشاشية فيها خلاف )، قراءة زعمت الالتصاق بالنصّ حتّى "أزهقت" روحه و أهملت حكمته و عزلته عن سياقه و جمّدته في مكانه، قراءة قلّصت الدّين إلى نظام شمولي قمعي يراقب الفرد في أدقّ حركاته و سكناته و يمسك بخناقه و يحاصره بدائرة "الحرام" حتّى لا يكاد يترك له متنفسّا، قراءة تكرّر نفسها منذ قرون و تعجز عن إنتاج الجديد و مع ذلك تزعم لأتباعها أنّها الحقّ الّذي لا محيد عنه و تغرقهم في طمأنينة التأسّي بالسلف الصالح، طمأنينة الأفيون... في حين أنّ الدّين أرحب بكثير من أن يقف عند حدود هذه النظرة الضيّقة..." صحيح أنّ الدّين استعمل في بعض الأحيان لتخدير الشعوب لكن الدّين في جوهره استجابة لحاجة إنسانيّة، و هو يجيب عن تساؤلات عميقة عند الإنسان، حول مصيره و حول علاقة الدنيا بالآخرة و عن عديد الأسئلة الأخرى الّتي تصنع المعنى. و بما أنّ الدّين يستجيب لحاجة إنسانيّة فإنّه يمكن توظيفه لصالح الشعوب و قد أثبتت ذلك العديد من التجارب التاريخيّة الّتي قام فيها الدّين بدور محدّد في تحرّر الشعوب" (القولة لبورقيبة، أوردها لطفي حجّي في كتابه "بورقيبة و الإسلام")، و لا يمكن أن يكون الدّين تحرّرا أن اختزلناه في قراءة واحدة تزعم امتلاك الحقيقة و تمجّد الخوف و ترهب التقدّم في حين أنّ تاريخنا يزخر بقراءات متنوّعة "ثوريّة" (ستكون موضوعا لتدوينات قادمة إن شاء الله) همّشت و اضطهدت و قمعت في ظلّ هيمنة ثقافة الخوف، هيمنة لا تجب أن تدعنا ننساق إلى التبسيط الاستسهالي و المماهاة بين الدّين و ثقافة تزعم أنّها الدّين...
ليست هناك حلول جاهزة لكسر هيمنة ثقافة الخوف و لكن أعتقد أنّ ذلك لا يكون إلا بتعريتها و كشف مساوئها و فضح تهافتها و هو ما يمكن للفنّ أن يقوم في إطاره بدور هام...الفنّ ثورة دائمة على ما هو بال و التزام أزلي بمعانقة المثالي و إدانة متجدّدة للقمع و التخويف و التخدير( مسرحيّة خمسون مثال جيّد على هذا الدّور، رأيت المشاهدين يخرجون منها باسمين جذلين (بعضهم كان يقهقه كأنّه كاد يشاهد عملا بلغ الغاية في الإضحاك) و ما ذاك إلا لأنّهم نفّسوا عن أعباء ثقيلة جاثمة فوق صدورهم كابتة إيّاهم و ذلك عبر مشاهدة عمل يدين، أخيرا، خمسين سنة من الخوف)... و كنموذج لدور الفنّ، اخترت في نهاية هذا المقال أن أورد هذا النص الّذي لعلّه يلخّص التربية القائمة على الخوف . النصّ للأديب الراحل إحسان عبد القدّوس و مقتطف من آخر مجموعاته القصصيّة "لمن أترك كلّ هذا؟ "...الحوار التالي دار بين الأب رحمي الّذي صفع ابنته بعد أن ضبطها متلبّسة بـ"الشخبطة" (على الورق و ليس على الحيطان) و بين المربيّة سميرة:
"-لا يهم..إنك تجالسينها و تعملين عندي منذ قريب.. و أمامي فرصة لأختبرك.. و على كل حال إنّ ضرب البنات هو أحسن الوسائل لتربيتهن..إني أربّي ابنتي على الخوف..يجب أن تخاف منّي حتّى تخاف من أن ترتكب أيّ خطأ..و حتّى تخاف أن تخرج عن طوعي عندما تكبر..
و قالت سميرة :
-هذه أسوأ طريقة لتربية البنات..البنت الخائفة هي البنت المعذّبة..و البنت المعذّبة هي الّتي تلقي بنفسها في أوّل مصيبة تصادفها..
و قال رحمي و هو يلوي شفتيه احتقارا لما يسمعه و ربّما احتقارا لسميرة نفسها :
-لقد عاشت أمّها معي وهي خائفة دائما..كلّها خوف..و كانت من أنظف و أشرف و أعقل الزّوجات..
و قالت سميرة برنّة ساخرة :
-و لهذا ماتت..رحمها اللّه..
و تجهّم وجه رحمي أكثر و قال بلهجة حادّة:
-إنها خالفتني و تحرّرت من الخوف منّي بأن ماتت..لم أكن قد سمحت لها بالموت .. و أحطتها بكلّ ما يضمن لي أنّها لن تموت..و رغم ذلك ماتت..وأبشع ما فعلته أن تموت و تركت لي ابنتنا فوزيّة لأحمل همّها وحدي، و دون أن تقدّر أنّي لا أستطيع أن أكون أمّا و إن كنت اعتبر خير أب..
و قالت سميرة و هي تنظر إلى رحمي في تعجّب و دهشة:
-ربّما ماتت من الخوف.."

الأحد، 10 أغسطس 2008

ثقافة الخوف (3)

نتاج هذه الثقافة إنسان خائف و الإنسان الخائف هو إنسان سلبي لا يفكّر و لا يفعل إلا إذا أذن له بذلك، وقلّما يؤذن له... يفكّرون بالنيابة عنه و يفعلون بالنيابة عنه و ليس أمامه إلا إحناء الرأس و الخضوع و إلا عدّ عاصيا فاسقا مارقا. الإنسان الخائف تحاصره المحظورات الكثيرة فتكبته و تسكته و تلجمه و تغتاله و تجعله يدمّر نفسه و يدمّر غيره و لا يجد طريقا للاحتجاج إلا في اللاشعور (من المثير للفضول أن يكون سبّ الدّين من الأمور الشائعة في حالات الغضب، أمّا مستويات السلطة الأخرى، فحدّث و لا حرج). الإنسان الخائف لا يستطيع أن يختار حياته لأنّها محدّدة سلفا بأطر ضيّقة يعدّ الخروج عنها انتحارا اجتماعيّا. الإنسان الخائف إنسان خائر العزم، لا يؤمن بنفسه لأنّه يعتقد أنّ مواهبه ستذهب سدى في ظلّ مجتمع لا يقدّرها بل و يرتاب منها بما أنّ ثقافة الخوف كفيلة بقتل أيّ شكل من أشكال الابتكار و الإبداع، أو على الأقلّ حصرها في أضيق نطاق ممكن(ككتابة قصص عن عذاب القبر)، لأنّ الإبداع لا يكون إبداعا إلا إذا كانت فيه جرأة، و الجرأة تثير في نفس من تربّى على الخوف أسئلة من قبيل : هل ما سأقوم به حرام؟ هل سيعاقبني الله إن قمت بذلك؟ و سيجيب نفسه في أغلب الحالات بما يمليه خوفه ، فحتّى إن كان العمل "مستساغا" فإنّ القواعد "الشرعيّة" من جنس "عدم الإلقاء بالنفس في المهالك" و "اتّقاء الشبهات" و الأمثال السائدة من نوع "اخطى راسي و اضرب" و "اللي خاف نجا" ستقوم بعملها. و إن تجرّأ و أبدع فإنّه سيخاطر أن يتعرّض للنبذ من مجتمع مستعدّ لأن يأخذ بأقوال أيّ من الّذين نصّبوا أنفسهم بوّابين للجنّة يدخلون إليها من يشاؤون و يخرجون منها من يريدون و الجاهزين على الدوام لإصدار فتاوى التكفير و الاتهامات بنشر الفسق و الفجور و البحث عن الشهرة الرخيصة و انتهاك المقدّسات و مخالفة النصّ الصريح و "إجماع العلماء" في حقّ أيّ مخلوق يمكن أن تصل به نفسه الأمّارة بالسوء إلى ارتكاب جريمة الإبداع و العياذ بالله !


و من المشروع التساؤل: لماذا يسود ثقافتنا كلّ هذا الخوف؟ لماذا يفرض علينا أن نخاف؟

لعلّ هذا السؤال يجد جوابه في هذه العبارة للأستاذ علي المزغنّي: " الخوف شعور من لا قدرة له على مواجهة الآخر"... التقينا بالآخر و علمنا أنّه "سبقنا إلى الحضارة بأحقاب" كما يقول ابن أبي الضياف فلم نقدر على مجاراته فآثرنا الانكفاء على أنفسنا و الاكتفاء بما نعرفه و لا نكاد نعرف غيره و هو ديننا. انكببنا عليه و ضخّمنا قشوره و فضلات قشوره و اعتبرناها الدّين نفسه، من تمسّك بها سلم و من حاد عنها ضل... غرقنا في تفاصيل تافهة عن الدّين و تشبّثنا بها و جعلنا منها قضايا مصيريّة (كالحجاب مثلا) و اتّهمنا من ناقشها بالتآمر مع الآخر لطمس معالم هويّتنا. نرفع رؤوسنا أحيانا فنجد أنّهم ابتعدوا عنّا شوطا آخر فلا نفكّر في اللحاق بهم بل ننكبّ أكثر على كتب السلف الصالح و نترحّم على زمنهم الّذي كنّا فيه سادة العالم (بل و نعيش في ذلك الزمن) و نظلّ نجترّ آراءهم و نكرّرها و لا نحيد عنها حتّى و إن كانت خرقا أبلاها الزمن ونظنّ بعد ذلك أنّنا تشبّثنا بهويّتنا و بلغنا طمأنينة المتمسّك بدينه..."هكذا نحن، فضّلنا الطمأنينة على مواجهة الأزمة، و لكنّها طمأنينة أفيون و ارتياح مؤسّس على تغييب للحاضر و إحضار للغائب"ّ(سليم اللغماني، المرجع السابق)...الخوف في الثقافة السائدة عندنا هو القيد الّذي يحول دون الانفلات من عقال "هويّتنا الدينيّة"، نربّى عليه حتّى لا نجرؤ على التفكير في التحرّر منها و نحن نراه أمامنا سيفا مشهرا في وجوهنا، و هو سلاح من فقد قدرته على الإقناع و لم يجد له ملاذا إلا الإرهاب و التخويف.

(يتبع: الجزء الرابع و الأخير)

الثلاثاء، 29 يوليو 2008

ثقافة الخوف (2)

إنّ فكرة الخوف المهيمن على ثقافتنا يمكن أن تفسّر(و لو بشكل جزئي) وجود اتّجاهين متضادين و متطرّفين (و كلّ تطرّف مذموم) في المجتمع اليوم: اتّجاه أوّل محدود و لكنّه موجود على كلّ حال يتمثّل في البعد عن الدّين الإسلامي سواء كان ذلك باتّباع طريق التنصّر ( و قد رأيت مقطعا في أحد المواقع يبرّر فيه أحدهم تنصّره بأنّه وجد الله في الإسلام بعيدا عن البشر، و أيّ بعد أكثر من أن يكون الله قامعا لخلقه، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا) أو باتّباع طريق الإلحاد أي نبذ فكرة الدّين نهائيّا و أعتقد أنه في الحالتين وقع هناك دمج في الأذهان بين ثقافة مصطبغة بالدّين تكرّس الخوف في جلّ جوانبها و تمنع من تحقيق الذات و بين الدّين ذاته ممّا أدّى بأصحاب هذا الاتّجاه أن يهربوا إلى حلّ جذريّ عنيف و تبسيطيّ للغاية إذ رفضوا الدّين (الإسلامي) اعتقادا أنّه تسبّب في وجود هذه الثقافة. أمّا الاتّجاه الثاني الأكثر انتشارا هذه الأيّام فهو "التديّن المفرط" الّذي يمارسه بعض الشبّان بإطلاق لحاهم و ارتداء "عرّاقية" و قميص فضفاض و الحرص على أن يكون السروال مشمّرا يعلو الكعبين بما لا يقلّ عن 2,5 مم و كذلك بعبوس الوجوه و التذمّر من الانحراف عن "السلف الصالح". هؤلاء هربوا من الخوف إلى مزيد من الخوف فداووا خوفهم المتولّد من الخضوع لسلطة الخوف إلى الانخراط في هذه السلطة و ممارستها ضدّ الآخرين. هؤلاء يظنّون أنّهم امتلكوا الطمأنينة و راحة البال في طرفة عين و لكن ما امتلكوه حقّا هو السلطة، سلطة الاستحواذ على "الحقيقة المطلقة" و التحدّث باسمها و حتّى إجبار الآخرين على الانصياع إليها فتراهم يعظون الفسّاق العاصين (الّذين كانوا منهم بالأمس) بل و يمارسون أحيانا الإفتاء في ثقة المتيقّن من علمه الغزير الّذي قضّى في تحصيله أكثر من 24 ساعة ( كما يقول عنهم أحد الأصدقاء: يصلّي ركعتين ثمّ يفتي).


و لا تقتصر آثار هذه الثقافة على إنتاج التطرّف باتّجاهيه، فمثل هذه المواقف تبقى، إلى حدّ الآن فيما أرى، هامشيّّة و مقتصرة على عدد محدود من الأفراد ولكن لعلّ خطورة هذه الثقافة تكمن في كونها لا تقتصر على الجانب الديني "البحت" بل تمتدّ لتشمل كافة جوانب الحياة و تؤسّس للاستبداد و القمع في جميع مستوياتها وهو ما يعزى إلى ما يمكن تسميته " الطابع التأسيسي للدّين" (لعلّها سمة مشتركة لمجتمعات ما قبل الحداثة) إذ أنّ جميع السّلط في المجتمع،انطلاقا من العائلة (سلطة الزوج، الأب) وصولا إلى الدّولة، تستمدّ مشروعيّتها بشكل من الأشكال من الدّين حتّى و إن كانت علاقتها بالدّين لا تعدو أن تكون شكليّة، إذ أنّ النظرة إلى الدّين في هذه المجتمعات لا تعرف الوقوف عند حدود العبادات و الغيبيّات بل لا بدّ أن يكون له (أي الدّين) موقف من كلّ ما يحدث في المجتمع، فلا تتأسّس سلطة داخله إلا بمباركته، ففيما يخصّ السلطة السياسيّة مثلا نجد أنّ بعض الدّول "الحديثة" تستند إلى مفهوم الإجماع المأخوذ من علم أصول الفقه ( و هو مفهوم غامض لا يكاد يتّفق على مضمونه فقيهان و هذا الغموض يستغلّ من طرف من يملك القوّة اللازمة للتحدّث باسمه) لتبرّر قمعها لجميع من يخالفها بدعوى حماية المجتمع من الطغمة الفاسدة الّتي تهدّد "إجماع" المجتمع. و تتعزّز هذه المشروعية إذا كانت السلطة السياسيّة تحتكر الحديث باسم الدّين و ذلك من خلال تدويل مؤسسّاته كدور الإفتاء(انظر أسماء نويرة بن دعيّة، مفتي الجمهوريّة في تونس) و احتكار وظيفة الإشراف عليه و تعميم الدعاء لوليّ الأمر على المنابر، و لا ننسى أنّ طاعة وليّ الأمر مبدأ متّفق عليه بين جلّ المذاهب على اختلاف أسسها إذ يؤسّسه الشيعة على نظريّة عصمة الإمام (وهي نظريّة يبدو أنّه وقع تبنّيها من قبل أنظمة معاصرة غير شيعيّة) و يؤسّسه السنّة على الخوف من الفرقة حتّى إن كان الحاكم وصل إلى الحكم بطريقة غير شرعيّة إذ يقول الشافعي أنّ أيّ قرشيّ غلب على الخلافة بالسيف حتّى بايعه الناس فهو خليفة (انظر محمّد الجويلي، صورة الزعيم في المخيال العربي الإسلامي). فالعلاقة بين الحاكم و المحكوم في مثل هذه المجتمع لا تتأسّس على عقد اجتماعي عقلاني يقوم على توازن بين حقوق و واجبات كلّ منهما بل أنّ كفّة الميزان تميل بشكل واضح في اتّجاه تكريس واجب الطاعة المطلقة لوليّ الأمر، باعتبارها فريضة دينيّة، بما تعنيه هذه الطاعة من خضوع و امتثال و..خوف، إذ يكون من يعارض هذه السلطة أو يجرؤ على مناقشتها زائغا ضالا مضلا منحرفا عن "إجماع المجتمع" يجب استئصاله للحفاظ على كيان "الأمّة". لذلك إذا ما تمادى صاحب السلطة في الظلم فإنّ الحلّ هو الصبر "الجميل" على الأذى (فرارا من وصمة الانحراف هذه) و انتظار قد يبلغ الأبديّة لمجيء الحاكم المثالي الّذي تتماهى صورته عندنا مع صورة "المستبدّ العادل"، ذلك المستنير الّذي يمسك بزمام جميع الأمور بيده و يقودنا بعصاه إلى تحقيق الفردوس الأرضي و هذا النوع من الحكم "يفترض إماما معصوما و مالكا للحقيقة بالكشف و الإلهام، حكم يفصل بين الراعي و الرعيّة و يجعل بينهما نفس المسافة الّتي تفصل راعي الإبل عن إبله" (سليم اللغماني، "الحداثة و الديمقراطيّة"، في "مقالات في الحداثة و القانون").

(يتبع)