الخميس، 13 نوفمبر 2008

مفهوم الصداقة بين الحقيقة و الخرافة

من أقوال العرب في الجاهليّة: "المستحيلات ثلاث: الغول و العنقاء و الخلّ(الصديق) الوفيّ". في رأيي أنّ في هذا القول تعسّفا في أحد جوانبه و حقيقة في الجانب الآخر. من قال أنّ الغول و العنقاء لا يمكن أن يوجدا؟ قد تتاح الفرصة لأحد من الناس ليصارع غولا (كما زعم "تأبّط شرّا" في شعره) أو يشهد بعث عنقاء من تحت الرّماد، و حتّى إن لم يوجدا حقيقة، فإنّ رمزيّة الكائن المتوحّش الخارج عن حدود البشريّة و الطائر الّذي يحترق ثمّ ينبعث من بعد موته جميلا فتيّا قويّة الحضور في كافة مستويات الحياة ممّا ينفي عنها صفة المستحيل. أمّا الجانب الثاني من القول فهو الّذي يكشف بحقّ عن حكمة العرب القدامى: الصداقة من المستحيلات. قد تختلف نظرتنا إلى الصداقة و لكنّني أراها أنّ مجمل التعريفات الممكنة لها لا تخرج في مجملها عن نظرتين: نظرة تجعلها منها شيئا مستحيلا فعليّا و نظرة تجعلها شيئا مفروضا علينا بشكل يؤدّي أيضا إلى القول بعدم وجودها.

الصداقة المستحيلة
بالرجوع إلى المعاجم العربيّة، تغيب كلمة الصداقة تماما عن القاموس المحيط للفيروزآبادي، أمّا لسان العرب فيورد ما يلي: "الصَّداقةُ والمُصادَقةُ: المُخالّة. وصَدَقَه النصيحةَ والإخاء:أَمْحَضه له. وصادَقْتُه مُصادَقةً وصِداقاً: خالَلْتُه، والاسم الصَّداقة" و هو بذلك يعطي مرادفا و لا يقدّم تعريفا. و لعلّ غياب تعريف واضح للصداقة في أشهر المعاجم العربيّة يعود، و لو جزئيّا، إلى النظرة الموروثة من الجاهليّة و القائلة باستحالة الصداقة. و بالانتقال إلى معجم Encarta بالفرنسيّة، نجد التعريف الآتي، "إحساس بودّ عاطفي و بعطف نحو شخص معيّن دون أن يشكّل ذلك انجذاب حبّ". هذا التعريف يطرح مشكل أنّه لا يضع الحدود بين الصداقة و الحبّ إذ يفهم منه أنّ الصداقة حبّ لم يكتمل أو حبّ في طور البناء ممّا يعني أنّ عواطف الإنسان يمكن قياسها بمقياس ما، مثلا إذا بلغت عاطفة الإنسان نحو شخص آخر 20 درجة فذاك احترام و في 25 درجة يتحوّل إلى إعجاب و في 30 درجة يتحوّل إلى صداقة أمّا في الأربعين فيصبح حبّا. هذا التعريف "التدرّجي" للعاطفة الإنسانيّة يبدو غير مقبول لأنّه يجعل منها شيئا أحاديّ الطبيعة خاضعة لنفس المقياس في حين أنّ العواطف الّتي تعتمل في فؤاد الإنسان متناقضة تستعصي على مثل هذا التحديد، كما أنّها قابلة للتغيير المفاجئ من الطرف إلى الطرف دون أن تمرّ ضرورة بالمراحل الّتي قد يوحي بها وجود مقياس.
لننتقل إلى مستوى آخر، مستوى التعريف التيليولوجي(باستعمال الأهداف) و لنطرح السؤال بالطريقة التالية: ما الّذي ينتظره الناس من الصداقة؟
أجاب أحدهم على هذا السؤال "يجب أن تمازج روحه روحي فيفهمني من غير كلام و يساعدني من غير طلب و أن يكون مرآة صادقة لي أرى فيها عيوبي و خصالي...أريده أن يعظني دون أن يلبس عمامة الواعظ و ينتشلني من همومي دون أن يدّعي حكمة الحكماء و أن يضحيّ بنفسه دون أن يظهر بمظهر الشهيد...أريده صادق اللهجة مثل أبي ذر، قويّا في الحقّ مثل عمر، حليما مثل الأحنف، وفيّا مثل السموأل، مؤثرا على نفسه مثل كعب بن مامة". قد يبدو هذا الكلام شديد العاطفيّة، موغلا في المثاليّة إلى حدّ الطفوليّة و لكن يكفي أن تستعمل أحد محرّكات البحث على الانترنات لتعرف أنّ الجواب العام عن سؤال "ما هو الصديق؟" لا يختلف كثيرا. من الواضح أنّنا هنا إزاء كائن صبّت فيه جميع الفضائل الإنسانيّة صبّا، كائن يتعالى عن البشريّة ليكون أقرب ما يكون إلى الملائكة، و باختصار هو كائن خرافي وجود العنقاء و الغول أيسر منه منالا.
و لئن كان هذا التعريف يؤدّي إلى القول بعدم وجود الصداقة، فإنّ "تعريفا اجتماعيّا" يؤدّي إلى نفس النتيجة رغم اختلافه الجذري عن سابقه.


الصداقة المفروضة
أقصد بالتعريف الاجتماعي رؤية معيّنة شائعة للصداقة عزّزتها في الوقت الحالي الشبكات الاجتماعيّة الموجودة على الانترنات.
منذ أن يكون الطفل في سنواته الأولى في المدرسة، يعتاد أن يطلق لفظ "صاحبي" على كلّ من يدرس معه في نفس القسم، بغضّ النظر إن كانت تربطه به علاقة مميّزة أو لا. لا يختلف كثيرا الأمر فيما بعد، فـ"صاحبك" يصبح شخصا تعرفه في المقهى أو يدرس معك في الكليّة أو يعمل معك في نفس المكتب. و بعمليّة تأليفيّة، تجد أنّ كلّ شخص تربطك به علاقة اجتماعيّة تدعوه صديقا. هذه العادة تؤكّدها الشبكات الاجتماعيّة كالفايسبوك، و ما أدراك ما الفايسبوك، إذ تجد أنّ بعضهم قد يصل عدد "الأصدقاء" الموجودين عنده المئات و أحيانا الآلاف دون أن يكون على اتصال وثيق بهم و هو ما يترجمه وجود بعض المجموعات من نوع "إذا أضفتني كصديق في الفايسبوك، فقم على الأقلّ بالسلام عليّ ! "
حسب هذه النظرة إذن كلّ علاقة اجتماعيّة هي صداقة و بما أنّ الإنسان مدنيّ بالطبع فهو مضطرّ لعقد علاقات اجتماعيّة و بالتالي يصبح كلّ شكل من أشكال التواصل الاجتماعي صداقة ! أمّا إذا شئنا معرفة الجواب على سؤال "ما الّذي تنتظره من الصديق؟" فإنّ الجواب يصبح حسب هذه الرؤية: لا شيء، و أتساءل عن أيّ معنى لصداقة لا يمكن أن تحقّق أيّ هدف.
كثرة الأصدقاء تعني أن لا أصدقاء بالمعنى الّذي قصده دعبل الخزاعي لمّا قال" أنّي لأفتح عيني حين أفتحها..على كثير و لكن لا أرى أحدا". و قد تكون هذه الصداقة المزعومة أيضا عبء ثقيلا، إذ قد تجد الأحيان شخصا لا تكاد تذكر وجهه يصيح إذ يراك "خويا !" و يسلّم عليك بالقبلات ثمّ يطلب منك خدمة من النوع الثقيل و يكون عليك أن تذعن لطلبه و إلا ستكون انسانا سافلا حقيرا جاحدا بالصداقة، و هذه الوضعيّة لخّصها ببراعة من قال : "الاستعباد كثرة الإخوان".


كيفما تمّ تعريف الصداقة إذن، تبقى في كلّ الأحيان مفهوما مستحيل التحقيق يتأرجح بين المثاليّة المفرطة و الواقعيّة الفجّة، مفهوما لا يمكن أن يتجسّم في مجتمع بشري و هو ما عبّر عنه الشاعر العتابيّ لمّا سئل: من تجالس اليوم؟ قال: من أبصق في وجهه و لا يغضب؟ قيل: من؟ فأجاب: الحائط !