‏إظهار الرسائل ذات التسميات الرحابنة. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات الرحابنة. إظهار كافة الرسائل

الأربعاء، 10 سبتمبر 2014

إثم البحث عن روح رحبانية في ألبوم "يا حبيبي" لهبة طوجي

لم أكن ممّن قصدوا الحفل الذي أحيته هبة طوجي رفقة أسامة الرحباني بالمهرجان الدولي للحمّامات. كانت فكرة الذهاب قد خطرت ببالي فقط لأنّ بي ضعفا لا أنكره تجاه لقب "الرحباني". على أنّ الخشية من الوقوع على تجربة ليس لها من الرحبنة دون الإسم إضافة إلى بعد الشقّة (وشيء من الكسل كذلك) كانت عوامل حسمت الموقف فلم أذهب. لم أسمع فيما بعد الكثير عن الحفل، حتّى شاهدت منذ أيّام تغطية تلفزية شديدة الإطراء له، وذهب المذيع إلى حدّ اعتبار هبة طوجي فيروز الجديدة. طبعا، كفيروزيّ عريق، اعتبرت الأمر محض هرطقة وهمست لنفسي: "اللهمّ اغفر لقومي فإنّهم لا يعلمون". ولكن ليطمئنّ قلبي، لم أستطع الامتناع عن البحث عن أغاني الألبوم الجديد  لهبة طوجي المعنون "يا حبيبي".

يضمّ الألبوم 15 أغنية كلّها من ألحان أسامة الرحباني. أربع منها كتبها منصور رحباني، واحدة كتبها هنري زغيّب والبقيّة كانت من كلمات غدي الرحباني. على أنّ أغنية "قصّة ضيعة"، وهي استلهام طريف لموسيقى رقصة زوربا اليوناني، وإن لم يكتبها الراحل منصور، فقد كتبت على نمطه. كلماتها رحبانيّة مولّدة إن صحّ التعبير.

حاول أصحاب العمل أن يكون هناك توازن بين الأغاني العاطفية والأغاني التي تحمل هموما إنسانية ووطنية. وفي الحقيقة، غلبت السذاجة في التعبير على هذا الصنف الثاني، وهو ما يظهر في "الربيع العربي" و"صباح الخير" و"المرأة العربية". والسذاجة في حدّ ذاتها لا تشين الأغاني، فهي ليست مطالبة بتقديم تحاليل معمّقة عن الأوضاع السائدة، بل أنّها ميزة طبعت الأعمال الوطنية للرحابنة الكبار، غير أنّ ما يصنع الفارق هو الدور الذي يلعبه اللحن في إيصال الروح الكامنة في الكلمات. وهنا، كان النجاح نسبيّا ومتفاوتا من أغنية إلى أخرى. ففي "الربيع العربي"، وهي أكثر الأغنيات تحيّزا، كان اللحن ساترا يحجب هذه السذاجة، وخصوصا عندما يدخل فيه ما يشبه المارشات العسكرية وعندما يطلق العنان لصوت هبة طوجي للهمس تارة والصراخ تارة أخرى، والكلّ في موضعه. نفس الشيء يمكن ملاحظته بالنسبة إلى "المرأة العربية" الّتي استمدّت طرافتها إضافة إلى كلماتها من نسقها السريع. ويشدّ في "إلي وإلك السماء"  منذ البداية الطباق في إسمها (غير المقصود على الأرجح)  مع "الأرض لكم" التي لحّنها زياد رحباني، وقد لخّصت، بشيء من الهدوء، المثاليات الرحبانية.  يختلف الأمر بالنسبة إلى "صباح الخير" التي كانت دون روح وذكّرتني بالوطنيّات المناسبتية التي طالما عرفناها في بلادنا. وكان الانطباع الذي خلّفته الأغنية  لديّ أنّ مصير "بحبّك يا لبنان" مثلا كان سيكون مشابها لو وقعت بين الأيدي الخطأ. لديّ  أمّا "بيروت"، فهي كلمات تمّت خيانتها موسيقيّا، ولولا مقطع الفالس، على ما آل إليه من جموح، لكانت ممّا يُنسى فور سماعه.

وينطبق هذا التفاوت كذلك على باقي أغاني الألبوم. ففي "يا حبيبي"، ورغم كلاسيكيّة الكلمات التي توحي بأنّ أقرب سبيل لتلحينها هو النمط الشرقي التقليدي (وقد توقّعت أن تكون من طراز "يا حبيبي كلّما هبّ الهوى" للأخوين رحباني)، يفاجئنا أسامة باختيار نمط الجاز، وقد كان اختيارا موفّقا نجح في العثور على إيقاع القصيدة والتناغم معه رغم بعض الهنات في نطق بعض الكلمات، فـ"الأرض الحزينة" تُنطق بالخفض في موضع النصب، وكلمة "قرصان" تنطق مكسورة القاف. وفي "معقول"، كانت تجربة الاستماع ممتعة من خلال التمازج البديع بين "الجاز"و"اللاتينو". كثير من البهجة ظلّت مصحوبة بصوت الكونترباس الرتيب والهادئ في الخلفيّة، ولو أنّ "اللاتينو" لم يلائم في بعض الأحيان شيئا من الحزن في الكلمات. وتأتت طرافة "أنا حبيتو" من الدور الذي لعبه البيانو في تأمين الإيقاع، وهي أغنية دافئة رغم إيغال الكلمات في البساطة. وكانت "خلص" أغنية فراق هادئة، وهي مفارقة عجيبة أن لا يحظى الفراق بشحنة عاطفية من غضب أو حزن. وينطبق على "لمّا بيفضى المسرح" نفس ما قيل عن "بيروت" فالكلمات الشبيهة بتصوير سينمائي يقلب السمع بصرا لم تحظ موسيقيّا بما يفيها حقّها. أمّا في "أوّل ما شفتو"، فقد كان يمكن أن تكون مستساغة، على فتور كلماتها، لولا إيقاعها المزعج والإسراف في اعتماد تقنيات التلاعب بالصوت، وهو ما تخلّصت منه "حبّي اللي انتهى" الرومانسيّة الهامسة. أمّا "يمامة"، فقد تكوّن رأيي منها في الثواني الأولى وتحديدا مع عبارة "لكلّ من في الأرض لا أعرفهم" التي كان لحنها العجول غاية في "التبلفيط"، وتساءلت إن لم يكن اللحن وضع مسبّقا ثمّ وقع الإصرار على اعتماده قسرا على الكلمات بصرف النظر عن كلّ إنسجام. ولا تبقى من أغاني الألبوم سوى "حلوة يا بلدي" التي هي مجرّد إعادة توزيع لأغنية داليدا حرت في معرفة وجه الإبداع فيها أو سبب إقحامها في الألبوم.

قيل عن هذا الألبوم أنّه ينتمي إلى صنف الجاز، ولكنّ ذلك لا ينطبق على كلّ الأغنيات، ولا يتوافق مع التعويل على الأركسترا السمفونية الأكرانية. لا مجال للشكّ في طابعه الغربي، وقد أضفى عليه الاعتماد على البيانو خاصة بصفة دائمة شيئا من الفخامة. تتيح مختلف الأغنيات المجال لصوت هبة طوجي المميّز حتّى يستعرض قدراته في التدرّج من أخفض الدرجات إلى أعلاها، ويدخل في تجربة متعدّدة الأبعاد مع المستمع فيداعبه ويؤانسه ويؤسيه ويستفزّه. ويتعزّز صوت طوجي ببعض المؤثّرات التي تضفي على الأداء بعدا مسرحيّا: الضحكات، الصرخات وحتّى الزغاريد. على أنّه قلّما كان جمال الصوت وحده عنصرا محدّدا في نجاح التجربة. وإذا كان نجاح الأغنية يقاس ببراعة ترجمة الكلمات لحنا، فإنّ النجاح في هذا الألبوم كان جزئيّا. في عديد الأحيان، بدا كأنّ الإصرار على تقديم نمط موسيقيّ ما يأتي على حساب التقاط حساسية الكلمات، وإن غلبت على جلّ الكلمات بساطة تخلو، على خلاف البساطة الرحبانية، من العمق. وإذا كان هناك تشابه مع تجربة الأخوين رحباني، فأراه يكمن في نهايتهما، وتحديدا فيما قاما به في برنامج "ساعة وغنيّة" من إعادة توزيع لأغانيهما بطريقة أضفت عليها نزعة آليّة وسلبت منها صفاءها الشرقيّ.


التقييم العام للألبوم:


الأحد، 31 يوليو 2011

عندما مزّقت فيروز جناحيها

" أغمض عينيك عندما تستمع إلى فيروز...إننا لا نرى الملائكة، ولكن يحدث أحيانا أن نسمعها تغني"... هذه القولة لجورج شحادة هي من المقولات الرائجة عند أحباء فيروز... أطلقوا عليها، ومازالوا، اسم الصوت الملائكي... وفعلا، كانت فيروز في مرحلتها الرحبانية متجردة من بشريتها، كائنا فوق حدود الزمان والمكان..يكبر الناس وتنسى هي أن تكبر...غناؤها صلاة، دعوة للتسامي فوق نوازع الجسد...صوتها خمر كيان، يجعلك لا تبالي ما دنيا الناس... لا علاقة لما تغنيه بالواقع، بل يكره الواقع الدامي المعفر بالثرى و يرسم منه كونا بديلا، عالم أطفال يحلمون.. لم تكن منا، بل كانت "سفيرة النجوم إلينا"، صلتنا بالسماء التي تجعل شيئا من السماء يستمر بداخلنا...لكن فيروز لم تبقى في ذلك الوطن السماوي الذي شيّده الأخوان رحباني. مع زياد، مزّق الملاك جناحيه ونزل إلى عالم يدعى "الواقع"... لم يكن نزولها نزول طرد أو لعنة، بل يقينا أن السماء لم تعد تكفي لحمل هموم الأرض، وأنّه يجب على الأرض أن تخرج من الشرنقة، أن تقطع الحبل السرّي حتى تعيش، أن لا تنتظر ضوء شمس لن يأتي أبدا... كان النزول مع ذلك عنيفا، صدم من آمنوا بذلك الوطن وعاشوا في ظله... كان من العسير الاستماع إلى الفتاة الحالمة النقية تخاطب، في "كيفك أنت"، رجلا متزوجا له أطفال وتتمنى الرجوع إليه... و كان من الأعسر الاستماع إليها تسخر من السماء ومن أغاني السماء في "مش كاين هيك تكون"... لكن الملاك مقطوع الجناحين لم يتحول إلى صوت يذوب في زحام المغنين.. التقطت فيروز الزيادية الواقع في أدق تفاصيله. معها، تتعرف على نفسك وتجد من يعبر عنها... فيروز زياد لا تتعالى على آلام البشر ومعاناتهم.. هي تحب و تكره، تعاتب وتصالح، تمزح وتغضب، تقطع وتصل...لا تخجل من أن تصرخ "اشتقتلك، اشتقتلي... بعرف مش رح تقلي... طيب أنا عم قلك اشتقتلك ! " ولا تستنكف من أن تعبر عن عدم مبالاتها: " تمرق علي، امرق.. ما بتمرق، ما تمرق...مش فارقة معاي"... تعطي ثقتها إذا أرادت: " عندي ثقة فيك، وبيكفي"... لم تعد فيروز صوت السماء إلى الإنسان، بل صوت الإنسان إلى الإنسان... تتنفس الأرض مشاغلها إذا شدت... يسمع المتأوهون أناتهم إذا صدحت... عندما كانت ملاكا، منّتنا بعالم مثالي ، طرقاته "مفروشة بالنوم و سعيدة"... و عندما مزّقت جناحيها، أرتنا هذه الحياة، بجميع اختلاجاتها وأزماتها ونكساتها وصَغارها و أدنى تفاصيلها جديرة أن تعاش... وفي حالتيها، تمنحنا فيروز سببا لكي نحيا..

الخميس، 12 فبراير 2009

الوطن الرحباني: أطلنتس الضائعة (2)


الوطن الرحباني كوطن رمزي


من "التهم" الّتي وجّهت إلى الرحابنة أنّهم تجاهلوا في الأعمال الّتي قدّموها طبيعة العلاقات الاجتماعيّة و السياسيّة القائمة في لبنان و رسموا لبلدهم صورة طوباويّة موغلة في المثاليّة للبنان "أخضر حلو"، وطن "للندى و الزنبق"، يغنّي "الميجانا" و يرقص "الدبكة" و ينشد للحبّ و السلام، و بعبارة أخرى، وجّهت للرّحابنة تهمة تخدير شعوبهم بالتغنّي عن وطن أشبه بـ "إرم" لا يوجد إلا في مخيّلتهم في حين كان لبنان على شفا الانفجار، و هو ما وقع سنة 1975 محطّما آمال شعب في وطن لم يوجد قطّ...أعتقد أنّ هذه النظرة تعكس خلطا غير مقبول بين الخيال و التخدير، فإذا كانت المخدّرات تغييبا سلبيّا يترجم هربا و استسلاما من مواجهة مشاكل الواقع، فإنّ الحلم هو خطوة ضروريّة لتجاوز مرارة الواقع و الارتقاء بالنفوس المتصارعة إلى ما فوق التناحر و الانشقاق، و كيف يقع الانعتاق من قسوة الواقع إن توقفنا عندها و غرقنا فيها و في وحشيّتها لم نتحدّث إلا عنها و لم نتخيّل صورة نريد أن يكون الواقع عليها و كما يقول توفيق الحكيم "الفاصل الوحيد بين الإنسان و الحيوان هو "الخيال".إنّ اليوم الّذي يستطيع فيه الحيوان أن يحيا دقيقة واحدة، خارج الواقع و المادة...اليوم الّذي يلجأ فيه الحيوان إلى طرق معنويّة غير مباشرة للوصول إلى غاياته...اليوم الّذي يستطيع فيه الحيوان أن يمضي الليل "يحلم" في غابته المقمرة بدلا من مطاردة الفريسة، هذا اليوم يكون آخر عهده بالحيوانيّة..."الحلم" هو العالم العلوي الّذي لا يدخله حيوان"...هذا ما حاول الرحابنة انجازه، أن يسموا باللبنانيين فوق ذلك الواقع الدموي الملفوف بالتمّزق و التشرذم إلى دعوة للمشاركة في حلم يكون فيه لبنان قطعة من السماء...و حتّى عندما انفجر لبنان، لم يزحزح الانفجار إيمانهم بحلمهم قيد أنملة، بل ظلّ راسخا كالطود، كإيمان الأنبياء...ففي أحلك الفترات الّتي عاشها لبنان كان صوت فيروز يأتي صادحا مؤكّدا أنّ لبنان "ما بيموت" و أنّه "راجع بأصوات البلابل"...و عندما كانت بيروت تدمّر، غنّت في ثقة "الإيمان الساطع" "ارجعي يا بيروت...ترجع الأيّام"...


هذا الإيمان بالوطن تجاوز صداه حدود لبنان فشارك في عيش الحلم الرحباني أفراد فرّقتهم حدود البلدان و الملل و لكن جمعهم صوت فيروز فكان لهم وطنا يجمعهم من دون باقي الأوطان...صوت لعلّ أصدق ما قيل فيه:" أغمض عينيك عندما تستمع إلى فيروز...إنّنا لا نستطيع أن نرى الملائكة، و لكن يحدث أحيانا أن نسمعها تغنّي"...صوت غنّى للبنان دون أن يشعرك بأنّ لبنان وطن بعيد عنك، لا تعنيك همومه بل تؤمن إذا استمعت إليه أنّه وطنك الّذي تنتمي إليه، لا سيما و نفس الصوت يغنّى لتونس و سوريا و مصر و العراق و غيرها من البلدان محطّما تلك الحدود الّتي لا توجد إلا في أذهان من رسموها...صوت غنّى للسيّد المسيح و السيّدة العذراء كما تغنّى بمدح النبيّ صلّى الله عليه و سلّم و بمكّة فكسر بذلك قيودا طالما كبّلت العقل عن الصراع بين الأديان...عندما تستمع لفيروز، فإنّك تحسّ أنّك تصلّي دون أن تكون مضطرّا لأن تركع أو تسجد أو أن تؤدّي أيّ طقس من الطقوس...فقط تحرّر جسدك من كلّ ما يقيّده و تستسلم لذلك الشعور بالخشوع الّذي يتملّكك و أنت تصغي لصوت آت من السماء...صوت قدّيسة...من يستمع إلى فيروز و يزعم أنّه لا يحسّ بروحه تعلو خفّاقة إلى الملأ الأعلى فاعلم إنّه إمّا عنيد مكابر أو أرضيّ شديد اللصوق بالثرى، قد سلبت روحه فلا يستطيع إلى السماء ارتفاعا...


موت الوطن


دخل الوطن الرحباني في حالة "موت سريري " منذ انفصال الأخوين رحباني عن فيروز و هو انفصال كان كما قال أحد الكتّاب "أشبه بزلزال و تصدّع فنّي..و ما حصل في الوجدان العربي كان أشبه ما يكون بنكسة جديدة و انحدار جديد لم يكن هذه المرّة سياسيّا و إنّما كان انحدارا فنيّا"...اتّجهت فيروز إلى العمل مع ابنها زياد فلم تعد "فيروزا" إذ فقد غناؤها لونه السماوي و نقاوته و قيمته، فزياد ، على نبوغه، اختار أن يكفر بالوطن الرحباني فجاء فنّه محمّلا بهموم الواقع و مشاكله و تعابيره فكانت فيروز زياد أرضيّة، شديدة البعد عن السماء و فقدت بذلك صفتها كـ"جارة للقمر" و "سفيرة للنجوم" و بذلك حرم زياد الإنسانيّة من صلة كانت تعصمه من الغرق في الماديّة، و لعلّه بذلك أكثر استحقاقا لأن يحاكم من أجل جرائم ضدّ الإنسانيّة من مجرمين مزعومين آخرين...

أمّا الأخوان رحباني فقد حاولا أن يتعاملا مع أصوات أخرى تواصل حمل رسالتهم و لكن أنّى يجود الزمان بقدّيستين؟ فقد جاءت أعمالهما بعد فيروز محاولة باهتة لإنعاش جسد هامد...ثمّ مات عاصي سنة 1986 و بقي منصور وحده وفيّا لتقاليد وطن بناه بيديه و رفض أن يتخلّى عنه فبقي في ذلك الوطن نفَس يتردّد و يعيش على أمل واه بالعودة يوما... حتّى رحل منصور و برحيله أسدل الستار نهائيّا على وطن...هوى كأطلنتس و ابتلعته مياه المحيط و طمست آثاره...إلا من ذكرى مضيئة لا تزال تخفق بها قلوب كلّ من كانوا مواطنين في ذلك الوطن الكبير.



الجمعة، 30 يناير 2009

الوطن الرحباني: أطلنتس الضائعة (1)

من المقولات الشهيرة لأمادو همباتي با: "في إفريقيا، إذا مات شيخ فإنّ مكتبة تحترق"، فالتراث في تلك المنطقة من العالم بقي في جزء كبير منه شفويا محفوظا في صدور الرّجال، لم يخطّ في صفحات الكتب، فإذا مات أحدهم فإنّ جزء من التراث يضيع إلى الأبد فالشيوخ هناك يقومون بنقله من جيل إلى جيل، و هو دور هام جدّا، لا شكّ في ذلك، فالتراث جزء من هويّة أيّ وطن من الأوطان، و بالتالي، فإذا مات شيخ هناك فإنّ جزء من الوطن يموت معه...و لكن في مناطق أخرى من العالم، هناك أشخاص إذا ماتوا تموت معهم أوطان بكاملها...

مات منصور رحباني، لحق بشقيقه عاصي إلى السماء الّتي كانا لها لسانا ردحا من الدهر و أصبح "الأخوان رحباني" صفحة تقرأ في تاريخ الفنّ...رحل آخر من تبقّى من أعمدة "الوطن الرحباني"، فغمرت مياه المحيط العاتية هذا الوطن الّذي اختفى، تماما كجزيرة أطلنتس الأسطوريّة الضائعة إلى الأبد...وطن كان شهابا مارا، و لكن شديد الشعاع...هو وطن طمست معالمه منذ أكثر من ربع قرن، لكن ظلّ منصور حاملا رايته طيلة تلك المدّة حتّى لبّى داعي الرحيل، و لعلّه كان يردّد في نفسه قبل أن يركب السفينة:"اللي بدّو يصير ما عاد يهم، أنا لعبت الدور و الدور المهم"، و كيف لا و هو قد ساهم في تكوين وطن رحباني بمعناه الفنّي و الرمزي.


الوطن الرحباني كوطن فنّي


لو شئنا اعتماد التعابير الشائعة، لتحدّثنا عن مدرسة رحبانيّة...لكن هذا المصطلح غير كاف للتعبير عن إضافة الرحابنة للموسيقى العربيّة إذ أنّهم لم يكونوا مجرّد اتّجاه له بعض الخصائص في إطار نموذج سائد بل كان فنّهم قلبا لجميع المعايير و القوالب الّتي سبقتهم حتّى أنّه يمكن الحديث عن فنّ "قبل رحباني" و فنّ "بعد رحباني". لقد كان الرحابنة كعلّيسة الّتي غادرت وطنها لتؤسّس في مكان بعيد وطنا جديدا...و يمكن القول أنّ الرحابنة قدّموا التجربة الوحيدة الّتي يمكن أن تعتبر مشروعا فنّيّا متكاملا..."وطنا فنيّا".


قبل الرّحابنة، كان هناك نوع من النمط الّذي يحكم الأغنية العربية و الأغنية المثال في إطار هذا النمط هي أغنية باللهجة المصريّة(قد يكون ذلك راجعا لكون مصر كانت البلد الأكثر حركيّة على المستوى الثقافي في الوطن العربي و هو ما تعزّز مع دور الشوام المهاجرين إليها أيّام الحكم العثماني إضافة إلى ما يمكن تسميته بنزعة المركزيّة المصريّة الّتي تريد أن تجعل من مصر محور كلّ ما يقع من أمر في أيّ مكان من البلاد العربيّة، و هي نزعة كان لها فيما أرى أثر سلبي خصوصا على المستوى السياسي) ،و هي أغنية تدوم لمدّة طويلة إذ أنّ أغنية لا تتجوز بضع دقائق كانت تعتبر هذرا و في أحسن الحالات أغنية غير جادّة ، و هي كلماتها تدور حول نفس المعاني (الحبّ و الهجر و الرغبة في الوصال...) ألحانها لم توضع إلا لإبراز القدرات الصوتيّة لمؤدّيها، يتكرّر فيها المقطع الواحد عدّة مرّات لتمكين المستمعين من "الطرب" و بالجملة كانت الأغنية المثال هي أغنية التخدير...هذا النمط قام الرحابنة بهدمه من أساسه.


استعمل الرحابنة في أغلب أغانيهم لهجة لبنانيّة تنتقى فيها الكلمة كما تنتقى اللآلئ في عقد يهدى لملكة، أو كما قيل في كلام الإمام الشافعي "ما سمعته تكلم بكلمة إلا اعتبرها المعتبر لا يجد كلمة في العربية أحسن منها"...هي كلمات غاية في البساطة، يفهمها الجميع حتّى من غير اللبنانيين بعيدة عن التعقيد و المتاهات الفكريّة (و هنا أتحدّث عن الأعمال الرحبانيّة "الخالصة"، ممّا يستثني الأعمال الّتي كتبها غير الرحابنة، لا سيما سعيد عقل رائد الرمزيّة)...و هي مع ذلك بعيدة عن كل إسفاف و ابتذال بل أنّها ببساطتها تخلق عالما أقرب إلى الخيال (و هو ما سيتم التطرّق إليه في الجزء الثاني)...تقترب لغة الرحابنة من الفصحى و تدانيها حتّى تكاد تلامسها، و لعلّها بذلك ترسم مثالا لعربيّة مبسّطة أو عاميّة مهذّبة تقع في منتصف الطريق بين العاميّة المبتذلة و الفصحى المتقعّرة...

أمّا عن مدّة أغاني الرحابنة، فهي قصيرة نسبيّا إذ لا يتجاوز أطولها الربع ساعة و عادة ما تكون في حدود ثلاث أو أربع دقائق و أحيانا تنزل إلى دقيقة و نيف، ذلك أنّ الرحابنة أعداء التمطيط الاصطناعي و الممجوج و المملّ لمقطع بعينه فغاية الأغنية ليس الإطراب في حدّ ذاته، و هو ما كان سهل التحقيق في ظلّ وجود صوت كصوت فيروز(و ربّما استسلم الرحابنة لهذا الإغراء في بعض الأغنيات الـ "شبه طربيّة" كـ "غنّيت مكّة")، بل أنّ الهدف هو إيصال رسالة في الوقت الّذي يستوجبه ذلك، فلا حاجة إلى تكرار نفس الكلمات لمدّة ساعة إذا كان المعنى يدخل إلى قلب المتلقّي في دقيقة (و ربّما يضيق به ذرعا بعد ذلك)...و لعلّ أفضل مثال على ذلك أغنية "بيقولو صغيّر بلدي" الّتي تدوم دقيقة و أربعا و عشرين ثانية و مع ذلك فليست بحاجة إلى أيّ ثانية إضافيّة ليصل المعنى...

و في ما يخصّ الألحان، بعث الرحابنة التراث اللبناني خلقا جديدا فخرجوا به من إطار الفلكلور الميّت الّذي يغنّيه الشيوخ متحسّرين على أيّام زمان و استلهموه، على اختلاف أشكاله(الحضري و الريفي و حتّى البدوي) في عدد كبير من الأغاني، حتّى أصبح من الصعب التمييز في أغلب الأحيان بين الأغنية التراثيّة و الأغنية الرحبانيّة...أصبح التراث مع الرحابنة نابضا عامرا بالحياة و أصبحت أغاني الرحابنة تراثا يغنّي "الدبكة" و "الميجانا"...و مع ذلك، لم ينغلق الرحابنة في حدود وطنهم و استفادوا من التجارب السابقة و حتّى المعاصرة لهم إذ تعاملوا مثلا مع محمّد عبد الوهّاب فقاموا بإعادة توزيع بعض أغانيه (كـ "يا جارة الوادي") و غنّت فيروز من ألحانه بعض أروع أغانيها ("اسهار" و "سكن الليل") كما أنّهم انفتحوا على الموسيقى الغربيّة و استعملوا آلاتها في بعض الأغنيات دون أن يظهر أثر للافتعال في هذا الإقحام (كما في أغنية "يا نسيم الدّجى" و "كنّا نتلاقى")...

و من مميّزات الوطن الرحباني تجربة المسرحيات الغنائية و هي تجربة فريدة، إذ لم تكن مسرحيّات الرحابنة مغنّاة من أوّلها إلى آخرها على غرار مسرحيات شوقي و لم تكن مسرحيّات "نثريّة" بل كانت مزيجا بين هذين النموذجين إذ يختلط السرد بالحوار و الغناء في إطار عجائبي تارة (كمسرحيّة "جسر القمر")، واقعي تارة أخر (كـ "لولو") و تاريخي طورا آخر (كـ"أيّام فخر الدّين")...


و زيادة على هذه الخصائص الّتي تهمّ شكل الفنّ الرحباني، قفز الرحابنة بمضمون تجربتهم إلى المستوى الّذي يخوّل الحديث عن وطن رحباني بالمعنى الرمزي للكلمة.
(يتبع)

الخميس، 24 يناير 2008

اتركوا لنا فيروز


مصطلح جديد يجب أن يضاف إلى معجم السياسة و العلاقات الدولية و هو مصطلح"قطع العلاقات الفنيّة" و هو يعني حظر انتقال الفنّانين من بلد الى آخر و اتهامهم بالخيانة و العمالة اذا أبوا ذلك. هذا ما يمكن فهمه من مواقف بعض رجال السياسة اللبنانيين من تحوّل فيروز المرتقب الى دمشق قصد المشاركة في الاحتفالات المنظمة بمناسبة اختيار دمشق عاصمة للثقافة العربية.

لست قادرا على أن أجزم من من أطراف النزاع في لبنان على حقّ و من على باطل و لكنّني قادر أن أقول أنّ مثل هذه المواقف جريمة في حقّ الفنّ ترتكب باسم السياسة و جريمة ضدّ لبنان نفسه و من المستهدف بهذا الهجوم؟ انّها فيروز و ما أدراك من هي فيروز. فيروز الّتي غنّت للبنان كما لم يغنّ أحد..فيروز الّتي عندما كان لبنان ينتحر و يدمّر بيد أبنائه صرخت "قصتنا من أول الزمان بيتجرح لبنان بيتهدم لبنان، بيقولوا مات و ما بيموت و بيرجع من حجارو يعلي بيوت "، فيروز الّتي دمعت عيناها و هي تغنّي "بتتلج الدني بتشمس الدني و يا لبنان بحبك تا تخلص الدّني"، فيروز الّتي غنّت "بحبك يا لبنان" الّتي ربمّا تكون أبسط و أجمل و أصدق أغنية وطنية غنّيت على الاطلاق، فيروز الّتي أدخلت محبّة لبنان إلى كلّ القلوب حتّى كادت تتماهى مع لبنان..أصبحت متّهمة بأنّها " تتبرّع لاجهزة الاستخبارات السورية "!!
أ ليس استنكار ذهاب فيروز الى دمشق دعوة ضمنيّة لها لاتّخاذ موقف من النزاع السياسي في لبنان بمعنى أنّه بمنطق هذا التصريح سيكون ذهاب فيروز أو عدم ذهابها انحيازا لأحد الطرفين؟ من الجميل أنّها ذاهبة الى هناك لتعرض مسرحيّتها صح النوم (و نرجو أن يفيقوا فعلا ) الّتي سبق أن عرضتها في دمشق منذ 37 سنة و تؤكّد بذلك أنّ العلاقات بين سوريا و لبنان أمتن و أقوى من أن تقطعها ظروف طارئة و كما قال منصور الرحباني "الفن الرحباني - الفيروزي عطاء وجمال، وهو رسالة محبة وسلام من لبنان إلى سورية، رسالة صداقة لا عمالة". و هكذا ينبغي أن يكون الفنّ، متعاليا عن أدران السياسة ناشدا ما هو مثالي و خالد لا ما هو ظرفي و زائل.
انّ الّذين يوجّهون مثل هذه الاتهامات مدركون لرمزيّة فيروز(صوتها الشيء الوحيد ربّما الّذي يوحّد جميع اللبنانيين) و يعرفون أنّ أيّ كلمة تشدو بها في احدى أغانيها هي أعمق تأثيرا من ألف خطبة يلقونها.انّهم ليسوا يعترضون على انتقال أحد من أدعياء الفنّ ممّن لا تجد أصواتهم صدى يذكر في أرواح مستمعيهم. انّهم يدركون أنّ ذلك الصوت الملائكي الّذي أصبح رمزا للبنان هو وطن قائم بذاته يحتضن الملايين من القلوب داخل لبنان و خارجه، هذه الملايين الّتي لا يرون فيها إلا أداة لتحقيق مخطّطاتهم لذلك فانّهم بذلوا هذا الجهد لاستغلال ذلك الصوت و تدنيسه باقحامه في لعبة السياسة و يا لها من جريمة.
اتركوا لنا ذلك الحلم الجميل لنعيش فيه..اتركونا نهيم في دنيا الجمال..اتركونا نستنشق هواء الابداع..اتركوا الملائكة تخاطبنا و تناجينا..اتركونا نرتفع الى السماء..اتركوا لنا فيروز..اتركوا لنا هذه القدّيسة.