الأحد، 1 نوفمبر 2020

نازلة دار الأكابر لأميرة غنيم... وشْيٌ مُتْقَن على صفحات مخفية‎

 لا أبالي كثيرا في العادة عندما أقرأ أيّ كتاب بالجوائز التي حصل عليها، فقد تعوّدت على الصدمات. الكثير من الأعمال المتوّجة مرارا وتكرارا كانت أكثر ما قرأت إضجارا، وهو ما يزهّدني في قراءة كلّ كتاب يكون أوّل لفظ في تقديمه "حاز". رُشّحت لي رواية "نازلة دار الأكابر" لأميرة غنيم الصادرة هذا العام عن دار مسكلياني، فذهبت لاقتنائها. غير أنّي لمّا وجدتها موشٌحة بذلك الشريط الأزرق المنتشي بفوزها بجائزة لجنة التحكيم في مسابقة الكومار، تردّدت للحظة.

لكنّي سعيد أنني غالبت تردّدي. كانت الرواية، التي التهمتها في يومين أو ثلاثة، من أفضل الأعمال الروائية التونسية التي اطّلعت عليها في الأعوام الأخيرة.

تسرد هذه الرواية قصّة عائلة تونسية "بَلْديّة" عريقة وانقلاب حالها ذات ليلة من شهر ديسمبر سنة 1935. ولعلّ في لفظ "تسرد" شيئا من التجاوز، إذ لا يتعلّق الأمر بسرد خطّي كلاسيكي، وإنّما بمناظير عشر شخصيّات مختلفة إلى ما وقع، تُنقل إلينا منجَّمَة على حيّز زمني طويل، إذ أنّ أقرب الأحاديث لتاريخ الوقائع كان بعد حوالي ثماني سنوات (حديث سي المهديّ الرصّاع سنة 1943) أمّا أبعدها فرُوي بعد زهاء ثمانين عاما (حديث الخالة لويزة سنة 2013). الرواية إذن روايات، وناقلوها كُثُر. وإن تكن جمعت بينهم مدينة تونس العتيقة في وقت ما، فقد فرّق بينهم الانتماء الطبقي والمكانة الاجتماعية وتجارب الحياة وتباين الأعمار. كلّ سارد ينفض الغبار عن ذكرياته عن تلك الفترة وينقلها من منظوره الذاتي البحت إلى مُخاطَب مختلف في كلّ مرّة، حتى أنّه ليعسر علينا تبيّن حقيقة موضوعية من مجمل تلك الروايات فيضحي القارئ أشبه بمفتّش شرطة وهو يقارن بين الشهادات ويحاول أن يوازن بين ما تقاطع منها وما تناقض، وهو ما يمنح الرواية ما يُشبه أن يكون طابعا بوليسيا طريفا يعزّزه التفنّن في نقل الأحداث. كلّ رواية للوقائع تجلو بعض الغموض عمّا سبقها لكنّها تضيف غموضا في جوانب أخرى، ويتواصل هذا التشويق حتى النهاية إذ لا يرتوي، مع آخر الصفحات، ظمؤنا الطفولي إلى معرفة كلّ شيء ونظلّ نرتقب المزيد.

نجد وراء كلّ هذه الأحداث طرفا من تاريخ تونس الاجتماعي والسياسي يغطّي ما يقارب قرنا من الزمن، بل أنّنا نجد تفاصيل دقيقة عن سير الحياة اليومية داخل البيوت التونسية تستعمل ألفاظا عتيقة قد يكون ذهن القارئ المعاصر خليّا عنها فلا يفهمها إلا بقراءة التفسير المصاحب أسفل الصفحة. تتقاطع الحقيقة، كما عرفناها وقرأناها في كُتب التاريخ، مع التخييل فتصدمنا صورة الطاهر الحدّاد في ثنايا الكتاب إذ نلقاه، لا مفكرا وشاعرا وصحفيا ونقابيا ورائدا لتحرير المرأة، بل عاشقا ومُتّهَما بجناية خطيرة بعد موته. ويلفت انتباهنا أنّه على الرغم من كون علاقته بزبيدة المحور الأساسيّ للأحداث، فإنّنا لم نسمع له ولا لها قولا فيما وقع. فما بلغنا عنهما ترويه شخصيّات أخرى، قد يكون موقعها من سيرورة الأحداث ثانويا، ممّا يزيد صورتهما سحرا، وخصوصا زبيدة الّتي تشعّ بألق استثنائي. هي تلك الفتاة المستقلة بتفكيرها، التي تلقّت تربية حديثة رغم أصولها المحافظة، والتي مع ذلك تتزوّج زواجا تقليديا تنالها منه شآبيب عذاب فلا نفهم على وجه اليقين مدى تمسّكها بالحفاظ عليه، أو لعلّها كانت ممزّقة بين نوازع هي نفسها لا تدرك جذورها، ومَن مِن شخصيات الحكاية لا يخلو من ذلك؟

تتقن أميرة غنيم في "نازلة دار الأكابر" وشيها للشخصيات والأحداث على نسيج من صفحات تاريخ نعلم بعضه ويخفى علينا بعضه الآخر. وأخال أنّ هذا العمل يمكن أن ينتقل بنجاح بالغ إلى الشاشة الصغيرة أو الكبيرة إن قُيّضت له أياد بارعة.



الجمعة، 10 يوليو 2020

العثور على البيتلز

طبعا كنت أعرف البيتلز، لكنّي لم أعرفهم حقّا. أعني أني لم أكن أعلم عنهم سوى العناوين: فرقة موسيقية بريطانية في الستينات، ولا شيء غير ذلك سوى ما اعترضني أثناء دراسة الأنجليزية من نصوص عنهم. في حقيقة الأمر، لم يكن يعنيني أمر الموسيقى الغربية كثيرا. صحيح أنني كنت أستمع قليلا إلى الموسيقى الكلاسيكية وأحضر حفلات الأركسترا السمفونية التونسية لكنّ ذلك لم يكن غير انفتاح عرضي وجزئي. كنت أعيش في عالم مغلق تهيمن عليه فيروز خصوصا والموسيقى اللبنانية بشكل عام. كوّنت لنفسي نظريات شديدة الصرامة عن ماهية الموسيقى الجيدة جعلتني أدور في إطار محدود للغاية لا يتجاوز بضعة أسماء.
في الفترة التي تلت تخرّجي من الجامعة، عرفت بعض الانفتاح. أصبح بإمكاني مثلا أن أستمتع بما يقدّمه زياد رحباني الذي كنت أعدّه فيما مضى عدوي الأوّل بما أنّه "دنّس" تراث الرحابنة الكبار. لكن أخال أنّ لأختي ياسمين أكبر الأثر في القفزة الانفتاحية التي حصلت فيما بعد. عندما كانت طفلة، كنت حريصا أن أنقل إليها نظرياتي الجامدة وأسمعها فقط الموسيقى التي أراها جيّدة، فكانت وهي لا تزال في سنوات الابتدائي الأولى تحفظ مقاطع كاملة من مسرحية "ميس الريم". غير أنها تمرّدت بعد ذلك، لحسن حظّها وحظّي. كنت أسخر في البداية مما تسمعه، فكل صوت يتجاوز 20 ديسيبيل كان عندي ضجيجا خالصا لا معنى له، والصور الشعرية التي تتغنى بسيارة مازيراتي في نهاية الطريق لا تدعو لغير الضحك. لكن فيما بعد، وجدت في نفسي فضولا للتعرّف على عالمها هذا لا سيّما وقد كان لها من الحجج الموسيقية ما يقنعني. وما لبثتُ أن وجدت نفسي أبحر في هذا العالم، عالم الموسيقى الغربية، ترشدني هي، كما قاد فرجيل دانتي في العالم السفلي.
شهور الحجر الشامل وما بعده كانت ثريّة للغاية، والطريف أن الرحلة فيها كانت عكس التيار. لم نبدأ من الينابيع، بل مما هو كائن الآن. بدأنا بتايلور سويفت، حيث اختارت لي فرجيل منتخبات من أغانيها تعكس تطوّر مسيرتها الغنائية. وجدت طرافة كبيرة في الصور المستعملة، وأبهرني خاصة الطابع الشخصي الواضح لأغانيها. ما تكتبه انعكاس يكاد يكون مباشرا لما تعيشه. بدا لي ذلك مُفتقدا إلى حدّ كبير في الأغنية العربية. لا يزال مفهومنا للأغنية الجيدة من رواسب ثقافة الطرب (رغم محاولات اختراقها العديدة على مدى عقود)، حيث تتكرّر نفس الكلمات لتعيد نفس المعاني، ولا يهمّ سوى أن "نتسلطن".
انتقلنا بعد ذلك إلى كوين، وهذه المجموعة تحتاج تحليلا مطوّلا. حسبي الإشارة أنّ معظم أغانيها تعكس تجربة وجودية عميقة منذ زمن البدايات حتى تبلغ ذروتها مع أغان مثل  "الملحمة البوهيمية" و"أغنية النبي" حيث تتجاور الأنماط الموسيقية دون أن تتنافر إذ تصهرها رؤية أصيلة تعرف بالضبط أين تبغي الوصول يجسّدها صوت فريدي مركوري الجبّار وحضوره المسرحي الباهر، إضافة إلى تصوّر سابق لعصره يخصّ دور الصورة والفيديو. صالحتني كوين مع الصخب، فصار يمكن أن يكون عندي تعبيرا فنيّا راقيا أنسجم معه إلى أبعد حد.
بعد درس نظري قصير جدا ولكن مفيد للغاية عن الهارموني وصعوبة تطبيقها في الموسيقى العربية، وصلنا إلى البيتلز. كنت قد عرفت عنهم بعض الأشياء خلال السنوات الأخيرة، فقرأت بعض المقالات وشاهدت وثائقيا حولهم واستمعت لبضع أغان من أشهر ما أدّوا. اتّبعت مرشدتي نفس المنهجية: ثلاثة وخمسون أغنية مختارة تتبع تطوّر مسيرتهم من أوّل إلى آخر ألبوم أصدروه. استمعت إلى كل القائمة دون تركيز كبير في البداية، فكنت أضع موسيقاهم وأنا بصدد القيام ببعض الأشغال أو المشي لمسافة طويلة. ثم أعدت الاستماع إلى المختارات، ثم إلى أغان بعينها، ثم إلى ألبوماتهم جميعها، ثم إلى مختارات مجموعة بطريقة مختلفة. احتجت إلى أن أستمع عديد المرّات إلى "حقول الفراولة إلى الأبد"  لكيلا أعتبرها مجرّد ترنّم "مزطول".
عندما تتبع مسيرة البيتلز، تشعر وكأنك تتوغّل داخل غابة. في أطرافها، تجد الأشجار متباعدة ومتشابهة، وكلّما مشيت أكثر نحو قلبها يتنوّع ما تراه ويتكثّف حتى تعترضك أصناف نادرة لم تكن تعتقد في وجودها حتى تجد أنّك تهت ولم تعد تعرف كيف تخرج، وتودّ مع ذلك أن يطول تيهك.  في بداياتهم، كانت الكلمات بسيطة تعبّر في أغلب الأحيان عن الحب المراهق، مع تركيز على نغم رئيسي بسيط بدوره ولكنّه سهل الحفظ فيعلق بخاطرك فورا. ليست البساطة سهلة بالضرورة، وقد حققت للبيتلز قدرا كبيرا من النجاح في البدايات، ولكنّهم لم يبقوا هناك. يقول بول مكارتني أنهم كانوا يرفضون الاستسلام للضجر، فيتجهون إلى التنويع في تجاربهم. كان التطوّر كبيرا، والمثير للانتباه أنه وقع في زمن قصير للغاية. تشعر بفرق شاسع بين الاستماع إلى "Love me do" سنة 1962 وبين الاستماع إلى أغاني ألبوم "فرقة نادي القلوب الوحيدة للرقيب بيبر" سنة 1967، حيث بلغت الأغاني درجة عالية من التطوّر على مستوى الكلمات وعلى مستوى التركيب اللحني. في سنوات قليلة مرّوا من "السكيفل" و"الروك آند رول" في تمثّله الساذج إلى أنماط تستوحي التعقيد السمفوني وتنفتح على موسيقى العالم أينما وجدت، وخاصة الموسيقى الهندية. في تطوّرهم هذا، كان البيتلز مدفوعين بحسّهم الفني المترفّع الذي يرفض الاستسلام للدوافع التجارية على إغراءاتها وقوة ضغطها لا سيّما بالنسبة إلى شباب في بداية مسيرتهم. في سنة 1966، وحين كانت الفرقة في أوج نجاحها، قرّر الأربعة التوقف عن إحياء حفلات عامة، ذلك أنهم ولشدّة الهوس بهم (البيتلمانيا) كان صراخ المعجبات والمعجبين يمنعهم من الاستماع إلى أنفسهم وهم يعزفون. يقول رينغو ستار عن ذلك: كنت أحاول تبيّن أين وصلت الأغنية من حركات زملائي وأنا أنظر إليهم من الخلف، لا أظن أننا كنا نعزف موسيقى جيّدة آنذاك. لذلك تخلّى البيتلز عن الحفلات، وهي مصدر أساسي للشهرة والدخل، ليتفرّغوا لإنتاج ما يعتبرونه موسيقى جيّدة في الاستوديو. كان ذلك جنونا بلا ريب بالمنطق التجاري، ولكن هذه "الهبلة" هي من سماتهم الأساسية. البيتلز منذ بدايتهم رفض لكل أنواع السلطة مهما كان مأتاها: رفض أن تُقرّر لهم الموسيقى التي يعزفونها، رفض للخضوع للنواميس الاجتماعية، وإصرار على أن يقرّروا مقاييسهم بأنفسهم. كانوا تعبيرا حيا عن تمرّد الشباب وتحدّيه للقيم السائدة وعدم مبالاته بأيّ شيء. رغم توسيمهم من قبل الملكة، لم يمتنع جون لينون عن التعريض بسخرية بالملكة الأم لمّا حضرت إحدى المناسبات التي غنوا فيها. ربما يكون لانحدارهم من الأوساط الشعبية في ليفربول دور في تغذية هذا التمرّد ولعلّ ذلك ما حدا بهم إلى الغناء "أعطني المال، ذاك ما أريده" أو مهاجمة سياسة الحكومات البريطانية الضريبية بشكل لاذع في "رجل الضرائب" أو حتى التغني الساخر بالعدوّ اللدود في "عودة إلى الاتحاد السوفياتي". لكنهم قاموا بتمرّدهم هذا بكثير من المثالية التي دفعتهم إلى الانتصار إلى كل ما يعتبرونه قضيّة عادلة. رفض البيتلز الغناء في جاكسونفيل في الولايات المتحدة لمّا علموا أن السلطات ستطبّق الفصل العنصري على جمهورهم، وأهدوا إلى حركة الحقوق المدنية الأمريكية أغنية "الطائر الأسود" الاستعارية الجميلة، وأصبحت أغنيتهم "كلّ ما تحتاجه هو الحبّ" هي النشيد الرسمي لصيف الحب سنة 1967. 
ربّما يمكن إرجاع شيء من هذه المثالية إلى طفولة أبت أن تكبر عند البيتلز. الكثير من أعمالهم محكوم بمنطق اللهو، مجرّد الرغبة في العبث الصبياني أو حيرة الصغير أمام تعقّد العالم. الطفولة من منابع الإبداع لدى البيتلز. نجدها حاضرة بوضوح مثلا في "لوسي في السماء مع الماسات" أين التقط جون لينون عبارة نطق بها ابنه ليبني عالما كاملا من الخيال الخصب النازع نحو السريالية. حزن نفس الطفل كان دافع بول مكارتني ليكتب "هاي جود" لمواساته. أغنية "الغواصة الصفراء" هي بامتياز أنشودة للأطفال. ترتبط الطفولة بتشكّل اللاوعي لدى المرء، وهو ما يجد أجلى مظاهره في الحلم الذي نراه كذلك من دواعي التأليف لدى البيتلز. "أوحِيَ" نغم أغنية "أمس" إلى بول بشكل غامض أثناء نومه، وكان حواره مع أمه الراحلة في المنام دافع كتابة "لِيَكُنْ Let it be". يتحفّز اللاوعي كذلك بشكل إرادي من خلال استعمال العقاقير، وهو ما يتجلّى في المرحلة البسيكيليدية لدى البيتلز، منذ ألبوم "ريفولفر ".
قد تكون هذه الينابيع المتحرّرة من كلّ قيد هي ما جعل موسيقى البيتلز ما هي عليه: مكثّفة الشعور، نابضة بالحياة، تتدفّق إلى النفس بلا أيّ حواجز. هذا ما أوصل أغانيهم إلى ذرى جمالية عالية فتنظر بشكل أصيل إلى مختلف المشاعر والمواقف الإنسانية: لا شيء يعبّر عن الوحدة مثل "اليانور رجبي"، لا شيء يعبّر عن الوقوع في الحب مثل "شي ما something"، لا شيء يعبّر عن الأمل مثل "ليكن". لاشيء يعبّر عن الارتباك الحائر مثل المقطع الأركسترالي في "يوم في الحياة". طريقة وضع هذا المقطع تكشف في نفس الوقت عن بساطة وعبقرية الطرح. طلب بول من الأركسترا السمفونية المصاحبة أن يبدأ كل فرد منهم في العزف من أدنى نوتة ممكنة في آلته إلى أعلى نوتة، كلّ بوتيرته الخاصة. لم يفهم أفراد الأركسترا المطلوب، ويبدو أن بعضهم امتعض من تضييع وقته مع شباب لا يبدو أنهم يفهمون الموسيقى، فتدخّل المنتج جورج مارتن ليترجم المطلوب باللغة اللتي يفهمونها. كانت النتيجة عملا فريدا من نوعه.
لم يكن من الممكن للبيتلز أن ينجزوا ما أنجزوه لولا الديناميكية الداخلية الثرية للغاية التي كانت بينهم. جمع بينهم الكثير، ولكنّ كلا منهم كان شخصية فريدة من نوعها: جون لينون بطبعه المتمرد وحسّه الساخر وقدرته على التجريب، بول مكارتني بحسّه التنظيمي وخياله الواسع وانفتاحه الموسيقي الكبير، جورج هاريسون بهدوئه العجيب وروحانيته العميقة وتفرّده في العزف، رينغو ستار بلطفه الساحر ودقّة إحساسه وقدرته الاستثنائية على التحكم في سرعة الإيقاع. هيمن الثنائي لينون ومكارتني على التأليف في البداية، ولكن لم يكن النجاح ليتحقق لولا جهود كل فرد من الأربعة، وفي المراحل اللاحقة أثبت جورج أنه لا يقلّ موهبة في التأليف عن زميليه. كلهم كانوا يؤدون أغاني المجموعة، فلم تشتهر بصوت أحد منهم فحسب، عكس ما وقع لكوين مع فريدي مركوري. عندما ضُربت هذه الديناميكية، بدأت نهاية البيتلز. يعبّر جون لينون عن ذلك عندما قال عن ألبوم "طريق آبي"، وهو آخر ألبوم سجّله البيتلز معا وذلك عندما تعمّقت الخلافات بينهم: "كان ألبوما جيدا، مثل "رابر سول"... لكن لم تكن هناك حياة في "طريق آبي" ". هذه الديناميكية كانت تتعزز بمجهود أشخاص من خارج الأربعة، منهم المنتج جورج مارتن وخاصة المدير براين ابستاين، الذي شكّلت وفاته ضربة قاصمة للمجموعة. بمثل هذه الروح الجماعية، كان البيتلز نموذجا للمشروع الذي يتجاوز أفرادَه. بعد الانفصال، عرف كل فرد من الأربعة طريقه إلى النجاح، ولكنه لم يكن أبدا بمثل النجاح الذي حقّقوه كمجموعة. ظلّ كلّ منهم يعرّف بكونه "بيتل" سابقا أكثر من كونه فنانا منفردا.
لم تتجاوز فترة البيتلز الإبداعية ثماني سنوات (1962-1970) لكن انتاجهم في هذه الفترة القصيرة بلغ قرابة المائتي أغنية، أغلبها، وخاصة في سنينهم الأخيرة، "عيون" كما كان يقال عن روائع الشعر العربي قديما. في الأسابيع الأخيرة، لم أفعل غير الاستماع إليهم. تفجٌر لي عالم من الجمال غرقت فيه بكلّي، ولا أخالني أخرج منه قريبا.
غلاف ألبوم "مجموعة نادي القلوب الوحيدة للرقيب بيبر"

الخميس، 11 يونيو 2020

موجز تاريخي مع المسرح

لا أذكر المرّة الأولى الّتي شاهدت فيها عرضا مسرحيا. هناك ذكرى غامضة عن مسرحيّة للأطفال شاهدتها وأنا في سنين دراستي الأولى، وشعرتُ بالملل الشديد. أظنّ ذلك كان في المركز الثقافي والرياضي بالمنزه السادس.
في سنّ العاشرة تقريبا، وبعد قراءتي لكتاب عن "الأيّام الحاسمة في الحروب الصليبية"، أعجبت كثيرا بشخصيّة يوسف بن تاشفين. وفي غمرة ذلك الحماس، كتبتُ مسرحيّة من خمسة مشاهد (لا يتجاوز طول كلّ مشهد منها الصفحة الواحدة) حول معركة الزلّاقة. لم أكتف بالكتابة، بل حاولت كذلك إخراجها. جمعت أبناء الأخوال لإقناعهم بذلك، وبفعل قلّة العدد، كان يجب أن يقوم الممثّل بأكثر من دور. طبعا، استأثرت بدور يوسف بن تاشفين، مسلّحا بسيف بلاستيكيّ أصفر. للأسف، لم نتجاوز في الإنجاز طور البروفة. في المشهد الأوّل، كان من المفروض أن يكون هناك من يقدم على المعتمد بن عبّاد بخبر بعثة ملك قشتالة إليه وقامت بهذا الدور ابنة خالي، وما كانت تهرع إلى "الركح" صارخة "سيّدي، سيّدي" حتّى يغلب الضحك الجميع. لم نتقدّم كثيرا بعد ذلك المشهد.
لمّا كنت أدرس في السنة السابعة، بدا لإدارة المدرسة الإعدادية أن تدرّسنا حصصا في "التربية المسرحية". كان الأستاذ ممثّلا له بعض الشهرة، إذ ظهر في عدد من المسلسلات التلفزية. لم يدرّسنا أكثر من ثلاث حصص أصابني فيها الضجر. علاوة على توقيتها غير الموفّق (ساعة الغداء)، لم يجاوز الأستاذ إملاء بعض المعلومات النظرية والتاريخية. أذكر أنّني كنت أجلس في الحصّة الثالثة في آخر صفّ مسندا رأسي إلى الحائط مغالبا النعاس. في آخر تلك الحصّة، أعلمنا الأستاذ أنّ الحضور سيكون في المستقبل اختياريا، وأخال أنّ النية كانت تتجه نحو تكوين ناد للمسرح. لا أذكر أنّي سمعت بعد ذلك عن هذا النادي.
في المرحلة الثانوية، أصبحت أشاهد عدد أكبر من المسرحيات. لا أنسى حضوري في فضاء التياترو عرضا لمسرحيّة "هنا تونس" لتوفيق الجبالي مع صديقين من المعهد. انبهرت بالعرض، وأظنّها كانت المرّة الأولى التي أحضر فيها عرضا ليليّا. في تلك الفترة، كتبت أوّل مسرحية أتيح لها أن تُعرض، وإن بشكل محدود للغاية. كان ذلك في الثانية ثانوي. طلبت منّا أستاذة التاريخ تقديم عمل جماعي مرتبط بما كنّا ندرسه ليُحتسب في عدد الشفاهي لتلك الثلاثية. خطرت لي فكرة كتابة مسرحيّة عن المعتصم وشاعره أبي تمّام (الذي بدأت أولع به في تلك السنوات). شرعت فعلا في كتابة المسودّة في قاعة المراجعة بالمعهد، ولم أرض عمّا كتبت فألقيتها أو ربّما تركتها فوق الطاولة. لا أدري كيف عملت المخابرات وقتها، فتمّ العثور على المسودّة الملقاة وجاءني "وفد" يقترح عليّ أن يكون العمل لا عن المعتصم بل عن أبيه هارون الرشيد، ربّما لأنّ الرشيد بما يوحي به من أجواء ألف ليلة وليلة كان أكثر إثارة. أخالني كنت متعطّشا للكتابة، فلم أعترض ولم أتمسّك كثيرا بفكرتي الأولى. كتبت مسرحيّة في مشهدين عن الليلة التي سبقت نكبة البرامكة. كان التحدّي الكبير هو إدماج الجميع في هذا العمل: مسرحيّة لا يتجاوز طولها ربع ساعة فيما أذكر، لكنّها تحوي قرابة ثلاثين ممثّلا! أخذت المخرجة المعيّنة المسألة بكلّ جديّة وبرمجت بروفتين للعرض واستدعت قيّمين يعملان بالمعهد حاصلين على الأستاذية في المسرح لإبداء الرأي في العمل. تقبّلت ملاحظاتهما بمزيج من الامتعاض والسخرية. تساءل أحدهما بشيء من العجرفة إن كان العمل يستند إلى المراجع التاريخية حول تلك الفترة، ورددت عليه بشيء من الحدّة إذ لم أكن ممّن يتسامح مع وقائع التاريخ. لا أذكر أنّه اقترح اقتراحا واحدا قابلا للأخذ به، وكتمت ضحكتي لمّا اقترح أن يمكث جلساء الرشيد خلفه لا امامه ليعبّروا عن "المفهوم القاعدي للأركسترا" على حدّ تعبيره. كانت لديّ رؤية لما ينبغي أن يكون العمل عليه ولم أكن مستعدّا كثيرا للمساومة حولها. وفي الحقيقة، كانت تلك الأجواء من الفترات القليلة التي أشبعت فيها نرجسيّتي طوال دراستي الثانوية. قبلت المخرجة معظم اقتراحاتي، بل وعرضت عليّ أن أقوم ببطولة العمل لو شئت، غير أنّني كنت قد صرت أؤمن بالتخصّص آنذاك، فامتنعت عن قبول عرضها. اقترحت، وأنا أبدي كلّ الجديّة، على الزميل الذي سيلعب دور جعفر البرمكي أن يقبل التضحية برأسه لنضيف مشهدا عن إعدامه يكون واقعيّا للغاية! كنت أمزح بطبيعة الحال، لكنني كنت حريصا أشدّ الحرص على أن يكون العمل في المستوى المطلوب، وهو ما لم يتحقّق للأسف رغم جديّة التحضيرات. أثناء العرض، أوقع أحد الممثّلين كأسا ثمينة فانكسرت، وكانت صاحبة الكأس (الذي أحضرته كجزء من الديكور) حاضرة في المشهد، فكادت تجنّ وتخرج من حالتها المسرحيّة لتقرّع صاحب الفعلة الذي تدارك الأمر وأسرع بالمرور إلى عبارته التالية. أمّا "هارون الرشيد"، فقد أخطأ في توقيت إحدى العبارات وهو ما أحدث بلبلة في سيرورة المسرحيّة. نقمت على هذا "الرشيد" الذي أفسد تحفتي وظللت أكرّر عبارات الامتعاض منه لعدّة ساعات.
لم أعد إلى الكتابة المسرحية بعد ذلك لفترة طويلة. راودتني فكرة عن مسرحية شعريّة مستوحاة من الأجواء الرحبانية غير أنّني لم أجاوز في تنفيذها الخطوات الأولى. اكتفيت بالمشاهدة على مدى سنوات، فكنت أحضر كلّ سنة عددا من عروض أيّام قرطاج المسرحية، وأشاهد على مدار السنة ما أمكنني من المسرحيّات التي تعرض بالحمراء والمسرح البلدي والتياترو وقاعة الفن الرابع وغيرها من الفضاءات. لمّا أنشأت مدوّنتي في 2007، كان أوّل مقال أكتبه نقدا لمسرحيّة "نجمة نهار" لمحمّد إدريس، وهي اقتباس لمسرحية "عطيل" لم يرق لي، ربّما لاحتوائه على "بدع" عديدة في حين أنّني كنت أرغب في مشاهدة العمل الكلاسيكي كما هو. غير أنّ العرض لم يكن بالسوء الذي يوحي به المقال. الاعمال السيّئة فعلا لا أكتب عنها عادة، لأنّ الكتابة عنها حبر مهدور ووقت ضائع. أسوأ الأعمال التي شاهدتها اقتباس أريد به أن يكون كوميديّا لسدّ المسعدي، وعرض فرنسي (حضرته عن طريق الخطأ) يخرّف فيه صاحبه لمدّة طويلة عن ذكرياته في أفينيون. أظنّهما العرضين الوحيدين الذّين خرجت دون أن أتمّهما. أمّا أفضل العروض، فلا أستطيع أن أحسم في شأنه. هناك عدد لا بأس به من الأعمال المتميّزة التي رسخت في الذاكرة. أذكر منها مسرحية سورية لسامر محمد إسماعيل بعنوان 'ليلي داخلي" وهي مقتبسة من "خطبة لاذعة ضدّ شخص جالس" لغارسيا ماركيز. أمّا العروض التونسية فمنها "آخر ساعة" لعزّ الدين قنون و"خمسون" للفاضل الجعايبي و"قصر الشوك" لنعمان حمدة و"ريتشارد الثالث" لجعفر القاسمي الذي فاجأني عرضه بشكل سار جدّا، بما أنّني لم أكن أعرف عنه فيما سبق سوى ميله إلى التهريج.
لمّا كنّا نستعد في تونس الفتاة لتنظيم ملتقى بعنوان "قرطاجيون" في سنة 2016، أضفنا إلى المحاضرات عددا من المشاهد المسرحية حول مسيرة حنّبعل. أشرف على تنفيذ هذه المشاهد المسرحي الطاهر عيسى بن العربي، وكانت حدثا فريدا في تاريخ الجمعية وأنقذت النشاط من الرتابة. حضرت البروفة الأولى وفتنتني الأجواء التي سادت التمارين ووددت لو كنت مشاركا في العمل. في نفس السنة، لمّا سمعت بوجود ناد للمسرح في فضاء كرمان الذي كنت تعرّفت عليه منذ فترة قصيرة، غالبت تردّدي وقرّرت الانضمام إليه. كانت الخطوات الأولى مليئة بالارتباك وحتّى إلى المصادفات غير السارة (بما أنّي تعرّضت إلى "نطرة" إثر الحصّة الأولى)، لكن سرعان ما تجاوزت ذلك. بعد شهر واحد، أصبح نادي المسرح ركنا قارا في حياتي، وصارت له طقوسه الخاصة، كقهوة ما قبل البداية بما أنّ أستاذنا العزيز حسّان الغربي كان يتأخّر دائما في القدوم. سرعان ما توّثقت أواصر المودّة مع أعضاء النادي، على اختلاف مشاربهم وتنوّع اختصاصاتهم وتباين أعمارهم. لمّا قيل لنا أنّه ستقع برمجة عرض لنادينا في شهر رمضان، لم آخذ الأمر على محمل الجدّ في البداية ثمّ تهيّبته لمّا صارت التحضيرات تسير فعلا على نسق حثيث. أخال أنّ مواجهة الجمهور كانت أكثر ما خشيته. عشرات من الناس يجلسون قبالتك ويعدّون عليك حركاتك وسكناتك! تجاوزت هذه الخشية تدريجيا مع الأجواء الطيّبة التي سادت المجموعة، وكانت البروفات الرمضانية من أمتع الأوقات التي عشتها على الإطلاق. صعدت على الركح لأوّل مرّة يوم 4 جوان 2017 لأساهم في عرض "أجيال"، وهو مجموعة من المشاهد المسرحية. لعبت حينها دور أب "متدعوش" ومعلّم يجنّنه تلاميذه ومدير مدرسة مرتبك. تلك الوقفة على المسرح كانت استثنائية في حياتي: كنت أظنّني سأكون مرعوبا من التفكير فيما يظنّه المتفرّجون فيّ، لكنّني في الحقيقة كنت منشغلا بتأدية الدور كما ينبغي أن يكون. ليتني كنت كذلك في الحياة نفسها!
بعد ذلك العرض، توطّدت علاقتي أكثر بالمسرح. أصبح فضاء كرمان بيتا ثانيا لي، وكنت أقصده حتّى خارج أوقات النادي لتغيير الأجواء، حتّى وإن كان ذلك بالجلوس بمفردي في فضاء أحسّ به بالألفة. رغم التغييرات الحاصلة في المجموعة، ظلّ إحساس المودّة مهيمنا. حين سافرت إلى أستراليا في آخر 2017، كان من أكثر ما آسفني اضطراري إلى تفويت عدد من حصص النادي، ومن أكثر ما سرّني أنّه أتيحت لي فرصة مشاهدة عمل كلاسيكي كما ينبغي أن يكون، إذ شاهدت بملبورن عرضا لمسرحيّة "عطيل" في فضاء أقيم على نمط مسرح "غلوب" الشهير، حيث كان شكسبير يعرض أعماله. طبعا لم أكن أفهم كلّ ما يقال بتلك اللغة الأنجليزية العتيقة، لكنّني كنت أعرف المسرحية جيّدا واستمتعت بمتابعتها إلى أبعد الحدود.
بدأنا العمل باكرا في ذلك العام على مسرحيّة نتوّج بها أعمال النادي. ابتكرتُ شخصيّة "فريد باي" سليل العائلة الملكية المُبعد عن عرشه، وسرعان ما أصبحت هذه الشخصيّة أساس العمل. كان هناك الكثير من التجريب، إذ كثيرا ما كنّا نحذف مقاطع ونضيف أخرى بعد أن نشاهدها ونناقشها معا. كانت هناك روح ديمقراطية في التحضير للعمل، إذ أنّ الكتابة كانت في الواقع جماعية يساهم كلّ ممثّل فيها في كتابة دوره، وإن كانت الصياغة النهائية (التي لم تتبلور إلّا أياما قليلة قبل العرض) لحسّان. صعدت على الركح، في مسرحية مكتملة الأركان هذه المرّة تحمل عنوان "خرافة"، لأؤدّي دور فريد باي. قيل لي أنّ الدور هو عكس شخصيّتي الحقيقية تماما: أرستقراطي متكبّر ومغفّل وسكّير وخائن. في الحقيقة، كان هذا التناقض من أكثر ما شدّني إلى هذه الشخصيّة. فعلٌ محرّر للغاية أن تكون ما لا يشبهك وأن تقتنع بذلك وتقنع بذلك. في لعب مثل هذه الأدوار برهان على أنّك يمكنك أن تكون كما تشاء متى رغبتَ. لعلّ تلك من أكبر مزايا المسرح: أن تخلق، بمشيئتك الحرّة، ما لا يكون فيصبح كلّ المعنى ما وراء الجدار الرابع.
اضطررت، للأسف، بعد ذلك للابتعاد عن النشاط المسرحي. في آخر 2018، كان النسق المجنون لمشروع "اكاديمية الشعراء" يشغل كلّ وقتي. لمّا حاولت العودة إلى المسرح في فضاء مختلف ومجموعة مختلفة في 2019، لم أجد الأجواء التي تريحني. وجدتُ نفسي في فضاء شديد الضيق إلى حدّ خانق، مع مجموعة تختزل المسرح في الكوميديا، والكوميديا في الإيحاءات الجنسية و"الغشّ" في الكلام، مع أستاذ لا يبدي نقدا يذكر ويتضاحك مع الضاحكين. توقّفت عن الحضور بعد شهر واحد. لكن لا يزال حلم المسرح يراود خيالي. لا أزال أحلم أن أكتب نصّا كـ"هاملت" أو أن أؤدّيه. لا أزال أحلم أن تدوّي صرختي من فوق الركح، كما في عرض "أجيال":
"أنا نحلم باش الدنيا هذي ما تبدلنيش... نحلم باش نضيع فيها كيما نحب ومن بعد نرجع لروحي... نحلم أنّي نفسّخ كلّ طريق مسطّر ونصوّر ثنيّات ما كانتش موجودة... نحلم اللي نعدّي عمري الكل تاعب في حاجة نراها أنو تستاهل التعب… نحلم اللي في آخر نهار ليّ فيها نقول للعالم الكل اللي أنا عشتها لروحي كيما حبّيت وماعشتش حياة حد غيري !"

مع فريق عرض أجيال، 2017
في دور "فريد باي" في مسرحية "خرافة"، 2018

الاثنين، 8 يونيو 2020

خمس وثلاثون

في عيد ميلادي
كعكتي كانت بلا شمع
لم يعدْ شيءٌ لأطفئه
فكلّ حرائقي قد أخمدت
ما عاد غيرَ صدى دويُّ الانفجارْ
ما قد مضى صار الكثير
وما تبقّى... ذاك ما أمسى القليل
إذا حاولتُ أن أمشي سيسبقني الأوان
إذا ركضتُ فلا وصول
إذا رقدتُ كعادتي
من مانعٌ عنّي تِلالاً من غبارْ؟
ترفًا تصير الأمنياتُ
لقد خسرتُ الحقّ فيها
والحقيقة أضحت الكون الوحيد
زجاجها سقفٌ لرأسي
ليس يرضى الانكسارْ
يبدو لما يجري كلّه حجم واحد
من ربوتي أحكيه لي متهكّما
قد مرّ- في أدنى احتمال- مرَّة
لم يبق غيرُ إعادة لا تنتهي
لم يبق غير الانتظارْ
ندمٌ؟ علام؟
تفاخرٌ؟ لم؟
إنني ما قد جرى
أنا نقطَةٌ قد لا تُرى
لولا وميض الذكريات بقلب من أحببتُ
أنتم كلّ عُمْري بعد عُمْري
أنتم المعنى بكلّ صفائه
وَشْمِي بوجه الاندثار

الأحد، 7 يونيو 2020

أساطير على الدرب

ليس لي ستّة أيام
لكي أنشئ في العالم خلقا ما جديدا
الأحاجي ذهبت بالوقت
لا حَلَّ لها أعرفه
طُفْتُ على نفسي مرارا
ووجدت الدرب لم تبدأ
فنفس الحيرة الأولى تعرّيني
ومرآتي عريقٌ شرخها
ما أنا؟
كي أزعم ما أزعم
إني لم أعد أعلم
لم أعلم، لعلّي، قطّ
لا أذكر أنّي قلت يوما:
بصري صار حديدا...
ربّما لم توجد الدرب
ما الأمر سوى إغشاءة
فيها تنزّ النفس من أيّامها
حتى ترى
أن ليس هنا شيء يُرى
هل واقعٌ ذاك الذي نبصره؟
ُما واقعٌ إلََاه...
إنّ الماء والثلج هما غُسل القدامى
فتطهّر بتراب
عَفٌِرِ الوجه به
علّك تغدو منه
كالبدء تماما
خالف الأمر
لكي تهوِيَ في ذاتك صِرفًا
ليس تحيا ها هنا
إلا إذا ما كنت إنسانا مَريدا

الثلاثاء، 2 يونيو 2020

لم يكن ينبغي أن تبدأ الحكاية


مصدر الصورة: weheartit.com

سقطتُ على الرأس
ما كان لي قدمان
لأمشيَ كالناس أعرُجُ فوق التراب
أردت مكانهما لي جناحين
حتى أرى كلّ شيء خفيّ
ولكنني كنت أجهل كيف أحلّق
كان السقوط كتابا أمام عيوني
تهجّأت منه حروفه حرفا فحرفا
ولم أقرأ الكلمات
برأسي اتّقيتُ عناد الثرى
فوجدت كياني سليما 
سوى من غبار البدايه...
لقد كنت أحتاج أكذوبة تنطلي
ربّما لم أصدّق جميع تفاصيلها
كان في القلب ركن به خضرة
لم تجفّ عروقه مثل البقيّة
ظلّ يهامسني كلّما زاد بي غرقي
فيخبّرني أنّ في السطح غيما 
وأسطورة الشمس فخّ قديم
وفي لحظة الحسم أصبح يصرخ:
لا ينبغي أن تتم الحكايه...
كتبت الكثير من الترٌهات
ولم أر فيها بريق الخلاص
محوت زخارف كلّ القصائد
طقس الوداع بسيط شديد التقشّف:
فيه بخار البطولة ينسلّ من كلّ ثقب
ملخٌص كلّ اعتذار يحبٌر في أسطر
كلّ يوم مضى سيُمزّق بين السراديب
وجه جديد تعلّق من فوقه الابتسامات
حتّى يغطّي خزي النهايه...
أما كنت أعرف؟
منذ البدايه!
ولكن أكان يجوز لمن ليس يملك رجلين
ألّا تكون لديه حكايه؟

الخميس، 28 مايو 2020

الدروس السبع للحجر الصحّي


سبعون يوما أو يزيد مرّت منذ أن دخلنا الحجر الصحّي الشامل. لا أظنّ أنّ أحدا كان يتوقّع، حين دخلنا السنة الجديدة، أنّه من الممكن أن نمرّ بمثل هذه التجربة: عزلة شديدة وتجنّب لمخالطة الناس إلّا في حالة الضرورة وغلق لأغلب الأماكن العامة... طرقات خالية تماما منذ السادسة مساء (في البداية) وهوس يتتبّع أعداد المصابين والمتوفين... كلّ ذلك بداعي الخوف من وباء قاتل قادم من أقصى الشرق لم يجد الأطباء له علاجا. يبدو ذلك من بعض سيناريوهات نهاية العالم! على أنّ هذه التجربة، وهي تشارف الآن على نهايتها، لم تكن سلبيّة بالمرّة. هناك الكثير ممّا تعلّمته في هذه الفترة التي لم أغادر المنزل فيها إلّا لماما:
1. المنزل ليس بالمكان السيّء
قبل بداية الحجر الصحّي، لم يكن المنزل بالنسبة لي تقريبا سوى مكان للمبيت. أقضي ثماني ساعات في العمل، تضاف إليها ساعتان بين التنقّل والغداء. بعد العمل، قليلا ما أرجع مباشرة إلى المنزل. دائما يكون هناك ما أفعله: سواء تعلّق الأمر بقهوة مسائية أو بحضور محاضرة أو مشاهدة فيلم أو زيارة عائلية، لا يكون هناك داع للتبكير في العودة. لا يتبقّى للمنزل من الوقت سوى ما يكفي للعشاء والنوم، هذا إذا لم يكن هناك برنامج ليلي. هذا في أيّام الأسبوع العادية، أمّا نهاية الأسبوع فلها برامجها التي لا تشمل البقاء في المنزل.
في فترة الحجر الصحّي، أصبح البقاء في المنزل ضرورة، فاضطررت إلى التعرّف عليه من جديد. اكتشفت أنّ هناك شرفة تصلح لأكثر من نشر الثياب. أصبحت هي المنفذ إلى الخارج، المدخل إلى ضوء الشمس، والواجهة على الخضرة القليلة المحيطة بنا. صارت الشرفة من أمكنتي المفضّلة التي أقضي فيها بعض الوقت في المطالعة والاستماع إلى الموسيقى إذا كان الطقس ملائما. أمّا إذا اشتدّت الريح بعض الشيء أو انخفضت الحرارة، فهناك حلول أخرى. اكتشفت أنّ الأريكة المهملة مكان ممتاز للقيلولة والتأمّل. أمّا الحشيّة الملقاة أمام التلفاز، فهي أغلى الأماكن على الإطلاق، إذ يضحي التنافس على حيازتها شبيها بحرب لامتلاك عرش وثير.
2. الضرورات أقلّ مما نتصوّر
في الأيّام الأولى من الحجر الصحّي، كانت هناك حالة من الهلع: ماذا إذا لم يوجد بالمحلاّت ما يفي بحاجات الجميع طوال فترة لا ندري أتطول أم تقصر؟ ماذا نفعل وقد أغلقت جميع المطاعم فلم يعد هناك من سبيل إلى شباتي أو إلى لبلابي؟
لكنّ الأمر لم يكن كارثيا. لم يُفتقد من المواد الكثير، وما افتُقد اكتشفنا أنّنا قادرون بسهولة على العيش من دونه. ربّما لا يكون شيء في الدنيا ضروريا إلى هذا الحدّ! صار العثور على كميّة كافية من الخبز نعمة كبرى، ووجود الدواء في الصيدليات داعيا إلى الفرح. أمّا الأكل في المنزل، فبعد أن فقدت بذخ تعويضه بأكل المطاعم، اضطررت إلى تقدير اجتهاد زوجتي في إعداده طوال هذه السنوات. هو أكل لذيذ وصحّي، فلم كنت أستسهل استبداله فيما مضى؟ لم كنت اختار تدمير صحّتي بما يُطبخ في زيت يبيت أيّاما وما ملوحته عالية لا تترك لطعمه الأصلي مكانا؟ طبعا هذا لا يمنع من العودة إلى بعض "الفساد" في الأكل في أقرب فرصة! 
اكتشفنا كذلك أنّه يمكن أن ندرّب أنفسنا لنتعامل مع بعض ما تعوّدنا التعويل على الآخرين في القيام به. مع إغلاق محلّات الحلاقة، اضطررت لوضع رأسي بين يدي زوجتي، وفي الحقيقة كانت النتيجة مشرّفة للغاية. كذلك وجدت أنّني، مع بعض التوجيهات، قادرا على أن أقوم بطبخ بعض الأكلات البسيطة. لم يكن الأمر بهذه الصعوبة!
3. القهوة: سائل الحياة
أعشق القهوة منذ كنت طفلا. أنتمي إلى عائلة تعتبر قهوة المساء من طقوسها المقدّسة. حالة تشبه الجنون تنتابني إذا ما أقبل الليل ولم أتناول قهوتي المعتادة. في العادة، توفّر المقاهي الفرصة للاستزادة من هذا السائل العجيب ثلاث أو أربع مرّات في اليوم.
كان عليّ في هذه الفترة أن أعود إلى طهو قهوة المساء بنفسي. نوّعت في الأنواع، وجرّبت مقادير مختلفة للوصول إلى التركيبة المناسبة تماما لـ"تعمير الرأس" كما ينبغي، فلا تكون القهوة مركّزة جدّا صداعها أكثر من نفعها، ولا مائعة جدّا أثرها لا يزيد عن أثر الماء أو الحليب. كان النجاح متفاوتا، لكن على أيّ حال كان ما حقّقته من الممكن أن أضخّ في دمي ما يكفي لكي أحافظ على شيء من النشاط. أكّدت هذه الفترة بالنسبة لي شيئين: أنّ الحياة دون قهوة مستحيلة، وأنّ الكابوسان المعصورة في المقهى لا تضاهى.
4. الغير ليس الجحيم دائما
طالما كان التعامل مع الآخرين أمرا مقلقا بالنسبة لي. لا أملك دائما من اعتدال المزاج وسعة الصدر ما يمكّنني من التفاعل مع الناس ومجابهة أهوائهم وتقلّباتهم وعنادهم وانفعالاتهم. أريد لكلّ شيء أن يتمّ كما أريد، وبالإيقاع الذي أريد وعادة ما يقف الآخرون حائلا دون ذلك. يقلقني الزحام كثيرا، ولا أحتمل الصراخ. أحد الخيالات التي لازمتني في صغري أن أعيش بمفردي منعزلا عن كلّ هذه الإزعاجات.
عندما أتاح لي الظرف شيئا من ذلك، لم يكن الأمر ممتعا إلى هذا الحدّ. صحيح أنّ المرء تمتّع بقدر من الهدوء، لكنّ الهدوء الذي يفوق حدّه مخيف. لا بدّ من شيء من الصخب لتستقيم الحياة، وإلّا لن يكون للهدوء معناه. عندما تسير لقضاء شأن ما، وتجد الشارع مقفرا، يخالجك فراغ قاتل. عندما تخشى من اقتراب أيّ شخص منك، ثمّة رياح باردة تغزوك فتشتاق إلى الأيّام التي كان متاحا فيها للأجساد أن تتقارب وحتّى تتلامس. تتوق حتّى إلى محادثة لا معنى لها مع شخص غريب عنك تماما.
طبعا تتيح الوسائل الحديثة قدرا لا غنى عنه من إمكانيات التواصل، ولكن لا يمكن لها أن تعوّض التواصل المباشر. لا شيء يعوّض قهوة المساء مع العائلة أو جلسة في "دار زمان" مع رفاق الجمعية.
5. نعمة الوقت
لا يتيح نسق الحياة الحديثة الكثير من الوقت لنتمهّل. نركض أغلب الوقت، وحتّى إذا أتيحت الفرصة لشيء من التسلية، فإنّنا نبادر إليها بنوع من العصبية والعجلة وكأنّنا نقوم بواجب ما، قبل أن نعود إلى العيش تحت وطأة الضغط الذي أمسى جزءا لا يتجزّأ من الحياة العادية.
خلال الحجر الصحّي، ربّما كان هناك في البداية شعور ما بالغرابة. عندما نعتاد أن نركض، يضحي الاسترخاء أمرا لا معقولا نعجز عن استيعابه. لكن بمرور الوقت، يصبح الاستسلام له لذيذا. لا شيء يدعوك أن تتعجّل في شيء، لذلك بإمكانك أن تتذوّق وتتأنّى وتتأمّل. في الأشهر الأخيرة، توفّر لي الوقت لأطالع ما كنت أؤجّله لمدّة طويلة، دون أن ألجأ إلى التهام الصفحات على عجل لأسجّل أرقاما قياسية في مجموعات القرّاء، وإنّما أهضم ببطء شديد ما أقرؤه، وأسجّل ملاحظاتي حوله وأتوسّع في بعض جوانبه. في هذه الفترة، كتبت كثيرا فاستأنفت مشاريع معطّلة منذ مدّة وشرعت في مشاريع جديدة. جدّدت علاقتي بالموسيقى فاستمعت إلى أنماط لم أكن منفتحا عليها وتواصلت مع عشقي القديم فـ"ختمت" جميع مسرحيات فيروز. رجعت كذلك إلى كلاسيكيات السينما فشاهدت عددا كبيرا من الأفلام القديمة، دون أن أهمل ما تمّ اعتباره من أفضل أفلام القرن الحادي والعشرين.
6. سجن العمل المكتبي
تجربة العمل عن بعد على مدى أشهر وضعت موضع التطبيق فكرة تلازمني منذ أن بدأت حياتي العملية مفادها أنّ العمل المكتبي هدر كبير للأعمار. أن تكون مضطرّا إلى البقاء ثماني ساعات في اليوم جالسا إلى مكتب يعني أن تقبل بأن تعيش من الناحية الذهنية في حالة من العطالة وأن ترضى من الناحية البدنية لجسدك أن يدخل في حالة ترهّل. يعبّر عن هذه الحالة أنطوان كرباج في مسرحية المحطّة، فبعد أن كان لصّا يعيش على تخوم الخطر، يضجر بسرعة من كونه موظّفا ويحنّ إلى أن يفرد جناحيه خارج الغرفة الصغيرة التي سُجن فيها.
تثبت تجربة العمل عن بعد أنّ وسائل الاتّصال الحديثة تتيح القيام بتسعين في المائة ممّا كنت تقوم به في المكتب، دون أن تقضي ساعات في زحمة المرور، ودون أن تضطرّ إلى الجلوس دون حراك على كرسيّ. أمّا على النجاعة، فهي تكون أكبر بكثير عندما يُرفع عنك الحاجز الذهني للسجن المكتبي. هناك مهمّة معيّنة اقتضت منّي عندما قمت بها في المكتب بضع أيّام، بين الأخذ والردّ والضجر والانشغال. أمّا عندما قمت بمهمّة مماثلة عن بعد، لم تتطلّب أكثر من بضع ساعات.
7. الشريك المناسب للحياة
عندما يختار المرء شريكا لحياته، فلا بدّ أن يضع في حساباته لا الأوقات السعيدة فحسب وإنّما كذلك الأوقات الحزينة وحتّى الأوقات الاستثنائية جدّا كفترة الكورونا. ليس من السهل أبدا أن تقضي عدّة أشهر ولا رفيق لك سوى نفس الشخص. لا أستطيع أبدا أن أتخيّل كيف يمكن لأيّ أحد أن يقضي مثل هذه الفترة مع من لا يحبّه أو من أرغم على الارتباط به.
طبعا لم تخل فترة الحجر الصحّي مع سوسن من بعض لحظات الملل، لكنّها كانت أقلّ من أن تعدّ. هيّأت لنا مجالات اهتمامنا المشتركة معينا لا ينضب من النقاشات الطويلة الدسمة حول عديد المواضيع: من الفلسفة إلى الشؤون البسيطة للحياة اليومية مرورا بالسياسة والفنّ والمجتمع والمسلسلات الرمضانية وحتّى "التقطيع والترييش"... وفي الحقيقة، كانت هذه النقاشات ملهمة لقسم كبير ممّا كتبته. وكلّما ظننّا أنّنا استنفدنا كلّ المواضيع الممكنة، ينفتح لنا باب آخر للنقاش لم يكن يخطر لنا على بال.

الجمعة، 17 أبريل 2020

زمن التوافق الضائع


من العسير أن نعدّد "الشوانط" التي من المفترض فتحها في البلاد. لا يوجد مجال تقريبا لا يحتاج إلى إصلاحات جذرية: الأمن، العدالة، الوظيفة العمومية، التعليم، التعليم العالي، الدعم العمومي، الضمان الاجتماعي، الجباية، الصحة العمومية، التنمية، السلطة المحليّة، الثقافة، الرياضة... كلّ مجال من المجالات المذكورة، وغيرها، يستوجب مجهودا خارقا للنهوض به ولو قليلا.
من السهل جدّا أن نُرجع المشاكل العديدة التي تعجّ بها هذه القطاعات إلى العهد السابق. وفي الحقيقة، أغلب الأزمات في هذه القطاعات هي نتيجة تراكم تاريخي امتدّ على مدى سنوات. لم تُفلس الصناديق الاجتماعية بين يوم وليلة، ولا تردّى وضع التعليم في عهد وزير بعينه. كان الانحدار متواصلا على مدى سنوات، وربّما أصبح أكثر وضوحا للعيان فقط لأنّ لنا اليوم من الحريّة ما يمكنّنا من أن نتحدّث عنه بشكل مفتوح.
المشكل في كلّ فعل تراكمي أنّه لا أحد يمكن أن يكون مسؤولا عنه بشكل واضح. المسؤولية مميّعة وسط نسيج هائل من السياسات العمومية المتعاقبة التي لم تفعل شيئا. كان الوضع يسوء تدريجيا، دون أن ينفجر في لحظة واحدة، ممّا يتيح لكلّ مسؤول أن يلقي المسؤولية على من سبقه.
على أنّ تحميل المسؤولية لشخص أو أشخاص لن يعفينا من مواجهة المشكل. ليذهب جميع المسؤولين طوال الستّين عاما الأخيرة إلى رحمة الله أو إلى غضبه، سيّان. لن يغيّر ذلك من الوضع الراهن شيئا. السؤال الذي ينبغي أن يُطرح: ماذا فعلناه لمواجهة هذه الوضعيات؟
يمكننا أن نلوم العهد السابق كما نشاء. لكنّنا الآن نشارف على الاحتفال بالسنة العاشرة لرحيله. ما الذي فعلناه طيلة هذه السنوات العشر؟ لو رجعنا إلى أيّ مجال من المجالات آنفة الذكر لعسُر علينا أن نعثر على أيّ بذور لإصلاح حقيقي في أيّ منها. هي سنوات ضائعة، اشتغلت فيها الحكومات المتعاقبة باليومي واليومي وحده، ولم تلق إلى المستقبل طرفة عين، فزادت المشاكل تراكما.
ما الذي كان يمنع من الفعل؟ الحجّة التقليديّة للساسة: لم نحكم بمفردنا، لم تكن الأغلبية مستقرّة، لم يتركونا نعمل. ليكن. لنسلّم جدلا بذلك، ولو أنّ أيّ حكومة مهما كان وزنها في البرلمان مطالبة ألّا تبحث عن أعذار مادامت قد نالت الثقة. ماذا عن أوقات "التوافق"، ذلك المصطلح العجيب الذي ابتدعته القريحة السياسية التونسية؟ ألم نشهد في أعقاب انتخابات 2014 تحالفا حكوميّا جمع ما يسمّى بالعائلة الوسطية الحداثية مع الإسلام السياسي وتيارات أخرى، وتجاوز وزنه البرلماني ثُلثي أعضاء المجلس؟ لماذا لم نفعل شيئا آنذاك؟
لم يكن التوافق المزعوم، الّذي قُدّم كحلّ يضمن السلم الأهلي للبلاد، غير اتّفاق يضمن اقتسام السلطة. ليس ذلك في حدّ ذاته مذموما، فهو جزء من لعبة السياسة. المؤسف أنّه لم يذهب أبدا إلى ما هو أبعد من ذلك. إذا عدنا إلى وثيقة شهيرة في تلك الفترة وهي وثيقة قرطاج سنة 2016 التي وقّعها عدد مهمّ من الأطراف السياسية آنذاك إضافة إلى أهمّ الأطراف الاجتماعية، لا نجدها أكثر من اتّفاق هزيل حول مجموعة من النقاط التي لا يمكن الخلاف عليها والفاقدة لكلّ آلية عملية لتطبيقها. هو اتّفاق لم يوضع لكي يطبّق، وإنّما فقط لكي يُعلن، وتحتفي به عدسات الكاميرا.
الوضع مثالي في الساحة السياسية التونسية لعدم الفعل. إذا كانت لديك أغلبية، فهي غير مريحة. إذا دخلت في توافق سياسي واسع، فأنت لا تحكم وحدك ولا تتحمّل المسؤولية عن شيء. أمّا الوضع الأكثر راحة، أن تكون في المعارضة فتلقي سهام نقدك على الجميع دون أن تكون مطالبا بشيء. من العسير أن يكون الوضع أفضل مع حكومة الفخفاخ، فهي حكومة لم يقبلها الجميع إلّا على مضض دون أيّ برنامج حقيقي، وزادتها أزمة الكورونا غرقا في اليومي. علينا أن ننتظر مجدّدا زمنا آخر يمكن فيه لطرف سياسي ما أن يحكم بمفرده حتّى ينفّذ برنامجه إن وجد (وهو شبه مستحيل في ظلّ النظام الانتخابي الحالي)، أو يأتي فيه توافق جديد يكون على أساس الحدّ الأدنى من الإصلاحات الواجبة والعاجلة.
 --
حالة حصار
العدد الثاني- 13 أفريل 2020
http://tiny.cc/1qvymz

الثلاثاء، 14 أبريل 2020

في المسرح الرحباني: ”ناس من ورق“... مهرجان حول مفهوم الالتزام


"نحنا ناس من ورق... ويمكن اللي كتب كتب إنو ما نتلاقى... ويمكن من بعيد أحلى وأصفى... هيك بيضلّ في مسافة ترقص فيها الشمس ويلمع جوّاتا الندي والدمع“.
هكذا تتكلّم ماريا (فيروز) في آخر حواراتها، وربّما أجملها، مع شكّور (حنّا معلوف) في مسرحية "ناس من ورق" الّتي عُرضت سنة 1972 بمسرح البيكاديلي ببيروت والّتي أخرجها صبري الشريف. لعلّ هذه الكلمات تُلخّص جانبا من العلاقة المعقّدة للفنّان بفنّه والتي تجعله، دون أن يكون ذلك قصده، يتّخذ مسافة من الذين يحيطون به.

تصل فرقة ماريا إلى البلدة بقيادة مديرها (نصري شمس الدين) لتقدّم عددا من العروض فيها. يصطدمون برجال ظاهر البندر وعلى رأسهم ديب (وليم حسواني) وهم في ذروة حملة ظاهر الانتخابية. ويحاول ديب بشتّى الوسائل تعطيل الفرقة لكيلا تشوّش على المهرجان الانتخابي.

لا نسمع صوت ظاهر البندر إلّا لثوان معدودة طوال وقت المسرحيّة، ومع ذلك نجد في مختلف الحوارات ما يمكنّنا من بناء صورة عنه. هو شخص له من الوجاهة ما يجعل الكثيرين يتمسحّون على أعتابه للالتحاق بقائمته الانتخابية، رغم أنّه قليل الحظ من التعليم، وإن كان ديب يزعم أنّه أهم من المتعلّمين لأنّه لم يضع وقته في المدارس بل بدأ في المظاهرات منذ صغره. تنعكس قلّة التحصيل الدراسي على خطابته، فنسمعه يلحن بشكل مضحك في افتتاح مهرجانه ونسمع عن عجزه صياغة خطاب متماسك فيوكل المهمّة إلى مجموعة من المعلّمين. يستغلّ شعبيته لطلب مبالغ مالية من الراغبين في الترشّح معه، ونعرف أنّه لا يتردّد في استغلال الفرص لتحويل المال العام إلى جيبه، كما أنّه لا يمتنع عن إرسال أتباعه لتعنيف خصومه الانتخابيين. يلخّص ظاهر صورة السياسي الفاسد، وهي صورة يعجّ بها المسرح الرحباني، فنجده مثلا في المفوّض في مسرحية "لولو" وفي رئيس البلدية في مسرحية "ميس الريم".

في مقابل هذا التنميط، تعترضنا صورة نمطية أخرى تقابلها، وهي صورة الفنّان الملتزم كما تمثّله ماريا. لا يحمل الالتزام هنا معنى سياسيا، إذ لا نجد فيما تؤدّيه ماريا وفرقتها أيّ إدانة لمظاهر الفساد المستشرية، وإنّما نعني به إخلاص الفنّان لفنّه ولفنّه وحده. حين يعرض ديب مبلغا جزيلا على ماريا لتغنّي في مهرجان ظاهر، يشتدّ غضبها وتصيح في وجهه أنّها لن تغنّي لأحد ولو بمليون ليرة. يذكّرنا ذلك بمواقف مشهورة للأخوين رحباني وفيروز رفضوا فيها الغناء في مناسبات خاصة، حتّى أمام رؤساء دول، ومنهم الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة.

قد يبدو أنّ هذا التعفّف لا يشمل كلّ أفراد الفرقة. يحاول مدير الفرقة الانضمام إلى قائمة ظاهر الانتخابية، ولا يتردّد من يلعب دور الحرامي (ايلي شويري) في السطو على ثياب الفرقة بتحريض من ديب. غير أنّ ذلك لا يعني ميلا فطريّا للرضوخ إلى المغريات. كلّ ما في الأمر أنّ الممثّلين يتلبّسون بأدوارهم حتّى يضحون غير مميّزين بين التمثيل والواقع، وهو ما يلاحظه ديب ويسعى إلى استغلاله. هم فنّانون ملتزمون بأدوارهم إلى أقصى حدّ. يبقى الحرامي يلعب دوره حتّى خارج المسرح، ويسعى مدير الفرقة لإثبات زعامته حتى خارج الفرقة. نلمح ذلك عند ممثّلين آخرين، كنسّوم (هدى حدّاد) التي تبقى تتلصّص خفية خارج دورها، بل ونرى ذلك حتّى لدى غير الممثّلين، فنجد الحارس عنتر يحاول، على جبنه البادي، أن يكون نظيرا لسميّه عنترة بن شدّاد. كأنّنا بجميع أفراد الفرقة يمارسون ضربا من التمثيل المنهجي (Method acting) يجعلهم يبقون في أدوارهم حتّى بعد نزولهم من على خشبة المسرح. يبدو هذا الخلط بين الواقع والخيال بشكل طريف عندما يستحضر مدير الفرقة في "عدّولي يا جماعة" كلّا من "جسر القمر" و"جبال الصوان" و"الشخص" وهي كلّها مسرحيات لعب فيها نصري شمس الدين، مدير الفرقة هنا، دورا بارزا.

تعبّر ماريا عن مفهوم هذا الالتزام بشكل واضح في حواريها مع شكّور. تحمل هذه العلاقة عدّة مكوّنات تعوّدنا عليها في أغاني فيروز: حبّ يبدأ منذ الصبا لا يتمّ التصريح به بوضوح، ويظلّ متّقدا لا ينطفئ رغم البعد ورغم مضيّ السنوات. رغم أنّه من الواضح أنّ ماريا تبادل شكوّر عاطفته، إلّا أنّها ترفض أن يظلّا معا. رسالتها تمنعها من ذلك. لا هي تستطيع الاستقرار، ولا شكّور يقدر على الالتحاق بالفرقة. تختار ماريا التضحية بعاطفتها لتواصل حمل رسالتها. قدرها أن تكون فنّانة، وهذا القدر يمنعها من أن تحيد عن طريقها. تعكس هذه الرؤية صورة الفتاة المنذورة، كما بدأت في "جسر القمر" وتواصلت في "جبال الصوان". لا يمكنها إلّا أن تفي به، فتظلّ تنتمي إلى "ناس من ورق"، ناس لا يمكنهم إلّا أن يكونوا وعاء لما يُصبّ فيهم، أمّا شخصياتهم وحيواتهم الواقعية، فلا مصير لها سوى الاندثار. الفنّان عند الرحابنة هو أعظم ألوان التضحيات: أن تمحو نفسك ليعيش فنّك.

من الطريف أنّ أكثر الأغاني تعبيرا عن روح المسرحية، وهي "قصقص ورق" لا تؤدّيها فيروز. وفي الحقيقة، لا نجد لأيّ أغنية تؤدّيها فيروز علاقة مباشرة بأحداث المسرحية، على كبر المساحة الزمنية المخصصة لأغانيها. الخيط الرفيع جدّا الذي يربطها بالمسرحية هو فقط كونها "ماريا"، المطربة الرئيسية لفرقة ماريا. في "ناس من ورق"، نرى مفهوم الذريعة في أوضح تجلّياته في المسرح الرحباني. ونعني بالذريعة أنّ الحبكة وما يحيط بها من أحداث وما نُسج حولها من شخصيات ليست سوى مسوّغ لمنح المجال لفيروز لكي تغنّي، بغضّ النظر عن الرابط بين ما تغنّيه وبين الحبكة. وليس مفهوم الذريعة ببدعة جاء بها الرحابنة، فعدد كبير من الأفلام الموسيقية، لاسيّما في عالمنا العربي، لم يُنتج إلّا للترويج لأغاني بطله أو بطلته. في "ناس من ورق"، يستغلّ الرحابنة الذريعة بشكل مبهر، فتتحوّل إلى مدخل لاستعراض كامل للمقدرة الفنيّة. قلّما نجد في عمل ما هذا التنوّع الكبير الذي نراه في أغاني فيروز في هذه المسرحية: نسمعها في مقطع من الطرب القديم في "رجعت ليالي زمان"، وفي دبكة راقصة في "غيّروا"، وننصت إليها في أغان عاطفية حزينة (يمكن القول أنّها من الكلاسيكيات الرحبانية) في "دقيت" و"شو بيبقى من الرواية"، وتنقل لنا شيئا من كلاسيكيات الموسيقى الغربية في "يا أنا يا انا"، ثمّ تنشدنا قصيدة لجبران هي أقرب إلى الترتيلة في "المحبّة" وهي إحدى أطول أغانيها، وتنقلنا إلى جوّ البحّارة والموانئ في "هيلا يا واسع"، وتُسمعنا شيئا من اللون البدوي في "دقوا المهابيج"، ولا تنسى المرور على الفلكلور اللبناني في "كانت على هاك العريشة". هو طيف واسع للغاية من الألوان الموسيقية يعرض أمامنا، يجد فيه صاحب كلّ حاجة حاجته. يُمكن القول أنّه علاوة على المهرجانين "المُعلنين" في المسرحية ذاتها: مهرجان فرقة ماريا ومهرجان ظاهر الخطابي، يوجد مهرجان ثالث "ضمني" يوفّره لنا صوت فيروز وهو يعبر بنا من ذروة جمالية إلى أخرى.

يتيح الدور المحدود نسبيّا لفيروز المجال للشخصيّات "الثانوية" لتلعب دورا مهمّا في سيرورة المسرحية. وفي الحقيقة، هي ليست ثانوية إلّا باعتبار قصر الزمان المخصّص لها، ولكنّها المحرّك الحقيقي في صياغة الأحداث. يضحي ديب المرجان محور المسرحية بمحاولاته المتكرّرة التشويش على الفرقة، ويوظّف لذلك عددا من الشخصيات. إضافة إلى عبّود ومرعي، يأتي أبو أسعد فيّاض (جوزف ناصيف) ليتطفّل على مهرجان الفرقة، ويؤدّي ما يمكن القول أنّه أكثر الأغاني تصريحا بمضمونه السياسي "نحنا يا شباب". يشكّل أبو أسعد فيّاض "الفنّان" النقيض لمثاليات فرقة ماريا، فهو مجرم مرهوب الجانب يبيع خدماته للساسة، حتى أنّه يحيد بالأغنية عن موّالها الغزلي ليحوّلها إلى دعاية مباشرة. في جانب فرقة ماريا، يبرز عدد من الشخصيات: مدير الفرقة، الحرامي، المهرّجة (جورجيت صايغ)، نفنافة (سهام شمّاس)... التي يلعب كلّ منها دورا في التقدّم بالأحداث. لكن يلفت انتباهنا بالخصوص صعود هدى حدّاد في دور نسّوم. علاوة على دورها في أحداث المسرحية، تحتلّ أغانيها (قولي يا نسوم، فلكلور أرمني، قصقص ورق) مساحة زمنية مهمة تكاد توازي تلك الممنوحة لنصري شمس الدين، وستؤكّد المسرحيات القادمة أنّ هدى أصبحت جزءا لا غنى عنه في عالم الرحابنة المسرحي.

سيواصل الرحابنة في مختلف مسرحياتهم استعمال مفهوم الذريعة، لكن لن يكون ذلك أبدا في مستوى ما قاموا به في "ناس من ورق". في المسرحيات القادمة، تضحي الأغاني أكثر انضباطا لحبكة المسرحية، وإن لم يكن ذلك مطلقا، لتبقى هذه المسرحية فريدة في بنيتها بين أعمالهم، شديدة الثراء من الناحية الموسيقية بشكل جعل أغانيها من المعالم البارزة لرحلة فيروز مع الرحابنة. بل أنّ هذا الثراء يتجاوز الأغاني ليمسّ الحوارات، فنجد مثلا إعادة شبه كليّة لحوار ديب مع أبي أسعد والمهرّجة في حفل أولمبيا باريس سنة 1979، مع بعض التكييف الذي اقتضاه الظرف السياسي.

 --
حالة حصار
العدد الثاني- 13 أفريل 2020
http://tiny.cc/1qvymz

الأربعاء، 8 أبريل 2020

الخبر عن هجرة حبيب إلى ترشيش وسببها


دخل عبد العزيز بن سهل على حبيب، فألفاه في مضجعه وقد أغلق النوافذ ومكث ساهما يحدّق في الفراغ. كانت الحجرة تغرق في الظلمة، ويفوح ريحها عطنا، ذلك أنها ما استقبلت ضوءا ولا هواء منذ بضعة أيام. هاله ما لحظه من شحوب في وجهه ونحول في جسده. فقال له:
أحسبك لم تر الشمس منذ أيام، فما خطبك؟
قال حبيب: ما حاجتي إلى شمسكم وأنا لم أجد شمسي؟
قال عبد العزيز: وما شمسك؟
افترّ ثغر حبيب عن شبه بسمة وهو يقول: لو كنت أعلم، ما كنت أشقى في البحث عنها. إنّما هي مما يُعلم ولا يُدرك.
قال عبد العزيز وقد ضاق صدره: لا زلت في هذيانك، تنطق بالألغاز وترى لنفسك طريقا لا يراها أحد من العالمين. انظر إلى حالك، أيعجبك ما ترى من نفسك؟
أجاب حبيب: أمّا طريقي، فلم أرها. وأمّا حالي، فلا يعجبني ولكني لا أجد عنه محيلا.
قال عبد العزيز: بلى لو شئت. فاتك الربيع، فلا يفوتنك الصيف، وأنت لا تزال في شتائك تقيم بين غيومك. ما رأيت أرقّ من نسيم يومنا هذا، فلو خرجنا إلى غابة النُحيلة، فرأينا من الماء والخضرة ما يشرح الصدر، وأضاف متضاحكا: وما عاد ينقصنا سوى الوجه الحسن، وعسانا نظفر به.
قال له حبيب: دعني من ذلك. إنّا لا نصل إلى النُحيلة حتى نعبر شطر المدينة، وليس أكره إلى نفسي من أن ألقى أحدا أعرفه، فيستوقفني ويسأل عن حالي، فأغصب نفسي أن أجيبه وأجامله، ويطيل الحديث حتى تتكدّر نفسي فأجافيه.
قال عبد العزيز، وقد طمع في إقناعه: فإنّي ضامن لك ألا يحصل ذلك.
قال حبيب: وكيف ستفعل ذلك؟ أستشهر سيفك في وجه من يعترضنا؟
أجابه عبد العزيز: نتلثّم فلا يعرفنا أحد. ولنا في ذلك عذر، فإن الشمس قد اشتدت ولا بدّ لها من وقاء.
ومازال به حتى قبل.
خرجا وهما يتنكبان ما اتّسع من الشوارع ويتتبعان الأزقة. كان عبد العزيز يحادث صاحبه مستجلبا كلامه. غير أنّ حبيبا لبث متلفعا بصمته، لا يجيب إلا بما قلّ وكأنّه يعتصر الكلام من نفسه اعتصارا، حتّى كفّ صاحبه عن الحديث. وصلا قرب الجامع الكبير، وكان لا بدّ من المرور قربه، على ازدحام ما حاذاه من طرق. شقّا طريقهما وسط الباعة المتجاورين وحرفائهم. ولمّا انعطفا في اتجاه الطريق الجنوبي، كادا يصطدمان بفتاتين خارجتين من حانوت عطّار. همهم عبد العزيز بكلمات الاعتذار وقد سقط عنه لثامه، فضحكت الفتاتان في تسامح وواصلتا طريقهما. همّ عبد العزيز أن يكمل مشيه، غير أنه وجد صاحبه ذاهلا في مكانه. سأله: ما بك؟ لم يجبه في الحين، وإنما ظلّ يتمتم بكلمات غير مفهومة، ثمّ قال:
سافرت نفسي في دروب عيون 
ليس في غيرها يُقال الشعر
قال عبد العزيز: أيّ عيون؟
قال حبيب: أتعرف تلك الفتاة؟
سأل عبد العزيز: أعرف كليهما، وأحسبهما قد عرفتاني لمّا انحسر اللثام. فأيهما تعني؟
قال حبيب: تلك من تضحك عن جمان وتسفر عن بدر. من هي؟
أجاب عبد العزيز: أنّى لي أن أحزر ما هيّئ إليك؟ زدني بيانا.
قال حبيب: يا صاحبي، اقدح زناد فطنتك، فلست أستطيع صبرا على ما بي. إنما عنيت أرشقهما قدا وأملحهما وجها
فهم عبد العزيز قصده، ولكنه قال في عبث: كلاهما رشيقة مليحة، فوضّح لي.
صاح حبيب: أطولهما يا هذا!
قال عبد العزيز: بخ بخ لك يا حبيب. أمّا صاحبتك فسعدى بنت يحيى، إحدى بني سراج. وأما صاحبتها، فأختها الثريا.
قال حبيب: أما أني قد فقدت ريح السماء منذ أن رحلت حبابة، وما رأيت منذ ذلك الحين صفاءها ولا سكينتها، حتى حانت مني نظرة إلى عيني سعدى فإذا بنفسي تثوب إليّ، وإذا بنور يملأ فؤادي قد طال عهدي به، وكأنّ حبابة قد نُشرت من جديد تصدح بما فيه شفاء النفوس. وما أراني إلا لها عاشقا
قال عبد العزيز: لا زلت في غيّك، تتوهّم الشيء ثمّ تصدّقه. هلاّ عرفت شيئا من شأنها قبل أن تشغفك حبّا.
قال حبيب: دعني منك، فأنت وعير بالفلاة سواء، لا تدريان ما الهوى.
قال عبد العزيز: يا أبا الزهراء، إني لك ناصح وعليك شفيق. أنا أدرى بسعدى منك، فلا يغرّنك ما لاح لك منها. هي والله شموس ذات كبرياء، شديدة الاعتداد بحسبها ونسبها، ما كلّمها أحد إلا أساءت جوابه، لا توقّر نبيلا ولا ترقّ لوضيع.
قال حبيب: ليس يخيب رأيي في تلك النظرة، وسترى ما يكون من أمري معها. فارجع بنا الآن إلى الدار، فإنّ صدري قد امتلأ شعرا.
فرجعا. ومكث حبيب ليلته في بستان بيته، يقلّب عينيه في الآفاق، وكانت ليلة تحلّت فيها السماء بزينتها، وبدا من أفلاكها ما كان مخفيّا. وكأنّ حبيبا رأى في ذلك آية على توفيقه في عشقه فامتلأ بشرا. ولم يكحّل الكرى عينيه، حتى بدا أوّل شعاع من الشمس، فغدا على عبد العزيز فأنشده قصيدته التي مطلعها:
عجبا لسرعة مَرِّ ذي الأفلاك
 سمّار ليل يسمعون لشاك
وهي قصيدة طويلة، فريدة في ديوان حبيب. إذ قصد فيها نحو الغريب ما لم يكن مألوفا في شعره قبل ذلك، وذهب أهل العلم بالأدب واللغة في ذلك مذهبين بين قائل أنه أراد إحياء مذهب القدامى في غزلهم فقصد إلى لفظهم وألبسه من المعنى ما جدّد به ما اندرس، وقائل أنّه على شغفه أراد التعمية على مراده، فنسج حوله من عويص اللفظ ما يعسّر بلوغه. وذلك أرجح عندنا، على غرابته. فإنّنا نعلم أنّ حبيبا وإن أراد بقصيدته تلك البوح بهواه، فإنه كان شديد الاعتداد بنفسه، يخشى كل الخشية أن يخيب ظنّه أو يجرح كبرياؤه، فذهب هذا المذهب.
ولبث حبيب شهورا بعد ذلك يغدو إلى مجالس الفتيان، يتحبّب إلى أقرانه ويتألف قلوبهم، مخالفا بذلك ما اعتاده الناس عنه من ميل إلى العزلة. وإنّما كان يروم أن يلقى في أحد تلك المجالس سعدى أو يجد إليها سبيلا، فلم يظفر بذلك حتى أعياه ذلك لمخالفته طبعه ولما كان يتكلّفه من مودّة تجاه من لا يرى فيهم غير الخواء. فشكى حاله إلى عبد العزيز، وقال له:
أما ترى ما أنا فيه من غم، فهلا أعنتني على أمري فتكون رسولي إلى سعدى لتطلعها على أمري عساك تجد قبولا.
قال عبد العزيز: والله لا أفعل. قد بيّنت لك رأيي فيها، وما أحسب إلا أنها ستردّك ردّا قبيحا.
قال حبيب: ليتها تفعل، فإنّ برد اليقين وإن قبح أحبّ إليّ من غمرات الشكّ وإن تلحّف بالآمال. وما أرى السوداء إلا معاودتي. فأعنٌي يا هداك الله.
قال عبد العزيز: كلا، لا أكون نذير شؤم يحمل إليك ما فيه شقاؤك.
وما زالا بين أخذ وردّ، حتّى رقّ عبد العزيز قليلا، فقال: أمّا الرسالة فلا أحملها. ولكنّي أحتال لك حتى تعرف شأنك، فائذن لي أن أشيع قصيدتك التي أنشدتنيها.
قال حبيب: قد فعلتُ، فاصنع بها ما بدا لك.
فما كان إلا أن افترقا في ليلتهما تلك، حتى شرع عبد العزيز في إنشاد تلك القصيدة في كلّ مجلس، مكبرا من شأنها جاعلا إيّاها ثامنة المعلقات، وما لم يقله في الهوى لا قيس ولا عمر ولا جميل. وكان حينما يُسأل عنها يقول: قد عشق حبيب فقال ما قال، وقد كنت شاهد هواه ذات يوم في أوائل الصيف قرب الجامع الكبير. فذاع ذكر القصيدة وخبرها، حتى لم يبق بيت في عين الهُنيدة لم يبلغاه.
كان بعد ذلك أن كان حبيب خارجا من الجامع الكبير، فإذا بسعدى والثريا يمشيان على بعد خطوات منه. فلمّا رأتاه، أمسكتا عن المشي وأخذتا تتهامسان. ارتبك حبيب لمرآهما، ثمّ فكّر: أمرّ عليهما وألقي السلام، وأرى إن كان هناك باب للحديث. سار في اتجاههما وسلّم فردّتا، وقبل أن يضيف شيئا، بادرته سعدى: يا أبا الزهراء، هل لي في كلمة؟ قال: نعم، وألف. انتحيا جانبا من الطريق بينما مكثت الثريا في مكانها، وقد أغضت.
قالت سعدى: هل علمت من أكون؟
ابتسم حبيب وهو يقول: ليس مثلك من يُجهل.
قالت: أحسبك قد حزرت ما جئتك في شأنه.
خفق قلبه، وقال: ربما كان ذلك، لكنني لا أوقن حتى تفصحي.
قالت: حدّثوني عن ذكائك يا حبيب، ولا أحسب قصدي يفوتك. ثم أردفت بعد هنيهة: ألم تنظم كافية على الكامل؟
قال: بلى.
قالت: أو لست أردت بها المكاشفة؟
قال وقد أطربته جرأتها: أجل
قالت: فهي تنتظر منك، وها قد حانت الفرصة، فأخبرها بما تريد
اشتدّ وجيبه. قد أتاه ما كان يبغي على حين غرّة. هي المرّة الأولى التي يجد نفسه فيها في مثل هذا الموقف. عليه أن يستجمع شتات نفسه ليتكلّم فلا يتلجلج. فردوسه على بعد كلمتين منه، وليس عليه سوى أن يخطو إليه.
باغته صوتها وهي تقول: هي هناك، فاذهب وخاطبها.
أشكل عليه الأمر. فقال مضطربا: ماذا تعنين؟
قالت: ألم تقل في قصيدتك:
فلقد تراءت في الثريا آية 

سبحانه قد جلّ من سوّاك

وأنت تريد أختي الثريا؟
نزلت غمامة سوداء على وجهه. وأحسّ ببرد مفاجئ يجتاح جسده.
قال: ما هذا أردت. إنما أردت بالثريا نجم السماء، فقد نظمت قصيدتي في زمان طلوعه
قالت: فمن عنيت بقصيدتك؟
هي لحظة الفصل. إما أن يبوح بأمره وإما أن يكتمه إلى الأبد.
ندّت عنه كلمة واحدة: أنت
تمعّر وجهها، وقالت في غضب: لم تبق لي إلا محبة الشعراء
وانصرفت، فحدّثت أختها بكلمتين، ثم سارتا معا. وحانت من الثريا التفاتة أخيرة إليه قبل أن تواصل المسير.
لم يدر كم مكث في مكانه هناك مستندا على الحائط. كان واقفا في مكانه والزمن يتقلب حوله في ذلك المساء بسرعة لا مثيل لها. ما عاد زمن الحب وخيالاته، ولا زمن الشعر وشياطينه. هما زمانان ما عادا يستجلبان سوى الهزء. عاش فيهما يستنطق أطيافهما، حتّى نسي زمن الناس وإذا به يستفيق على لطمة. كم صار غريبا عن نفسه. على أنّه في تلك اللحظة ماعاد يكترث بخيبته في الحبّ اكتراثه بالإهانة التي لحقته. كانت طعنة لم يسبق له أن تلقى مثلها. كلّ ما كان يهمّه في تلك اللحظة أنّه لن يبقى في مكان ذاق فيه تلك المرارة.
لمّا عاد إلى بيته، دخل على أبيه، وقبل أن يسلّم، بادره قائلا: يا أبت، قد علمت أنّ الشيخ سليمان بن مالك التنوخي قد قدم إلى ترشيش منذ شهر يبثّ فيها العلم، فائذن لي أن ألحق به فأتتلمذ على يديه.
قال أبوه: نعم الطريق ما أريد به العلم، ونعم الشيخ ابن مالك. قد أذنت لك، فلتذهب مصحوبا بدعائي.
قال حبيب: فإني نويت الارتحال فجر غد.
قال أبوه: ولم العجلة؟
قال حبيب: ولم التمهّل؟ قد لا يطيل الشيخ بقاءه في ترشيش، ولا أريد أن يفوتني أخذ العلم عنه.
ضحك أبوه وهو يقول: عجبا ممّن يريد الأناة من ابن الثامنة عشرة. فلتذهب متى شئت.
قضّى حبيب ليلته يتجهّز لرحلته، ولم يذق للنوم طعما. ومع أوّل خيوط الفجر، خرج من بيته، فألفى عبد العزيز على فرسه ينتظره. فقال له: ما تصنع هنا يا عبد العزيز؟
قال: قد أرسل إليّ أبوك يعلمني بما انتويت. وإنني رفيقك في هذه الرحلة، شئت أم أبيت.
ابتسم حبيب وهو يقول: بل أشاء.
وانطلقا معا ميممين شطر ترشيش.