‏إظهار الرسائل ذات التسميات خواطر. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات خواطر. إظهار كافة الرسائل

الثلاثاء، 5 يناير 2021

ما كُنت من الثائرين... مسارات شخصية في عشريّة الثورة (الجزء الأوّل)


عشر سنوات مرّت على انطلاق الثورة... من العاديّ لشخص تزامنت زهرة شبابه مع هذه المدّة أن يعتبر أنّها مرّت بسرعة، كما من المفروض أن تمضي سنين الشباب. الشعور بالزمن نسبيّ للغاية. لكنّها في الحقيقة لم تكن بهذه السرعة. إذا عُدّت هذه الفترة بالأحداث التي احتوتها، فلا شكّ أنّها مرادفة لثلاثين أو أربعين سنة ممّا سبقها. تذكرون تلك السنوات؟ لم يمرّ فيها شيء يُذكر. انقضت كلّها تقريبا بين نفس الألفاظ (من طينة "العناية الموصولة" و"معا من أجل تونس"...) ونفس الوجوه (التي حتّى إن تغيّرت، تبقى نفسها!) ... أذكر أنّه عندما سقطت طائرة في جبل النحلي، خرج المواطنون أفواجا لمواكبة هذا الحدث. طبعا تعلّق الأمر بكارثة، لكن كان في وجوه الجميع فرح طفولي لا يقدرون على إخفائه: شيء ما وقع في هذه البلاد!

يمكن أن يتجادل الجميع (دون أيّ نقاش حقيقيّ): قبل الثورة خير؟ بعد الثورة خير؟ غدوة خير؟ أنتمي إلى تلك الفئة التي تحاول منذ مدّة أن تحافظ على تفاؤلها، ولكنّي أراني أكاد أعجز عن ذلك. الثورة حدث قلب مسار حياتي بشكل كامل، ولعلّ أكبر فضل له عليّ أنّه حرّرني من جانب كبير من الخوف، ولكنّني أجد نفسي بعد عشر سنوات مكبّلا بمخاوف أخرى.

مسار التحرّر من الخوف: 2011-2014

سنة 2011 كانت بالتأكيد سنة غير عاديّة. كانت سنة التغييرات الكبرى، على الصعيد الوطني والشخصي. أوقدت شعلة في داخلي ظلّت شديدة اللهيب إلى حدود 2014.

ما قبل 14 جانفي: بين اليأس والمثالية والواقعية

عندما انطلقت شرارة الثورة في سيدي بوزيد، استقبلتها ببرود كبير... شخص يحرق نفسه احتجاجا على مصادرة عربته... وهل سيسترجعها الآن إذ تفحّم؟ ليس الأوّل ولن يكون الأخير، ولن يكون مآل لهيب الاحتجاجات إلا الخمود، كما حدث قبل ذلك بثلاث سنوات بالحوض المنجمي... لم يكن برودي ناتجا عن قلّة اهتمام بالشأن السياسي، فقد كنت متابعا جيّدا للسياسة منذ صغر سنّي. قبل عام ونيف، كنت قدّمت استقالتي من وزارة الشؤون الخارجية بعد شهرين فقط على التحاقي بها (إثر مناظرة دخلها خمسة آلاف مترشّح اختير منهم ثمانية عشر فقط!)، لأنّني لم أحتمل الجوّ الخانق هناك، لا سّيما في سنة مثل 2009 كان عنوانها التهليل لفوز جديد في الانتخابات وخاصة بعدما كنت تعوّدت في السنة الأولى من الماجستير على مناخ من الحريّة النسبية يمكنك فيه أن تنقد بعض الشيء ما دمت ملتزما بالضوابط الأكاديمية. عدت وقتها إلى إكمال مذكّرة الماجستير، فالتدريس بصفة عرضية في كليّتي.

كان موقفي يأسا من هذا الشعب. قبل أكثر من ربع قرن، بمجرّد كلمة ألقاها "المجاهد الأكبر"، نسي فلذات أكباده الّذين احتوتهم القبور وتغاضى عن دمائه السائلة ليخرج مصفّقا مهللّا لـ"نرجعوا وين ما كنّا"...خان هذا الشعب من ناضلوا من أجله قبل ذلك وبعده كثيرا، فما الّذي تغيّر الآن؟ ألم تصبح الأوضاع أسوأ مع تفشّي عقليّة المحسوبيّة و"الأكتاف" والمناشدة و "الصبّان" و "مشّيلي ونمشّيلك" و "اخطى راسي واضرب" في كلّ الأوساط تقريبا؟ كنت أؤمن أنّ أيّ تغيير ممكن يستوجب عملا فكريّا وثقافيا كبيرا على مدى جيلين أو ثلاثة، وقبل ذلك فكلّ حركة احتجاجيّة لن تجد صدى يذكر وستقع خيانتها كما وقع ذلك مرارا وتكرارا. ولذلك، كنت أرى أنّ أيّ عمل حقيقي يجدر أن يكون مع الأطفال..."فات الفوت" فيما يخصّنا، لكن لعلّ البقيّة الباقية من الأمل يمكن أن تغرس فيهم...وفي الحقيقة، لم يكن موقف اليأس هذا يخصّ رأيي في الحياة العامة، بل أنّه كان من تداعيات اليأس الّذي ضرب أطنابه في كلّ جوانب حياتي ...في بداية جانفي 2011، ذهبت لإجراء مقابلة مع محامية بهدف العمل في مكتبها. بصراحة فجّة، قالت لي: لا أعترف بأيّ من آليات التشغيل التي تعتمدها الدولة، بإمكانك أن أمنحك مرتّبا قدره 300 دينار. لم أعتبر، وأنا الأوّل على دفعتي في الأستاذية والماجستير، ذاك العرض إهانة. قلت لها ببساطة: سأفكّر في الأمر. الأمر عادي، وقد "تعفّن قلبي من العادي" كما تقول الأغنية. كنت سأستسلم حينها إلى أيّ قدر تحملني إليه قدماي، لأنّي لم أكن أرى آفاقا غير هذا "العادي".

ومع ذلك، هُززت صباح العاشر من جانفي. كانت الاضطرابات قد وصلت إلى العاصمة، وكنت لا أزال غارقا في لا مبالاتي. صرخ أحدهم في وجهي "اتّخذ أيّ موقف، حتّى لمساندة السلطة، لكن لا تبقى بهذه السلبيّة!"...أصابتني هذه الكلمات في مقتل، ومع توارد الفيديوهات عن عمليات القنص في الوسط الغربي، لم يكن بإمكاني أن أحافظ على سلبيّتي.

منذ ذلك الحين، بدأت في القيام بشيء من التحريض ضدّ النظام، وخاصة ضدّ خطابي "400 ألف موطن شغل" و "أنا فهمتكم"، ولكن حتّى مع اتخاذي لموقف، شاب حماستي الكثير من التردّد... اقتصرت على الفضاء الافتراضي وبعض المحادثات في دائرة شخصيّة ضيّقة جدّا ولم أخرج يوما إلى الشارع. ذلك أنّه لم تكن لديّ أدنى فكرة عمّا يمكن أن تؤول إليه البلاد. لم أكن أثق لا بمعارضة الداخل ولا بمعارضة الخارج، فلم أكن يوما من المتحمّسين للخطابات السفسطائيّة والرجعيّة والطوباويّة ولا للإيديولوجيات الميّتة الّتي يراد إحياؤها.

طبعا كان يرافق هذا الموقف "المعقلن" الكثير من الخوف ممّا يمكن أن يقع لي لو تورّطت في مثل هذه الأحداث. منذ قرأت "شرق المتوسّط" لعبد الرحمان منيف وأنا في سنّ الخامسة عشرة، صرت أشعر بكثير من الإكبار تجاه من خاضوا عذابات التجربة السجنية، ممزوج بخوف عميق من عيشها. المثالية كانت تدفع إلى التشبّث بالمبدأ حتّى الموت في سبيله والواقعيّة كانت تدفع في اتّجاه طلب السلامة.

لم يكن لي نشاط سياسي حقيقي قبل الثورة. كان لي بعض الأصدقاء المنتمين إلى حزب كرتوني حضرت معهم بعض المناسبات إلى أن سوّلت لي حماقتي الإدلاء بتعليق ساخر حول الطابع الديكوري لذلك الحزب لأمينه العام، فوجدت كلّ الأعين ترمقني شزرا، وردّ عليّ السيّد الأمين العام  (الّذي أصبح اليوم محلّلا سياسيا) بخطابة متوجّسة، فلم أعد بعد ذلك إلى حضور مثل تلك المناسبات. في 2005، شاركت في تظاهرة منظمّة في الكليّة للاحتجاج على زيارة شارون المرتقبة إلى تونس في إطار قمة مجتمع المعلومات، وهي تظاهرة تدخّل الأمن لتفريقها. 

عندما كنت في المعهد، كانت لي تجربة فريدة تركت أثرا عميقا في نفسي. أردتُ ومجموعة من الزملاء تنظيم شيء ما للاحتجاج على غزو العراق. لم نتمكّن إلا من جمع عدد ضئيل من المتحمّسين (لا أظنّهم كانوا يتجاوزون أصابع اليدين)، ومع ذلك سرنا معا حتى وصلنا إلى كليّة العلوم القانونية فوجدنا جمعا كبيرا هلّلوا لمجيئنا، على قلّتنا ويفاعتنا، ومشينا معهم في محيط محطّة 10 ديسمبر يحيط بنا عن كثب جمع من رجال الشرطة الّذين ما لبثوا أن رفعوا هراواتهم وشرعوا في ضرب المحتجّين. كنت في الصفوف الأماميّة، لكنّي اكتشفت في نفسي عدّاء ماهرا، فما أسرع أن ركضت حتّى وجدت نفسي أبتعد عن ساحة المعركة في ظرف دقيقة. كان هناك من الزملاء من لم يكن في سرعتي لكنّ الطلبة قاموا بإدخالهم إلى الكليّة وحمايتهم حتّى خلا الجوّ فعادوا إلى المعهد. لعلّي اتّخذت قراري بالالتحاق بكليّة العلوم القانونية منذ تلك اللحظة. 

المفارقة تكمن في كوني لم أعرالنشاط الطلّابي اهتماما يذكر حين التحقت بالجامعة. كنت شديد الحرص على فرديّتي، راغبا في إعمال النقد في كلّ شيء ولم تقنعني البتّة الإضرابات العديدة التي كان اتّحاد الطلبة يقوم بها، ولا يزال من السخف بالنسبة إليّ حتّى الآن الإضراب دفاعا عن الحقّ في الترسيم الرابع أو الالتحاق الآلي بالماجستير. أظنّ أنّ النشاط الطلابي الوحيد، خارج الإطار الدراسي، الذي حضرته كان ناديا يسمّى "نادي الحكمة" يناقش مختلف القضايا الاجتماعية والسياسية، ولم يلبث أن تعطّل بعد لقائين أو ثلاثة. دعاني أحد أعضائه (صار فيما بعد من كبار الناشطين السلفيين) مرّة إلى المشاركة في تظاهرة بمقرّ الحزب الديمقراطي التقدّمي، لكنّي تهيّبت ذلك. كان مجرّد المواظبة على اقتناء جريدة "الموقف" داعيا لبائع الصحف إلى مساءلتي، فما بالك بالانتقال إلى حضور الأنشطة؟؟ 

رغم إعجابي وقتها بجرأة الديمقراطي التقدّمي وجريدته، كان لي موقف متحفّظ منه لسبب ظلّ يلاحقني بعد ذلك في كلّ المجالات: أنّه لا يملك مشروعا. كتبت مرّة مقالا نقديّا في مدوّنتي تجاه إعلان أحمد نجيب الشابي ترشّحه لانتخابات 2009، وقد تفاعل معه هو شخصيّا ممّا أثار إعجابي، ولكن لم يغيّر موقفي من حزبه، وهو موقف أظنّه الآن موغلا في المثالية، كما كانت عادتي في أغلب ما أكتبه. 

كان اكتشاف عالم التدوين في أواخر سنة 2007 فرصة لي لأتحرّر بعض الشيء فأخوض في الشأن العام باسم مستعار. كنت أحاول أن أنقد ولكن بحذر مدروس، وأحيانا بشيء من التورية التي لا يخفى معناها (كما في نصّ: المقامة الكروية). خصّصت للخوف نفسه مقالا من أربعة أجزاء كان من أطول ما كتبت حينها، وإن أكن اهتممت وقتها بالخصوص بجذوره الدينية. تعرّفت في ذلك الحين على عدد من الأقلام الساخرة والناشطين السياسيين ممّن برز بعضهم بعد 2011. ولكن منذ 2009، أخذ حماسي في الفتور وارتفع منسوب الخوف خاصة لمّا سمعت باعتقال بعض المدوّنين الذين كنت أعرفهم.

لازمني هذا التخبّط في مقاربة الشأن العام حتّى جانفي 2011. ومع خطاب 13 جانفي، هنّأت نفسي على تردّدي تجاه الأحداث التي سبقته... خدعتني جموع المهلّلين والسيارات المستأجرة، وذكّرتني بجانفي 1984. فترت الحماسة (الّتي لم تكن كبيرة بطبيعتها) وظننت أنّنا وصلنا إلى آخر الطريق، وسيتمّ الاقتصار على بعض الإصلاحات البسيطة، الّتي سيتمّ تقديمها في شكل إنجازات، قبل محاولة امتصاص روحها فيما بعد...وعلى كلّ حال، ذلك خير من لا شيء! حتّى تلك الأمسية التلفزيونية التي قدّمها سامي الفهري ليلتها بدت لي مؤشّرا جيّدا للغاية، إذ لأوّل مرّة نشاهد حقوقيين كان يُضيّق عليهم يجاهرون بانتقادهم للنظام على قناة 7 وما أدراك ما قناة 7!

ولذلك لم أخرج يوم 14 جانفي...لم أكن كذلك أثق بالاتّحاد ولم أكن أنتظر الكثير من المظاهرة الّتي ينظّمها. يوم 14 جانفي نمت إلى منتصف النهار.

(يتبع)


الجمعة، 22 أغسطس 2014

أرجلنا الراقصة

كتب يزيد بن الوليد إلى مروان بن محمد بالجزيرة، وكان قد بَلغه عنه أنّه يتلكّأ في بَيعته: "أما بعد. فإني أراك تُقدّم رجلاً وتُؤخِّر أخرى، فإذا أتاك كتابي هذا فاعتمد على أيهما شئتَ، والسلام". 

من الطبيعي أن تعرف حياتنا بضع مفترقات طرق. نقف عندها لمدّة قد تطول فنفكّر في جميع الخيارات التي أمامنا، ونمعن النظر فيها، نحاول أن نحسبها جيّدا، ثمّ نحسم فنسلك سبيلا لا رجوع منها.
لكن من غير الطبيعي أن تكثر فترات الوقوف فتتجاوز زمن الحركة، فنقضي وقتنا نعتمد على رجل تارة  ثمّ على أخرى طورا، فتمرّ أعمارنا ونحن بين تقديم وتأخر فنجد، قرب النهاية، أنّ الحياة مضت بنا ونحن في رقص ليس منه جدوى.
أن يشكل الأمر علينا مرّة كلّ عدّة سنوات فنتردّد ونحتار قبل أن نهدى الطريق شيء عادي، بل لعلّها علامة صحيّة، فالحياة الواضحة التي تسير دون تعرّجات هي إمّا حياة واهمة أو حياة لاواعية. كلّ إنسانيّتنا تقوم على فكرة الاختيار، لذلك لا بدّ أن نمارسها فيما يتعلّق بجوهريّات حياتنا بين الفينة والأخرى. أمّا أن تصبح الأسئلة الكبرى اللون الطاغي على عيشنا، فذلك يعني أنّنا لسنا نحيا...
قد تكون الحياة معقّدة. لكن من المفروض أن يكون لنا ما يكفي من اليقين الذّي نكوّنه بتراكم تجاربنا متى جزنا مرحلة المراهقة حتّى نتمكّن من الحسم في جلّ أمورنا دون حيرة. لا تكون لنا حياة حقّا أن لا يكون لنا هذا الحدّ الأدنى من اليقين.
الحيرة المزمنة سامة، تنزع المذاق من أيّامنا. ونحن نعرف أنّها لن تؤدّي بنا إلى أيّ مكان مادام ليس لنا ضوء نستنير به، وهو ما قد يجعلها قاتلة. الرقص المتواصل مرهق، معذّب، أسهل منه أن لا نفكّر...أن نتّخذ قراراتنا بعشوائية...برمي قطعة نقود إن لزم الأمر. أن نعتمد على الرجل الخطأ أكثر راحة بكثير من رقصة أبدية.

الثلاثاء، 12 أغسطس 2014

الحياة هي التفاصيل

لا يسكن الشيطان التفاصيل، بل تسكنها الحياة. ستعجز إن حاولت إن تجد من كلّ شيء تقوم به أو تنوي القيام به معنى. لا معنى لشيء في ذاته. أنت من تخلق المعنى، ولن تفعل إن كنت تبحث عنه في كلّ التفاتة. لن تخلق المعنى إلاّ إذا استغرقت في الشيء بكلّك، فلم يعد يفوتك منه تفصيل. ليكن "الشيء" حبّا تعيشه أو مهنة تزاولها أو أكلة تطبخها أو شجرة تتعهّدها. لا يهمّ. لا تلتفت إلى الوراء وتتساءل: لم أفعل ذلك؟ هذا السؤال هو بداية الضياع. إن طرحته فعلى الأرجح سيتبخّر المعنى من كلّ شيء. لا تجعل التفاصيل حجّة على الشيء فتجمع منها أعذارا تتعثّر بها فتتوقّف. اعتنق الأشياء كما هي، بجمالها وعيوبها، بأفراحها وأحزانها، بثرثرتها وبصمتها، ولا تدع السبيل لأيّ مانع يحول دون التعمّق فيها واكتناهها حتّى الثمالة، وكلّما زاد تعبك وألمك، فأنت تسير في الطريق الصحيح. يقول ثيودور روزفلت "أفضل ما تمنحه لنا الحياة التعب فيما يستحقّ التعب" لكنّه لا ترهق نفسك كثيرا في البحث عمّا يستحقّ التعب، فلن تجده، بل سيجدك...

الخميس، 13 نوفمبر 2008

مفهوم الصداقة بين الحقيقة و الخرافة

من أقوال العرب في الجاهليّة: "المستحيلات ثلاث: الغول و العنقاء و الخلّ(الصديق) الوفيّ". في رأيي أنّ في هذا القول تعسّفا في أحد جوانبه و حقيقة في الجانب الآخر. من قال أنّ الغول و العنقاء لا يمكن أن يوجدا؟ قد تتاح الفرصة لأحد من الناس ليصارع غولا (كما زعم "تأبّط شرّا" في شعره) أو يشهد بعث عنقاء من تحت الرّماد، و حتّى إن لم يوجدا حقيقة، فإنّ رمزيّة الكائن المتوحّش الخارج عن حدود البشريّة و الطائر الّذي يحترق ثمّ ينبعث من بعد موته جميلا فتيّا قويّة الحضور في كافة مستويات الحياة ممّا ينفي عنها صفة المستحيل. أمّا الجانب الثاني من القول فهو الّذي يكشف بحقّ عن حكمة العرب القدامى: الصداقة من المستحيلات. قد تختلف نظرتنا إلى الصداقة و لكنّني أراها أنّ مجمل التعريفات الممكنة لها لا تخرج في مجملها عن نظرتين: نظرة تجعلها منها شيئا مستحيلا فعليّا و نظرة تجعلها شيئا مفروضا علينا بشكل يؤدّي أيضا إلى القول بعدم وجودها.

الصداقة المستحيلة
بالرجوع إلى المعاجم العربيّة، تغيب كلمة الصداقة تماما عن القاموس المحيط للفيروزآبادي، أمّا لسان العرب فيورد ما يلي: "الصَّداقةُ والمُصادَقةُ: المُخالّة. وصَدَقَه النصيحةَ والإخاء:أَمْحَضه له. وصادَقْتُه مُصادَقةً وصِداقاً: خالَلْتُه، والاسم الصَّداقة" و هو بذلك يعطي مرادفا و لا يقدّم تعريفا. و لعلّ غياب تعريف واضح للصداقة في أشهر المعاجم العربيّة يعود، و لو جزئيّا، إلى النظرة الموروثة من الجاهليّة و القائلة باستحالة الصداقة. و بالانتقال إلى معجم Encarta بالفرنسيّة، نجد التعريف الآتي، "إحساس بودّ عاطفي و بعطف نحو شخص معيّن دون أن يشكّل ذلك انجذاب حبّ". هذا التعريف يطرح مشكل أنّه لا يضع الحدود بين الصداقة و الحبّ إذ يفهم منه أنّ الصداقة حبّ لم يكتمل أو حبّ في طور البناء ممّا يعني أنّ عواطف الإنسان يمكن قياسها بمقياس ما، مثلا إذا بلغت عاطفة الإنسان نحو شخص آخر 20 درجة فذاك احترام و في 25 درجة يتحوّل إلى إعجاب و في 30 درجة يتحوّل إلى صداقة أمّا في الأربعين فيصبح حبّا. هذا التعريف "التدرّجي" للعاطفة الإنسانيّة يبدو غير مقبول لأنّه يجعل منها شيئا أحاديّ الطبيعة خاضعة لنفس المقياس في حين أنّ العواطف الّتي تعتمل في فؤاد الإنسان متناقضة تستعصي على مثل هذا التحديد، كما أنّها قابلة للتغيير المفاجئ من الطرف إلى الطرف دون أن تمرّ ضرورة بالمراحل الّتي قد يوحي بها وجود مقياس.
لننتقل إلى مستوى آخر، مستوى التعريف التيليولوجي(باستعمال الأهداف) و لنطرح السؤال بالطريقة التالية: ما الّذي ينتظره الناس من الصداقة؟
أجاب أحدهم على هذا السؤال "يجب أن تمازج روحه روحي فيفهمني من غير كلام و يساعدني من غير طلب و أن يكون مرآة صادقة لي أرى فيها عيوبي و خصالي...أريده أن يعظني دون أن يلبس عمامة الواعظ و ينتشلني من همومي دون أن يدّعي حكمة الحكماء و أن يضحيّ بنفسه دون أن يظهر بمظهر الشهيد...أريده صادق اللهجة مثل أبي ذر، قويّا في الحقّ مثل عمر، حليما مثل الأحنف، وفيّا مثل السموأل، مؤثرا على نفسه مثل كعب بن مامة". قد يبدو هذا الكلام شديد العاطفيّة، موغلا في المثاليّة إلى حدّ الطفوليّة و لكن يكفي أن تستعمل أحد محرّكات البحث على الانترنات لتعرف أنّ الجواب العام عن سؤال "ما هو الصديق؟" لا يختلف كثيرا. من الواضح أنّنا هنا إزاء كائن صبّت فيه جميع الفضائل الإنسانيّة صبّا، كائن يتعالى عن البشريّة ليكون أقرب ما يكون إلى الملائكة، و باختصار هو كائن خرافي وجود العنقاء و الغول أيسر منه منالا.
و لئن كان هذا التعريف يؤدّي إلى القول بعدم وجود الصداقة، فإنّ "تعريفا اجتماعيّا" يؤدّي إلى نفس النتيجة رغم اختلافه الجذري عن سابقه.


الصداقة المفروضة
أقصد بالتعريف الاجتماعي رؤية معيّنة شائعة للصداقة عزّزتها في الوقت الحالي الشبكات الاجتماعيّة الموجودة على الانترنات.
منذ أن يكون الطفل في سنواته الأولى في المدرسة، يعتاد أن يطلق لفظ "صاحبي" على كلّ من يدرس معه في نفس القسم، بغضّ النظر إن كانت تربطه به علاقة مميّزة أو لا. لا يختلف كثيرا الأمر فيما بعد، فـ"صاحبك" يصبح شخصا تعرفه في المقهى أو يدرس معك في الكليّة أو يعمل معك في نفس المكتب. و بعمليّة تأليفيّة، تجد أنّ كلّ شخص تربطك به علاقة اجتماعيّة تدعوه صديقا. هذه العادة تؤكّدها الشبكات الاجتماعيّة كالفايسبوك، و ما أدراك ما الفايسبوك، إذ تجد أنّ بعضهم قد يصل عدد "الأصدقاء" الموجودين عنده المئات و أحيانا الآلاف دون أن يكون على اتصال وثيق بهم و هو ما يترجمه وجود بعض المجموعات من نوع "إذا أضفتني كصديق في الفايسبوك، فقم على الأقلّ بالسلام عليّ ! "
حسب هذه النظرة إذن كلّ علاقة اجتماعيّة هي صداقة و بما أنّ الإنسان مدنيّ بالطبع فهو مضطرّ لعقد علاقات اجتماعيّة و بالتالي يصبح كلّ شكل من أشكال التواصل الاجتماعي صداقة ! أمّا إذا شئنا معرفة الجواب على سؤال "ما الّذي تنتظره من الصديق؟" فإنّ الجواب يصبح حسب هذه الرؤية: لا شيء، و أتساءل عن أيّ معنى لصداقة لا يمكن أن تحقّق أيّ هدف.
كثرة الأصدقاء تعني أن لا أصدقاء بالمعنى الّذي قصده دعبل الخزاعي لمّا قال" أنّي لأفتح عيني حين أفتحها..على كثير و لكن لا أرى أحدا". و قد تكون هذه الصداقة المزعومة أيضا عبء ثقيلا، إذ قد تجد الأحيان شخصا لا تكاد تذكر وجهه يصيح إذ يراك "خويا !" و يسلّم عليك بالقبلات ثمّ يطلب منك خدمة من النوع الثقيل و يكون عليك أن تذعن لطلبه و إلا ستكون انسانا سافلا حقيرا جاحدا بالصداقة، و هذه الوضعيّة لخّصها ببراعة من قال : "الاستعباد كثرة الإخوان".


كيفما تمّ تعريف الصداقة إذن، تبقى في كلّ الأحيان مفهوما مستحيل التحقيق يتأرجح بين المثاليّة المفرطة و الواقعيّة الفجّة، مفهوما لا يمكن أن يتجسّم في مجتمع بشري و هو ما عبّر عنه الشاعر العتابيّ لمّا سئل: من تجالس اليوم؟ قال: من أبصق في وجهه و لا يغضب؟ قيل: من؟ فأجاب: الحائط !

الاثنين، 25 أغسطس 2008

ليلة سقوط السماء

لم أكن أنوي الذهاب...لكنّ نفسا مرّة كالعلقم، حادّة كشوك القتاد، معذّبة كبروموثيوس أمسكت بخناقي و صرخت و السياط تجلدها: لو فررت من قدرك إلى آخر الكون فسيظلّ يتبعك...أذعنت و عجت على الطلل القديم أسائله... جلت بين أرجائه مستذكرا: هنا غرست الورد و ارتقبت تفتّحه و لكنّه ذبل و مات مع قدوم الربيع...في تلك الزاوية عرّجت إلى السماء و شربت حتّى الثمالة من خمر الجنّة...هناك أطلق الرّصاص على الجواد المصاب و اغتيل منديل أو انتحرت يد...على ذلك الكرسيّ أوحي إليّ أن اقطع شرايينك و ليكن دمك مداد قصائدك...فجأة ظهر بلباسه الأبيض الفضفاض كأنّه شبح... نفس الابتسامة الهادئة على شفتيه و نفس الدّماء منذ أربع قرون على يديه...غير أنّي لم ألمح السماء...ربّما كان الغبار الكثيف يحجبها عنّي...رفعت مسدّسي بيد مرتعشة...ابتسم ساخرا و اقترب أكثر...صرخت فيه أن يقف مكانه لكنّه دنا حتّى كاد يلامسني...أغمضت عينيّ و ضغطت على الزناد...لمّا فتحتهما كان الظلام يعمّ المكان...خلت للحظة أنّي فقدت قدرتي على الإبصار...بعد ثانية، أحسست بالدّماء تنزف بغزارة من صدري...لم أر جثّته و لكن في ركن بعيد كان هناك قلب دام تُدقّ طبوله الأخيرة...أقبلت ثلاث فتيات في لباس الحداد...حملنه معا...غسّلنه بماء دموعي و كفنّه بمسودّة قصيدتي الأولى ثمّ دفنّه في أعماق سحيقة لا يصل إليها نور...أظلمت ثانية...ثمّ وجدت نفسي تحلّق من جديد غير أن لا سماء...لقد سقطت السماء...