الجمعة، 17 أبريل 2020

زمن التوافق الضائع


من العسير أن نعدّد "الشوانط" التي من المفترض فتحها في البلاد. لا يوجد مجال تقريبا لا يحتاج إلى إصلاحات جذرية: الأمن، العدالة، الوظيفة العمومية، التعليم، التعليم العالي، الدعم العمومي، الضمان الاجتماعي، الجباية، الصحة العمومية، التنمية، السلطة المحليّة، الثقافة، الرياضة... كلّ مجال من المجالات المذكورة، وغيرها، يستوجب مجهودا خارقا للنهوض به ولو قليلا.
من السهل جدّا أن نُرجع المشاكل العديدة التي تعجّ بها هذه القطاعات إلى العهد السابق. وفي الحقيقة، أغلب الأزمات في هذه القطاعات هي نتيجة تراكم تاريخي امتدّ على مدى سنوات. لم تُفلس الصناديق الاجتماعية بين يوم وليلة، ولا تردّى وضع التعليم في عهد وزير بعينه. كان الانحدار متواصلا على مدى سنوات، وربّما أصبح أكثر وضوحا للعيان فقط لأنّ لنا اليوم من الحريّة ما يمكنّنا من أن نتحدّث عنه بشكل مفتوح.
المشكل في كلّ فعل تراكمي أنّه لا أحد يمكن أن يكون مسؤولا عنه بشكل واضح. المسؤولية مميّعة وسط نسيج هائل من السياسات العمومية المتعاقبة التي لم تفعل شيئا. كان الوضع يسوء تدريجيا، دون أن ينفجر في لحظة واحدة، ممّا يتيح لكلّ مسؤول أن يلقي المسؤولية على من سبقه.
على أنّ تحميل المسؤولية لشخص أو أشخاص لن يعفينا من مواجهة المشكل. ليذهب جميع المسؤولين طوال الستّين عاما الأخيرة إلى رحمة الله أو إلى غضبه، سيّان. لن يغيّر ذلك من الوضع الراهن شيئا. السؤال الذي ينبغي أن يُطرح: ماذا فعلناه لمواجهة هذه الوضعيات؟
يمكننا أن نلوم العهد السابق كما نشاء. لكنّنا الآن نشارف على الاحتفال بالسنة العاشرة لرحيله. ما الذي فعلناه طيلة هذه السنوات العشر؟ لو رجعنا إلى أيّ مجال من المجالات آنفة الذكر لعسُر علينا أن نعثر على أيّ بذور لإصلاح حقيقي في أيّ منها. هي سنوات ضائعة، اشتغلت فيها الحكومات المتعاقبة باليومي واليومي وحده، ولم تلق إلى المستقبل طرفة عين، فزادت المشاكل تراكما.
ما الذي كان يمنع من الفعل؟ الحجّة التقليديّة للساسة: لم نحكم بمفردنا، لم تكن الأغلبية مستقرّة، لم يتركونا نعمل. ليكن. لنسلّم جدلا بذلك، ولو أنّ أيّ حكومة مهما كان وزنها في البرلمان مطالبة ألّا تبحث عن أعذار مادامت قد نالت الثقة. ماذا عن أوقات "التوافق"، ذلك المصطلح العجيب الذي ابتدعته القريحة السياسية التونسية؟ ألم نشهد في أعقاب انتخابات 2014 تحالفا حكوميّا جمع ما يسمّى بالعائلة الوسطية الحداثية مع الإسلام السياسي وتيارات أخرى، وتجاوز وزنه البرلماني ثُلثي أعضاء المجلس؟ لماذا لم نفعل شيئا آنذاك؟
لم يكن التوافق المزعوم، الّذي قُدّم كحلّ يضمن السلم الأهلي للبلاد، غير اتّفاق يضمن اقتسام السلطة. ليس ذلك في حدّ ذاته مذموما، فهو جزء من لعبة السياسة. المؤسف أنّه لم يذهب أبدا إلى ما هو أبعد من ذلك. إذا عدنا إلى وثيقة شهيرة في تلك الفترة وهي وثيقة قرطاج سنة 2016 التي وقّعها عدد مهمّ من الأطراف السياسية آنذاك إضافة إلى أهمّ الأطراف الاجتماعية، لا نجدها أكثر من اتّفاق هزيل حول مجموعة من النقاط التي لا يمكن الخلاف عليها والفاقدة لكلّ آلية عملية لتطبيقها. هو اتّفاق لم يوضع لكي يطبّق، وإنّما فقط لكي يُعلن، وتحتفي به عدسات الكاميرا.
الوضع مثالي في الساحة السياسية التونسية لعدم الفعل. إذا كانت لديك أغلبية، فهي غير مريحة. إذا دخلت في توافق سياسي واسع، فأنت لا تحكم وحدك ولا تتحمّل المسؤولية عن شيء. أمّا الوضع الأكثر راحة، أن تكون في المعارضة فتلقي سهام نقدك على الجميع دون أن تكون مطالبا بشيء. من العسير أن يكون الوضع أفضل مع حكومة الفخفاخ، فهي حكومة لم يقبلها الجميع إلّا على مضض دون أيّ برنامج حقيقي، وزادتها أزمة الكورونا غرقا في اليومي. علينا أن ننتظر مجدّدا زمنا آخر يمكن فيه لطرف سياسي ما أن يحكم بمفرده حتّى ينفّذ برنامجه إن وجد (وهو شبه مستحيل في ظلّ النظام الانتخابي الحالي)، أو يأتي فيه توافق جديد يكون على أساس الحدّ الأدنى من الإصلاحات الواجبة والعاجلة.
 --
حالة حصار
العدد الثاني- 13 أفريل 2020
http://tiny.cc/1qvymz

الثلاثاء، 14 أبريل 2020

في المسرح الرحباني: ”ناس من ورق“... مهرجان حول مفهوم الالتزام


"نحنا ناس من ورق... ويمكن اللي كتب كتب إنو ما نتلاقى... ويمكن من بعيد أحلى وأصفى... هيك بيضلّ في مسافة ترقص فيها الشمس ويلمع جوّاتا الندي والدمع“.
هكذا تتكلّم ماريا (فيروز) في آخر حواراتها، وربّما أجملها، مع شكّور (حنّا معلوف) في مسرحية "ناس من ورق" الّتي عُرضت سنة 1972 بمسرح البيكاديلي ببيروت والّتي أخرجها صبري الشريف. لعلّ هذه الكلمات تُلخّص جانبا من العلاقة المعقّدة للفنّان بفنّه والتي تجعله، دون أن يكون ذلك قصده، يتّخذ مسافة من الذين يحيطون به.

تصل فرقة ماريا إلى البلدة بقيادة مديرها (نصري شمس الدين) لتقدّم عددا من العروض فيها. يصطدمون برجال ظاهر البندر وعلى رأسهم ديب (وليم حسواني) وهم في ذروة حملة ظاهر الانتخابية. ويحاول ديب بشتّى الوسائل تعطيل الفرقة لكيلا تشوّش على المهرجان الانتخابي.

لا نسمع صوت ظاهر البندر إلّا لثوان معدودة طوال وقت المسرحيّة، ومع ذلك نجد في مختلف الحوارات ما يمكنّنا من بناء صورة عنه. هو شخص له من الوجاهة ما يجعل الكثيرين يتمسحّون على أعتابه للالتحاق بقائمته الانتخابية، رغم أنّه قليل الحظ من التعليم، وإن كان ديب يزعم أنّه أهم من المتعلّمين لأنّه لم يضع وقته في المدارس بل بدأ في المظاهرات منذ صغره. تنعكس قلّة التحصيل الدراسي على خطابته، فنسمعه يلحن بشكل مضحك في افتتاح مهرجانه ونسمع عن عجزه صياغة خطاب متماسك فيوكل المهمّة إلى مجموعة من المعلّمين. يستغلّ شعبيته لطلب مبالغ مالية من الراغبين في الترشّح معه، ونعرف أنّه لا يتردّد في استغلال الفرص لتحويل المال العام إلى جيبه، كما أنّه لا يمتنع عن إرسال أتباعه لتعنيف خصومه الانتخابيين. يلخّص ظاهر صورة السياسي الفاسد، وهي صورة يعجّ بها المسرح الرحباني، فنجده مثلا في المفوّض في مسرحية "لولو" وفي رئيس البلدية في مسرحية "ميس الريم".

في مقابل هذا التنميط، تعترضنا صورة نمطية أخرى تقابلها، وهي صورة الفنّان الملتزم كما تمثّله ماريا. لا يحمل الالتزام هنا معنى سياسيا، إذ لا نجد فيما تؤدّيه ماريا وفرقتها أيّ إدانة لمظاهر الفساد المستشرية، وإنّما نعني به إخلاص الفنّان لفنّه ولفنّه وحده. حين يعرض ديب مبلغا جزيلا على ماريا لتغنّي في مهرجان ظاهر، يشتدّ غضبها وتصيح في وجهه أنّها لن تغنّي لأحد ولو بمليون ليرة. يذكّرنا ذلك بمواقف مشهورة للأخوين رحباني وفيروز رفضوا فيها الغناء في مناسبات خاصة، حتّى أمام رؤساء دول، ومنهم الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة.

قد يبدو أنّ هذا التعفّف لا يشمل كلّ أفراد الفرقة. يحاول مدير الفرقة الانضمام إلى قائمة ظاهر الانتخابية، ولا يتردّد من يلعب دور الحرامي (ايلي شويري) في السطو على ثياب الفرقة بتحريض من ديب. غير أنّ ذلك لا يعني ميلا فطريّا للرضوخ إلى المغريات. كلّ ما في الأمر أنّ الممثّلين يتلبّسون بأدوارهم حتّى يضحون غير مميّزين بين التمثيل والواقع، وهو ما يلاحظه ديب ويسعى إلى استغلاله. هم فنّانون ملتزمون بأدوارهم إلى أقصى حدّ. يبقى الحرامي يلعب دوره حتّى خارج المسرح، ويسعى مدير الفرقة لإثبات زعامته حتى خارج الفرقة. نلمح ذلك عند ممثّلين آخرين، كنسّوم (هدى حدّاد) التي تبقى تتلصّص خفية خارج دورها، بل ونرى ذلك حتّى لدى غير الممثّلين، فنجد الحارس عنتر يحاول، على جبنه البادي، أن يكون نظيرا لسميّه عنترة بن شدّاد. كأنّنا بجميع أفراد الفرقة يمارسون ضربا من التمثيل المنهجي (Method acting) يجعلهم يبقون في أدوارهم حتّى بعد نزولهم من على خشبة المسرح. يبدو هذا الخلط بين الواقع والخيال بشكل طريف عندما يستحضر مدير الفرقة في "عدّولي يا جماعة" كلّا من "جسر القمر" و"جبال الصوان" و"الشخص" وهي كلّها مسرحيات لعب فيها نصري شمس الدين، مدير الفرقة هنا، دورا بارزا.

تعبّر ماريا عن مفهوم هذا الالتزام بشكل واضح في حواريها مع شكّور. تحمل هذه العلاقة عدّة مكوّنات تعوّدنا عليها في أغاني فيروز: حبّ يبدأ منذ الصبا لا يتمّ التصريح به بوضوح، ويظلّ متّقدا لا ينطفئ رغم البعد ورغم مضيّ السنوات. رغم أنّه من الواضح أنّ ماريا تبادل شكوّر عاطفته، إلّا أنّها ترفض أن يظلّا معا. رسالتها تمنعها من ذلك. لا هي تستطيع الاستقرار، ولا شكّور يقدر على الالتحاق بالفرقة. تختار ماريا التضحية بعاطفتها لتواصل حمل رسالتها. قدرها أن تكون فنّانة، وهذا القدر يمنعها من أن تحيد عن طريقها. تعكس هذه الرؤية صورة الفتاة المنذورة، كما بدأت في "جسر القمر" وتواصلت في "جبال الصوان". لا يمكنها إلّا أن تفي به، فتظلّ تنتمي إلى "ناس من ورق"، ناس لا يمكنهم إلّا أن يكونوا وعاء لما يُصبّ فيهم، أمّا شخصياتهم وحيواتهم الواقعية، فلا مصير لها سوى الاندثار. الفنّان عند الرحابنة هو أعظم ألوان التضحيات: أن تمحو نفسك ليعيش فنّك.

من الطريف أنّ أكثر الأغاني تعبيرا عن روح المسرحية، وهي "قصقص ورق" لا تؤدّيها فيروز. وفي الحقيقة، لا نجد لأيّ أغنية تؤدّيها فيروز علاقة مباشرة بأحداث المسرحية، على كبر المساحة الزمنية المخصصة لأغانيها. الخيط الرفيع جدّا الذي يربطها بالمسرحية هو فقط كونها "ماريا"، المطربة الرئيسية لفرقة ماريا. في "ناس من ورق"، نرى مفهوم الذريعة في أوضح تجلّياته في المسرح الرحباني. ونعني بالذريعة أنّ الحبكة وما يحيط بها من أحداث وما نُسج حولها من شخصيات ليست سوى مسوّغ لمنح المجال لفيروز لكي تغنّي، بغضّ النظر عن الرابط بين ما تغنّيه وبين الحبكة. وليس مفهوم الذريعة ببدعة جاء بها الرحابنة، فعدد كبير من الأفلام الموسيقية، لاسيّما في عالمنا العربي، لم يُنتج إلّا للترويج لأغاني بطله أو بطلته. في "ناس من ورق"، يستغلّ الرحابنة الذريعة بشكل مبهر، فتتحوّل إلى مدخل لاستعراض كامل للمقدرة الفنيّة. قلّما نجد في عمل ما هذا التنوّع الكبير الذي نراه في أغاني فيروز في هذه المسرحية: نسمعها في مقطع من الطرب القديم في "رجعت ليالي زمان"، وفي دبكة راقصة في "غيّروا"، وننصت إليها في أغان عاطفية حزينة (يمكن القول أنّها من الكلاسيكيات الرحبانية) في "دقيت" و"شو بيبقى من الرواية"، وتنقل لنا شيئا من كلاسيكيات الموسيقى الغربية في "يا أنا يا انا"، ثمّ تنشدنا قصيدة لجبران هي أقرب إلى الترتيلة في "المحبّة" وهي إحدى أطول أغانيها، وتنقلنا إلى جوّ البحّارة والموانئ في "هيلا يا واسع"، وتُسمعنا شيئا من اللون البدوي في "دقوا المهابيج"، ولا تنسى المرور على الفلكلور اللبناني في "كانت على هاك العريشة". هو طيف واسع للغاية من الألوان الموسيقية يعرض أمامنا، يجد فيه صاحب كلّ حاجة حاجته. يُمكن القول أنّه علاوة على المهرجانين "المُعلنين" في المسرحية ذاتها: مهرجان فرقة ماريا ومهرجان ظاهر الخطابي، يوجد مهرجان ثالث "ضمني" يوفّره لنا صوت فيروز وهو يعبر بنا من ذروة جمالية إلى أخرى.

يتيح الدور المحدود نسبيّا لفيروز المجال للشخصيّات "الثانوية" لتلعب دورا مهمّا في سيرورة المسرحية. وفي الحقيقة، هي ليست ثانوية إلّا باعتبار قصر الزمان المخصّص لها، ولكنّها المحرّك الحقيقي في صياغة الأحداث. يضحي ديب المرجان محور المسرحية بمحاولاته المتكرّرة التشويش على الفرقة، ويوظّف لذلك عددا من الشخصيات. إضافة إلى عبّود ومرعي، يأتي أبو أسعد فيّاض (جوزف ناصيف) ليتطفّل على مهرجان الفرقة، ويؤدّي ما يمكن القول أنّه أكثر الأغاني تصريحا بمضمونه السياسي "نحنا يا شباب". يشكّل أبو أسعد فيّاض "الفنّان" النقيض لمثاليات فرقة ماريا، فهو مجرم مرهوب الجانب يبيع خدماته للساسة، حتى أنّه يحيد بالأغنية عن موّالها الغزلي ليحوّلها إلى دعاية مباشرة. في جانب فرقة ماريا، يبرز عدد من الشخصيات: مدير الفرقة، الحرامي، المهرّجة (جورجيت صايغ)، نفنافة (سهام شمّاس)... التي يلعب كلّ منها دورا في التقدّم بالأحداث. لكن يلفت انتباهنا بالخصوص صعود هدى حدّاد في دور نسّوم. علاوة على دورها في أحداث المسرحية، تحتلّ أغانيها (قولي يا نسوم، فلكلور أرمني، قصقص ورق) مساحة زمنية مهمة تكاد توازي تلك الممنوحة لنصري شمس الدين، وستؤكّد المسرحيات القادمة أنّ هدى أصبحت جزءا لا غنى عنه في عالم الرحابنة المسرحي.

سيواصل الرحابنة في مختلف مسرحياتهم استعمال مفهوم الذريعة، لكن لن يكون ذلك أبدا في مستوى ما قاموا به في "ناس من ورق". في المسرحيات القادمة، تضحي الأغاني أكثر انضباطا لحبكة المسرحية، وإن لم يكن ذلك مطلقا، لتبقى هذه المسرحية فريدة في بنيتها بين أعمالهم، شديدة الثراء من الناحية الموسيقية بشكل جعل أغانيها من المعالم البارزة لرحلة فيروز مع الرحابنة. بل أنّ هذا الثراء يتجاوز الأغاني ليمسّ الحوارات، فنجد مثلا إعادة شبه كليّة لحوار ديب مع أبي أسعد والمهرّجة في حفل أولمبيا باريس سنة 1979، مع بعض التكييف الذي اقتضاه الظرف السياسي.

 --
حالة حصار
العدد الثاني- 13 أفريل 2020
http://tiny.cc/1qvymz

الأربعاء، 8 أبريل 2020

الخبر عن هجرة حبيب إلى ترشيش وسببها


دخل عبد العزيز بن سهل على حبيب، فألفاه في مضجعه وقد أغلق النوافذ ومكث ساهما يحدّق في الفراغ. كانت الحجرة تغرق في الظلمة، ويفوح ريحها عطنا، ذلك أنها ما استقبلت ضوءا ولا هواء منذ بضعة أيام. هاله ما لحظه من شحوب في وجهه ونحول في جسده. فقال له:
أحسبك لم تر الشمس منذ أيام، فما خطبك؟
قال حبيب: ما حاجتي إلى شمسكم وأنا لم أجد شمسي؟
قال عبد العزيز: وما شمسك؟
افترّ ثغر حبيب عن شبه بسمة وهو يقول: لو كنت أعلم، ما كنت أشقى في البحث عنها. إنّما هي مما يُعلم ولا يُدرك.
قال عبد العزيز وقد ضاق صدره: لا زلت في هذيانك، تنطق بالألغاز وترى لنفسك طريقا لا يراها أحد من العالمين. انظر إلى حالك، أيعجبك ما ترى من نفسك؟
أجاب حبيب: أمّا طريقي، فلم أرها. وأمّا حالي، فلا يعجبني ولكني لا أجد عنه محيلا.
قال عبد العزيز: بلى لو شئت. فاتك الربيع، فلا يفوتنك الصيف، وأنت لا تزال في شتائك تقيم بين غيومك. ما رأيت أرقّ من نسيم يومنا هذا، فلو خرجنا إلى غابة النُحيلة، فرأينا من الماء والخضرة ما يشرح الصدر، وأضاف متضاحكا: وما عاد ينقصنا سوى الوجه الحسن، وعسانا نظفر به.
قال له حبيب: دعني من ذلك. إنّا لا نصل إلى النُحيلة حتى نعبر شطر المدينة، وليس أكره إلى نفسي من أن ألقى أحدا أعرفه، فيستوقفني ويسأل عن حالي، فأغصب نفسي أن أجيبه وأجامله، ويطيل الحديث حتى تتكدّر نفسي فأجافيه.
قال عبد العزيز، وقد طمع في إقناعه: فإنّي ضامن لك ألا يحصل ذلك.
قال حبيب: وكيف ستفعل ذلك؟ أستشهر سيفك في وجه من يعترضنا؟
أجابه عبد العزيز: نتلثّم فلا يعرفنا أحد. ولنا في ذلك عذر، فإن الشمس قد اشتدت ولا بدّ لها من وقاء.
ومازال به حتى قبل.
خرجا وهما يتنكبان ما اتّسع من الشوارع ويتتبعان الأزقة. كان عبد العزيز يحادث صاحبه مستجلبا كلامه. غير أنّ حبيبا لبث متلفعا بصمته، لا يجيب إلا بما قلّ وكأنّه يعتصر الكلام من نفسه اعتصارا، حتّى كفّ صاحبه عن الحديث. وصلا قرب الجامع الكبير، وكان لا بدّ من المرور قربه، على ازدحام ما حاذاه من طرق. شقّا طريقهما وسط الباعة المتجاورين وحرفائهم. ولمّا انعطفا في اتجاه الطريق الجنوبي، كادا يصطدمان بفتاتين خارجتين من حانوت عطّار. همهم عبد العزيز بكلمات الاعتذار وقد سقط عنه لثامه، فضحكت الفتاتان في تسامح وواصلتا طريقهما. همّ عبد العزيز أن يكمل مشيه، غير أنه وجد صاحبه ذاهلا في مكانه. سأله: ما بك؟ لم يجبه في الحين، وإنما ظلّ يتمتم بكلمات غير مفهومة، ثمّ قال:
سافرت نفسي في دروب عيون 
ليس في غيرها يُقال الشعر
قال عبد العزيز: أيّ عيون؟
قال حبيب: أتعرف تلك الفتاة؟
سأل عبد العزيز: أعرف كليهما، وأحسبهما قد عرفتاني لمّا انحسر اللثام. فأيهما تعني؟
قال حبيب: تلك من تضحك عن جمان وتسفر عن بدر. من هي؟
أجاب عبد العزيز: أنّى لي أن أحزر ما هيّئ إليك؟ زدني بيانا.
قال حبيب: يا صاحبي، اقدح زناد فطنتك، فلست أستطيع صبرا على ما بي. إنما عنيت أرشقهما قدا وأملحهما وجها
فهم عبد العزيز قصده، ولكنه قال في عبث: كلاهما رشيقة مليحة، فوضّح لي.
صاح حبيب: أطولهما يا هذا!
قال عبد العزيز: بخ بخ لك يا حبيب. أمّا صاحبتك فسعدى بنت يحيى، إحدى بني سراج. وأما صاحبتها، فأختها الثريا.
قال حبيب: أما أني قد فقدت ريح السماء منذ أن رحلت حبابة، وما رأيت منذ ذلك الحين صفاءها ولا سكينتها، حتى حانت مني نظرة إلى عيني سعدى فإذا بنفسي تثوب إليّ، وإذا بنور يملأ فؤادي قد طال عهدي به، وكأنّ حبابة قد نُشرت من جديد تصدح بما فيه شفاء النفوس. وما أراني إلا لها عاشقا
قال عبد العزيز: لا زلت في غيّك، تتوهّم الشيء ثمّ تصدّقه. هلاّ عرفت شيئا من شأنها قبل أن تشغفك حبّا.
قال حبيب: دعني منك، فأنت وعير بالفلاة سواء، لا تدريان ما الهوى.
قال عبد العزيز: يا أبا الزهراء، إني لك ناصح وعليك شفيق. أنا أدرى بسعدى منك، فلا يغرّنك ما لاح لك منها. هي والله شموس ذات كبرياء، شديدة الاعتداد بحسبها ونسبها، ما كلّمها أحد إلا أساءت جوابه، لا توقّر نبيلا ولا ترقّ لوضيع.
قال حبيب: ليس يخيب رأيي في تلك النظرة، وسترى ما يكون من أمري معها. فارجع بنا الآن إلى الدار، فإنّ صدري قد امتلأ شعرا.
فرجعا. ومكث حبيب ليلته في بستان بيته، يقلّب عينيه في الآفاق، وكانت ليلة تحلّت فيها السماء بزينتها، وبدا من أفلاكها ما كان مخفيّا. وكأنّ حبيبا رأى في ذلك آية على توفيقه في عشقه فامتلأ بشرا. ولم يكحّل الكرى عينيه، حتى بدا أوّل شعاع من الشمس، فغدا على عبد العزيز فأنشده قصيدته التي مطلعها:
عجبا لسرعة مَرِّ ذي الأفلاك
 سمّار ليل يسمعون لشاك
وهي قصيدة طويلة، فريدة في ديوان حبيب. إذ قصد فيها نحو الغريب ما لم يكن مألوفا في شعره قبل ذلك، وذهب أهل العلم بالأدب واللغة في ذلك مذهبين بين قائل أنه أراد إحياء مذهب القدامى في غزلهم فقصد إلى لفظهم وألبسه من المعنى ما جدّد به ما اندرس، وقائل أنّه على شغفه أراد التعمية على مراده، فنسج حوله من عويص اللفظ ما يعسّر بلوغه. وذلك أرجح عندنا، على غرابته. فإنّنا نعلم أنّ حبيبا وإن أراد بقصيدته تلك البوح بهواه، فإنه كان شديد الاعتداد بنفسه، يخشى كل الخشية أن يخيب ظنّه أو يجرح كبرياؤه، فذهب هذا المذهب.
ولبث حبيب شهورا بعد ذلك يغدو إلى مجالس الفتيان، يتحبّب إلى أقرانه ويتألف قلوبهم، مخالفا بذلك ما اعتاده الناس عنه من ميل إلى العزلة. وإنّما كان يروم أن يلقى في أحد تلك المجالس سعدى أو يجد إليها سبيلا، فلم يظفر بذلك حتى أعياه ذلك لمخالفته طبعه ولما كان يتكلّفه من مودّة تجاه من لا يرى فيهم غير الخواء. فشكى حاله إلى عبد العزيز، وقال له:
أما ترى ما أنا فيه من غم، فهلا أعنتني على أمري فتكون رسولي إلى سعدى لتطلعها على أمري عساك تجد قبولا.
قال عبد العزيز: والله لا أفعل. قد بيّنت لك رأيي فيها، وما أحسب إلا أنها ستردّك ردّا قبيحا.
قال حبيب: ليتها تفعل، فإنّ برد اليقين وإن قبح أحبّ إليّ من غمرات الشكّ وإن تلحّف بالآمال. وما أرى السوداء إلا معاودتي. فأعنٌي يا هداك الله.
قال عبد العزيز: كلا، لا أكون نذير شؤم يحمل إليك ما فيه شقاؤك.
وما زالا بين أخذ وردّ، حتّى رقّ عبد العزيز قليلا، فقال: أمّا الرسالة فلا أحملها. ولكنّي أحتال لك حتى تعرف شأنك، فائذن لي أن أشيع قصيدتك التي أنشدتنيها.
قال حبيب: قد فعلتُ، فاصنع بها ما بدا لك.
فما كان إلا أن افترقا في ليلتهما تلك، حتى شرع عبد العزيز في إنشاد تلك القصيدة في كلّ مجلس، مكبرا من شأنها جاعلا إيّاها ثامنة المعلقات، وما لم يقله في الهوى لا قيس ولا عمر ولا جميل. وكان حينما يُسأل عنها يقول: قد عشق حبيب فقال ما قال، وقد كنت شاهد هواه ذات يوم في أوائل الصيف قرب الجامع الكبير. فذاع ذكر القصيدة وخبرها، حتى لم يبق بيت في عين الهُنيدة لم يبلغاه.
كان بعد ذلك أن كان حبيب خارجا من الجامع الكبير، فإذا بسعدى والثريا يمشيان على بعد خطوات منه. فلمّا رأتاه، أمسكتا عن المشي وأخذتا تتهامسان. ارتبك حبيب لمرآهما، ثمّ فكّر: أمرّ عليهما وألقي السلام، وأرى إن كان هناك باب للحديث. سار في اتجاههما وسلّم فردّتا، وقبل أن يضيف شيئا، بادرته سعدى: يا أبا الزهراء، هل لي في كلمة؟ قال: نعم، وألف. انتحيا جانبا من الطريق بينما مكثت الثريا في مكانها، وقد أغضت.
قالت سعدى: هل علمت من أكون؟
ابتسم حبيب وهو يقول: ليس مثلك من يُجهل.
قالت: أحسبك قد حزرت ما جئتك في شأنه.
خفق قلبه، وقال: ربما كان ذلك، لكنني لا أوقن حتى تفصحي.
قالت: حدّثوني عن ذكائك يا حبيب، ولا أحسب قصدي يفوتك. ثم أردفت بعد هنيهة: ألم تنظم كافية على الكامل؟
قال: بلى.
قالت: أو لست أردت بها المكاشفة؟
قال وقد أطربته جرأتها: أجل
قالت: فهي تنتظر منك، وها قد حانت الفرصة، فأخبرها بما تريد
اشتدّ وجيبه. قد أتاه ما كان يبغي على حين غرّة. هي المرّة الأولى التي يجد نفسه فيها في مثل هذا الموقف. عليه أن يستجمع شتات نفسه ليتكلّم فلا يتلجلج. فردوسه على بعد كلمتين منه، وليس عليه سوى أن يخطو إليه.
باغته صوتها وهي تقول: هي هناك، فاذهب وخاطبها.
أشكل عليه الأمر. فقال مضطربا: ماذا تعنين؟
قالت: ألم تقل في قصيدتك:
فلقد تراءت في الثريا آية 

سبحانه قد جلّ من سوّاك

وأنت تريد أختي الثريا؟
نزلت غمامة سوداء على وجهه. وأحسّ ببرد مفاجئ يجتاح جسده.
قال: ما هذا أردت. إنما أردت بالثريا نجم السماء، فقد نظمت قصيدتي في زمان طلوعه
قالت: فمن عنيت بقصيدتك؟
هي لحظة الفصل. إما أن يبوح بأمره وإما أن يكتمه إلى الأبد.
ندّت عنه كلمة واحدة: أنت
تمعّر وجهها، وقالت في غضب: لم تبق لي إلا محبة الشعراء
وانصرفت، فحدّثت أختها بكلمتين، ثم سارتا معا. وحانت من الثريا التفاتة أخيرة إليه قبل أن تواصل المسير.
لم يدر كم مكث في مكانه هناك مستندا على الحائط. كان واقفا في مكانه والزمن يتقلب حوله في ذلك المساء بسرعة لا مثيل لها. ما عاد زمن الحب وخيالاته، ولا زمن الشعر وشياطينه. هما زمانان ما عادا يستجلبان سوى الهزء. عاش فيهما يستنطق أطيافهما، حتّى نسي زمن الناس وإذا به يستفيق على لطمة. كم صار غريبا عن نفسه. على أنّه في تلك اللحظة ماعاد يكترث بخيبته في الحبّ اكتراثه بالإهانة التي لحقته. كانت طعنة لم يسبق له أن تلقى مثلها. كلّ ما كان يهمّه في تلك اللحظة أنّه لن يبقى في مكان ذاق فيه تلك المرارة.
لمّا عاد إلى بيته، دخل على أبيه، وقبل أن يسلّم، بادره قائلا: يا أبت، قد علمت أنّ الشيخ سليمان بن مالك التنوخي قد قدم إلى ترشيش منذ شهر يبثّ فيها العلم، فائذن لي أن ألحق به فأتتلمذ على يديه.
قال أبوه: نعم الطريق ما أريد به العلم، ونعم الشيخ ابن مالك. قد أذنت لك، فلتذهب مصحوبا بدعائي.
قال حبيب: فإني نويت الارتحال فجر غد.
قال أبوه: ولم العجلة؟
قال حبيب: ولم التمهّل؟ قد لا يطيل الشيخ بقاءه في ترشيش، ولا أريد أن يفوتني أخذ العلم عنه.
ضحك أبوه وهو يقول: عجبا ممّن يريد الأناة من ابن الثامنة عشرة. فلتذهب متى شئت.
قضّى حبيب ليلته يتجهّز لرحلته، ولم يذق للنوم طعما. ومع أوّل خيوط الفجر، خرج من بيته، فألفى عبد العزيز على فرسه ينتظره. فقال له: ما تصنع هنا يا عبد العزيز؟
قال: قد أرسل إليّ أبوك يعلمني بما انتويت. وإنني رفيقك في هذه الرحلة، شئت أم أبيت.
ابتسم حبيب وهو يقول: بل أشاء.
وانطلقا معا ميممين شطر ترشيش.

الاثنين، 6 أبريل 2020

رواية "الملائكة لا تطير" لفاطمة بن محمود: اقتحام المحرّمات في زمن الحريّة


كلّنا نذكر تلك السنوات التي تهافت فيها علينا "الدعاة" أفواجا. سمعنا فيها كلاما لا عهد لنا به عن إعادة فتح البلاد وكيف ينبغي أن يكون إسلام أهلها، وبلغ تمزّق المجتمع آنذاك أقصاه. ربّما تركنا تلك الفترة وراءنا، لكنّ آثارها لا تزال ماثلة فينا. لا تزال الأيادي الحمراء تضرب من حين لآخر فتحرمنا من أن ننعم بسكينة الطمأنينة، ولا يزال يعيش بيننا من يحمل حقدا أسود على كلّ من لا يشبهه.
تعود الكاتبة التونسية فاطمة بن محمود في روايتها "الملائكة لا تطير" الصادرة في طبعتها الأولى عن دار زينب للنشر سنة 2019 إلى تلك الفترة، مستقصية شيئا من إرهاصاتها وساردة لظلّها القاتم على أسرة تونسية كان عميدها سيف ممّن سُجن في أعقاب أحداث سليمان سنة 2006 ليترك زوجته ليلى حاملا فتنجب في غيابه ابنتهما نور التي لن تعرف أباها حتّى خروجه من السجن في 2011.
لا تكاد تخرج أحداث الرواية عن إطار ما يحدث داخل هذه الأسرة. يشكّل حضور وجدي غنيم إلى تونس لحظة فارقة في العلاقات بين أفراد الأسرة، إذ يبلغ تأثّر الأب بالدعاية التي صحبت هذه الداعية حدّا جعله يرى نفسه صاحب فضل عظيم وسبق لا مثيل له إذا كان المبادر بتطبيق تعليماته، فلا يتردّد كثيرا في ذلك، وأمام سلبيّة زوجته الكبيرة، نراه يجعل من ابنته مخبرا للتجربة، وهو ما يترك في نفسها وفي جسدها جرحا لن يندمل أبدا.  تمنحنا هذه الرواية من اللذّة الخالصة للحكي ما يدفعنا إلى التهام صفحاتها التهاما، إذ تجعل مطالعتها هذه الأيّام، أيّام الحجر الرتيبة، أقلّ وطأة.
لا تتردّد فاطمة بن محمود في أن تضع يدها على موضوع لا يزال من المحرّمات في تونس اليوم. فرغم استهجان النخب الحقوقية والحداثية في بلادنا لموضوع ختان البنات، لا أذكر أنّي رأيت معالجة له من زاوية إبداعية. تفاجئنا نور، رغم الجمود القاتل المحيط بها، بعالم داخلي على غاية من الثراء، ورغم محيط المحظورات المحيط بها، فإنّها تتحدّى كلّ شيء لتتلمّس طريقها كما تشاء في هذا العالم. تبدي وعيا يفوق سنّها في رسائلها إلى الفيلسوف الألماني نيتشه. أمّا عندما تمضي في استكشاف جسدها، فإنّ رهافة حسّها، أمام الحرمان الذي يبلغ حدّ العذاب المسلّط عليها منذ الطفولة، يجعلنا لا نملك إلّا أن نتعاطف معها ونشفق عليها من افتضاح أمرها، بغضّ النظر عن أيّ حكم أخلاقي على سلوكها.
هذا الغوص في نفسيّة نور يصحبه غوص أقلّ عمقا في نفسيتي كلّ من الأمّ والأب. إذ رغم ما تبديه ليلى من تمرّد خفيف في أحيان نادرة على عالم المحرّمات، فإنّ ذلك لا يدلّنا ولو قليلا على ما يمكن أن يفسّر سلبيّتها الآثمة. أمّا الأب سيف، فيبدي لنا تناقضا صارخا بين شخصيّته الظاهرة كسلفيّ متشدّد من ناحية، وبين رواسب حياته الأولى (وخاصة حبّه القديم) وشخصيّته الفايسبوكية من ناحية ثانية. غير أنّنا نلمح في آخر الرواية نزعة تبسيطيّة تردّ اضطرابه إلى حادثة عاشها في طفولته، وهو ما يسلب شخصيّته الكثير من تركيبها، بل ويمكن أن يُتّخذ كمبرّر لسلوكه المرضي.
لا تقتصر هذه النزعة التبسيطية على تركيبة الشخصيّات، بل نجد أثرا لها في البناء الزمني لأحداث الرواية نفسها، بمعنى أنّه لم يتمّ الاعتناء بالمرّة بأن يتّسق الزمن الداخلي للرواية مع الزمن الخارجي. أجلى مثال على ذلك قضيّة سنّ نور، وهي قضيّة مؤثّرة بشدّة في أحداث الرواية. من المفترض أن نور وُلدت وأبوها في السجن إثر أحداث سليمان، أي سنة 2006. غير أنّنا نقرأ أنّها بلغت التاسعة عشرة (ص. 146) قبل أن نجد إشارة إلى رجوع العلمانيين إلى الحكم فيما بعد (ص. 191) يمكن أن نفهم به أنّ السنة المقصودة هي 2014. هذا ما يعني أنّه من المفترض أن تكون نور ولدت سنة 1995، بفارق 11 سنة عن سنة ميلادها الحقيقية! وإذا شئنا تبسيط الحساب أكثر، لا نفهم كيف كانت نور في سنّ السادسة عندما جاء وجدي غنيم إلى تونس أي 2012، ثمّ نجدها في سنّ التاسعة عشرة فيما بعد، فحتّى لو اعتمدنا سنة صدور الرواية، لكان هناك فارق زمني لا يقلّ عن خمس سنوات.
نجد آثارا أخرى لعدم الاتّساق، وإن لم تكن بنفس الأهميّة، إذ هناك ما يمكن أن نردّه إلى نقص التثبّت في المعلومة. مثلا، نجد إشارة إلى خطبة للخطيب الإدريسي في جامع الفتح بالعاصمة (ص. 62)، في حين أنّه من غير المعروف أنّ المذكور قدم إلى العاصمة في تلك الفترة. وتدسّ لنا نور اسم الموسيقي باخ بين الفلاسفة الذين تأثّرت بقراءتهم (ص. 233)، ولعلّ المقصود هو فيورباخ. في أحد الهوامش، تذكر لنا "الساردة" تكتمّ السلفيين على تنظيمهم الحركي (ص. 199) غير أنّ مرجعها في ذلك هو "غوغل"، في حين أنّه يوجد من الدراسات ما اعتنى بتفصيل التنظيم الهيكلي لحركات جهادية مختلفة. ووجود هذه "الساردة" في حدّ ذاته غامض المعنى، إذ أنّها تطلّ علينا في غالب الأحيان في الهوامش دون أن تتدخّل في أحداث الرواية ذاتها إلّا بشكل عرضي، ويبدو لي أنّه كان من الأفضل أن يقع التخلّي عنها تماما، أو أن تتحوّل إلى فاعلة حقيقية تتلاعب بالشخصيات والأحداث، بدل هذا الظهور المحتشم وغير المؤثّر.
تنزل فاطمة بن محمود من عالم الشعر لتكتب هذه الرواية الملتحمة بالواقع حدّ الوجع، ولعلّ إكراهات الرواية والواقع معا كانت ممّا حتّم الاستعانة بلغة أقرب إلى المباشرة من بذخ الصور الشعريّة. ولعلّها بعملها هذا تنكأ جرحا في مخيالنا، إذ تفتح باب النظر الإبداعي في فترة قاتمة من تاريخنا القريب جدّا، وتؤكّد لنا أنّ تجاوز المحرّمات لا يزال يحتاج إلى جرأة استثنائية، حتّى في زمن نزعم فيه أنّنا ننعم بالحريّة...