الثلاثاء، 29 يوليو 2008

ثقافة الخوف (2)

إنّ فكرة الخوف المهيمن على ثقافتنا يمكن أن تفسّر(و لو بشكل جزئي) وجود اتّجاهين متضادين و متطرّفين (و كلّ تطرّف مذموم) في المجتمع اليوم: اتّجاه أوّل محدود و لكنّه موجود على كلّ حال يتمثّل في البعد عن الدّين الإسلامي سواء كان ذلك باتّباع طريق التنصّر ( و قد رأيت مقطعا في أحد المواقع يبرّر فيه أحدهم تنصّره بأنّه وجد الله في الإسلام بعيدا عن البشر، و أيّ بعد أكثر من أن يكون الله قامعا لخلقه، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا) أو باتّباع طريق الإلحاد أي نبذ فكرة الدّين نهائيّا و أعتقد أنه في الحالتين وقع هناك دمج في الأذهان بين ثقافة مصطبغة بالدّين تكرّس الخوف في جلّ جوانبها و تمنع من تحقيق الذات و بين الدّين ذاته ممّا أدّى بأصحاب هذا الاتّجاه أن يهربوا إلى حلّ جذريّ عنيف و تبسيطيّ للغاية إذ رفضوا الدّين (الإسلامي) اعتقادا أنّه تسبّب في وجود هذه الثقافة. أمّا الاتّجاه الثاني الأكثر انتشارا هذه الأيّام فهو "التديّن المفرط" الّذي يمارسه بعض الشبّان بإطلاق لحاهم و ارتداء "عرّاقية" و قميص فضفاض و الحرص على أن يكون السروال مشمّرا يعلو الكعبين بما لا يقلّ عن 2,5 مم و كذلك بعبوس الوجوه و التذمّر من الانحراف عن "السلف الصالح". هؤلاء هربوا من الخوف إلى مزيد من الخوف فداووا خوفهم المتولّد من الخضوع لسلطة الخوف إلى الانخراط في هذه السلطة و ممارستها ضدّ الآخرين. هؤلاء يظنّون أنّهم امتلكوا الطمأنينة و راحة البال في طرفة عين و لكن ما امتلكوه حقّا هو السلطة، سلطة الاستحواذ على "الحقيقة المطلقة" و التحدّث باسمها و حتّى إجبار الآخرين على الانصياع إليها فتراهم يعظون الفسّاق العاصين (الّذين كانوا منهم بالأمس) بل و يمارسون أحيانا الإفتاء في ثقة المتيقّن من علمه الغزير الّذي قضّى في تحصيله أكثر من 24 ساعة ( كما يقول عنهم أحد الأصدقاء: يصلّي ركعتين ثمّ يفتي).


و لا تقتصر آثار هذه الثقافة على إنتاج التطرّف باتّجاهيه، فمثل هذه المواقف تبقى، إلى حدّ الآن فيما أرى، هامشيّّة و مقتصرة على عدد محدود من الأفراد ولكن لعلّ خطورة هذه الثقافة تكمن في كونها لا تقتصر على الجانب الديني "البحت" بل تمتدّ لتشمل كافة جوانب الحياة و تؤسّس للاستبداد و القمع في جميع مستوياتها وهو ما يعزى إلى ما يمكن تسميته " الطابع التأسيسي للدّين" (لعلّها سمة مشتركة لمجتمعات ما قبل الحداثة) إذ أنّ جميع السّلط في المجتمع،انطلاقا من العائلة (سلطة الزوج، الأب) وصولا إلى الدّولة، تستمدّ مشروعيّتها بشكل من الأشكال من الدّين حتّى و إن كانت علاقتها بالدّين لا تعدو أن تكون شكليّة، إذ أنّ النظرة إلى الدّين في هذه المجتمعات لا تعرف الوقوف عند حدود العبادات و الغيبيّات بل لا بدّ أن يكون له (أي الدّين) موقف من كلّ ما يحدث في المجتمع، فلا تتأسّس سلطة داخله إلا بمباركته، ففيما يخصّ السلطة السياسيّة مثلا نجد أنّ بعض الدّول "الحديثة" تستند إلى مفهوم الإجماع المأخوذ من علم أصول الفقه ( و هو مفهوم غامض لا يكاد يتّفق على مضمونه فقيهان و هذا الغموض يستغلّ من طرف من يملك القوّة اللازمة للتحدّث باسمه) لتبرّر قمعها لجميع من يخالفها بدعوى حماية المجتمع من الطغمة الفاسدة الّتي تهدّد "إجماع" المجتمع. و تتعزّز هذه المشروعية إذا كانت السلطة السياسيّة تحتكر الحديث باسم الدّين و ذلك من خلال تدويل مؤسسّاته كدور الإفتاء(انظر أسماء نويرة بن دعيّة، مفتي الجمهوريّة في تونس) و احتكار وظيفة الإشراف عليه و تعميم الدعاء لوليّ الأمر على المنابر، و لا ننسى أنّ طاعة وليّ الأمر مبدأ متّفق عليه بين جلّ المذاهب على اختلاف أسسها إذ يؤسّسه الشيعة على نظريّة عصمة الإمام (وهي نظريّة يبدو أنّه وقع تبنّيها من قبل أنظمة معاصرة غير شيعيّة) و يؤسّسه السنّة على الخوف من الفرقة حتّى إن كان الحاكم وصل إلى الحكم بطريقة غير شرعيّة إذ يقول الشافعي أنّ أيّ قرشيّ غلب على الخلافة بالسيف حتّى بايعه الناس فهو خليفة (انظر محمّد الجويلي، صورة الزعيم في المخيال العربي الإسلامي). فالعلاقة بين الحاكم و المحكوم في مثل هذه المجتمع لا تتأسّس على عقد اجتماعي عقلاني يقوم على توازن بين حقوق و واجبات كلّ منهما بل أنّ كفّة الميزان تميل بشكل واضح في اتّجاه تكريس واجب الطاعة المطلقة لوليّ الأمر، باعتبارها فريضة دينيّة، بما تعنيه هذه الطاعة من خضوع و امتثال و..خوف، إذ يكون من يعارض هذه السلطة أو يجرؤ على مناقشتها زائغا ضالا مضلا منحرفا عن "إجماع المجتمع" يجب استئصاله للحفاظ على كيان "الأمّة". لذلك إذا ما تمادى صاحب السلطة في الظلم فإنّ الحلّ هو الصبر "الجميل" على الأذى (فرارا من وصمة الانحراف هذه) و انتظار قد يبلغ الأبديّة لمجيء الحاكم المثالي الّذي تتماهى صورته عندنا مع صورة "المستبدّ العادل"، ذلك المستنير الّذي يمسك بزمام جميع الأمور بيده و يقودنا بعصاه إلى تحقيق الفردوس الأرضي و هذا النوع من الحكم "يفترض إماما معصوما و مالكا للحقيقة بالكشف و الإلهام، حكم يفصل بين الراعي و الرعيّة و يجعل بينهما نفس المسافة الّتي تفصل راعي الإبل عن إبله" (سليم اللغماني، "الحداثة و الديمقراطيّة"، في "مقالات في الحداثة و القانون").

(يتبع)

الاثنين، 28 يوليو 2008

ثقافة الخوف (1)

جاءتني منذ أشهر رسالة عبر البريد الالكتروني أقل ما يمكن في وصفها أنّها مرعبة. تروي هذه الرسالة "حياة" امرأة بعد موتها داخل قبرها في تفاصيل دقيقة مخيفة حتّى يبدو كأنّ كاتب الرسالة عاشها بنفسه. هذه المرأة و رغم أنّها كانت مؤمنة فإنّها أوشكت أن تتعرّض للعذاب، و بئس المصير، لأنّها كانت تؤخّر صلاة الفجر و فعلا " سارت أمام منكر ونكير في سرداب طويل حتى وصلت إلى مكان أشبه بالمعتقلات ..." و كادت أن تعذّب فعلا لولا هدف الدقيقة 90، إذ جاءها دعاء من ولدها قام بترشيحها إلى الدور القادم، و هي نهاية مفتعلة ذكّرتني بالحلقات الأخيرة لبعض المسلسلات المصريّة الفاشلة.
أغضبتني هذه الرسالة جدّا و قمت بتسجيل"احتجاج شديد اللهجة" لمرسلها (تشبّثا بتقاليدنا العريقة في الشجب و التنديد و الاستنكار) إذ اعتبرتها تكريسا لهروب من مواجهة الواقع و إغراق في تفاصيل غيبيّة لا تزيد و لا تنقص (و لو أنّ في الرسالة نقطة ايجابيّة إذ أنّها كتبت بأسلوب سليم يكشف عن موهبة قصصيّة من المؤسف أن تذهب في مثل هذا الاتجاه). ..حكاية عذاب القبر هذه لم تثر في يوم من الأيّام اهتمامي لأنّي أعتبر أنّي لست في حاجة لمعرفة شيء عنها. كلّ ما أحتاج لمعرفته عن مرحلة ما بعد الموت أنّ من يعمل عملا صالحا سيعيش النعيم الأبدي و أنّ من يغلب شرّه سيعيش عذابا أبديّا. كانت حكاية هذه الرسالة ستذهب طيّ النسيان لكنّني فوجئت مؤخّرا بأنّها موجودة مرّة ثانية في صندوق بريدي غير أنّ شخصا آخر هذه المرّة قام بإرسالها ممّا يعني أنّها ظلّت طوال هذه الفترة تتنقل من شخص إلى آخر و لا أتصوّر أنّ كلّ من يتسلّمها تبلغ به "المتعة" حدّا يجعله يرغب في أن يشاركه فيها أشخاصا آخرين بل الأرجح أنّ ذلك يعود إلى خوف من سوء العاقبة خاصة أنّ كاتب الرسالة يقسم "بالعزيز الجبّار"(اختيار دقيق للصفات الإلهية) على من يتسلّم هذه الرّسالة أن يبعثها "لكلّ الموجودين" و لعلّ ذلك يعني تهديدا لمن لم يفعل بعذاب أشدّ من المذكور في الرسالة. بعدها بأيّام قرأت في الركن الدّيني لإحدى الصحف اليوميّة التونسيّة حكاية عن أحد الزهّاد سمع من يتحدّث عن عذاب القبر فخاف خوفا شديدا و ركض بعيدا ثمّ وجد بعد ذلك ميّتا (و هي فرصة له ليحيط علما بالجانب التطبيقي لعذاب القبر بعد أن استمع لجانبه النظري). الأسلوب الّذي وردت به هذه القصّة كان لا يخلو من التمجيد و التعظيم من شأن هذا العابد الزاهد المتبتّل الّذي بلغت به التقوى حدّا جعله يموت خوفا لتتماهى بذلك صورة المسلم التقيّ مع الإنسان الخائف المرعوب. الكتب الّتي تتحدّث عن عذاب القبر و أهوال يوم القيامة تباع أحيانا على قارعة الطريق و تلقى إقبالا كبيرا. خطباء المساجد لا يقصّرون في الإشارة إلى عذاب العصاة في الآخرة و حتّى في الدنيا... كلّ هذا و غيره يدلّ على أنّ ثقافتنا موسومة بالخوف و التخويف....
نربّي منذ الصغر على الخوف، الخوف من الله القويّ الجبّار العزيز المنتقم و يحذّرنا آباؤنا من ارتكاب أيّ هفوة و لو كانت بسيطة بدعوى أنّ الله "سيحرقنا بالنار" إن فعلنا. إذا استعملت يدك اليسرى للأكل، حتّى و إن كنت ولدت أعسر، فإنّ ذلك يعني أنّك مثيل للشيطان(قرأت في إحدى المجلات العربيّة الموجّهة للأطفال و الّتي تعرف انتشارا واسعا أنّ استعمال الشوكة و السكّين بما يعنيه من تناول للأكل باليسرى بدعة غربيّة تبعدنا عن ديننا)...إذا أبديت جرأة و نشاطا توصف بأنّك "شيطان" و ليس مثيلا له هذه المرّة (رأيت أمام إحدى المدارس الابتدائيّة فتاة تتحدّث مع أمّ صديقتها بثقة و جرأة نالتا إعجابي فلمّا انصرفت وصفتها هذه الأمّ بـ"الشيطنة" و قلّة الأدب! فالطفل المثالي لدى الأولياء هو "العاقل" أي الخامل المرعوب الّذي لا يجرؤ على التلفظ بكلمة)...نكبر و يكبر خوفنا معنا... عدم طاعة الوالدين، حتّى و إن كان ما يطلبانه بادي التعسّف، عقوق و هو أحد الكبائر. الحبّ معصية كبرى تستنزل غضب الله (أو حتّى ما دون الحبّ، ففي إحدى المرّات عبّرت عن إعجابي بجمال إحدى الممثّلات أمام طفلة من العائلة لا يتجاوز عمرها عشر سنوات فما كان من هذه الأخيرة إلا أن شهقت في استنكار و أسرعت إلى أولي الأمر لتبلغهم بهذه الخطيئة)... إطلاق العنان للإبداع قد يصبح تطاولا على الذات الإلهية يستحقّ سخط الله (كفّر بعضهم أبا القاسم الشابي عندما قال بيته الشهير: "إذا الشعب يوما أراد الحياة..فلا بدّ أن يستجيب القدر" بهذه التعلّة)... أمّا التفكير في تحديث التشريع الإسلامي ،حتّى و إن كان ذلك بالاستناد على روح القرآن الكريم و مقاصده، فهو الطامة الكبرى الكفيلة باقتطاع تذكرة مباشرة إلى الجحيم و الخلود فيها أبد الآبدين (رحم الله بورقيبة رحمة واسعة)...
كيف يمكن أن تكون علاقتنا بالله إذا كنّا نربّى منذ الصغر على الرعب منه؟ هل يمكن أن نكون مؤمنين حقّا إذا كان الله يقدّم إلينا كجبّار ساديّ يتلذّذ بتعذيب خلقه حتّى على أصغر الهفوات؟ أ ليس الإيمان هو المحبّة الخالصة للّه؟ أ تجتمع المحبّة مع الخوف البالغ درجة الرعب؟ أ ليس الرعب أقوى المبرّرات للوقوع في الكره و بالتالي الخروج عن دائرة الإيمان بما أنّه من الصعب على الإنسان أن يحبّ قامعه؟ أ ليس في هذه النوع من التربية انحرافا عن جوهر الذات الإلهية بما أنّ الله هو كذلك الرحمان الرحيم الغفور التوّاب العفوّ؟ لماذا تنسى هذه الصفات و تظلّ فقط نظريّة ولا تذكر إلا على مضض و افتعالا كما في قصّة عذاب القبر آنفة الذكر؟

(يتبع)