‏إظهار الرسائل ذات التسميات سياسة. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات سياسة. إظهار كافة الرسائل

الخميس، 16 مايو 2013

دستور بلا هيبة

بالإضافة إلى علويّته القانونية الماديّة والإجرائية، للدستور علويّة (أو يجب أن تكون له)، يمكن أن نسمّيها “علويّة نفسيّة” أو “هيبة الدستور” تتأتّى أساسا من الأهميّة التاريخية للحظة وضعه (وهي لحظة يفترض أن تكون فارقة  قاطعة مع ما قبلها ومؤسسة لما يليها) ومن مهابة واضعيه في نفوس المواطنين على امتداد العصور.
في الولايات المتحدة مثلا، ودستورها المكتوب هو الأطول عمرا بين دساتير العالم، يحظى واضعو دستور 1787 بهالة تصل إلى حدّ التقديس عند مواطني هذا البلد. فهم يسمّون “الآباء المؤسسين” وتشيّد لهم التماثيل ويدرس فكرهم السياسي والفلسفي العميق في المدارس والمعاهد والجامعات. وقد وضع هذا الدستور سنوات بعد استقلال الولايات المتّحدة عن بريطانيا في لحظة أصبح فيها الوعي راسخا بضرورة أن تكون هناك سلطة اتّحادية تسند لها الولايات الثلاث عشرة آنذاك صلاحيات فعليّة.
وأغلب دساتير العالم وضعت في مثل هذه اللحظة الفارقة التالية لأزمة عميقة (حركة تحرّر وطني، ثورة، انقلاب،…) تكون كتابة دستور يؤسّس لمشروع سياسي (ومجتمعي) جديد أحد مفاتيح حلّها.
في معظم الأحوال، يكون “الرّجال” هم من خلقوا “اللحظة”، وتكون لهم بالتالي المشروعيّة الأخلاقية للبناء عليها. في تونس، توفّرت لنا “اللحظة”، ولم يتوفّر “الرّجال”. فـ”الرّجال” (والنساء) وجدوا اللحظة ماثلة أمامهم، فرصة ذهبية لم يكونوا يحلمون بها وسمّيت بالثورة التلقائية أو العفوية أو الثورة من دون زعيم ولعلّهم كانوا أوّل من ذهلوا لحدوثها قبل أن يستوعبوها ويوظّفوها. فوجدنا أنفسنا بعد أشهر من اللحظة ننصّبهم “آباء” لنا وننتخبهم في مجلس ينظّر رجال القانون لكونه سلطة تأسيسية أصليّة أولى وعليا وسيّدة، أي شبه إله قانوني.
غير أنّنا سرعان ما اغتلنا “آباءنا” (بالمعنى الفرويدي) أيّاما معدودة بعد تنصيبهم، ولعلّ الأصحّ أنّ مشاراتهم ومماراتهم وقلّة كفاءتهم وصفقاتهم وأطماعهم المعلنة والحماقات الّتي يتفوّهون بها هي الّتي اغتالتهم وجعلت الحديث عنهم لا يكاد يكون في بعض المنابر إلا من باب التندّر والسخريّة. وبعد أن تتمّ المصادقة على الدستور، لا نلبث أن نجد أنفسنا مطالبين بتطبيق أحكامه الّتي قد لا تعجب البعض فيقول “ومن وضع هذه الأحكام حتّى تكون ملزمة لي؟” ولا يلبث أن يتذكّر كلّ المهازل الّتي أحاطت بعمل المجلس الوطني التأسيسي، فلا يثير ذكره غير القهقهة.
للولايات المتّحدة من الآباء المؤسسين جورج واشنطن وجون آدامز وتوماس جيفرسون وبنيامين فرانكلين وغيرهم من العمالقة. من لنا نحن، لا ممّن يستحقّون تشييد التماثيل فالأكيد أنّنا لم نصل إلى هذه الدرجة،  بل حتّى ممّن يستحّق قدرا من التوقير والاحترام؟
قد ضاعت مع دستور 1959 فرصة تاريخيّة، فهو دستور جاء في لحظة فارقة (استقلال البلاد) وكان واضعوه يحظون باحترام كبير لدى عموم الشعب. لكنّ هيبة دستور 1959 تمزّقت أشلاء قبل أن يعلّق العمل به بوقت طويل…منذ أن احتكره المرحوم الحبيب بورقيبة لنفسه منّصبا ذاته ‘أبا الآباء” ومبيحا أن يقع انتهاكه بسلسلة من التعديلات الّتي سلبته جوهره، وعلى رأسها الرئاسة مدى الحياة.
سيكون لنا دستور، عاجلا أو آجلا، ولكن أن ننتظر منه الدوام، فذلك أقرب إلى الأوهام، فواضعوه جعلونا كالأيتام في مأدبة اللئام. وسيكون من المحال، أو من الأحلام بعيدة المنال، أن ننتظر أن تكون لهذا الدستور هيبة، فالأرجح أن يكون دستور الخيبة.

الرابط على تونس الفتاة

الأربعاء، 26 ديسمبر 2012

ثورتنا وضياع المعنى

لا شيء عاد له معناه. اللغة العربية/اللهجة الدارجة/الفرنسية المعدّلة تونسيا كلّها بحاجة إلى أن تعيد اكتشاف نفسها حتّى تجد معنى في عالم اللامعنى. إذا تصفّحت جريدة أو موقعا أو صفحة من صفحات الفايسبوك أو شاهدت قناة تنتسب إلى تونس (إسما أو مكانا)، عليك أن تستعين بمعجم (لم يكتب بعد) للـ”ثورة التونسية” المجيدة المباركة.
إذا شاهدت عنوان فيديو “فلان يلقّن فلتانا درسا لن ينساه”، فاعلم أنّ الدرس المقصود هو على الأرجح درس في قلّة الأدب. وإذا رأيت آخر عنوانه “فلتان يمسح بفلان الأرض”، فاعرف أنّه كذلك قد مسح الأرض بكلّ آداب الحوار. إذا تحدّث أحدهم عن “اليسار الكافر العلماني الماسوني المتصهين أيتام فرنسا”، فيمكن أن يعني بذلك مناضلا شرسا من الّذين صمدوا لإعلاء شأن حقوق الإنسان ايّام كانت الكلمة محرّمة. إن هاجم شخص أحد “أزلام النظام البائد ورموز الثورة المضادة” فقد يكون مرماه موظّفا كفؤا وجد في يوم من سنة خلت بطاقة انخراط حمراء فوق مكتبه. إن شتم أحدهم “سلفيا وهابيا ظلاميا من غلمان قطر”، قد يكون يقصد شابا متحمّسا لنصرة دينه. إذا صاح آخر بأعلى الأصوات مطالبا بالتنمية لجهته، فاعلم أنّ في تصرّفاته خرابها. إذا تهجّم فرد على “الكسالى المخرّبين أعداء الشعب”،  فمن المحتمل أنّه يقصد مضطَهدين أعياهم طول التجاهل. إذا تحدّث غيره عن “إعلام العار” فالأمر يتعلّق بحقيقة أحسن أحد الصحفيين نقلها. أمّا إذا رأيت على فيديو أو صورة عبارة “عاجل” أو “خطير” أو “مؤامرة” فاعلم أنّ الدقائق الّتي ستقضيها في المشاهدة هي دقائق ضائعة من عمرك..
كلّ هذا غيض من فيض. كلّ عبارة تقريبا يقع تداولها إعلاميّا لا تعني نفس الشيء لدى قائلها وقارئها والمستمع إليها، بداية طبعا بعبارة “ثورة”، فضلا عن حمايتها وتحصينها وشهدائها وجرحاها وأعدائها وعدالتها الانتقالية. لكي تنطق بعبارة ما، يجب عليك إذا أردت ألا يخطئ المتلقّي معناك أن تضيف “دليلا” إلى كلامك. مثلا، ليست “المؤامرة” (نسخة الترويكا) هي “المؤامرة” (نسخة المعارضة “الديمقراطية”) ولا هي “المؤامرة” (نسخة المعارضة “التقدّمية”). الكلّ متّفق على وجود المؤامرة، ولكنّ كلّ طرف يجزم أنّها ضدّه.
تقرير المعاني لا يتمّ وفق “المنطق” كما وضعه المرحوم أرسطو، بل وفق “منطق” الاصطفاف التلقائي وراء رأي الجماعة الّتي ينتمي إليها المتكلّم. الصواب ما رأته هذه الجماعة والخطأ في كلّ ما جانبه، ولا داعي أن تكلّف نفسك عناء التفكير، فقط اختر انتماءك وستجد اختياراتك تتقرّر دون أن تحتاج إلى تقريرها. الأمر تماما كما قال الشاعر الجاهلي:
وَهَـل أَنـا إِلّا مِـن غَزِيَّةَ إِن غَوَت …غَـوَيتُ  وَإِن تَـرشُد غَـزيَّةُ أَرشَدِ
غير أنّ غزيّة هذه لم تعد فقط قبيلة، يمكن أن تكون حزبا أو حركة أو “منظّمة وطنيّة” أو جمعيّة أو جهة…هي انتماء يمنح حقّ الصراخ في محيطك المتكهرب المتشنّج…هي منطق من فرّقوا وطنهم وكانوا شِيَعا…منطق من يلقون جانبا بجميع ما يوحّدهم ويمسكون بخناق التفصيل الواحد الّذي يفرّقهم…هي فوضى من المعاني الّتي يلهث فيها الفرد بحثا عن الجماعة الّتي تقاسمه نفس الفهم (تقريبا) للكلمات، حتّى إن ضحّى في سبيل ذلك بشيء غير قليل من حريّة فكره…قد يكون هذا الاصطفاف شبه الطائفي وراء معنى معيّن طبيعيّا في مجتمع يعاني منذ عقود من مشاكل جمّة في تحديد هويّته…قد تكون فوضى المعاني هذه عاديّة في ظلّ هذا المخاض “الثوري” الّذي تعيشه البلاد. ..المهمّ أن يكون المولود معنى واحدا يفهمه المواطنون، جميع المواطنين، بنفس الطريقة.

الرابط على تونس الفتاة:

الاثنين، 29 أكتوبر 2012

من يعدنا بالدماء والدموع والعرق ؟


منذ الأيّام الأولى الّتي تلت 14 جانفي، صاحب طوفان الأحزاب المتكوّنة حديثا طوفان مماثل للوعود…وعود أصبحت بمثابة الخبز اليومي لمّا اقترب موعد الانتخابات: الخبزة بـمائة مليم، نسب نموّ قياسيّة، تشغيل مئات الآلاف من العاطلين، المداواة المجانية للجميع…وبرز في خضمّ ذلك الشعار العجيب “توّة”: كلّ شيء يجب أن يتحقّق الآن وفورا. والحقيقة أنّ “توّة” هذه لم تكن مجرّد شعار لحملة انتخابيّة يقوم بها أحد الأحزاب، بل هي تكريس لثقافة متغلغلة في المجتمع انفجرت في ظلّ الأوضاع الّتي عرفتها البلاد في الفترة الأخيرة. لم يعد من المهمّ كثيرا أن تكدّ وتعمل وتكدح وتزرع حتّى تحصد، بل يكفي أن تصيح وتعتصم كي تجد مطالبك ملبّاة حالا (انظر مقالنا: الثورة وقيم التقحيف)
والبحث عن الحلول السحريّة الّتي تحقّق الأماني في ثوان، كمصباح علاء الدين، ليس بالشيء الجديد. وظاهرة “الحرقان” إلى الجنّة الموعودة للعودة بثروة خياليّة في وقت قصير لم تكن خافية. ولعلّ نجاح الثورة في الإطاحة برأس النظام في أمد قصير، وبطريقة تكاد تكون عجائبيّة (فرار مفاجئ لم تفهم دواعيه الصحيحة إلى اليوم) زاد في تعميق مثل هذه الأفكار الّتي سعت عدّة أطراف سياسيّة إلى توظيفها: البطالة حلّها في ليبيا الّتي أصبحت تحتاج بقدرة قادر إلى مئات الآلاف من العَمَلة، الاستثمارات سيتكفّل بها أشقّاءنا في الخليج وفي قطر خاصة، ثروات كانت مجهولة من النفط والغاز ترقد تحت تراب ولاية القيروان…وجاء أحدهم ليغازل بوقاحة فجّة أحلام الغرائز المكبوتة في الجميلات الحسان ممّن ملكت الأيمان. كلّ هذا والوضع الاقتصادي والاجتماعي على الهشاشة الّتي يعلمها الجميع وهو ما يذكّر بعبارة هربرت هوفر (رئيس الولايات المتّحدة بين 1929 و1933) الّذي كان يردّد أنّ “الرخاء ينتظرنا عند المنعطف الأوّل للطريق” فكان أن غرقت بلاده، بعد أشهر معدودة من انتخابه، في أكبر أزمة اقتصادية في تاريخها وما لبثت أن امتدّت آثارها إلى العالم بأسره.
كان من المفروض أن يكون تخلّصنا من القيود الّتي كبّلتنا طيلة عقود فرصة تاريخيّة  لكي نرسم معا وطننا كما نحلم به، وطنا ناهضا متقدّما لا يجوع فيه أحد ولا يعرى. وكنّا ننتظر أن يضع من انتخبناهم للتأسيس اللبنة الأولى لحلمنا، ولكنّهم تاهوا وتوّهونا في نقاشات بيزنطيّة حول السلفيّة والعلمانيّة، والشريعة والدولة المدنيّة، والمصالحة والعدالة الانتقاليّة، والشرعيّة والمشروعيّة، والصفر فاصل والأغلبيّة…(انظر مقالنا: نحو مجلس تأسيسي لا يؤسّس) وكلّهم يسترضي جمهور الناخبين ويداهنه ويتملّقه ترقّبا لموعد جديد يوصل/يبقي في كرسيّ الحكم السعيد. ولم يحفل أحدهم بأن يقدّم مشروعا جادا يلتفّ حوله عموم التونسيين واثقين أنّ عليهم أن يقدّموا الجليل من التضحيات وأن يسموا فوق نفوسهم كي يروه في يوم، ربّما قد يبعد كثيرا، واقعا تطاله اليدان.
لسنا في حاجة إلى من يعدنا أن تمطر السماء ذهبا وفضّة، وأن يبيعنا سهل الريح. كلّ دقيقة من الخمول في هذه اللحظة الفارقة من تاريخنا ستكون نتيجتها سنين من المعاناة للأجيال القادمة. نحن في حاجة إلى من يعدنا، كما فعل ونستون تشرشل في أول خطبه بعد توليه رئاسة الوزراء في بريطانيا، بالدماء والدموع والعرق.

الرابط على تونس الفتاة:

الخميس، 17 مارس 2011

"...الإسلام دينها": مجرّد سوء تفاهم

جدل كبير يثار هذه الأيّام حول العلمانية في تونس. ولعلّ المظاهرة التي انتظمت بسوسة مطالبة بالعلمانيّة والتي حاول البعض من أنصار الاتجاه المخالف إيقافها رغم طابعها السلمي هي ما أججّ هذا الجدل الّذي يبدو لي، عموما، حوار صمّ، إذ أنّ كلا الطرفين يرفض سماع الآخر رغم أنهما يتشاركان عدّة أفكار، فأنصار أن يكون الإسلام دين الدولة (وسأسميهم، تجاوزا، بـ"الإسلاميين") يطلبون ما تفترضه العلمانيّة ومع ذلك يماهون بين العلمانية والكفر و الإلحاد والسعي لطمس الهويّة، و العلمانيون لا يمانعون بعض النتائج المترتّبة عن كون الإسلام دين الدولة، ورغم ذلك يتهمون "الإسلاميين" بالتطرف و الإرهاب والسعي إلى إقامة دولة دينيّة شمولية.

وفي الحقيقة، يبدو أنّ المشكل الحقيقي هو مشكل ثقة أساسا، له ما يبرّره في تجارب شعوب أخرى، وحتّى في تجربة شعبنا التونسي. فـ"الإسلاميون" يخشون أن تؤدي العلمانيّة إلى حركة معادية للتديّن، كعلمانيّة أتاترك، أو كعلمانيّة الأنظمة الشيوعيّة سابقا، أو كإحدى مظاهر العلمانيّة الفرنسيّة المتمثّلة في منع الحجاب في المدارس ومنع البرقع في دول أروبيّة أخرى. و العلمانيون من جهتهم يفرقون من أن يؤدي اعتبار الإسلام دين الدولة إلى حركة إجبار على التديّن واعتداء على الحريات وتخلّ عن مكتسبات المرأة وتطبيق جامد للشريعة، و أمثلتهم في ذلك النظام الإيراني و النظام السعودي حاليا و عدد كبير من الأنظمة الدينيّة في الماضي.

و تجاوز هذا الخلاف لا يطرح في نظري مشاكل كبيرة. يكفي فقط أن يسمع كلّ طرف الطرف الآخر. لا أتصوّر أنّ العلمانيين يعارضون أن تموّل الدولة بناء المساجد وأن توجد مصليات بالجامعات وأن يسمح بارتداء الحجاب وإطلاق اللحية ( وغيرها من مظاهر التديّن) وأن تكون الأعياد الدينيةّ عطلا رسميّة وأن لا يقع التضييق على المتديّنين. ولا أتصوّر أنّ "الإسلاميين" يمانعون أن يكون التديّن أمرا شخصيّا خاصا بصاحبه لا يقع فرضه على أحد، يصلّي من أراد أن يصلّي و "يفسق" من أراد ان يفسق طالما لم يضرّ ذلك بحريّة أحد، ولا أتصوّر أنّهم يطالبون في برامجهم السياسية بتطبيق الشريعة بالمعنى التقليدي الّذي يشمل الرجم و الجلد و قطع اليد (و قد أكّد عدد من قادة حزب النهضة أنّ حزبهم لا يدعو إلى تطبيق الشريعة) أو العودة إلى تعدّد الزوجات و الطلاق بإرادة الزوج المنفردة.

لا أتصوّر إذن أنّ هناك ما يمنع من المحافظة على عبارة "الإسلام دينها" في الفصل الأوّل من الدستور، على أن يتمّ تحديد محتوى هذه العبارة بوضوح في نص الدستور ذاته أو في ميثاق (له قيمة دستورية) توافق عليه كل الأطراف لكي لا يمكن التراجع عنها و لا يستخدم هذا الفصل كذريعة للتطبيق الآلي و الجامد للشريعة. و يجدر التذكير أنّ عددا من الدول الاسكندينافية تقرّ بوجود دين للدولة ومع ذلك هي أكثر الدول ضمانا للحريات و الحقوق الفرديّة. لا أتصوّر أنّ هناك ما يمنع من الوصول إلى مثل هذا التوافق، إلا الغلوّ من كلا الطرفين. ومن الأكيد أنّه ستبقى، حتى مع وجود مثل هذا الاتفاق، نقاط إشكاليّة كثيرة (كالمساواة في الإرث) يجدر ترك الفصل فيها للشعب بالوسائل الديمقراطيّة.

الخميس، 3 مارس 2011

ما بقي من مواطن الاختلاف

استقال السيّد محمد الغنوشي يوم الأحد، و سيحكم التاريخ على ما قام به سلبا أو إيجابا. أرى أنّه تحمّل المسؤولية عندما قبل البقاء على رأس الحكومة في فترة صعبة و تحمّل المسؤولية لمّا استقال في فترة أصبح وجوده يقف عائقا أمام هو عمل الحكومة...قام بعمل كبير و لعلّ معضلته و معضلة حكومته، إضافة إلى التردّد في بعض القرارات، هي الفشل الذريع في التواصل الإعلامي مما ترك مناطق ظل عديدة في عمل الحكومة أدّت إلى زعزعة الثقة فيها. استقال الغنوشي، و تلت استقالته استقالة عدد من الوزراء، منهم من كان منتميا إلى "العهد البائد" و منهم من كان منتميا لأحزاب، و هو ما كان يتعارض مع كون الحكومة حكومة تكنوقراط. و بابتعاد هؤلاء عن كراسي الوزارات، انتهى أحد أكبر مواطن الخلاف في الشارع التونسي الذي كان منقسما أساسا بين مؤيدي الحكومة و معارضيها. و عيّن الباجي قائد السبسي وزير أوّل، و لا أظنّ أنّ كفاءته و خبرته السياسية موضع خلاف، و لم أسمع اعتراضا جدّيا على تعيينه، سوى رفض الاتحاد له بدعوى أنّه لم تقع مشاورته في التعيين، ثمّ تراجع بعد ذلك بعد أن تمّ القبول بكل الشروط التي وضعها. في كل الأحوال، لا توجد أي شخصيّة في تونس قادرة اليوم على تحقيق الإجماع حولها لقيادة الحكومة في هذه المرحلة الحاسمة.

و في انتظار إعلان التركيبة الجديدة للحكومة (التي ستكون إثر مشاورات، و لا أتصوّر أن تكون محل خلاف كبير بعد خروج الوجوه "الإشكاليّة" منها)، لا أرى أنّه ما زالت توجد خلافات كبيرة تمزّق المجتمع التونسي في الفترة الحاليّة إلا تعنّت بعض الأطراف...هناك شبه إجماع حول ضرورة القطع مع دستور 1959 و مؤسساته (و تحديدا مجلس النواب و مجلس المستشارين) و انتخاب مجلس تأسيسي يضع دستورا جديدا للبلاد. و الجميع متفقون حول ضرورة إيقاف نزيف المطالب القطاعية و إعادة الأمن إلى البلاد. الخلافات المتبقيّة تهم تفاصيل هامشيّة، و لكنّ طريقة عرضها المتشنجة و الإصرار عليها بعناد هو ما يجعلها تبدو كأنها خلافات عميقة. و لعلّ هذه الخلافات تكمن فيما يلي:

- المطالبة بنظام برلماني: من الطبيعي أن تكون الديمقراطيّة مطلبا شعبيّا، و لكن من غير المعقول بتاتا أن يكون النظام البرلماني كذلك. الكثيرون ممّن يطالبون به لا يفقهون منه شيئا سوى أنّه غير النظام الرئاسي، و من غير المتأكّد أن يكون هو النظام الأصلح لبلادنا. و ثمّ ماذا يبقى للمجلس التأسيسي إذا تمّ تقييده سلفا بشكل نظام معيّن؟ من الأفضل إذن ترك هذه النقطة للمجلس التأسيسي الذي سيحدد ،مستعينا بخبراء، النظام الأصلح لتجسيم الديمقراطية في مجتمعنا. و ليختر الناخبون ممثليهم حسب النظام الّذي يدعون إليه.

- تنظيم الفترة الانتقالية: إلى حين انتخاب مجلس تأسيسي، هل سيتم العمل بدستور 1959 أم لا؟ من الأكيد أنّ دستور 1959 فصّل على مقاس النظام، إلا أنّ القطع الفوري معه قد يعني نفي كل شرعية، بما في ذلك شرعية الرئيس المؤقت مما يهدد استمرارية الدولة. في هذا الإطار، اقترح الأستاذ قيس سعيّد مشروع أمر ينظّم مؤقتا السلط العمومية (http://www.assabah.com.tn/article-50000.html)، على غرار ما وقع في 1957، يمكّن من المحافظة على استمراريّة الدولة و في نفس الوقت يقطع مع دستور 1959.

- المجلس الوطتي لحماية الثورة: قبلت الحكومة بإنشاء هذا المجلس و اقترحت مشروع مرسوم ينظّمه، و لكن هذا المجلس رفض هذا المشروع و طلب تعديله مصرّا على طابعه التقريري (http://www.assabah.com.tn/article-50246.html). و هو تعنّت في غير محلّه. فهذا الطابع التقريري سيعني أنّ الحكومة ستتحوّل إلى مجرّد منفّذ لقرارات المجلس (الذي ليست له شرعية سوى مرسوم إحداثه و لا يملك مشروعية انتخابيّة، و العديد من المواطنبن يرفضون وجوده). الطابع الاستشاري في الظروف الحالية لن يقلّ أهمّية عن الطابع التقريري، بما أنّ الحكومة لن يمكنها تجاهل رأي المجلس في أي قرار من القرارات، و إلا ستصبح مهدّدة بالإسقاط كسابقتها.

إن تجاوز هذه الخلافات لا يتطلّب سوى حدّ أدنى من التنازلات للتوصل إلى تسويات تكون مقبولة من الجميع و تمكّن من عبور هذه المرحلة الانتقالية نحو الجمهوريّة الثانية. ربّما يكون المشكل الأكبر داخليا يهم اللاعب الأساسي الآن في الحياة السياسية و الاجتماعية في البلاد: الاتحاد العام التونسي للشغل. ما زالت قيادات هذه المنظمة العريقة التي لا يشكّك أحد في دورها التاريخي من الوجوه المتورطة مع النظام السابق (سياسيا على الأقل، في انتظار انجلاء الغموض عن تهم الفساد المالي). و مع ذلك، بقيت هذه القيادات تنشط، بل و تدّعي تزعّم الثورة، دون أن يطرح تنحّيها من قيادة الاتحاد، و هو ما يجعل الريبة تسود فيما يتعلّق بالدور الّذي يلعبه الاتحاد في هذه المرحلة.

الاثنين، 14 فبراير 2011

قراءة في إحداث المجلس الوطني لحماية الثورة

صدر اليوم بلاغ إعلامي (http://www.facebook.com/photo.php?fbid=176773552367904&set=a.101927069852553.961.100001057812095) يوضّح مهام الهيئة التي وقعت تسميتها "المجلس الوطني لحماية الثورة". هذا البلاغ يحمل توقيع عدة أطراف من المجتمعين المدني و السياسي. و يشكّل هذا المجلس على ما يبدو ثمرة مفاوضات تلت مبادرة أحمد المستيري منذ الأيام الأولى لسقوط النظام، و رغم أن الإعلان عن هذا المجلس تأجل أكثر من مرّة، إلا أنّه ما زال يطرح في صيغته المعلنة تساؤلات عديدة حول تركيبته و حول صلاحياته.

1)

يضم المجلس عددا من المنظمات و الأحزاب. و باستثناء الاتحاد العام التونسي للشغل، فمن الصعب القول أنّ بقيّة المنظمات الموجودة في المجلس تملك قاعدة عريضة فعدد منها له صبغة قطاعية (كعمادة المحامين و جمعية القضاة) و لا تمثّل إلا عددا محدودا من أعضائها. كما أنّه من الملاحظ أنّ هذه التركيبة تشهد غيابا لمنظمات كانت ناشطة بقوّة و تعرّضت للقمع في ظل النظام السابق (كرابطة حقوق الانسان و جمعية النساء الديمقراطيات).

و في خصوص الأحزاب، فإنّ عددا من الممثلين منها في هذا المجلس "تنويعات" على نفس الاتجاه (التيار البعثي/حركة البعث، الوطنيون الديمقراطيون/حركة الوطنيين الديمقراطيين) و من غير المرجّح، على ما أظنّ، أن يكون لها وزن هام في الشارع التونسي. كما أنّ عددا من الأحزاب "القديمة" غير موجود في هذه التركيبة، و إن كان يمكن تفسير ذلك بالطابع الديكوري لبعضها، فإنّ بعضها الآخر قد غيّر قياداته (كالديمقراطيين الاشتراكيين و حزب الوحدة الشعبية) معبّرا عن رغبة عن القطع مع ماضي الموالاة. و يلاحظ كذلك أن الأحزاب الموجودة في الحكومة غير ممثلة في المجلس، و لا أدري إن كان ذلك تعبيرا عن رغبتها أم عقابا لها على تواجدها في الحكومة.

عموما، يمثّل هذا المجلس أطيافا متعدّدة من المشهد السياسي من اليسار إلى اليمين (مع ميل على ما يبدو إلى اليسار) و عدة منظمات من المجتمع المدني و يبدو أنّ اتحاد الشغل سيشكّل مركز الثقل في المجلس. و لعلّ هذه التركيبة مرشّحة للتوسّع بما أنّ البلاغ يتحدّث عن ممثلين للجهات (دون تحديد واضح لكيفيّة اختيارهم) و بما أنّ المستقلين غابوا عنه، و على رأسهم أحمد المستيري صاحب مبادرة إحداث المجلس.

2)

إنّ المهام الّتي يوكلها هذا المجلس لنفسه تجعل له صلاحيات واسعة. و في جانب منها، تتماهى هذه المهام مع الدور الّذي من المفروض لأن يقوم به البرلمان : مراقبة الحكومة، المبادرة بالإصلاحات (يشبه المبادرة التشريعية) و السلطة التقديريّة في المصادقة على "التشريعات" (كذا، و الأصح: المراسيم). و بما أن عدم مشروعية البرلمان الحالي تكاد تكون محل إجماع، فإنّ إسناد مهامه إلى هذا المجلس (الّذي يملك تمثيليّة تفوق بكثير تمثيليّة البرلمان) مشروع ، و يمكن إيجاد شكل قانوني لهذا المجلس حتى إذا سلمنا جدلا أن دستور 1959 لا يزال حيز النفاذ.

و تجدر الإشارة أنه رغم أنّ هذا المجلس ليس بديلا للحكومة حسبما يبدو من عبارات البلاغ (بما انه لا يدعو لإسقاطها، و يراقب أعمالها، و يطلب إحداثه عن طريق مرسوم صادر عن الرئيس المؤقت)، فإنّ بعض المهام المسندة إليه تجعله يقتسم بعض الأدوار مع الحكومة كما يتجلّى ذلك في تزكية المسؤولين في الوظائف السامية، و هو ما قد يضفي مشروعية على عمل الحكومة العاجزة عن كسب ثقة الشارع إلى الآن، إضافة إلى تدخله في تحديد تركيبة و مهام اللجان (التي لم تحدد الحكومة إلى الآن مهامها بشكل واضح).

إنّ هذا المجلس الممثل للمجتمع المدني و السياسي يجد شبيها له في المؤتمرات الوطنية التي ساهمت في انجاح الانتقال الديمقراطي في عدد من الدول الإفريقية منذ نهاية الثمانينات (مع فرق جوهري يتمثل في كون المؤتمرات أعلنت نفسها سلطا تأسيسيّة، و هو ما لم يبح به مجلس حماية الثورة، إلى الآن على الأقل) و يرتبط نجاح المبادرة بقبول الحكومة المؤقتة لها (مع التذكير أنّ الرئيس المؤقت رفض مبادرة أحمد المستيري الأولى)، فإن تم الإصرار عليها حتّى أن رفضتها الحكومة قد يؤدي إلى وجود هيئتين متنازعتين، و هذا الرفض يبدو غير مرجّح نظرا لأنّ وضعيّة الحكومة الحالية لا تسمح لها أن لا تقبل بمثل هذه المبادرة. و في حالة إقرارها، يصبح وجود مؤسسات مثل البرلمان الحالي غير ذي معنى، و لعلّ الحلّ يكمن في الاعتراف بأنّ ما حدث في تونس ثورة بالمعنى الدستوري للكلمة، و بالتالي الإقرار بأنّ دستور 1959 لم يعد حيز النفاذ.

السبت، 29 يناير 2011

ما بعد التركيبة الجديدة الحكومة...أيّ دور لمجلس النواب؟

أعلنت مساء الخميس التركيبة الجديدة للحكومة المؤقّتة. و قد استجابت هذه التركيبة لضغط الشارع و أبعد منها الوزراء الّذين كانوا منتمين للتجمّع الدستوري الديمقراطي، باستثناء ثلاثة وزراء (من بينهم الوزير الأوّل) لم يعارض الإتحاد العام التونسي للشغل في بقائهم. يبدو أنّ التركيبة الجديدة هدّأت من غضب الشارع، و إن لم تطفئه تماما. و لنفترض جدلا أنّ الشارع رضي بهذه الحكومة وأنّه لن يقع القيام بمظاهرات و اعتصامات ضدّها في حجم تلك الّتي وقعت قبل الإعلان عن التركيبة الجديدة و أنّه سيقع المضي قدما في الانتقال الديمقراطي.

إنّ بعض الإجراءات الهامة لإنجاح الإنتقال الديمقراطي هي إجراءات تشريعيّة. و في هذا الصدد، هناك مشاريع قوانين أقرّتها الحكومة بعد (مثل مشروع العفو التشريعي العام) و هناك ما ترك النظر فيه للجنة الإصلاح السياسي (كتعديل المجلّة الإنتخابيّة و قانون الأحزاب و قانون الصحافة...). تتطلّب هذه الإجراءات تدخّل البرلمان، لكن هل يمكن أن ننتظر من البرلمان المساهمة في إنجاح الانتقال الديمقراطي؟

إنّ الغرفة السفلى للبرلمان، أي مجلس النواب، تتكوّن بكاملها تقريبا (باستثناء نائبين من حركة التجديد) من نواب موالين لنظام الرئيس السابق (75 بالمئة من أعضاء التجمّع و الباقون من الأحزاب الّتي كانت تدور في فلكه). منطقيّا، لا يمكن تصوّر مصلحة شخصيّة للنواب في إقرار مثل هذه القوانين. و رغم أنّ مجلس النواب لم يعترض يوما على قانون اقترحه رئيس الجمهوريّة، فإنّه لا يمكن التعويل على وفاء المجلس لـ "دوره التاريخي" لإقرار مشاريع القوانين المعروضة عليه، و ذلك في ظل الظروف الاستثنائيّة الّتي تعيشها تونس. سيبقى إقرار هذه القوانين رهين حسن نيّة النواب (و المستشارين في مرحلة ثانية، إذا صادق مجلس النواب) و إن لم تتوفّر هذه النيّة الحسنة، و من المنطقي جدّا أن لا تتوفّر، فسيقع الإبقاء على القوانين السارية اليوم، و هو ما سيجعل عمليّة الانتقال الديمقراطي عسيرة للغاية، أو ربّما مستحيلة خصوصا في ظل الأحكام الحالية للمجلّة الإنتخابية و أساسا الفصل 66 منها الّذي يشترط تزكية 30 نائب أو30 رئيس بلديّة للمترشّح لرئاسة الجمهورية، و ما من حزب اليوم باستثناء التجمّع يملك هذا العدد،أي أنّ إتمام الانتقال الديمقراطي إذن مرتبط بإرادة أعضاء الحزب الّذي ينادي المواطنون في الشوارع بسقوطه !

أ لا يمكن إقصاء مجلس النواب من هذه الإجراءات؟ إنّ رئيس الجمهورية يمكن له إتخاذ مراسيم يصادق عليها البرلمان أو أحد مجلسيه لاحقا لكن القيام بمثل هذا الإجراء، فيما عدا المراسيم الّتي يتخذها رئيس الجمهوريّة أثناء العطلة البرلمانيّة (الفصل 31)، يمرّ وجوبا عبر تفويض من البرلمان (الفصل 28 فقرة 5) ، و هنا نعود إلى الإرتباط بالنيّة الحسنة لأعضاء مجلسيه ! كما أنّ حلّ مجلس النواب في فترة رئاسة مؤقتة تالية لشغور منصب الرئاسة يمنعه الفصل 57 من الدستور الذي ينص في فقرته الرابعة: "ويمارس القائم بمهام رئيس الجمهورية بصفة مؤقتة المهام الرئاسية على أنه لا يحق له أن يلجأ إلى الاستفتاء أو أن ينهي مهام الحكومة أو أن يحل مجلس النواب أو أن يتخذ التدابير الاستثنائية المنصوص عليها بالفصل 46فضلا عن أنّ حل المجلس ليس من الحالات الّتي يمكن فيها لرئيس الجمهورية اتخاذ مراسيم إلا إذا كان الحل تاليا للائحة لوم ثانية ضد الحكومة يصادق عليها مجلس النواب (الفصل 63).

(ملاحظة: يجدر إعتبار إعلان الرئيس السابق في آخر أيام حكمه عن تنظيم انتخابات تشريعية سابقة لأوانها في ظرف ستة أشهر غير ذي أثر قانوني لأنّه لم يقع لا التصريح بحل مجلس النواب و لا تم المرور عبر تعديل للدستور للتخفيض من المدّة النيابية للأعضاء الحاليين للمجلس المحدّدة بخمس سنوات)

هنا، نحن أمام مأزق لا يمكن الخروج منه إلا إذا أبدى أعضاء مجلس النواب حسن نيّتهم و هو ما لا يمكن التعويل عليه.

لعلّ الحلّ يكمن في ترتيب النتائج الناجمة عن كون ما وقع بتونس ثورة بالمعنى الدستوري للكلمة، أي أنّ هناك قطيعة حدثت مع كل مكونات النظام الّذي كان سائدا في الفترة السابقة بما في ذلك الدستور. و بذلك يقع اعتبار دستور 1959 غير موجود (بما يتضمنّه من مؤسسات و منها مجلس النواب). و في هذه الحالة، يجب وضع دستور جديد للبلاد. و الطريقة الأكثر ديمقراطيّة لذلك تتمثّل في الدعوة إلى مجلس تأسيسي منتخب يعدّ هذا الدستور (الّذي يمكن أن تتم المصادقة عليه فيما بعد عن طريق استفتاء). لكن ليكون هذا الحل قابلا للتطبيق ينبغي التساؤل عن مشروعية السلطة الّتي ستدعو إلى هذا المجلس، فإذا افترضنا أنّها الحكومة الحالية، فإنّنا سنكون أمام مفارقة لأنّ شرعية هذه الحكومة تستند إلى دستور 1959 نفسه الّذي تم اعتباره في هذه الحالة لاغيا ! إنّ إقرار مثل هذا الحل يقتضي قبول الشعب بدور جديد لهذه الحكومة تقوم فيه لا بالإعداد لانتخابات رئاسية في ظرف 60 يوما كما يقتضي ذلك دستور 1959، بل بالإعداد لانتخاب مجلس تأسيسي يضع دستورا جديدا للبلاد، بما يتطلّبه ذلك من سن قوانين وقتيّة تضعه الحكومة نفسها لضمان حصول الانتقال الديمقراطي في أفضل الظروف و على رأسها قانون انتخابي.

الجمعة، 21 يناير 2011

تساؤلات حول الحكومة المؤقتة

لا يهمّ أن ضمّت حكومة الوحدة الوطنيّة المؤقتة وجوها من التجمّع الدستوري الديمقراطي (الّذي أرى أنّه يسير في طريق الاضمحلال، إن لم يقع حلّه)، لكن الشرط الأوّل الّذي ينبغي التقيّد به في اختيارهم هو أن يكونوا ممّن يبعثون على الثقة، أي أن يكونوا من أهل الكفاءة العالية و من الشرفاء الّذين لم يعرف عنهم ضلوع في الفساد و ذلك حتّى يتوفّر الحد الأدنى من الثقة في ظلّ رفض من عدد كبير من المواطنين لأيّ حكومة يكون أعضاد الرئيس السابق طرفا فيها، و لكن الحكومة بتركيبتها الحالية تضمّ وزراء يشكّ في توفّر هذا الشرط فيهم...من المريب أن تضمّ هذه الحكومة المنصف بودن الّذي قامت مظاهرات ضدّه و اتّهم بتقديم تسهيلات للطرابلسية عندما كان مديرا عاما للجباية. من المريب أن يكون رضا قريرة وزيرا و هو الّذي يشكّ في ضلوعه في التفويت في أملاك للدولة أيّام كان وزيرا لأملاك الدولة. من المثير للشك وجود المنصر الرويسي وزيرا و هو الّذي تغاضى عن الانتهاكات العديدة لحقوق الإنسان عندما كان رئيسا للجنة العليا لحقوق الإنسان. من المريب التمسّك بأحمد فريعة وزيرا للداخلية و هو البعيد كل البعد في تكوينه و مسؤولياته السابقة عمّا يهمّ هذه الوزارة و بعد خطابه الكارثي، مع احترامي لما عرف عن الرجل من نزاهة و قيمة علميّة في ميدانه.

قد تكون هذه "التهم" باطلة و لكنّ هذا لا يهمّ الآن، بل أنّ الأوكد هو تحقيق ثقة الشارع في هذه الحكومة. من الواضح أنّ هذه الحكومة هشّة للغاية و أنّ أيّ هزّة قد تطيح بها، و مع ذلك يقع الإصرار على الاحتفاظ بهؤلاء الوزراء و كأنّ الوحدة الوطنية لا يمكن أن تتحقّق إلا بوجودهم. يضاف إلى ذلك تباطؤ الوزراء في تقديم استقالتهم من التجمّع (و عدم الإعلان إلى الآن عن استقالة كتّاب الدولة منه) في حين أنّ هذه الاستقالة مطلب أساسي لأكثر من طرف لكي يقبل بالحكومة. كما أنّه لم يتمّ تحديد ميعاد إجراء الانتخابات الرئاسيّة في حين أنّه، إذا افترضنا أنّه سيقع الالتزام بشرعيّة دستور 1959، الواجب الأوّل للرئيس المؤقّت و حكومته و أنّها يجب أن تتمّ في أجل لا يتجاوز 60 يوما.

ثمّ أنّ السياسة الإعلاميّة للحكومة لم تنجح في إبعاد الشائعات لأنّ المعلومات الّتي تقدّمها المصادر الحكوميّة غير واضحة و غير مواكبة للأحداث. على سبيل المثال، لم يتمّ الإعلان رسميّا عن ماهية العصابات الّتي أثارت الرعب في البلاد و لا عن هويّة المقبوض عليهم منها و لا عددهم. تمّ تناقل فيديو في الانترنت يرى فيه عماد الطرابلسي على قيد الحياة دون ان تؤكّد الحكومة مقتله من عدمه. لم يتمّ الحديث رسميّا عن تتبّعات أو اجراءات اتخذت ضد أفراد عائلة الطرابلسي رغم أنّه قد تمّ تناقل إيقاف بعض أفرادها. أكّد البعض عن أنّ مخزون الذهب في البنك المركزي قد نقص فعلا بطنّ و نصف و لم يفلح الإعلام الرسمي في القضاء على هذه الشائعة في ظل توفّر معلومات مغايرة على الانترنت. تمّ نقلة قاضي التحقيق الّذي عهد إليه التحقيق مع علي السرياطي إلى وظيفة أخرى دون توضيح سبب نقلته، و هو الّذي حامت شبهات حول نزاهته. لم يتمّ الإعلان عن القيام بأيّ تتبّع ضد الرئيس السابق و زوجته و أموالهما الّتي بالخارج رغم أنّ سويسرا و الاتحاد الأروبي بادرا بتجميد الحسابات الموجودة لديها.

تحيط إذن نقاط ظلّ عديدة بعمل هذه الحكومة، من واجبها تسليط الضوء عليها و إيضاحها للعموم و إلا فإنّها لن تلقى من الشارع التونسي إلا الرفض و المعارضة و هو ما سيحول دون استمرارها، و حتى إن استمرّت، سيعطّل قيامها بأعمالها.

الثلاثاء، 18 يناير 2011

حتى لا تنحرف الثورة

لا شكّ في أنّ التجمّع الدستوري الديمقراطي حزب كان ينخره الفساد و أنّه قام بتجاوزات خطيرة للغاية في حق الشعب التونسي و أنّه يجب أن يقع حلّه. لكن، شئنا أم أبينا، فإنّ هذا الحزب، الّذي أخذ تسميته الحالية مع بن علي لكنّه وريث الحزب الحر الدستوري و الحزب الإشتراكي الدستوري، سيطر على الحياة السياسية في البلاد منذ أكثر من خمسين سنة و بالتالي فهو يضم في صفوف منخرطيه عددا كبيرا من الكفاءات الّتي لا يجوز اقصاؤها الآن بدعوى أنّها نشطت في صفوف الحزب. الكلّ يعلم أنّ الانضمام لهذا الحزب لم يكن اختياريّا بل مفروضا على كلّ الإطارات السامية للدولة و أنّ الخوف لا الاقتناع هو ما كان الداعي الأساسي إلى هذا الانتماء. هذا الحزب ضمّ نسبة كبيرة من الشعب التونسي (أكثر من مليوني منخرط) لا يجوز اقصاؤها بتعلّة انتمائها إليه، فالثورة جاءت لضمان حقّ جميع المواطنين في تسيير شؤون البلاد و لا ينبغي السقوط في إقصاء البعض لانتماءاتهم السياسية، على غرار ما كان سائدا في النظام السابق. الإقصاء لا يجب أن يشمل إلا من عرف عنه التواطؤ في الفساد و الممارسات المشبوهة دون غيرهم الّذين ينبغي أن تتم محاسبتهم على الجرائم الّتي اقترفوها. و السيّد محمد الغنوشي، رغم وظيفته كوزير أوّل في العهد السابق، لم يعرف عنه بتاتا أنّه كان طرفا في الفساد و هو الآن يسيّر أعمال الحكومة فقط لفترة انتقالية ينبغي انتظارها قبل الحكم له أو عليه، و الضامن الأساسي الّذي سيحمي من التجاوزات هو استفاقة الشعب و وقوفه بالمرصاد في وجه كلّ من يحاول التلاعب به . إنّ إقصاء من انتمى إلى هذا الحزب من تشكيل الحكومة يعني أنّ جميع الوزراء سيكونون ممّن يمارسون العمل الحكومي لأوّل مرّة، أي أنّهم سيكونون من غير ذوي الخبرة و لا يجب أن لا ننسى ما أدّى إليه اجتثاث حزب البعث في العراق من فراغ في أجهزة الدولة ملأته وجوه عاشت لمدّة طويلة في الخارج و لم تكن لها أيّ فكرة عن حالة البلاد و هو ما أدّى إلى شيوع الفوضى في هذا البلد.

إنّ هذه الثورة هي ثورة الشعب، الشعب و لا شيء غير الشعب دون أن يتزعمّه أيّ شخص أو حزب أو منظّمة. لم تسل دماء العشرات ليحكم فلان أو فلتان بل سالت للتخلّص من القهر و الطغيان و الفساد. لا ينبغي مصادرة هذه الثورة من قبل أيّ طرف، لا سيّما من كانوا يعيشون بالخارج منذ سنوات طويلة و انقطعت صلتهم بحياة الشعب. الآن وقع الاعتراف بجميع الأحزاب و المنظمات و بالتالي فالمجال مفتوح أمامهم للتعبير عن أفكارهم و مشاريعهم و ستكون الانتخابات، الّتي ينبغي أن تنظّم في أقرب وقت، المقياس الحقيقي لشعبيّتهم. أمّا الآن، فعلى الجميع التحلّي بالمسؤولية و الحرص على لمّ الشمل و تأطير الشعب و تحفيزه للعمل على تجاوز حالة الفوضى الحاليّة بسرعة و تحقيق الانتقال الديمقراطي. ليس هذا أوان تصفية الحسابات و الصراع على المناصب و لا ينبغي السقوط في هذه المزايدة الإعلاميّة في ظلّ وجود قنوات لا تهمّها مصلحة الشعب التونسي بقدر ما يهمها تحقيق السبق الصحفي، و بالتالي فهي تنشر كلّ خبر يردها دون تأكّد حقيقي من مدى صحّته أو تأثيره على الشعب التونسي.

الثلاثاء، 29 يوليو 2008

ثقافة الخوف (2)

إنّ فكرة الخوف المهيمن على ثقافتنا يمكن أن تفسّر(و لو بشكل جزئي) وجود اتّجاهين متضادين و متطرّفين (و كلّ تطرّف مذموم) في المجتمع اليوم: اتّجاه أوّل محدود و لكنّه موجود على كلّ حال يتمثّل في البعد عن الدّين الإسلامي سواء كان ذلك باتّباع طريق التنصّر ( و قد رأيت مقطعا في أحد المواقع يبرّر فيه أحدهم تنصّره بأنّه وجد الله في الإسلام بعيدا عن البشر، و أيّ بعد أكثر من أن يكون الله قامعا لخلقه، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا) أو باتّباع طريق الإلحاد أي نبذ فكرة الدّين نهائيّا و أعتقد أنه في الحالتين وقع هناك دمج في الأذهان بين ثقافة مصطبغة بالدّين تكرّس الخوف في جلّ جوانبها و تمنع من تحقيق الذات و بين الدّين ذاته ممّا أدّى بأصحاب هذا الاتّجاه أن يهربوا إلى حلّ جذريّ عنيف و تبسيطيّ للغاية إذ رفضوا الدّين (الإسلامي) اعتقادا أنّه تسبّب في وجود هذه الثقافة. أمّا الاتّجاه الثاني الأكثر انتشارا هذه الأيّام فهو "التديّن المفرط" الّذي يمارسه بعض الشبّان بإطلاق لحاهم و ارتداء "عرّاقية" و قميص فضفاض و الحرص على أن يكون السروال مشمّرا يعلو الكعبين بما لا يقلّ عن 2,5 مم و كذلك بعبوس الوجوه و التذمّر من الانحراف عن "السلف الصالح". هؤلاء هربوا من الخوف إلى مزيد من الخوف فداووا خوفهم المتولّد من الخضوع لسلطة الخوف إلى الانخراط في هذه السلطة و ممارستها ضدّ الآخرين. هؤلاء يظنّون أنّهم امتلكوا الطمأنينة و راحة البال في طرفة عين و لكن ما امتلكوه حقّا هو السلطة، سلطة الاستحواذ على "الحقيقة المطلقة" و التحدّث باسمها و حتّى إجبار الآخرين على الانصياع إليها فتراهم يعظون الفسّاق العاصين (الّذين كانوا منهم بالأمس) بل و يمارسون أحيانا الإفتاء في ثقة المتيقّن من علمه الغزير الّذي قضّى في تحصيله أكثر من 24 ساعة ( كما يقول عنهم أحد الأصدقاء: يصلّي ركعتين ثمّ يفتي).


و لا تقتصر آثار هذه الثقافة على إنتاج التطرّف باتّجاهيه، فمثل هذه المواقف تبقى، إلى حدّ الآن فيما أرى، هامشيّّة و مقتصرة على عدد محدود من الأفراد ولكن لعلّ خطورة هذه الثقافة تكمن في كونها لا تقتصر على الجانب الديني "البحت" بل تمتدّ لتشمل كافة جوانب الحياة و تؤسّس للاستبداد و القمع في جميع مستوياتها وهو ما يعزى إلى ما يمكن تسميته " الطابع التأسيسي للدّين" (لعلّها سمة مشتركة لمجتمعات ما قبل الحداثة) إذ أنّ جميع السّلط في المجتمع،انطلاقا من العائلة (سلطة الزوج، الأب) وصولا إلى الدّولة، تستمدّ مشروعيّتها بشكل من الأشكال من الدّين حتّى و إن كانت علاقتها بالدّين لا تعدو أن تكون شكليّة، إذ أنّ النظرة إلى الدّين في هذه المجتمعات لا تعرف الوقوف عند حدود العبادات و الغيبيّات بل لا بدّ أن يكون له (أي الدّين) موقف من كلّ ما يحدث في المجتمع، فلا تتأسّس سلطة داخله إلا بمباركته، ففيما يخصّ السلطة السياسيّة مثلا نجد أنّ بعض الدّول "الحديثة" تستند إلى مفهوم الإجماع المأخوذ من علم أصول الفقه ( و هو مفهوم غامض لا يكاد يتّفق على مضمونه فقيهان و هذا الغموض يستغلّ من طرف من يملك القوّة اللازمة للتحدّث باسمه) لتبرّر قمعها لجميع من يخالفها بدعوى حماية المجتمع من الطغمة الفاسدة الّتي تهدّد "إجماع" المجتمع. و تتعزّز هذه المشروعية إذا كانت السلطة السياسيّة تحتكر الحديث باسم الدّين و ذلك من خلال تدويل مؤسسّاته كدور الإفتاء(انظر أسماء نويرة بن دعيّة، مفتي الجمهوريّة في تونس) و احتكار وظيفة الإشراف عليه و تعميم الدعاء لوليّ الأمر على المنابر، و لا ننسى أنّ طاعة وليّ الأمر مبدأ متّفق عليه بين جلّ المذاهب على اختلاف أسسها إذ يؤسّسه الشيعة على نظريّة عصمة الإمام (وهي نظريّة يبدو أنّه وقع تبنّيها من قبل أنظمة معاصرة غير شيعيّة) و يؤسّسه السنّة على الخوف من الفرقة حتّى إن كان الحاكم وصل إلى الحكم بطريقة غير شرعيّة إذ يقول الشافعي أنّ أيّ قرشيّ غلب على الخلافة بالسيف حتّى بايعه الناس فهو خليفة (انظر محمّد الجويلي، صورة الزعيم في المخيال العربي الإسلامي). فالعلاقة بين الحاكم و المحكوم في مثل هذه المجتمع لا تتأسّس على عقد اجتماعي عقلاني يقوم على توازن بين حقوق و واجبات كلّ منهما بل أنّ كفّة الميزان تميل بشكل واضح في اتّجاه تكريس واجب الطاعة المطلقة لوليّ الأمر، باعتبارها فريضة دينيّة، بما تعنيه هذه الطاعة من خضوع و امتثال و..خوف، إذ يكون من يعارض هذه السلطة أو يجرؤ على مناقشتها زائغا ضالا مضلا منحرفا عن "إجماع المجتمع" يجب استئصاله للحفاظ على كيان "الأمّة". لذلك إذا ما تمادى صاحب السلطة في الظلم فإنّ الحلّ هو الصبر "الجميل" على الأذى (فرارا من وصمة الانحراف هذه) و انتظار قد يبلغ الأبديّة لمجيء الحاكم المثالي الّذي تتماهى صورته عندنا مع صورة "المستبدّ العادل"، ذلك المستنير الّذي يمسك بزمام جميع الأمور بيده و يقودنا بعصاه إلى تحقيق الفردوس الأرضي و هذا النوع من الحكم "يفترض إماما معصوما و مالكا للحقيقة بالكشف و الإلهام، حكم يفصل بين الراعي و الرعيّة و يجعل بينهما نفس المسافة الّتي تفصل راعي الإبل عن إبله" (سليم اللغماني، "الحداثة و الديمقراطيّة"، في "مقالات في الحداثة و القانون").

(يتبع)

الجمعة، 7 مارس 2008

تساؤلات حول العلمانيّة


الموضة من الأشياء الّتي لا أفهمها أو ربّما أرفض فهمها لأنّه لا يمكنني قبول فكرة اعتبار شيئا ما جميلا و محبّذا و مرغوبا فيه لفترة محدّدة قصيرة نسبيا ثمّ يصبح بعدها شيئا تجاوزه الزمن و نسيا منسيّا.. هذا الانتقال من النقيض إلى النقيض في " لمح البصر" لا يمكن أن يكون في نظري إلا تقليدا غير واع نقع فيه رغبة في أن نبدو مواكبين للعصر بأيّ ثمن. و يبدو أنّ الموضة لا تكون "مظهرية" فقط بل يمكن أن تكون فكريّة أيضا و الدّليل على ذلك أنّ موضة فيفري 2008 في المدوّنات التونسية كانت العلمانية اذ صارت حديث الجميع فجأة، و لعلّ السبب في انطلاق هذه الحملة هو مقال "جون أفريك" عن المسألة في عدد 3 فيفري 2008. و تمسّكا بموقفي من الموضة، انتظرت حتّى ينتفي عنها وصف الموضة رغم أنّي أعدّ هذه التدوينة منذ دخولي عالم التدوين. خفتت الموجة و أظنّ أنّه يمكن لي أن أتحدّث و أطرح تساؤلات عن العلمانيّة و عن الجمعيّة التونسيّة للدفاع عن العلمانيّة المزمع انشاؤها(رغم أنّ الحديث عنها بدأ منذ شهور عديدة كافية لتتّخذ الدولة قرارها امّا بمنح الترخيص و امّا بالرفض) في جوّ أقل تشنّجا من "موسم الموضة".
أ ليس إحداث جمعيّة للدّفاع عن العلمانيّة يفترض أنّنا نعيش في دولة علمانيّة؟ أ لا يتناقض هذا مع كون دين الدّولة هو الإسلام حسبما يقتضيه الفصل الأوّل من الدستور؟
قد يرى البعض أنّ هذا الفصل تمّ تجاوزه في تونس و يرجعون إلى "تاريخ علماني" يجسّمه الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة خاصة في مجلّة الأحوال الشخصيّة، و لكن الملاحظ أنّ الإصلاحات الّتي تضمّنتها هذه المجلّة لم تأتي بالقطع مع الإسلام بل حرص بورقيبة على أن تكون تأويلا للنصّ القرآني ذاته كما فعل مع مفهوم العدل في مسألة تعدّد الزوجات و هو تفسير قابل للنقاش بالتأكيد و لكن المهمّ أنّه تفسير من داخل الإسلام و ليس من خارجه، و حتّى لمّا طرح في خطاب 18 مارس 1974 مسألة المساواة في الإرث فانّه أكدّ فيه أنّ "من حقّ الحكّام بوصفهم أمراء المؤمنين أن يطوّروا الأحكام بحسب تطوّر الشعب .. " و لا أظنّ أنّ أمراء المؤمنين مفهوم علماني. و الأكثر من ذلك، فإنّه حتّى لمّا دعا إلى الإفطار في رمضان فإنّه لم يقم بذلك تحدّيا للدّين بل أنّه استند إلى رخصة شرعيّة تبيح الفطر في حالة الجهاد و حاول أن يطبّقها على "الجهاد ضدّ التخلّف" و قد سانده في ذلك بعض المفتين. و يتبيّن موقف بورقيبة من العلمانيّة في خطابه الشهير أمام البرلمان التركي الّذي انتقد فيه العلمانيّة الّتي فرضها أتاتورك على تركيا(انظر لطفي حجّي، بورقيبة و الإسلام).

ليست لنا في تونس علمانيّة إذن لكي ندافع عنها و لكن لا أظنّ أنّ ذلك مشكل لأنّه يمكن أن تبدّل تسمية الجمعيّة لتتحوّل إلى جمعيّة المطالبة بالعلمانيّة(و هو ما سيضطرّها إلى الكفّ عن ادّعاء التمسّك بالتراث البورقيبي) و بذلك تسمّى الأمور بمسمياتها، و لكنّ المشكل في العلمانيّة ذاتها..
ما هي العلمانيّة قبل كلّ شيء؟ في تعريفها الأكثر شيوعا هي فصل الدّين عن الدّولة. أ لا يعني قبول العلمانيّة إذن الانتقال من دين رسمي للدّولة إلى "لا دين رسمي" للدولة، بمعنى أنّ الدّولة كان لها دين ثمّ أصبحت بدون دين؟ أ لا يعني ذلك التحوّل من "دولة مسلمة" إلى "دولة ملحدة"، و بالتالي تتحوّل من دولة تتبنّى الإسلام كعقيدة إلى دولة تتبنّى "اللادين" كعقيدة؟ أ لا يؤكّد ذلك كون الغالبيّة الساحقة من المتمسّكين بالعلمانيّة من اللا دينيين؟ كيف يمكن لإنسان متديّن أن يدخل دائرة السياسة إذا كان ذلك يعني أن يتخلّى عن معتقداته الدّينيّة الّتي يؤمن بها و يشرع في التفكير خارجها حتّى يلبّي شروط العلمانيّة؟ إذا كان يؤمن بالأحكام الواردة في القرآن و يرى تطبيقها كيف يمكن اقناعه بأن يرمي بها عرض الحائط و يفكّر خارجها دون أن يعتبر أنّ في ذلك خروجا على الدّين؟ أ لا يعني قبوله بذلك أنّه مصاب بانفصام في الشخصيّة؟ إذا كان جزء كبير من المجتمع يقحم الجنّ و الشياطين في كلّ ما يستعصي عليه لمجرّد أنها مذكورة في القرآن، و يصل في ذلك حدّ التكفير(انظر
التدوينة السابقة) أ يمكن اقناعه بأنّ عدم تطبيق أحكام الدّين لا يتنافى مع الدّين؟ و إذا كانت أخلاق المجتمع مستمدّة من الدّين أ لا يعني ذلك أنّ الدولة العلمانيّة هي دولة بلا أخلاق أم أنّها سـ"تستورد أخلاقا" لتعبئة هذا النقص؟ و إذا كان المجتمع مسلما في أغلبيّته الساحقة على الأقل أ لا يكون فصل الدّين عن الدّولة هو فصلا للدّين عن المجتمع؟ أ لا يؤسّس ذلك لعلاقة عدائيّة بين الدّولة و المجتمع؟ أ ليس وصول أحزاب اسلاميّة(حتّى ان لم يكن العدالة و التنمية اسلاميا كما يزعم فالرفاه و الفضيلة "أدينا" بالاسلاميّة) إلى السلطة في تركيا بعد 80 سنة من العلمانيّة تجسيما لفشل هذا المفهوم المزروع قسرا في هذا البلد؟
و إذا كانت العلمانيّة في سياقها الأروبي تعني فصل السلطة السياسية عن سلطة الكنيسة فعن أيّ سلطة دينيّة نريد فصل السياسة في العالم العربي الإسلامي؟ أ يمكن مقارنة المؤسسات الدينيّة كالأزهر و الزيتونة بالكنيسة في أروبا في حين أنّ هذه المؤسسات كانت خاضعة للسياسي طول الوقت بما أنّ تعيين و عزل الشيوخ و المفتين و القضاة و الأئمة كان دائما بيد الحاكم ؟ و حتّى إذا سلّمنا جدلا بأنّ هذه المؤسسات هي مرادفة للكنيسة أ لا يمكن اعتبار وجودها انحرافا عن مبادئ الإسلام الّذي يرفض الوساطة بين الإنسان و الله و المطالبة بالتالي بالعودة إلى "الإسلام الأصلي"؟
لا تعبّر هذه الاستفهامات الانكاريّة، أو على الأقل جانب كبير منها، عن رأيي فما سبق هو حوصلة للاعتراضات الّتي يمكن أن تثار ضدّ العلمانية و هي اعتراضات لها وجاهتها في نظري.. لست ضدّ العلمانيّة كفكر و إنّما أنا ضدّ العلمانيّة كاستيراد لمفهوم جاهز..رفع شعار "فصل الدّين عن الدّولة" الّذي تكوّن في ظلّ خلفيّة تاريخيّة معيّنة و في إطار جغرافي و ثقافي معيّن و محاولة اسقاطه على مجتمعات لها خصوصيّتها و ظروفها المختلفة أراه غير مجد.. العلمانية نتيجة لتطوّر فكري استمرّ قرونا في أروبا و لا يمكن نسخه كما هو و القاءه في مجتمع يتّجه حالياّ في الاتجاه المعاكس، في اتجاه تقديس الشيوخ و يهتمّ بفتاواهم و يزدري من يكفّرونه لأنّ ذلك سيكون سباحة ضدّ التيار، فالمطالبة بالعلمانيّة الآن حتّى و ان كانت مطالبة صادقة ترمي فعلا لإصلاح المجتمع أراها منهجيا مخطئة.. محاولة نسخ العلمانيّة تبدو لي مثل الغشّ في الامتحانات لأنّها نقل للنتائج دون اتّباع المنهج، فلكي تقبل العلمانيّة يجب أن تكون نابعة من داخل المجتمع و تعبّر عن مطلب حقيقي في المجتمع و لا يمكن ذلك إذا كانت المجتمع يعتبرها كفرا و إلحادا و لتجاوز ذلك يحب أن تكون مقبولة في وجهة النظر الدينيّة الغالبة و لا يمكن ذلك الا بمشروع إصلاح ديني كبير سيكون موضوع تدوينة أو تدوينات قادمة ان شاء الله.

السبت، 23 فبراير 2008

الاشكال القانوني في ترشّح أحمد نجيب الشابي

كما هو معلوم، أعلن الحزب الديمقراطي التقدّمي عن ترشيح أمينه العام السابق أحمد نجيب الشابي ليخوض الانتخابات الرئاسية لسنة 2009 ليكون بذلك أوّل من يعلن ترشّحه في انتظار أن تسفر المناشدة في الجانب الآخر عن ترشّح ثان. ترشّح الشابي لا يستجيب لشرط الفصل 66 من المجلّة الانتخابيّة الّتي يحيل اليها الفصل 40 من الدستور لأنّ الترشّح يجب أن يقع تقديمه من طرف 30 نائبا في مجلس النواب أو 30 رئيس بلديّة في حين أنّ رصيد الديمقراطي التقدّمي فارغ تماما في هذا و ذاك، كما أنّ جمع العدد المطلوب بالتحالف مع أحزاب أخرى أمر أكثر من المستبعد لأنّ علاقة هذا الحزب بالأحزاب البرلمانية متوتّرة للغاية. هذا المانع القانوني لم يغب عن ذهن الشابي، و هو رجل القانون، اذ أشار إليه في كلمته بعد اختياره:"انّ النظام القانوني الحالي الذي يفرض على المرشح إلى الانتخابات الرئاسيّة أن يحصل على تزكية ثلاثين عضوا من المجالس التي يسيطر عليها الحزب الحاكم لا يفتح مجال المشاركة في هذه الانتخابات الا لمرشّح هذا الحزب وحده. لذلك تلجأ السلطة كلما اقترب الموعد الانتخابي الى تعديل الدستور و السماح للأحزاب الممثّلة بإرادة منها في البرلمان بتقديم مرشّح عنها مغلقة بذلك الباب في وجه الشخصيات الوطنية و أحزاب المعارضة السياسية".
و لم يطرح الشابي رؤيته لكيفيّة تجاوز هذا المانع القانوني، بل أنّه يصرّ على المضيّ قدما في ترشّحه رغم وعيه بوجود هذا المانع، فتمرير الترشّح لا يمكن أن يكون بتطبيق القانون كما هو، بل أنّه يستوجب اذن قانونا استثنائيا على مقاس الشابي في حين أنّ هذا هو نفس ما يؤاخذه على القوانين الدستورية الاستثنائية التي سبقت انتخابات 1999 و 2004 و الّتي سمحت لأحزاب المعارضة البرلمانية بتقديم مرشّحين للانتخابات الرئاسيّة (بتجاوز الاحالة الى المجلّة الانتخابيّة و تعويضها بشرط أقدميّة في حزب برلماني) و هو يستمدّ قدرته على الضغط من المصداقيّة الّتي أضحى يتمتّع بها كـ"معارض أوّل" في الرأي العام الغربي و هو ما تجسّم في حضور عدد كبير من ممثّلي وسائل اعلان سفارات الدّول الغربيّة للندوة الصحفيّة الّتي أقامها التقدّمي للاعلان عن هذا الترشيح( وليس من باب البراءة أن يكون أوّل ما افتتحت به صحيفة الموقف المقال الموشّح لصحفتها الأولى ليوم 15/02/2008 بتعداد من حضر من ممثّلي وسائل الاعلام و السفارات) و لا يمكن أن يؤثر فيه
استهجان أحزاب الوي-وي لترشّحه الا بصورة ايجابيّة باكسابه مصداقيّة اضافيّة لكونه النقيض لأحزاب المعارضة الّتي لا تعارض . حسبما يبدو، فانّ الشابي يضع السلطة أمام 3 احتمالات:
الاحتمال الأوّل هو اصدار قانون استثنائي يمنح للأحزاب البرلمانيّة وحدها حقّ تقديم مرشّحين للرئاسة، و في هذه الحالة يقصى الشابي من دخول هذه الانتخابات و في هذه الحلة سيثيرها حملة اعلاميّة شعواء ضدّ السلطة الّتي لا تسعى لادخال نفس ديمقراطي و لا تدعم الا معارضة الديكور و سيتّهمها بعدم النزاهة و الخوف من المواجهة وووو.. و هذا ما سيضع السلطة في مأزق خاصة بعدما أظهر الشابي قدرته الفائقة على كسب تعاطف الرأي العام العالمي في "معركة المقر" الّتي انتهت في النهاية لصالحه.
الاحتمال الثاني هو اصدار قانون استثنائي يسمح لأيّ مسؤول قضّى فترة معيّنة صلب قيادة أيّ حزب، برلمانيّا كان أو غير برلماني، بالترشّح و هذا الاحتمال مستبعد للغاية لأنّه سيكون عمليا اذعانا لمطالب الشابي لا يمكنه أن تقبله السلطة.
الاحتمال الثالث هو عدم اصدار أيّ قانون استثنائي و بذلك يكون الحزب الحاكم هوالحزب الوحيد قانونا القادر على تقديم مرشّح، وبالتالي سيكون هناك مرشّح واحد للانتخابات الرئاسيّة و هو ما سيكون وقعه سيّئا للغاية في الرأي العام العالمي خاصة وأنّه سيأتي بعد موعدين انتخابيين كانت فيهما الانتخابات الرئاسيّة تعدّديّة، الا أنّه يمكن "اقناع" عدد من الأحزاب بالتحالف فيما بينها لتقديم مرشّح وحيد غير أنّ ذلك سيكون لعبة مكشوفة لأنّه لا يوجد، الى حدّ الآن، أحزاب متقاربة لدرجة تكوين تحالف و حتّى ما يعرف باللقاء الديمقراطي (المكون من حزب الوحدة الشعبية و الاتحاد الديمقراطي الوحدوي و الحزب الاجتماعي التحرّري و حزب الخضر للتقدّم) فانّه ،و بغضّ النظر عن كونه لا يشكّل تحالفا بالمعنى الحقيقي للكلمة،لا يملك النصاب القانوني لتقديم مرشّح وفاقي(عدد نواب هذه الأحزاب مجتمعة 20 نائب) الا اذا دخلت حركة الديمقراطيين الاشتراكيين على الخط و انضمّت لهذا اللقاء (أتساءل في هذه الحالة من سيكون المرشّح الّذي سيجمع بين الاشتراكيّة و القوميّة و الليبراليّة و "حب البيئة"!).
كلّ هذه الاحتمالات اذن لا تبدو مرضيّة ، فهل يعني ذلك أنّ السلطة ستجد نفسها في مأزق عويص الحل أمام ترشّح الشابي؟
للاجابة عن هذا السؤال، ينبغي التساؤل عن المقصد من وراء تواجد قاعدة الثلاثين نائبا هذه. انّه يكمن في جعل الترشّح لرئاسة الجمهوريّة ترشّحا جدّيا بمعنى أنّه لا يمكن تمكين أيّ مواطن من الترشّح بصفة آليّة اذا رغب في ذلك لأنّ ذلك سيؤدّي الى ترشيح المئات و ربّما الآلاف بل يجب تقديم ما يفترض أنّ من يريد الترشّح له من الوزن ما يمكّنه من المنافسة الجديّة و هو ما يمكن أن يفترض من وجود عدد من النواب أو رؤساء البلديات يساندون الترشّح في حالة القانون التونسي.
هذه القاعدة منطقيّة و معمول بها في جلّ الأنظمة السياسيّة و لا أعتقد أنّ هناك جدوى حقيقيّة من حذفها أو حتّى استثنائها كما وقع سابقا لأنّ الاستثناءات الّتي تتكرّر في كلّ موعد انتخابي تجعل من القاعدة هباء منثورا، و لكن يمكن في المقابل تليين القاعدة دون مساس بالدستور: فـ 30 نائب عدد كبير تتحقّق الجديّة بأقلّ منه، فيكفي تعديل المجلّة الانتخابيّة لتنصّ على عدد أقلّ من النواب(10 أو 5 مثلا) و يذلك لا تكون هناك حاجة لتعديل الدستور ليكون ترشّح المعارضة "بالمزيّة" (لأنّه من المفروض أنّ الدستور لا يمكن أن يعدّل يشكل متواتر) و في نفس الوقت تتمّ المحافظة على شرط الجديّة و اعلان تعديل المجلّة الانتخابيّة خطوة(دائمة في هذه الحال و ليست استثنائيّة) نحو مزيد الانفتاح و تمكين المعارضة من المساهمة بشكل أكثر فعاليّة. ستكون نتيجة هذا التعديل "غير المباشرة" اقصاء الشابي من خوض الانتخابات و لكن سيكون ذلك بالمحافظة على "روح القانون" بما أنّ حزبه لا يملك حتّى هذه "الجديّة المخفّفة" و لن يمكنه بالتالي الاحتجاج بتعنّت السلطة و رفضها لفتح الطريق أمام المعارضة الحقيقيّة (الّتي يمثّلها هو بالطبع!) و سيتعيّن عليه اثبات جدّية حزبه من خلال الانتخابات البرلمانيّة من خلال كسب مقاعد في مجلس النواب ليتأجلّ ترشّحه الى الرئاسيّة إلى الانتخابات القادمة و هذا ما لا يبدو بديهيّا في ظلّ غياب برنامج واضح أو حتّى ايديولوجيا محدّدة لهذا الحزب الّذي يبدو أنّه أصبح ناديا لكلّ من يريد قول لا و كفى اذ ربمّا يكون فعلا الحزب المعارض الوحيد و لكنّه عاجز الى الآن أن يقدّم البديل، البديل الّذي ربّما لا يمكن أن يوجد داخل أحزاب.

الخميس، 24 يناير 2008

اتركوا لنا فيروز


مصطلح جديد يجب أن يضاف إلى معجم السياسة و العلاقات الدولية و هو مصطلح"قطع العلاقات الفنيّة" و هو يعني حظر انتقال الفنّانين من بلد الى آخر و اتهامهم بالخيانة و العمالة اذا أبوا ذلك. هذا ما يمكن فهمه من مواقف بعض رجال السياسة اللبنانيين من تحوّل فيروز المرتقب الى دمشق قصد المشاركة في الاحتفالات المنظمة بمناسبة اختيار دمشق عاصمة للثقافة العربية.

لست قادرا على أن أجزم من من أطراف النزاع في لبنان على حقّ و من على باطل و لكنّني قادر أن أقول أنّ مثل هذه المواقف جريمة في حقّ الفنّ ترتكب باسم السياسة و جريمة ضدّ لبنان نفسه و من المستهدف بهذا الهجوم؟ انّها فيروز و ما أدراك من هي فيروز. فيروز الّتي غنّت للبنان كما لم يغنّ أحد..فيروز الّتي عندما كان لبنان ينتحر و يدمّر بيد أبنائه صرخت "قصتنا من أول الزمان بيتجرح لبنان بيتهدم لبنان، بيقولوا مات و ما بيموت و بيرجع من حجارو يعلي بيوت "، فيروز الّتي دمعت عيناها و هي تغنّي "بتتلج الدني بتشمس الدني و يا لبنان بحبك تا تخلص الدّني"، فيروز الّتي غنّت "بحبك يا لبنان" الّتي ربمّا تكون أبسط و أجمل و أصدق أغنية وطنية غنّيت على الاطلاق، فيروز الّتي أدخلت محبّة لبنان إلى كلّ القلوب حتّى كادت تتماهى مع لبنان..أصبحت متّهمة بأنّها " تتبرّع لاجهزة الاستخبارات السورية "!!
أ ليس استنكار ذهاب فيروز الى دمشق دعوة ضمنيّة لها لاتّخاذ موقف من النزاع السياسي في لبنان بمعنى أنّه بمنطق هذا التصريح سيكون ذهاب فيروز أو عدم ذهابها انحيازا لأحد الطرفين؟ من الجميل أنّها ذاهبة الى هناك لتعرض مسرحيّتها صح النوم (و نرجو أن يفيقوا فعلا ) الّتي سبق أن عرضتها في دمشق منذ 37 سنة و تؤكّد بذلك أنّ العلاقات بين سوريا و لبنان أمتن و أقوى من أن تقطعها ظروف طارئة و كما قال منصور الرحباني "الفن الرحباني - الفيروزي عطاء وجمال، وهو رسالة محبة وسلام من لبنان إلى سورية، رسالة صداقة لا عمالة". و هكذا ينبغي أن يكون الفنّ، متعاليا عن أدران السياسة ناشدا ما هو مثالي و خالد لا ما هو ظرفي و زائل.
انّ الّذين يوجّهون مثل هذه الاتهامات مدركون لرمزيّة فيروز(صوتها الشيء الوحيد ربّما الّذي يوحّد جميع اللبنانيين) و يعرفون أنّ أيّ كلمة تشدو بها في احدى أغانيها هي أعمق تأثيرا من ألف خطبة يلقونها.انّهم ليسوا يعترضون على انتقال أحد من أدعياء الفنّ ممّن لا تجد أصواتهم صدى يذكر في أرواح مستمعيهم. انّهم يدركون أنّ ذلك الصوت الملائكي الّذي أصبح رمزا للبنان هو وطن قائم بذاته يحتضن الملايين من القلوب داخل لبنان و خارجه، هذه الملايين الّتي لا يرون فيها إلا أداة لتحقيق مخطّطاتهم لذلك فانّهم بذلوا هذا الجهد لاستغلال ذلك الصوت و تدنيسه باقحامه في لعبة السياسة و يا لها من جريمة.
اتركوا لنا ذلك الحلم الجميل لنعيش فيه..اتركونا نهيم في دنيا الجمال..اتركونا نستنشق هواء الابداع..اتركوا الملائكة تخاطبنا و تناجينا..اتركونا نرتفع الى السماء..اتركوا لنا فيروز..اتركوا لنا هذه القدّيسة.

الجمعة، 18 يناير 2008

أحزاب عديدة..لماذا؟

لمّا أعلمت أحدهم أنّ موضوع تدوينتي سيكون حول الأحزاب المعارضة في تونس قال لي :"هذا لا يعنيني..لو كان الأمر متعلقا بالكورة أو السياسة العالمية لاهتممت ولكنّ الحكايات الفارغة لا تعنيني". هذا الموقف تتقاسمه الأغلبية الساحقة من الشباب اليوم بل أنّه يتجلّى بصورة أكثر سلبيّة أحيانا اذ أنّ البعض من الشباب الجامعي المثقف يفرّ من أيّ نقاش يذكر فيه اسم لحزب سياسي و ذلك حتّى داخل بعض كليات الحقوق التي من المفروض أن تكون ساحة غنية لمثل هذه النقاشات.
لنا في تونس اليوم 8 أحزاب معارضة معترف بها..عدد لا بأس به و يكفي لتحقيق الاكتفاء الذاتي منها و لكنّ وزنها يبقى ضعيفا و أقلّ من الضعيف. أذكر أنّه منذ قرابة العام أعلن حزب الوحدة الشعبية، و هو ثاني الأحزاب المعارضة تمثيلا في البرلمان، أعلن بكلّ فخر و اعتزاز أنّ عدد منخرطيه قد وصل الى 5000 و هو رقم ضئيل للغاية بالنسبة لأيّ حزب فما بالك بحزب في مثل هذه العراقة خاصة اذا علمنا أنّ عدد المنخرطين في الحزب الحاكم ناهز المليونين؟ أمّا الأحزاب الأقلّ وزنا، فربّما لا يتجاوز عدد منخرطيها عدد أعضاء مكتبها السياسي!
كيف يمكن تفسير ذلك؟
اذا صنّفنا الأحزاب حسب ايديولوجيّتها المعلنة، سنجد تركّزا رهيبا لها في يسار الخارطة السياسيّة(كقائمة السيّد لومار الّتي احتوت 3 مدافعين يلعبون في مركز الظهير الأيسر، و لكن هذا موضوع آخر!) اذ تنتمي 6 أحزاب لليسار مع وجود حزب قومي واحد و حزب ليبرالي واحد ممّا يجعل من الصعب على المواطن العادي أو حتّى المثقّف أحيانا التمييز بين برامجها اذ يبدو ذلك أحيانا مثل البحث عن الفرق بين توأمين، و حتّى هذه الفروقات الضئيلة لا تكاد تبدو في خطاب هذه الأحزاب اذ يبدو انّ الايديولوجيا المعلنة ليست سوى بند يضاف الى النظام الداخلي للحزب حتّى يحصل على التأشيرة بما أنّ قانون 3 ماي 1988 يمنع وجود أحزاب لها نفس الاتجاهات(أذكر في هذا الاطار أنّ الأمين العام لحزب الخضر للتقدّم حضر في برنامج في قناة عربية و لم يكن يعرف هل حزبه من أحزاب اليمين أو اليسار حتّى أخبره المقدّم بذلك!)، اذ أنّ التصنيف الحقيقي لأحزاب المعارضة المكرّس في الشارع هو بين أحزاب المعارضة الّتي تعارض(أحزاب اللاءات الأزلية) و بين أحزاب المعارضة الّتي لا تعارض(أحزاب الوي-الوي) و في كلتا الحالتين فانّ الخطاب المستعمل منفّر، فالأحزاب الّتي لا تعارض لها خطاب يقوم على الولاء غير المشروط و الدعم المطلق و التنويه بالمكاسب و الانجازات المحقّقة بطريقة فجّة لا يستعملها أعضاء الحزب الحاكم أنفسهم و هذه بالتالي تنفي علّة وجودها، فما الفائدة من الانضمام إلى حزب "معارض" اذا كان الواقع ورديّا إلى هذه الدرجة؟ أمّا أحزاب(أو حزب) المعارضة الّتي تعارض فعلى العكس تماما لا تعترف بوجود أيّ نقطة ايجابية فالحال في تونس حسب خطابهم متردّ و متأزّم و كارثي و ينذر بالانفجار و هو تحليل مهوّل و مبالغ فيه
و اذا أردنا أن نبحث عن مدى استجابة هذه الأحزاب للتعريف المكرّس للحزب السياسي كتنظيم سياسي يهدف الى الوصول الى السلطة و البقاء فيها، فسنجد أنّها جميعا لا تستجيب لهذا التعريف فلا يوجد حزب منها يدّعي رغبته للوصول إلى السلطة نظرا لأنّه مطلب غير واقعي و من الطرائف الّتي تذكر في هذا الصدد أنّ أحد من ترشّحوا للانتخابات الرئاسية الأخيرة كان قد أعلن عن مساندته لترشّح الرئيس قبل ذلك. غنيّ عن الاشارة أنّ حزبا ليس يطمح للوصول الى السلطة لا يمكن أن يكون حزبا، فما هي طبيعة هذه التنظيمات اذن؟
أحد الأصدقاء ابتكر تسمية طريفة و معبّرة للغاية وهي تسمية النادي السياسي.. فأعضاء هذه الأحزاب هم مثل اعضاء النوادي (على طريقة المسلسلات المصرية)يتقابلون و يحتسون القهوة و يثرثرون في عدّة مواضيع من بينها السياسة ثمّ ينفضّون حتّى الاجتماع القادم، و ربّما يعقدون ندوات حول بعض المواضيع الساخنة دون اشتراط أن يكون التحليل جديّا أو معمّقا. أذكر أنّي حضرت مرّة ندوة أقامها أحد الأحزاب حول حقّ التدخّل الانساني و انّي على استعداد أن أقسم أنّ تسعين في المائة من الحاضرين لم يكونوا يعرفون شيئا عن هذا الموضوع كما تجلّى ذلك من خلال النقاشات، فعلى الرغم من أنّ هذه الأحزاب تدّعي كونها أحزاب كوادر، مع العلم أنّ هذه التفرقة بين أحزاب الكوادر و أحزاب الجماهير عفى عليها الزمن لأنّه لا وجود لحزب يقتصر نشاطه على "النخبة" و يهمّش دور" العامة" و يحقّق نتائج معتبرة في الانتخابات، الا أنّها تبقى أحزاب كوادر بلا كوادر(أحد المسؤولين في الحزب الاجتماعي التحرّري اعترف أنّ حزبه تنقصه الكوادر) و بالتالي فتقييماتها للأوضاع تبقى سطحيّة لعدم توفّرها على محلّلين مؤهّلين للقيام بدراسات جادة(مع وجود استثناءات في بعضها) و هي في الحقيقة لا ترى أنّ من دورها القيام بمثل هذه التحليلات لأنّ طموحاتها لا تصل لأن تصلح واقع البلاد و لكن أن تصلح واقع أعضائها كما عبّر عن ذلك توفيق الحكيم في حواراته مع حماره(مع اختلاف الظرفية لأنّ الأحزاب المصرية انذاك كان رهانها فعلا السلطة)، فالتنافس على السلطة لا يظهر في الانتخابات بين حزب و حزب و لكن في حالة عرض منصب على حزب و ذلك في اطار نفس الحزب اذ ترى حينئذ "النضال" السياسي في أعلى مستوياته و تبلغ المناورات السياسية درجة عالية من الدّهاء و "التكمبين" رغم أنّ المنصب قد يعود في النهاية لأحد أصدقاء الأمين العام من غير المنضمّين للحزب(هل أقصد حزبا معيّنا؟ ربّما) فالقتال ليس حتّى على "الثريد الأعفر" بل على فتاته و في مثل هذه الوضعيات لا يكون من صالح الأعضاء المحترمين أن تنضمّ أحد الكفاءات الحاصلة على أعلى الشهادات (و الساذجة لاعتقادها وجود ايديولوجية و رغبة في الاصلاح) لأنّ ذلك قد يمثل منافسة محتملة على المنصب القادم
و رغم الضعف الفادح لهذه الأحزاب فانّها تصل الى مجلس النواب، و يعود ذلك الى طريقة منح المقاعد في تونس و هي طريقة فريدة و لا أظنّ أنّها معتمدة في أيّ بلد آخر اذ أنّ 20 في المائة من المقاعد تمنح للاحزاب الخاسرة في الدوائر حتى ان كانت لا تمثل الا نسبة ضعيفة جدّا من المواطنين ففي انتخابات 1999 مثلا كانت أكبر نسبة تحصّل عليها حزب في مستوى الدوائر في حدود 6% و لم تتطوّر في انتخابات 2004، فالمقاعد لا تمنح لأنّ الأحزاب تستحقّها بل تمنح منّة و تعطّفا و هو ما يشجّع هذه الأحزاب على التمادي في تقاعسها بما أنّ المقاعد مضمونة (للأحزاب الّتي لا تعارض طبعا) بأقلّ مجهود ممكن
و لكي لا نظلم هذه الأحزاب تنبغي الاشارة إلى بعض العوامل الخارجة عن نطاقها و الّتي ساهمت في ضعفها، فالنظرة الّتي تعتبر أنّ المعارضة هي تهمة خطيرة و تآمر على مصلحة البلاد و أمنها و هي النظرة الموروثة من زمن الحزب الواحد ما زالت متغلغلة و مكرّسة على نطاق واسع سواء كانت من بعض المسؤولين في الحزب الحاكم(منذ أسابيع تهيّأت لي الفرصة لأسمع أحد هؤلاء المسؤولين يجيب عن سؤال تعلّق عن اختلافه في الرأي مع أحد الأشخاص فأجاب منزعجا: ليس اختلافا في الرأي و لكن هو سوء تفاهم لأنّ الاختلاف في الرأي يعني أنّ احدنا معارض، ثمّ استرسل في ذم هؤلاء المنحرفين الخطرين المدانين بالتهمة الفظيعة، تهمة الاختلاف في الرأي) و كذلك من طرف بعض الصحافيين(انظر
هذا التعليق) و هو ما يجعل المواطن يخاف من مجرّد التفكير في الانضمام لهذه الأحزاب. و لا يشجّع الاعلام الرسمي على تجاوز هذه النظرة اذ أنّ تغطية أنشطتها تكون برقيّة و تقتصر على بعض الثواني في ذيل نشرة الأنباء مقابل وقت طويل مخصص لنشاط الحزب الحاكم مع اهمال تام لنشاط لأحزاب اللاء الأزلية، فحتّى ان كان نشاطها جادّا و ثريّا فانّ وصول أصدائه الى الجمهور لا يتحقّق خاصة في ظلّ الخوف من اقتناء صحف الأحزاب للأسباب سابقة الذكر. و لا ينبغي نسيان أنّ موارد هذه الأحزاب و المتأتّية أساسا من التمويل العمومي(و هو الآن في حدود 120.000 دينار في انتظار مضاعفته كما اعلن) عاجزة عن التكفّل بمصاريف جمعيّة رياضية في القسم الثاني، فما بالك بحزب من المفترض أن يسعى للوصول الى السلطة، ممّا يجعل الأحزاب تتخلّى مضطرّة عن بعض الأنشطة لضعف الميزانية. أمّا الأحزاب غير البرلمانية فهي لا تتلقّى أيّ دعم و انّي أتسلءل كيف استطاعت أن تواصل" العيش"؟
و في النهاية يبقى التساؤل مطروحا: أ ليس وجود كل هذه الأحزاب من باب الحصيرة قبل الجامع؟ ألا تفترض التعدّدية قبل كل شيء وجود مناخ سياسي يسمح بها؟

الجمعة، 28 ديسمبر 2007

ملخص حياة بي نظير بوتو


روى لي جدّي القصة التالية: بينما كان يؤدّي فريضة الحج، التقى بحاج باكستاني يجيد العربية و تجاذبا أطراف الحديث. قال الباكستاني: إنّ لكم في تونس رئيسا جيّدا. أجابه جدّي: و أنتم لكم أيضا بي نظير بوتو. قال الباكستاني بازدراء: ما هي إلا امرأة!

لعلّ تاريخ حياة بي نظير بوتو و موتها قد يتلخص في هذه الكلمات القليلة: المرأة التي مارست السياسة في بلد اسلامي.