الثلاثاء، 12 مارس 2019

كتاب حبيب إلى حدث


كان حبيب عهد إلى حدث توسّم فيه مخائل النجابة بعض أعماله، فقصّر ولها عنها، ولمّا رأى أنّ أمره قد اشتهر، كتب إلى حبيب يستعفيه ويذكر له كثرة مشاغله، فأرسل إليه حبيب كتابا صدّره بقول ابن الزبير: "يا له فتحا لو كان له رجال" وفيه:
أمّا بعد، فأردناك لأمر وأردت غيره. أردناك للمعالي وللقلم الأعلى ولمفاخرة الحدثان بالتعب الأسمى، وأردت الفتات البوالي، والمدح الأجوف وتصيّد المجد من طريقه الأدنى. فلا تثريب عليك، فلك من غضاضة سنّك ما يقوم لك عند الناس شافعا، وإن لم يكن عندنا كذلك، ولكنّا الملومون إذ وضعنا الشرف في غير أهله، وقدّرنا لجلائل الأمور ما تضيق به صغار النفوس، فحمّلناك من ذاك ما لا تطيق. وايم الله، لو علمت أنّي أقدر لما تركت من دقائق هذا الأمر شيئا، ولكان لي بنفسي غنى، لكنني احتجت إلى من أشركه فيه كي يتمّ فما وجدت إلّا الخذلان، وكذلك عهدنا إلى من قبلك فلم نجد له عزما، فانصرف غير محمود، لا أبا لك.

الثلاثاء، 5 مارس 2019

حديث حبيب مع الجبل -2-

سار حبيب في الطريق المهملة حتى بدأت معالمها تنطمس... كان كلّما تقدّم زادت الخضرة وقلّ البياض حتى وجد نفسه بعد ساعة أو بضع ساعة منقطعا لا يحيط به سوى الشجر والأعشاب. كانت الحمرة بدت تتسلّل إلى السماء، وفكّر أنّه لا مناص عن العودة من حيث أتى. لكنّه بقي في مكانه. لم يكن يريد أن يخسر تحدّي النور والعتمة. بعد دقيقة من التردّد كان يفترش الأرض قرب شجرة سرو ضخمة، ينظر إلى تعانق أغصانها مع بقايا الزرقة. كان الحفيف يبثّ البرد وشيئا من السلام في نفسه، ويمتصّ أشلاء الحمّى إلى مكان سحيق لا يُدرك من الأرض. موسيقى عن ليال عشق مجهولة كانت تجوب كيانه. بين الصحو والغفوة مضى زمنه. قام متراخيا. الرجعة أيسر السبل، لكنه محاها من باله. عليه أن يسير غربا، لو كان يدري أين الغرب. مشى حيثما اتفق، لا يسمع سوى تكسّر الأغصان اليابسة تحت قدميه. في البداية، كان يتحسّس الفجاج بين الأشجار، لكنّه كان في كلّ مرّة ينتهي إلى أجمة فينكص. تكرّر الأمر ثلاث أو أربع مرّات. طرقه مسدودة، وقد فقد الإحساس بالاتّجاه...
قد يكون تاه. لكنّه أنكر من نفسه أنّه لم ينزعج من ذلك. رغم وجيبه، كان يملؤه يقين لم يعهده. السماء لحافه وقد غابت الشمس الهازئة، والسّرى محمود، وقد بدت قناديل فيهنّ الذبال المفتّل. اقتحم أقرب أجمة وسار لا يلوي على شيء. لا يعرف إلى أين، كل ما يدريه أنه اختار أن يمشي. على غير هدى ربّما، لكن عسى أن يدركه الهدى وهو يسير. اجتاز الغابة الكثيفة إلى أرض رحبة أكثرها مكسّو حلفاء. عبرها عاثر الخطو، وكاد يسقط غير مرّة. أشرف فبدا له السهل عن بعد. حثّ السير مكدودا، حتّى لاحت له أعمدة النور. لمّا وصل إلى أقربها كان يبتسم ملء شدقيه. مرّ به بعض السيّارة ونأى عنه لمّا لمح ابتسامته الغريبة... ابتسامته الطافحة أنسا، حتّى تكاد تعانق من تراه. فرد ذراعيه وهو يمشي تابعا خطّا لا يراه غيره وهو يترنّم بأغنية قديمة... حتّى ابتلعه الطريق...

الاثنين، 4 مارس 2019

حديث حبيب مع الجبل



وظلّ حبيب، الباحث عن نفسه، الهارب من أمسه، المرتاب من غده، في حمّاه تلك أيّاما... يهذي بما لا يُعرف عن الناس والروح والشعر والسماء... حتّى أبلّ من علّته قليلا، وكان ذلك يوم اثنين. ضاق من محبسه، ورنا إلى شمسه، فرآها باسمة على غير ما تعوّد في دهره الأخير، فنظر ودبّر، واتّفق أن يلاقيها أعلى الجبل ساعة توشك أن تنحدر...
مشى على قدميه ميلا وبعضه فلمّا بلغ الفجّ رأه ينشعب إلى ثنيّتين... الناس يسلكون ثنيّة الجنوب ويزدحمون على امتدادها، أمّا ثنيّة العين فيندر من يسلكها. تردّد شيئا، ثمّ ذكر أنّه لم يبلّل جسده بماء تلك العين البارد منذ كان طفلا، فحملته أقدامه من هناك.
صعد التلّ الأوّل ببعض مشقّة. وقف على حافته ينظر الأفق. لم ير الكوخ القديم ولا الهيكل المهجور. لعلّهما تهدّما أو هدّما. لم يلمح سوى بعض الخرب الناظرة ببلاهة إلى الأعلى. نفض خيبته، وواصل المسير.
جدّ في المشي إلى أن وصل مفترق الطرقات الأربع. كان يذكر أنّ العين في منتهى إحداها لكن بعد به العهد ولم تسعفه الذاكرة. لم يجد بدّا من أن يجرّبها واحدة بعد أخرى. أمّا الطريق المعبّدة، فقادته إلى حائط أصمّ لا علم له بما وراءه. كان شاهقا مهيبا، حاول أن يتسلّقه لكنه ما لبث أن تعب. كأنّ الدنيا تنتهي عند حدوده. عاد على اعقابه وأخذ الطريق المنحدرة. لم يمش فيها غير خطوات حتّى سمع أصوات الخلق تبلغه منها، فرجع. لم تكن العين يوما بمقربة من الصخب. أخذ في الطريق العالية، ومشى فيها حثيثا. لمح المجرى النديّ فأيقن أنّه لم يخطئ السبيل. هيّئ إليه أنّه يسمع حسّ قطرها وهو يعانق التراب، فانتعش. بلغ الصنوبرة الكبيرة. يذكر أنّ الماء كان يحاذي جذعها العجوز، غير أنّه لم ير غير أخدود تملؤه الأوراق الجافة. تبعه صعودا والأمل يتساقط عنه شيئا فشيئا. وصل إلى ذلك الكرسيّ الأخضر. كان بجنب المنبع تماما. بقي الكرسيّ، ولم يبق من الماء شيء. سنوات العطش لا ترحم ساقيا.
رجع إلى المفترق. نظر إلى الأعلى، فرأى الشمس تهزأ منه. سيخلف ميعاده كما أخلفت. همّ بالرجوع ثم وقف. قد سلك الطرقات جميعها، فلم لا يكمل الرابعة؟ لا يذكر أنّه سار قطّ في الطريق المهملة. نظر في ساعته وبدأت الوساوس تنهشه. إنّ عدّى وقت الغروب، فسيكون الضياع. ما من ضوء هناك. لن يكون إلّا فريسة للظلام. كسر سدّه وهمهم: قد كنت طويلا فريسة للنور. ألقى بساعته في عين الشمس ومشى...