‏إظهار الرسائل ذات التسميات ثورة. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات ثورة. إظهار كافة الرسائل

الثلاثاء، 5 يناير 2021

ما كُنت من الثائرين... مسارات شخصية في عشريّة الثورة (الجزء الأوّل)


عشر سنوات مرّت على انطلاق الثورة... من العاديّ لشخص تزامنت زهرة شبابه مع هذه المدّة أن يعتبر أنّها مرّت بسرعة، كما من المفروض أن تمضي سنين الشباب. الشعور بالزمن نسبيّ للغاية. لكنّها في الحقيقة لم تكن بهذه السرعة. إذا عُدّت هذه الفترة بالأحداث التي احتوتها، فلا شكّ أنّها مرادفة لثلاثين أو أربعين سنة ممّا سبقها. تذكرون تلك السنوات؟ لم يمرّ فيها شيء يُذكر. انقضت كلّها تقريبا بين نفس الألفاظ (من طينة "العناية الموصولة" و"معا من أجل تونس"...) ونفس الوجوه (التي حتّى إن تغيّرت، تبقى نفسها!) ... أذكر أنّه عندما سقطت طائرة في جبل النحلي، خرج المواطنون أفواجا لمواكبة هذا الحدث. طبعا تعلّق الأمر بكارثة، لكن كان في وجوه الجميع فرح طفولي لا يقدرون على إخفائه: شيء ما وقع في هذه البلاد!

يمكن أن يتجادل الجميع (دون أيّ نقاش حقيقيّ): قبل الثورة خير؟ بعد الثورة خير؟ غدوة خير؟ أنتمي إلى تلك الفئة التي تحاول منذ مدّة أن تحافظ على تفاؤلها، ولكنّي أراني أكاد أعجز عن ذلك. الثورة حدث قلب مسار حياتي بشكل كامل، ولعلّ أكبر فضل له عليّ أنّه حرّرني من جانب كبير من الخوف، ولكنّني أجد نفسي بعد عشر سنوات مكبّلا بمخاوف أخرى.

مسار التحرّر من الخوف: 2011-2014

سنة 2011 كانت بالتأكيد سنة غير عاديّة. كانت سنة التغييرات الكبرى، على الصعيد الوطني والشخصي. أوقدت شعلة في داخلي ظلّت شديدة اللهيب إلى حدود 2014.

ما قبل 14 جانفي: بين اليأس والمثالية والواقعية

عندما انطلقت شرارة الثورة في سيدي بوزيد، استقبلتها ببرود كبير... شخص يحرق نفسه احتجاجا على مصادرة عربته... وهل سيسترجعها الآن إذ تفحّم؟ ليس الأوّل ولن يكون الأخير، ولن يكون مآل لهيب الاحتجاجات إلا الخمود، كما حدث قبل ذلك بثلاث سنوات بالحوض المنجمي... لم يكن برودي ناتجا عن قلّة اهتمام بالشأن السياسي، فقد كنت متابعا جيّدا للسياسة منذ صغر سنّي. قبل عام ونيف، كنت قدّمت استقالتي من وزارة الشؤون الخارجية بعد شهرين فقط على التحاقي بها (إثر مناظرة دخلها خمسة آلاف مترشّح اختير منهم ثمانية عشر فقط!)، لأنّني لم أحتمل الجوّ الخانق هناك، لا سّيما في سنة مثل 2009 كان عنوانها التهليل لفوز جديد في الانتخابات وخاصة بعدما كنت تعوّدت في السنة الأولى من الماجستير على مناخ من الحريّة النسبية يمكنك فيه أن تنقد بعض الشيء ما دمت ملتزما بالضوابط الأكاديمية. عدت وقتها إلى إكمال مذكّرة الماجستير، فالتدريس بصفة عرضية في كليّتي.

كان موقفي يأسا من هذا الشعب. قبل أكثر من ربع قرن، بمجرّد كلمة ألقاها "المجاهد الأكبر"، نسي فلذات أكباده الّذين احتوتهم القبور وتغاضى عن دمائه السائلة ليخرج مصفّقا مهللّا لـ"نرجعوا وين ما كنّا"...خان هذا الشعب من ناضلوا من أجله قبل ذلك وبعده كثيرا، فما الّذي تغيّر الآن؟ ألم تصبح الأوضاع أسوأ مع تفشّي عقليّة المحسوبيّة و"الأكتاف" والمناشدة و "الصبّان" و "مشّيلي ونمشّيلك" و "اخطى راسي واضرب" في كلّ الأوساط تقريبا؟ كنت أؤمن أنّ أيّ تغيير ممكن يستوجب عملا فكريّا وثقافيا كبيرا على مدى جيلين أو ثلاثة، وقبل ذلك فكلّ حركة احتجاجيّة لن تجد صدى يذكر وستقع خيانتها كما وقع ذلك مرارا وتكرارا. ولذلك، كنت أرى أنّ أيّ عمل حقيقي يجدر أن يكون مع الأطفال..."فات الفوت" فيما يخصّنا، لكن لعلّ البقيّة الباقية من الأمل يمكن أن تغرس فيهم...وفي الحقيقة، لم يكن موقف اليأس هذا يخصّ رأيي في الحياة العامة، بل أنّه كان من تداعيات اليأس الّذي ضرب أطنابه في كلّ جوانب حياتي ...في بداية جانفي 2011، ذهبت لإجراء مقابلة مع محامية بهدف العمل في مكتبها. بصراحة فجّة، قالت لي: لا أعترف بأيّ من آليات التشغيل التي تعتمدها الدولة، بإمكانك أن أمنحك مرتّبا قدره 300 دينار. لم أعتبر، وأنا الأوّل على دفعتي في الأستاذية والماجستير، ذاك العرض إهانة. قلت لها ببساطة: سأفكّر في الأمر. الأمر عادي، وقد "تعفّن قلبي من العادي" كما تقول الأغنية. كنت سأستسلم حينها إلى أيّ قدر تحملني إليه قدماي، لأنّي لم أكن أرى آفاقا غير هذا "العادي".

ومع ذلك، هُززت صباح العاشر من جانفي. كانت الاضطرابات قد وصلت إلى العاصمة، وكنت لا أزال غارقا في لا مبالاتي. صرخ أحدهم في وجهي "اتّخذ أيّ موقف، حتّى لمساندة السلطة، لكن لا تبقى بهذه السلبيّة!"...أصابتني هذه الكلمات في مقتل، ومع توارد الفيديوهات عن عمليات القنص في الوسط الغربي، لم يكن بإمكاني أن أحافظ على سلبيّتي.

منذ ذلك الحين، بدأت في القيام بشيء من التحريض ضدّ النظام، وخاصة ضدّ خطابي "400 ألف موطن شغل" و "أنا فهمتكم"، ولكن حتّى مع اتخاذي لموقف، شاب حماستي الكثير من التردّد... اقتصرت على الفضاء الافتراضي وبعض المحادثات في دائرة شخصيّة ضيّقة جدّا ولم أخرج يوما إلى الشارع. ذلك أنّه لم تكن لديّ أدنى فكرة عمّا يمكن أن تؤول إليه البلاد. لم أكن أثق لا بمعارضة الداخل ولا بمعارضة الخارج، فلم أكن يوما من المتحمّسين للخطابات السفسطائيّة والرجعيّة والطوباويّة ولا للإيديولوجيات الميّتة الّتي يراد إحياؤها.

طبعا كان يرافق هذا الموقف "المعقلن" الكثير من الخوف ممّا يمكن أن يقع لي لو تورّطت في مثل هذه الأحداث. منذ قرأت "شرق المتوسّط" لعبد الرحمان منيف وأنا في سنّ الخامسة عشرة، صرت أشعر بكثير من الإكبار تجاه من خاضوا عذابات التجربة السجنية، ممزوج بخوف عميق من عيشها. المثالية كانت تدفع إلى التشبّث بالمبدأ حتّى الموت في سبيله والواقعيّة كانت تدفع في اتّجاه طلب السلامة.

لم يكن لي نشاط سياسي حقيقي قبل الثورة. كان لي بعض الأصدقاء المنتمين إلى حزب كرتوني حضرت معهم بعض المناسبات إلى أن سوّلت لي حماقتي الإدلاء بتعليق ساخر حول الطابع الديكوري لذلك الحزب لأمينه العام، فوجدت كلّ الأعين ترمقني شزرا، وردّ عليّ السيّد الأمين العام  (الّذي أصبح اليوم محلّلا سياسيا) بخطابة متوجّسة، فلم أعد بعد ذلك إلى حضور مثل تلك المناسبات. في 2005، شاركت في تظاهرة منظمّة في الكليّة للاحتجاج على زيارة شارون المرتقبة إلى تونس في إطار قمة مجتمع المعلومات، وهي تظاهرة تدخّل الأمن لتفريقها. 

عندما كنت في المعهد، كانت لي تجربة فريدة تركت أثرا عميقا في نفسي. أردتُ ومجموعة من الزملاء تنظيم شيء ما للاحتجاج على غزو العراق. لم نتمكّن إلا من جمع عدد ضئيل من المتحمّسين (لا أظنّهم كانوا يتجاوزون أصابع اليدين)، ومع ذلك سرنا معا حتى وصلنا إلى كليّة العلوم القانونية فوجدنا جمعا كبيرا هلّلوا لمجيئنا، على قلّتنا ويفاعتنا، ومشينا معهم في محيط محطّة 10 ديسمبر يحيط بنا عن كثب جمع من رجال الشرطة الّذين ما لبثوا أن رفعوا هراواتهم وشرعوا في ضرب المحتجّين. كنت في الصفوف الأماميّة، لكنّي اكتشفت في نفسي عدّاء ماهرا، فما أسرع أن ركضت حتّى وجدت نفسي أبتعد عن ساحة المعركة في ظرف دقيقة. كان هناك من الزملاء من لم يكن في سرعتي لكنّ الطلبة قاموا بإدخالهم إلى الكليّة وحمايتهم حتّى خلا الجوّ فعادوا إلى المعهد. لعلّي اتّخذت قراري بالالتحاق بكليّة العلوم القانونية منذ تلك اللحظة. 

المفارقة تكمن في كوني لم أعرالنشاط الطلّابي اهتماما يذكر حين التحقت بالجامعة. كنت شديد الحرص على فرديّتي، راغبا في إعمال النقد في كلّ شيء ولم تقنعني البتّة الإضرابات العديدة التي كان اتّحاد الطلبة يقوم بها، ولا يزال من السخف بالنسبة إليّ حتّى الآن الإضراب دفاعا عن الحقّ في الترسيم الرابع أو الالتحاق الآلي بالماجستير. أظنّ أنّ النشاط الطلابي الوحيد، خارج الإطار الدراسي، الذي حضرته كان ناديا يسمّى "نادي الحكمة" يناقش مختلف القضايا الاجتماعية والسياسية، ولم يلبث أن تعطّل بعد لقائين أو ثلاثة. دعاني أحد أعضائه (صار فيما بعد من كبار الناشطين السلفيين) مرّة إلى المشاركة في تظاهرة بمقرّ الحزب الديمقراطي التقدّمي، لكنّي تهيّبت ذلك. كان مجرّد المواظبة على اقتناء جريدة "الموقف" داعيا لبائع الصحف إلى مساءلتي، فما بالك بالانتقال إلى حضور الأنشطة؟؟ 

رغم إعجابي وقتها بجرأة الديمقراطي التقدّمي وجريدته، كان لي موقف متحفّظ منه لسبب ظلّ يلاحقني بعد ذلك في كلّ المجالات: أنّه لا يملك مشروعا. كتبت مرّة مقالا نقديّا في مدوّنتي تجاه إعلان أحمد نجيب الشابي ترشّحه لانتخابات 2009، وقد تفاعل معه هو شخصيّا ممّا أثار إعجابي، ولكن لم يغيّر موقفي من حزبه، وهو موقف أظنّه الآن موغلا في المثالية، كما كانت عادتي في أغلب ما أكتبه. 

كان اكتشاف عالم التدوين في أواخر سنة 2007 فرصة لي لأتحرّر بعض الشيء فأخوض في الشأن العام باسم مستعار. كنت أحاول أن أنقد ولكن بحذر مدروس، وأحيانا بشيء من التورية التي لا يخفى معناها (كما في نصّ: المقامة الكروية). خصّصت للخوف نفسه مقالا من أربعة أجزاء كان من أطول ما كتبت حينها، وإن أكن اهتممت وقتها بالخصوص بجذوره الدينية. تعرّفت في ذلك الحين على عدد من الأقلام الساخرة والناشطين السياسيين ممّن برز بعضهم بعد 2011. ولكن منذ 2009، أخذ حماسي في الفتور وارتفع منسوب الخوف خاصة لمّا سمعت باعتقال بعض المدوّنين الذين كنت أعرفهم.

لازمني هذا التخبّط في مقاربة الشأن العام حتّى جانفي 2011. ومع خطاب 13 جانفي، هنّأت نفسي على تردّدي تجاه الأحداث التي سبقته... خدعتني جموع المهلّلين والسيارات المستأجرة، وذكّرتني بجانفي 1984. فترت الحماسة (الّتي لم تكن كبيرة بطبيعتها) وظننت أنّنا وصلنا إلى آخر الطريق، وسيتمّ الاقتصار على بعض الإصلاحات البسيطة، الّتي سيتمّ تقديمها في شكل إنجازات، قبل محاولة امتصاص روحها فيما بعد...وعلى كلّ حال، ذلك خير من لا شيء! حتّى تلك الأمسية التلفزيونية التي قدّمها سامي الفهري ليلتها بدت لي مؤشّرا جيّدا للغاية، إذ لأوّل مرّة نشاهد حقوقيين كان يُضيّق عليهم يجاهرون بانتقادهم للنظام على قناة 7 وما أدراك ما قناة 7!

ولذلك لم أخرج يوم 14 جانفي...لم أكن كذلك أثق بالاتّحاد ولم أكن أنتظر الكثير من المظاهرة الّتي ينظّمها. يوم 14 جانفي نمت إلى منتصف النهار.

(يتبع)


الأربعاء، 26 ديسمبر 2012

ثورتنا وضياع المعنى

لا شيء عاد له معناه. اللغة العربية/اللهجة الدارجة/الفرنسية المعدّلة تونسيا كلّها بحاجة إلى أن تعيد اكتشاف نفسها حتّى تجد معنى في عالم اللامعنى. إذا تصفّحت جريدة أو موقعا أو صفحة من صفحات الفايسبوك أو شاهدت قناة تنتسب إلى تونس (إسما أو مكانا)، عليك أن تستعين بمعجم (لم يكتب بعد) للـ”ثورة التونسية” المجيدة المباركة.
إذا شاهدت عنوان فيديو “فلان يلقّن فلتانا درسا لن ينساه”، فاعلم أنّ الدرس المقصود هو على الأرجح درس في قلّة الأدب. وإذا رأيت آخر عنوانه “فلتان يمسح بفلان الأرض”، فاعرف أنّه كذلك قد مسح الأرض بكلّ آداب الحوار. إذا تحدّث أحدهم عن “اليسار الكافر العلماني الماسوني المتصهين أيتام فرنسا”، فيمكن أن يعني بذلك مناضلا شرسا من الّذين صمدوا لإعلاء شأن حقوق الإنسان ايّام كانت الكلمة محرّمة. إن هاجم شخص أحد “أزلام النظام البائد ورموز الثورة المضادة” فقد يكون مرماه موظّفا كفؤا وجد في يوم من سنة خلت بطاقة انخراط حمراء فوق مكتبه. إن شتم أحدهم “سلفيا وهابيا ظلاميا من غلمان قطر”، قد يكون يقصد شابا متحمّسا لنصرة دينه. إذا صاح آخر بأعلى الأصوات مطالبا بالتنمية لجهته، فاعلم أنّ في تصرّفاته خرابها. إذا تهجّم فرد على “الكسالى المخرّبين أعداء الشعب”،  فمن المحتمل أنّه يقصد مضطَهدين أعياهم طول التجاهل. إذا تحدّث غيره عن “إعلام العار” فالأمر يتعلّق بحقيقة أحسن أحد الصحفيين نقلها. أمّا إذا رأيت على فيديو أو صورة عبارة “عاجل” أو “خطير” أو “مؤامرة” فاعلم أنّ الدقائق الّتي ستقضيها في المشاهدة هي دقائق ضائعة من عمرك..
كلّ هذا غيض من فيض. كلّ عبارة تقريبا يقع تداولها إعلاميّا لا تعني نفس الشيء لدى قائلها وقارئها والمستمع إليها، بداية طبعا بعبارة “ثورة”، فضلا عن حمايتها وتحصينها وشهدائها وجرحاها وأعدائها وعدالتها الانتقالية. لكي تنطق بعبارة ما، يجب عليك إذا أردت ألا يخطئ المتلقّي معناك أن تضيف “دليلا” إلى كلامك. مثلا، ليست “المؤامرة” (نسخة الترويكا) هي “المؤامرة” (نسخة المعارضة “الديمقراطية”) ولا هي “المؤامرة” (نسخة المعارضة “التقدّمية”). الكلّ متّفق على وجود المؤامرة، ولكنّ كلّ طرف يجزم أنّها ضدّه.
تقرير المعاني لا يتمّ وفق “المنطق” كما وضعه المرحوم أرسطو، بل وفق “منطق” الاصطفاف التلقائي وراء رأي الجماعة الّتي ينتمي إليها المتكلّم. الصواب ما رأته هذه الجماعة والخطأ في كلّ ما جانبه، ولا داعي أن تكلّف نفسك عناء التفكير، فقط اختر انتماءك وستجد اختياراتك تتقرّر دون أن تحتاج إلى تقريرها. الأمر تماما كما قال الشاعر الجاهلي:
وَهَـل أَنـا إِلّا مِـن غَزِيَّةَ إِن غَوَت …غَـوَيتُ  وَإِن تَـرشُد غَـزيَّةُ أَرشَدِ
غير أنّ غزيّة هذه لم تعد فقط قبيلة، يمكن أن تكون حزبا أو حركة أو “منظّمة وطنيّة” أو جمعيّة أو جهة…هي انتماء يمنح حقّ الصراخ في محيطك المتكهرب المتشنّج…هي منطق من فرّقوا وطنهم وكانوا شِيَعا…منطق من يلقون جانبا بجميع ما يوحّدهم ويمسكون بخناق التفصيل الواحد الّذي يفرّقهم…هي فوضى من المعاني الّتي يلهث فيها الفرد بحثا عن الجماعة الّتي تقاسمه نفس الفهم (تقريبا) للكلمات، حتّى إن ضحّى في سبيل ذلك بشيء غير قليل من حريّة فكره…قد يكون هذا الاصطفاف شبه الطائفي وراء معنى معيّن طبيعيّا في مجتمع يعاني منذ عقود من مشاكل جمّة في تحديد هويّته…قد تكون فوضى المعاني هذه عاديّة في ظلّ هذا المخاض “الثوري” الّذي تعيشه البلاد. ..المهمّ أن يكون المولود معنى واحدا يفهمه المواطنون، جميع المواطنين، بنفس الطريقة.

الرابط على تونس الفتاة:

الاثنين، 29 أكتوبر 2012

من يعدنا بالدماء والدموع والعرق ؟


منذ الأيّام الأولى الّتي تلت 14 جانفي، صاحب طوفان الأحزاب المتكوّنة حديثا طوفان مماثل للوعود…وعود أصبحت بمثابة الخبز اليومي لمّا اقترب موعد الانتخابات: الخبزة بـمائة مليم، نسب نموّ قياسيّة، تشغيل مئات الآلاف من العاطلين، المداواة المجانية للجميع…وبرز في خضمّ ذلك الشعار العجيب “توّة”: كلّ شيء يجب أن يتحقّق الآن وفورا. والحقيقة أنّ “توّة” هذه لم تكن مجرّد شعار لحملة انتخابيّة يقوم بها أحد الأحزاب، بل هي تكريس لثقافة متغلغلة في المجتمع انفجرت في ظلّ الأوضاع الّتي عرفتها البلاد في الفترة الأخيرة. لم يعد من المهمّ كثيرا أن تكدّ وتعمل وتكدح وتزرع حتّى تحصد، بل يكفي أن تصيح وتعتصم كي تجد مطالبك ملبّاة حالا (انظر مقالنا: الثورة وقيم التقحيف)
والبحث عن الحلول السحريّة الّتي تحقّق الأماني في ثوان، كمصباح علاء الدين، ليس بالشيء الجديد. وظاهرة “الحرقان” إلى الجنّة الموعودة للعودة بثروة خياليّة في وقت قصير لم تكن خافية. ولعلّ نجاح الثورة في الإطاحة برأس النظام في أمد قصير، وبطريقة تكاد تكون عجائبيّة (فرار مفاجئ لم تفهم دواعيه الصحيحة إلى اليوم) زاد في تعميق مثل هذه الأفكار الّتي سعت عدّة أطراف سياسيّة إلى توظيفها: البطالة حلّها في ليبيا الّتي أصبحت تحتاج بقدرة قادر إلى مئات الآلاف من العَمَلة، الاستثمارات سيتكفّل بها أشقّاءنا في الخليج وفي قطر خاصة، ثروات كانت مجهولة من النفط والغاز ترقد تحت تراب ولاية القيروان…وجاء أحدهم ليغازل بوقاحة فجّة أحلام الغرائز المكبوتة في الجميلات الحسان ممّن ملكت الأيمان. كلّ هذا والوضع الاقتصادي والاجتماعي على الهشاشة الّتي يعلمها الجميع وهو ما يذكّر بعبارة هربرت هوفر (رئيس الولايات المتّحدة بين 1929 و1933) الّذي كان يردّد أنّ “الرخاء ينتظرنا عند المنعطف الأوّل للطريق” فكان أن غرقت بلاده، بعد أشهر معدودة من انتخابه، في أكبر أزمة اقتصادية في تاريخها وما لبثت أن امتدّت آثارها إلى العالم بأسره.
كان من المفروض أن يكون تخلّصنا من القيود الّتي كبّلتنا طيلة عقود فرصة تاريخيّة  لكي نرسم معا وطننا كما نحلم به، وطنا ناهضا متقدّما لا يجوع فيه أحد ولا يعرى. وكنّا ننتظر أن يضع من انتخبناهم للتأسيس اللبنة الأولى لحلمنا، ولكنّهم تاهوا وتوّهونا في نقاشات بيزنطيّة حول السلفيّة والعلمانيّة، والشريعة والدولة المدنيّة، والمصالحة والعدالة الانتقاليّة، والشرعيّة والمشروعيّة، والصفر فاصل والأغلبيّة…(انظر مقالنا: نحو مجلس تأسيسي لا يؤسّس) وكلّهم يسترضي جمهور الناخبين ويداهنه ويتملّقه ترقّبا لموعد جديد يوصل/يبقي في كرسيّ الحكم السعيد. ولم يحفل أحدهم بأن يقدّم مشروعا جادا يلتفّ حوله عموم التونسيين واثقين أنّ عليهم أن يقدّموا الجليل من التضحيات وأن يسموا فوق نفوسهم كي يروه في يوم، ربّما قد يبعد كثيرا، واقعا تطاله اليدان.
لسنا في حاجة إلى من يعدنا أن تمطر السماء ذهبا وفضّة، وأن يبيعنا سهل الريح. كلّ دقيقة من الخمول في هذه اللحظة الفارقة من تاريخنا ستكون نتيجتها سنين من المعاناة للأجيال القادمة. نحن في حاجة إلى من يعدنا، كما فعل ونستون تشرشل في أول خطبه بعد توليه رئاسة الوزراء في بريطانيا، بالدماء والدموع والعرق.

الرابط على تونس الفتاة: