الخميس، 24 نوفمبر 2016

لا تعتذر لهم...

ارفع هامتك وحدّق في الشمس... أمسكها حتّى ترتعش وتذوب بين كفّيك... ادفنها عميقا عميقا... واجههم بعينيك، وركّز النظر فيهم مليّا... لا يعنيك ما يظنّون... طالما ظنّوا ورموك، وكنت تتلوّى كالأفعوان حتّى تسير في طريقهم المعوجّة... ليس ذنبك أن ولدت بعد زمنك ببضع قرون... لم تخطئ إذ عبدت ما لا يعبدون... أتردّ تاج نفسك؟ أتمنحها لقطع الليل يلتهمن أطرافها؟ أيحتضر صوتك قبل أن يسمعه أحد؟ أتسفح سريرتك على قارعة الطريق؟
كلّا... اسكب تيهك على الثنايا وسر مختالا... اهدر كالرعد فيهم، وإن أصموا آذانهم... اسقهم منك ولو غصبا... دعهم يحترقون فيك... سيتصايحون وينفرط عقدهم هنيهة حتّى يتبدّد الران من قلوبهم، فيلاقوك من جديد بأفئدة عقولة وقلوب سؤولة...
لا تكتم جنونك بعد الآن... قف على سقف عقولهم واضحك ملء شدقيك... ترنّم أمامهم بتلك الموسيقى التي يجهلونها... ارقص دون انتظام على نغمات نايك المسحور... حدّثهم عن المحال إذ تطاله الأيدي... أخبرهم عن الأساطير إذ تمتطي صهوة الخيول... أطلعهم على أنهار الجنان إذ تجري تحت أقدامهم ولا يسمعون خريرها ولا يتطهّرون بنقائها... 
هزّهم هزّا عنيفا... دع شتائمهم تتناثر كالبَرَد ودسها بقدميك... عربد مليّا أمامهم، حتّى تتخّفف من حملك وتعود عاريا، كما ينبغي أن تكون... اعبر على جسر حقدهم ولؤمهم وكيدهم وريائهم ثمّ رغ عليه ضربا باليمين، واستدر تجدك هناك...
يعسر عليك ذلك كلّه؟ لا تعجز عن أضعف الإيمان: لا تعتذر لهم أبدا... أنت ما أنت، مهما أنكرت ومهما تردّدت، ولن تكون أبدا غيرك...

الثلاثاء، 8 نوفمبر 2016

صار الحزن راشدا...

كان أوّل الحزن...
لم أكن قبله إلّا صبيّا...لم يكن الموت بالنسبة لي سوى مفهوم مجرّد، لا يعني لي الكثير... كأنّه لم يكن يعنيني، فهو لا يصيب إلّا الأباعد، ولا يتهدّدني في شيء... كنت، كمعظم الأطفل، ألهو متنعّما بصباي، ليس لي ما يشجي سوى هموم سنّي من دراسة  وتسابق مع الأتراب... ولعلّه لم يخطر لي حينها أنّه يمكن أن أفقد شيئا أو أحدا... كانت الحياة تسير هادئة رتيبة، ثمّ قست ملامحها فجأة وتجلّلت بردائها المعتم... امتدّت يدها الصفراء لتهدم ركنا منيفا من معالم العائلة... تلك الأمسيات القلقة في باحة المصحّة... ذلك الانتظار المتوتّر بين الخوف والرجاء... ذلك البرد الذي كان يتغلغل فينا رويدا... تلك الوجوه الجامدة، وتلك المتفجّرة أسى... في تلك الأيّام، تعلّمت أنّ في الدنيا الكثير ممّا يمكن أن أفقده... وكانت أوّل خيبة لي مع الله... لم أستوعب كيف يمكن أن يُعرض عن أحرّ الدعاء الصاعد من قلب لا يزال غضّا نقيّا..
كان أوّل الشعر...
كان أوّل ما كتبته، أو بالأحرى أوّل ما بقي لي من كتابات الصبا، مرثيّة فيه... لم تكن قصيدة مكتملة، فلم أكن أعرف الكثير عن العروض حينها... كان بوحا مقفّى ساذجا... تفجّعا خالصا... مزيجا من الحيرة واللوعة... ومنذ ذلك الحين، تعلّمت كيف أنصهر مع قلمي... وأصبح فيما بعد شعري، كلّه أو أغلبه، نفثا... كان الانفجار، فهوى القلب في بحار من الحبر، وصار لا يمتح سوى منها... المفارقة أنّ كلّ ذلك كان بعد غيابه، وهو من كان فارس الكلمات... لطالما تبادر إلى ذهني أنّ يراعي كان ليكون أرشق حرفا وأرسخ قدما لو تعهّدته عينه البصيرة...
كان آخر الدمع...
تعدّدت من بعده المناسبات الحزينة، لكنّ عيني كانت تأبى أن تسعدني... طالما ألححت عليها في ذلك، لكنّ معينها جفّ في ذلك اليوم، فلم تجري غدرانها بعد ذلك على خديّ... أذكر أنّي بعدها بأسابيع تعرّضت إلى موقف جرح كبريائي، فهمّ الطفل فيّ أن ينتحب، لكنّي هززته بعنف وأمسكته عن ذلك... لم يعد يليق به ذرف الدمع على الصغائر، بعد أن ذاق للحزن طعما... كبرت سنين في تلك الأيّام، وانسحبت إلى داخل نفسي... بعد أن غاض الماء، اتّخذ سبيله إلى أعماق القلب سربا...
نحن لا ننسى، ولكن نتعوّد على الحزن، فنتلهّى، ونزعم أنّا تجاوزنا...
ثمانية عشر عاما مرّت، وصار الحزن بعمر فتى بالغ قد أدرك رشده... ركضنا على صهوة الأيّام وخلنا أنّنا ذرعنا الدنيا كلّها... ولم نزل كلّما هبّت ريح الحنين نجد من تلك اللذعة غضاضتها الأولى... لا يبدّدها ربّما سوى مرأى سميّه وحفيده يزرع الأرض فرحا وأملا في قلوب كلّ من عرفه يوما...
عليك سلام الله يا أبا معز...