الاثنين، 28 يوليو 2008

ثقافة الخوف (1)

جاءتني منذ أشهر رسالة عبر البريد الالكتروني أقل ما يمكن في وصفها أنّها مرعبة. تروي هذه الرسالة "حياة" امرأة بعد موتها داخل قبرها في تفاصيل دقيقة مخيفة حتّى يبدو كأنّ كاتب الرسالة عاشها بنفسه. هذه المرأة و رغم أنّها كانت مؤمنة فإنّها أوشكت أن تتعرّض للعذاب، و بئس المصير، لأنّها كانت تؤخّر صلاة الفجر و فعلا " سارت أمام منكر ونكير في سرداب طويل حتى وصلت إلى مكان أشبه بالمعتقلات ..." و كادت أن تعذّب فعلا لولا هدف الدقيقة 90، إذ جاءها دعاء من ولدها قام بترشيحها إلى الدور القادم، و هي نهاية مفتعلة ذكّرتني بالحلقات الأخيرة لبعض المسلسلات المصريّة الفاشلة.
أغضبتني هذه الرسالة جدّا و قمت بتسجيل"احتجاج شديد اللهجة" لمرسلها (تشبّثا بتقاليدنا العريقة في الشجب و التنديد و الاستنكار) إذ اعتبرتها تكريسا لهروب من مواجهة الواقع و إغراق في تفاصيل غيبيّة لا تزيد و لا تنقص (و لو أنّ في الرسالة نقطة ايجابيّة إذ أنّها كتبت بأسلوب سليم يكشف عن موهبة قصصيّة من المؤسف أن تذهب في مثل هذا الاتجاه). ..حكاية عذاب القبر هذه لم تثر في يوم من الأيّام اهتمامي لأنّي أعتبر أنّي لست في حاجة لمعرفة شيء عنها. كلّ ما أحتاج لمعرفته عن مرحلة ما بعد الموت أنّ من يعمل عملا صالحا سيعيش النعيم الأبدي و أنّ من يغلب شرّه سيعيش عذابا أبديّا. كانت حكاية هذه الرسالة ستذهب طيّ النسيان لكنّني فوجئت مؤخّرا بأنّها موجودة مرّة ثانية في صندوق بريدي غير أنّ شخصا آخر هذه المرّة قام بإرسالها ممّا يعني أنّها ظلّت طوال هذه الفترة تتنقل من شخص إلى آخر و لا أتصوّر أنّ كلّ من يتسلّمها تبلغ به "المتعة" حدّا يجعله يرغب في أن يشاركه فيها أشخاصا آخرين بل الأرجح أنّ ذلك يعود إلى خوف من سوء العاقبة خاصة أنّ كاتب الرسالة يقسم "بالعزيز الجبّار"(اختيار دقيق للصفات الإلهية) على من يتسلّم هذه الرّسالة أن يبعثها "لكلّ الموجودين" و لعلّ ذلك يعني تهديدا لمن لم يفعل بعذاب أشدّ من المذكور في الرسالة. بعدها بأيّام قرأت في الركن الدّيني لإحدى الصحف اليوميّة التونسيّة حكاية عن أحد الزهّاد سمع من يتحدّث عن عذاب القبر فخاف خوفا شديدا و ركض بعيدا ثمّ وجد بعد ذلك ميّتا (و هي فرصة له ليحيط علما بالجانب التطبيقي لعذاب القبر بعد أن استمع لجانبه النظري). الأسلوب الّذي وردت به هذه القصّة كان لا يخلو من التمجيد و التعظيم من شأن هذا العابد الزاهد المتبتّل الّذي بلغت به التقوى حدّا جعله يموت خوفا لتتماهى بذلك صورة المسلم التقيّ مع الإنسان الخائف المرعوب. الكتب الّتي تتحدّث عن عذاب القبر و أهوال يوم القيامة تباع أحيانا على قارعة الطريق و تلقى إقبالا كبيرا. خطباء المساجد لا يقصّرون في الإشارة إلى عذاب العصاة في الآخرة و حتّى في الدنيا... كلّ هذا و غيره يدلّ على أنّ ثقافتنا موسومة بالخوف و التخويف....
نربّي منذ الصغر على الخوف، الخوف من الله القويّ الجبّار العزيز المنتقم و يحذّرنا آباؤنا من ارتكاب أيّ هفوة و لو كانت بسيطة بدعوى أنّ الله "سيحرقنا بالنار" إن فعلنا. إذا استعملت يدك اليسرى للأكل، حتّى و إن كنت ولدت أعسر، فإنّ ذلك يعني أنّك مثيل للشيطان(قرأت في إحدى المجلات العربيّة الموجّهة للأطفال و الّتي تعرف انتشارا واسعا أنّ استعمال الشوكة و السكّين بما يعنيه من تناول للأكل باليسرى بدعة غربيّة تبعدنا عن ديننا)...إذا أبديت جرأة و نشاطا توصف بأنّك "شيطان" و ليس مثيلا له هذه المرّة (رأيت أمام إحدى المدارس الابتدائيّة فتاة تتحدّث مع أمّ صديقتها بثقة و جرأة نالتا إعجابي فلمّا انصرفت وصفتها هذه الأمّ بـ"الشيطنة" و قلّة الأدب! فالطفل المثالي لدى الأولياء هو "العاقل" أي الخامل المرعوب الّذي لا يجرؤ على التلفظ بكلمة)...نكبر و يكبر خوفنا معنا... عدم طاعة الوالدين، حتّى و إن كان ما يطلبانه بادي التعسّف، عقوق و هو أحد الكبائر. الحبّ معصية كبرى تستنزل غضب الله (أو حتّى ما دون الحبّ، ففي إحدى المرّات عبّرت عن إعجابي بجمال إحدى الممثّلات أمام طفلة من العائلة لا يتجاوز عمرها عشر سنوات فما كان من هذه الأخيرة إلا أن شهقت في استنكار و أسرعت إلى أولي الأمر لتبلغهم بهذه الخطيئة)... إطلاق العنان للإبداع قد يصبح تطاولا على الذات الإلهية يستحقّ سخط الله (كفّر بعضهم أبا القاسم الشابي عندما قال بيته الشهير: "إذا الشعب يوما أراد الحياة..فلا بدّ أن يستجيب القدر" بهذه التعلّة)... أمّا التفكير في تحديث التشريع الإسلامي ،حتّى و إن كان ذلك بالاستناد على روح القرآن الكريم و مقاصده، فهو الطامة الكبرى الكفيلة باقتطاع تذكرة مباشرة إلى الجحيم و الخلود فيها أبد الآبدين (رحم الله بورقيبة رحمة واسعة)...
كيف يمكن أن تكون علاقتنا بالله إذا كنّا نربّى منذ الصغر على الرعب منه؟ هل يمكن أن نكون مؤمنين حقّا إذا كان الله يقدّم إلينا كجبّار ساديّ يتلذّذ بتعذيب خلقه حتّى على أصغر الهفوات؟ أ ليس الإيمان هو المحبّة الخالصة للّه؟ أ تجتمع المحبّة مع الخوف البالغ درجة الرعب؟ أ ليس الرعب أقوى المبرّرات للوقوع في الكره و بالتالي الخروج عن دائرة الإيمان بما أنّه من الصعب على الإنسان أن يحبّ قامعه؟ أ ليس في هذه النوع من التربية انحرافا عن جوهر الذات الإلهية بما أنّ الله هو كذلك الرحمان الرحيم الغفور التوّاب العفوّ؟ لماذا تنسى هذه الصفات و تظلّ فقط نظريّة ولا تذكر إلا على مضض و افتعالا كما في قصّة عذاب القبر آنفة الذكر؟

(يتبع)

هناك 4 تعليقات:

ولد بيرسا يقول...

طبعا لأنّها أسهل و أنجع طريقة
فأضعف إنسان هو الإنسان الخائف، الجبان، الذي يرفض التّفكير خشية من العقاب.
و أكثر من هذا، عندما تكون ثقافة الخوف هذه مطعّمة بثقافة الطّمع....
عندها يكبّل العقل و يسكت المنطق و ينصّب الغباء ملكا على النّفوس...

غير معرف يقول...

لقد تعوّدناالخوف من خروج الشارع، من دخول المدرسة، من إجتياز الإمتحانات، من التعرّف بالآخر، من مقابلة المسؤول، من إكتساح عتبة الترشّح لنيل مكانة في المجتمع و العمل ثمّ في مرحلة ثانية الخوف من الزواج و الإنجاب، من تربية الأبناء، دراستهم، نجاحهم، فشلهم ثمّ قيما بعد عملهم، المساعدة علي بناء مستقبلهم ثمّ نعيد الكرّة و نخاف على أبنائهم و أحفادهم و هلمّا جرا، فالحياة في حدّ ذاتها...سلسلة من المخاوف و المتاعب ...فهي مرهقة و مضنية، فلن بزيدنا شيء خوفنا من الّله و خوفنا من جزائه يوم الأخرة ...إذ سيجدنا مثل النعاج لا حول و لا فوّة فنحن على أتمّ الإستعداد لنيل المزيد من القمع و الإضطهاد و الإنحناء....فكما قالها ذاك الممثّل...إنّها متعودة....و إن لم تكن متعوّدة...ستتعوّد.

غير معرف يقول...

En relisant cet article je me suis souvenu du " syndrome de Stockholm" ...c'etait bien une affection envers des kidnappeurs mais,c'etait bel et bien une maladie mentale.

Thé aux pignons يقول...

جميل هذا النص
كأني استرجع أيام اكتشفت صدفة شاعراً من الجاهلية... مطوي الأصول ؛)