الجمعة، 20 فبراير 2009

"سينيشيتا" أو الخيبة الجديدة للسينما التونسيّة


يروي الأديب الراحل طه حسين في "أيّامه" أنّه لمّا كان يدرس في فرنسا طًلب منه و من زملائه كتابة موضوع عن الحياة الحزبيّة في فرنسا بعد سقوط نابليون، فحاول إعداده كما ينبغي و قدّمه إلى الأستاذ. "و جاء يوم النقد فاستعرض الأستاذ ما قدّم إليه من الواجبات ناقدا ساخرا مندّدا متندّرا موبّخا بعض الطلاب أحيانا حتّى إذا ذكر اسم الفتى لم يزد على أن ألقى إليه واجبه معقّبا بهذه الجملة المرّة الّتي لم ينسها قطّ : "سطحيّ لا يستحقّ النقد". و كان لهذه الكلمة وقع لاذع في نفس الفتى أمضّه بقيّة يومه" و كيف لا و عمله لم يصل حتّى إلى مستوى أعمال باقي زملائه فيستحقّ السخريّة و التنديد و التندّر و التوبيخ... لعلّ الأستاذ كان قاسيا مع صاحبنا، و لكن بغضّ النظر عن هذه الحادثة، فإنّ الناقد قد يقف حائرا أمام غثاثة بعض الأعمال و تفاهتها و عدم جدّيتها و قد لا يجد عبارة تصلح لتقييمها غير تلك الّتي استعملها أستاذ صاحبنا: "سطحيّ لا يستحقّ النقد"... هذه العبارة قفزت إلى ذهني مباشرة بعد أن شاهدت "الشريط الحدث" "الّذي حطّم الأرقام القياسيّة في عدد المشاهدين"، شريط "سينيشيتا" أو "7 شارع الحبيب بورقيبة". و لكنّي مع ذلك سأكون أكرم من أستاذ عميد الأدب العربي و أمنح هذا الشريط شرفا لا يستحقّه، شرف النقد...

و لكي لا أتّهم بالسلبيّة و التجنّي على الإنتاج التونسي و الاستخفاف بالقدرات المحليّة، يجب أن أعترف بأنّ في الشريط نقطتين إيجابيّتين: أولاهما أنّه لم يحصل على دعم عمومي، و بذلك لم تذهب أموال الشعب هدرا و هو ما يشكر عليه مسؤولو وزارة الثقافة، إذ أنّهم كانوا ينبغي أن يحاسبوا على سوء التصرّف لو كانوا وافقوا على منح الدّعم لمثل هذا الشريط...أمّا ثانيتهما، فهي أنّ الدّعاية لهذا الشريط كانت ناجحة للغاية و تمثّل قفزة نوعيّة للأفلام التونسيّة في مجال التسويق، إذ رغم سطحيّة الفيلم، نجح منتجوه في دغدغة فضول عدد كبير من المواطنين الأبرياء المتعطّشين لمشاهدة انجاز تونسي راق و ذلك بالقضايا الّتي زُعم أنّه يطرحها، و قد كنت ممّن وقعوا في فخّ هذه الدّعاية، فرغم أنّي قرأت مقالا في صحيفة الصباح الأسبوع الماضي (أظنّه لمحسن الزغلامي) يصفه بأنّه شريط لا يقدّم قضايا تهمّ بحقّ المواطن التونسي، فإنّي لمّا قرأت قصّة الشريط كما أوردتها بعض الصحف و المواقع (مجموعة من الشبّان ترفض الرقابة شريطهم فيقومون بالسطو على بنك لتمويله) اعتبرت أنّ مجرّد طرح مثل هذه المشاكل يعتبر جرأة كبيرة و اتّهمت ظلما كاتب المقال بالتعسّف في نقده على الشريط قبل أن أكتشف أنّ ما قاله كان ملطّفا جدّا قياسا إلى مستوى الشريط.

يمكن اعتبار الشريط ممتازا...إلى حدود مرور ثلاث دقائق بعد بدايته، إذ يستنفد قضاياه كلّه في هذه المدّة و كأنّ صاحب العمل يقول "تحبّو عالقضايا؟ أهيّة القضايا ! ". رفض لجنة التمويل العمومي( و ليست لجنة الرقابة) لسيناريو الشبّان الثلاثة(رغم أنّه يتّضح بعد ذلك أنّ السيناريو لم يكتمل إذ يعدّل باستمرار) بتعلّة إثارته لقضايا التطرّف الديني يتمّ التعرّض إليه بسرعة طائرة نفّاثة دون الرجوع إليه بعد ذلك، إذ أنّ الشريط لم يوضع لكي يعالج قضايا، بل ليتاجر بقضايا...قضايا أقحمت إقحاما لتمكّن المخرج و صحبه من التفاخر بالعمل النضالي و البطولي و الاستشهادي الّذي قاموا به في سبيل الفنّ و من استغلال أولئك المساكين الّذين يعتقدون فعلا فيما قد قيل عن الشريط و جاؤوا يمنّون النفس بمشاهدة عمل تونسي جريء...لا يمكن أن أقتنع أنّ ثلاث دقائق في أوّل الفيلم و ملاحظة عابرة لا معنى لها حول اللون البنفسجي لغطاء السرير أو حول الرقم سبعة المكتوب فوق السيّارة يمكن أن يجعل منه ذا قضيّة...و تتأكّد النزعة التجاريّة من خلال تلك المشاهد الساخنة الّتي تتخلّل الشريط و الّتي لا علاقة لها من قريب أو من بعيد بموضوعه بل هي بادية الافتعال إلى حدود الفجاجة، و لعلّ من أنجز العمل أحسّ بأنّ شريطه مضجر للغاية(الشبّان يختبئون طيلة الوقت في شقّة منتظرين الفرج) و لا يمكن للمشاهد أن يتمّه فاختار أن يضع بعض "التوابل" الّتي قد تبقيه مكانه لبعض الوقت و هو ما يعكس قلّة احترام و استهانة بوعي المشاهدين. كان بالإمكان مثلا أن يكون هذا الشدّ عبر إضفاء نوع من التشويق من خلال عرض تفاصيل التخطيط للسرقة و تنفيذه عوض الاقتصار على تصوير شخص يجري حاملا كيسا !

أمّا في ما يخص أداء الممثّلين، فأقلّ ما يقال عنه أنّه لا يليق بممثّلين محترفين، بل أنّه لا يليق حتّى بالهواة...فجميعهم (كبارهم و صغارهم) دون استثناء أدّوا دورهم دون إتقان و بالغوا في حركاتهم. قد ألتمس للشبّان منهم عذرا في نقص تجربتهم و الضعف الفادح للسيناريو و الإخراج الّذي من المفروض أن يقوم بتوجيههم، و لكن ما عذر" نخبة ممثّلي تونس" و لماذا قبلوا تلطيخ سيرتهم الفنيّة بالمشاركة في شريط بهذا المستوى الهزيل؟ أ بلغ اليأس منهم درجة تجعلهم يقبلون بالمشاركة في أيّ عمل مهما كان مستواه؟ حتّى اللقطات الّتي من المفروض أن تثير الضحك كانت تهريجا تجاوزه حتّى مهرّجو السيرك، إذ أنّه كان بالدرجة الأولى إضحاكا بالحركات كان من الممكن أن تقبل لو كان الشريط موجّها للأطفال...

مشاهدة هذا الشريط أكّدت لي أنّنا ما زلنا في "العالم الثالث الفنّي" و هو ما لا يمكن أن يكون راجعا إلى ضعف الإمكانيات لأنّ تجارب أخرى (كسينما أميركا اللاتينيّة و أوروبا الشرقيّة و خاصة السينما الإيرانيّة) تمكّنت من بلوغ مستوى راق للغاية بميزانيات تقلّ عن تلك المخصّصة للأفلام التونسيّة، و يبقى السؤال المطروح هو: لماذا نعيش أزمة إبداع؟

الخميس، 12 فبراير 2009

الوطن الرحباني: أطلنتس الضائعة (2)


الوطن الرحباني كوطن رمزي


من "التهم" الّتي وجّهت إلى الرحابنة أنّهم تجاهلوا في الأعمال الّتي قدّموها طبيعة العلاقات الاجتماعيّة و السياسيّة القائمة في لبنان و رسموا لبلدهم صورة طوباويّة موغلة في المثاليّة للبنان "أخضر حلو"، وطن "للندى و الزنبق"، يغنّي "الميجانا" و يرقص "الدبكة" و ينشد للحبّ و السلام، و بعبارة أخرى، وجّهت للرّحابنة تهمة تخدير شعوبهم بالتغنّي عن وطن أشبه بـ "إرم" لا يوجد إلا في مخيّلتهم في حين كان لبنان على شفا الانفجار، و هو ما وقع سنة 1975 محطّما آمال شعب في وطن لم يوجد قطّ...أعتقد أنّ هذه النظرة تعكس خلطا غير مقبول بين الخيال و التخدير، فإذا كانت المخدّرات تغييبا سلبيّا يترجم هربا و استسلاما من مواجهة مشاكل الواقع، فإنّ الحلم هو خطوة ضروريّة لتجاوز مرارة الواقع و الارتقاء بالنفوس المتصارعة إلى ما فوق التناحر و الانشقاق، و كيف يقع الانعتاق من قسوة الواقع إن توقفنا عندها و غرقنا فيها و في وحشيّتها لم نتحدّث إلا عنها و لم نتخيّل صورة نريد أن يكون الواقع عليها و كما يقول توفيق الحكيم "الفاصل الوحيد بين الإنسان و الحيوان هو "الخيال".إنّ اليوم الّذي يستطيع فيه الحيوان أن يحيا دقيقة واحدة، خارج الواقع و المادة...اليوم الّذي يلجأ فيه الحيوان إلى طرق معنويّة غير مباشرة للوصول إلى غاياته...اليوم الّذي يستطيع فيه الحيوان أن يمضي الليل "يحلم" في غابته المقمرة بدلا من مطاردة الفريسة، هذا اليوم يكون آخر عهده بالحيوانيّة..."الحلم" هو العالم العلوي الّذي لا يدخله حيوان"...هذا ما حاول الرحابنة انجازه، أن يسموا باللبنانيين فوق ذلك الواقع الدموي الملفوف بالتمّزق و التشرذم إلى دعوة للمشاركة في حلم يكون فيه لبنان قطعة من السماء...و حتّى عندما انفجر لبنان، لم يزحزح الانفجار إيمانهم بحلمهم قيد أنملة، بل ظلّ راسخا كالطود، كإيمان الأنبياء...ففي أحلك الفترات الّتي عاشها لبنان كان صوت فيروز يأتي صادحا مؤكّدا أنّ لبنان "ما بيموت" و أنّه "راجع بأصوات البلابل"...و عندما كانت بيروت تدمّر، غنّت في ثقة "الإيمان الساطع" "ارجعي يا بيروت...ترجع الأيّام"...


هذا الإيمان بالوطن تجاوز صداه حدود لبنان فشارك في عيش الحلم الرحباني أفراد فرّقتهم حدود البلدان و الملل و لكن جمعهم صوت فيروز فكان لهم وطنا يجمعهم من دون باقي الأوطان...صوت لعلّ أصدق ما قيل فيه:" أغمض عينيك عندما تستمع إلى فيروز...إنّنا لا نستطيع أن نرى الملائكة، و لكن يحدث أحيانا أن نسمعها تغنّي"...صوت غنّى للبنان دون أن يشعرك بأنّ لبنان وطن بعيد عنك، لا تعنيك همومه بل تؤمن إذا استمعت إليه أنّه وطنك الّذي تنتمي إليه، لا سيما و نفس الصوت يغنّى لتونس و سوريا و مصر و العراق و غيرها من البلدان محطّما تلك الحدود الّتي لا توجد إلا في أذهان من رسموها...صوت غنّى للسيّد المسيح و السيّدة العذراء كما تغنّى بمدح النبيّ صلّى الله عليه و سلّم و بمكّة فكسر بذلك قيودا طالما كبّلت العقل عن الصراع بين الأديان...عندما تستمع لفيروز، فإنّك تحسّ أنّك تصلّي دون أن تكون مضطرّا لأن تركع أو تسجد أو أن تؤدّي أيّ طقس من الطقوس...فقط تحرّر جسدك من كلّ ما يقيّده و تستسلم لذلك الشعور بالخشوع الّذي يتملّكك و أنت تصغي لصوت آت من السماء...صوت قدّيسة...من يستمع إلى فيروز و يزعم أنّه لا يحسّ بروحه تعلو خفّاقة إلى الملأ الأعلى فاعلم إنّه إمّا عنيد مكابر أو أرضيّ شديد اللصوق بالثرى، قد سلبت روحه فلا يستطيع إلى السماء ارتفاعا...


موت الوطن


دخل الوطن الرحباني في حالة "موت سريري " منذ انفصال الأخوين رحباني عن فيروز و هو انفصال كان كما قال أحد الكتّاب "أشبه بزلزال و تصدّع فنّي..و ما حصل في الوجدان العربي كان أشبه ما يكون بنكسة جديدة و انحدار جديد لم يكن هذه المرّة سياسيّا و إنّما كان انحدارا فنيّا"...اتّجهت فيروز إلى العمل مع ابنها زياد فلم تعد "فيروزا" إذ فقد غناؤها لونه السماوي و نقاوته و قيمته، فزياد ، على نبوغه، اختار أن يكفر بالوطن الرحباني فجاء فنّه محمّلا بهموم الواقع و مشاكله و تعابيره فكانت فيروز زياد أرضيّة، شديدة البعد عن السماء و فقدت بذلك صفتها كـ"جارة للقمر" و "سفيرة للنجوم" و بذلك حرم زياد الإنسانيّة من صلة كانت تعصمه من الغرق في الماديّة، و لعلّه بذلك أكثر استحقاقا لأن يحاكم من أجل جرائم ضدّ الإنسانيّة من مجرمين مزعومين آخرين...

أمّا الأخوان رحباني فقد حاولا أن يتعاملا مع أصوات أخرى تواصل حمل رسالتهم و لكن أنّى يجود الزمان بقدّيستين؟ فقد جاءت أعمالهما بعد فيروز محاولة باهتة لإنعاش جسد هامد...ثمّ مات عاصي سنة 1986 و بقي منصور وحده وفيّا لتقاليد وطن بناه بيديه و رفض أن يتخلّى عنه فبقي في ذلك الوطن نفَس يتردّد و يعيش على أمل واه بالعودة يوما... حتّى رحل منصور و برحيله أسدل الستار نهائيّا على وطن...هوى كأطلنتس و ابتلعته مياه المحيط و طمست آثاره...إلا من ذكرى مضيئة لا تزال تخفق بها قلوب كلّ من كانوا مواطنين في ذلك الوطن الكبير.



الجمعة، 30 يناير 2009

الوطن الرحباني: أطلنتس الضائعة (1)

من المقولات الشهيرة لأمادو همباتي با: "في إفريقيا، إذا مات شيخ فإنّ مكتبة تحترق"، فالتراث في تلك المنطقة من العالم بقي في جزء كبير منه شفويا محفوظا في صدور الرّجال، لم يخطّ في صفحات الكتب، فإذا مات أحدهم فإنّ جزء من التراث يضيع إلى الأبد فالشيوخ هناك يقومون بنقله من جيل إلى جيل، و هو دور هام جدّا، لا شكّ في ذلك، فالتراث جزء من هويّة أيّ وطن من الأوطان، و بالتالي، فإذا مات شيخ هناك فإنّ جزء من الوطن يموت معه...و لكن في مناطق أخرى من العالم، هناك أشخاص إذا ماتوا تموت معهم أوطان بكاملها...

مات منصور رحباني، لحق بشقيقه عاصي إلى السماء الّتي كانا لها لسانا ردحا من الدهر و أصبح "الأخوان رحباني" صفحة تقرأ في تاريخ الفنّ...رحل آخر من تبقّى من أعمدة "الوطن الرحباني"، فغمرت مياه المحيط العاتية هذا الوطن الّذي اختفى، تماما كجزيرة أطلنتس الأسطوريّة الضائعة إلى الأبد...وطن كان شهابا مارا، و لكن شديد الشعاع...هو وطن طمست معالمه منذ أكثر من ربع قرن، لكن ظلّ منصور حاملا رايته طيلة تلك المدّة حتّى لبّى داعي الرحيل، و لعلّه كان يردّد في نفسه قبل أن يركب السفينة:"اللي بدّو يصير ما عاد يهم، أنا لعبت الدور و الدور المهم"، و كيف لا و هو قد ساهم في تكوين وطن رحباني بمعناه الفنّي و الرمزي.


الوطن الرحباني كوطن فنّي


لو شئنا اعتماد التعابير الشائعة، لتحدّثنا عن مدرسة رحبانيّة...لكن هذا المصطلح غير كاف للتعبير عن إضافة الرحابنة للموسيقى العربيّة إذ أنّهم لم يكونوا مجرّد اتّجاه له بعض الخصائص في إطار نموذج سائد بل كان فنّهم قلبا لجميع المعايير و القوالب الّتي سبقتهم حتّى أنّه يمكن الحديث عن فنّ "قبل رحباني" و فنّ "بعد رحباني". لقد كان الرحابنة كعلّيسة الّتي غادرت وطنها لتؤسّس في مكان بعيد وطنا جديدا...و يمكن القول أنّ الرحابنة قدّموا التجربة الوحيدة الّتي يمكن أن تعتبر مشروعا فنّيّا متكاملا..."وطنا فنيّا".


قبل الرّحابنة، كان هناك نوع من النمط الّذي يحكم الأغنية العربية و الأغنية المثال في إطار هذا النمط هي أغنية باللهجة المصريّة(قد يكون ذلك راجعا لكون مصر كانت البلد الأكثر حركيّة على المستوى الثقافي في الوطن العربي و هو ما تعزّز مع دور الشوام المهاجرين إليها أيّام الحكم العثماني إضافة إلى ما يمكن تسميته بنزعة المركزيّة المصريّة الّتي تريد أن تجعل من مصر محور كلّ ما يقع من أمر في أيّ مكان من البلاد العربيّة، و هي نزعة كان لها فيما أرى أثر سلبي خصوصا على المستوى السياسي) ،و هي أغنية تدوم لمدّة طويلة إذ أنّ أغنية لا تتجوز بضع دقائق كانت تعتبر هذرا و في أحسن الحالات أغنية غير جادّة ، و هي كلماتها تدور حول نفس المعاني (الحبّ و الهجر و الرغبة في الوصال...) ألحانها لم توضع إلا لإبراز القدرات الصوتيّة لمؤدّيها، يتكرّر فيها المقطع الواحد عدّة مرّات لتمكين المستمعين من "الطرب" و بالجملة كانت الأغنية المثال هي أغنية التخدير...هذا النمط قام الرحابنة بهدمه من أساسه.


استعمل الرحابنة في أغلب أغانيهم لهجة لبنانيّة تنتقى فيها الكلمة كما تنتقى اللآلئ في عقد يهدى لملكة، أو كما قيل في كلام الإمام الشافعي "ما سمعته تكلم بكلمة إلا اعتبرها المعتبر لا يجد كلمة في العربية أحسن منها"...هي كلمات غاية في البساطة، يفهمها الجميع حتّى من غير اللبنانيين بعيدة عن التعقيد و المتاهات الفكريّة (و هنا أتحدّث عن الأعمال الرحبانيّة "الخالصة"، ممّا يستثني الأعمال الّتي كتبها غير الرحابنة، لا سيما سعيد عقل رائد الرمزيّة)...و هي مع ذلك بعيدة عن كل إسفاف و ابتذال بل أنّها ببساطتها تخلق عالما أقرب إلى الخيال (و هو ما سيتم التطرّق إليه في الجزء الثاني)...تقترب لغة الرحابنة من الفصحى و تدانيها حتّى تكاد تلامسها، و لعلّها بذلك ترسم مثالا لعربيّة مبسّطة أو عاميّة مهذّبة تقع في منتصف الطريق بين العاميّة المبتذلة و الفصحى المتقعّرة...

أمّا عن مدّة أغاني الرحابنة، فهي قصيرة نسبيّا إذ لا يتجاوز أطولها الربع ساعة و عادة ما تكون في حدود ثلاث أو أربع دقائق و أحيانا تنزل إلى دقيقة و نيف، ذلك أنّ الرحابنة أعداء التمطيط الاصطناعي و الممجوج و المملّ لمقطع بعينه فغاية الأغنية ليس الإطراب في حدّ ذاته، و هو ما كان سهل التحقيق في ظلّ وجود صوت كصوت فيروز(و ربّما استسلم الرحابنة لهذا الإغراء في بعض الأغنيات الـ "شبه طربيّة" كـ "غنّيت مكّة")، بل أنّ الهدف هو إيصال رسالة في الوقت الّذي يستوجبه ذلك، فلا حاجة إلى تكرار نفس الكلمات لمدّة ساعة إذا كان المعنى يدخل إلى قلب المتلقّي في دقيقة (و ربّما يضيق به ذرعا بعد ذلك)...و لعلّ أفضل مثال على ذلك أغنية "بيقولو صغيّر بلدي" الّتي تدوم دقيقة و أربعا و عشرين ثانية و مع ذلك فليست بحاجة إلى أيّ ثانية إضافيّة ليصل المعنى...

و في ما يخصّ الألحان، بعث الرحابنة التراث اللبناني خلقا جديدا فخرجوا به من إطار الفلكلور الميّت الّذي يغنّيه الشيوخ متحسّرين على أيّام زمان و استلهموه، على اختلاف أشكاله(الحضري و الريفي و حتّى البدوي) في عدد كبير من الأغاني، حتّى أصبح من الصعب التمييز في أغلب الأحيان بين الأغنية التراثيّة و الأغنية الرحبانيّة...أصبح التراث مع الرحابنة نابضا عامرا بالحياة و أصبحت أغاني الرحابنة تراثا يغنّي "الدبكة" و "الميجانا"...و مع ذلك، لم ينغلق الرحابنة في حدود وطنهم و استفادوا من التجارب السابقة و حتّى المعاصرة لهم إذ تعاملوا مثلا مع محمّد عبد الوهّاب فقاموا بإعادة توزيع بعض أغانيه (كـ "يا جارة الوادي") و غنّت فيروز من ألحانه بعض أروع أغانيها ("اسهار" و "سكن الليل") كما أنّهم انفتحوا على الموسيقى الغربيّة و استعملوا آلاتها في بعض الأغنيات دون أن يظهر أثر للافتعال في هذا الإقحام (كما في أغنية "يا نسيم الدّجى" و "كنّا نتلاقى")...

و من مميّزات الوطن الرحباني تجربة المسرحيات الغنائية و هي تجربة فريدة، إذ لم تكن مسرحيّات الرحابنة مغنّاة من أوّلها إلى آخرها على غرار مسرحيات شوقي و لم تكن مسرحيّات "نثريّة" بل كانت مزيجا بين هذين النموذجين إذ يختلط السرد بالحوار و الغناء في إطار عجائبي تارة (كمسرحيّة "جسر القمر")، واقعي تارة أخر (كـ "لولو") و تاريخي طورا آخر (كـ"أيّام فخر الدّين")...


و زيادة على هذه الخصائص الّتي تهمّ شكل الفنّ الرحباني، قفز الرحابنة بمضمون تجربتهم إلى المستوى الّذي يخوّل الحديث عن وطن رحباني بالمعنى الرمزي للكلمة.
(يتبع)