الخميس، 11 مايو 2023

قطّة المكتب

لمّا كنت أدخل إلى المكتب، اعترضتني تلك القطّة التي تعتبر كلّ المبنى بيتها. لطالما جالت بين الغرف بكامل الحريّة، ودلّلها الجميع تقريبا إذ كانوا يداعبونها ويقتنون لها من الأكل ما يشبعها. انتفخ بطنها في المدّة الأخيرة، وظننّا أنّ ذلك ربّما كان من عواقب التخمة. إلّا أنّها فوجئنا به فيما بعد وهي تضع أربع قطيطات. هرعنا جميعا وقتها لنشاهدها وهي تحتضن صغارها. وهيّء لها البعض مكانا في الخارج يكون لعائلتها مأوى.
لعلّي كنت أقلّ الناس احتفاء بها. ربّما لأنّي أنحدر من عائلة كلّ فتياتها يخشين القطط، وذلك ما دعاني إلى اتّخاذ موقف متضامن معهنّ، وإن بشكل غير واع. ربمّا يعود ذلك أيضا لأنّ لونها المائل إلى الخضرة كان يبدو لي منذ صغري، بالخطوط الداكنة التي فوقه، لونا قبيحا. كان وجودها في المكتب مزعجا لي إذ أنّها كانت تقتحمه متى شاء لها وتلتصق بالأرجل مصدرة قرقرة غريبة. دخلت مرّة مكتبي بعيد أن أنجبت، وجاءت تتمسّح على أقدامي. كنت شديد الانشغال بما أعمل عليه وغير مهتمّ بالمرّة بما تريده، فتجاهلتها تماما. بقيت هي برهة في ركن خفيّ عليّ ثم انصرفت. بعد ثوان، غزت رائحة كريهة أنفي. نظرت فرأيت بركة من السوائل والشعر وسط المكان الّذي كانت فيه. اشتدّ تقزّزي وغادرت المكان على الفور. صرت شديد النفور منها. مرّة كنت أهمّ بالدخول لمّا وجدتها وهي تحاول إيجاد منفذ إلى الداخل. اجتهدتُ حينها لكي أغلق الباب في وجهها، وكأنني أنتقم منها لفعلتها الشنيعة منذ أيّام.
لكنّها لمّا اعترضتني هذه المرّة لم تبد خوفا. وقفت أمام الباب، وتبادلنا النظرات. أدارت جسمها قليلا لكي يواجههني شقهّا الأيسر. كان المنطقة المحاذية للبطن خالية تماما من الشعر وفيها ما يُشبه آثار الجرح. كأنّ شيئا ما حاول أن يثقب جنبها نحو الخارج تاركا أثرا من بعض شعرات سوداء. لا أدري إن كان ناجما عن الولادة أو أصيبت به بعد ذلك أو كان بفعل فاعل. في كلّ الحالات، كان منظرا مؤلما. حاولت إغماض عيني عنه، ودخلت المبنى دون أن تُحوّل عنّي نظراتها، وكأنّها تشكو إليّ.
ظلّ المشهد يلاحقني كامل اليوم، مصحوبا بشعور بالغثيان. ما إن استغرق في أيّ شيء، حتّى تنفتح في خيالي نافذة عليه. كنت أحاول أن أطرده من رأسي. لا تنقصني هذه القطّة الحمقاء حتّى تضاف إلى جملة مشاغلي. لمّا بلغ اليوم نهايته، وجدتها تنتظرني أمام الباب. ألقت عليّ نفس النظرة، وقامت بنفس الحركة لتريني جرحها. كدت أصرخ فيها: ماذا تريدين منّي؟ فهمت أنّك متألّمة وأنا أرثي لحالك، أيّتها القبيحة البائسة، لكن ما عساني أفعل لك؟ لم تمهلني هي، وانسلّت مبتعدة عنّي.
حتّى في الليل، وجدت طيفها يهاجمني دون سابق إنذار. كنت أقرأ كتابا، من المفروض أنّه بعيد كلّ البعد عن القطط وعوالمها، كانت فيه فقرة عن رمزيّة القطط في مختلف الثقافات: كيف قدّسها المصريون وجعلوا من آلهتهم ما له رأس قطّة، وكيف تشاءم منها الغربيون وجعلوا من حيازة قطّة دليلا على ممارسة ضروب من السحر.
لا أدري إن كانت قطّة المكتب رمزا إلهيا أو نذير شؤم. كلّ ما أرجوه منها أن تعيد إليّ ما سرقته من نفسي.

الأربعاء، 17 أغسطس 2022

عندما جعلنا من "عرابنية" مطربة تونس الأولى

 

tunisiaslum.com

في أيّام مراهقتي، كنت مولعا بقراءة الجرائد. كان لكلّ يوم من الأسبوع جريدته الخاصّة به، وكان يوم الخميس مخصّصا لجريدة "الأخبار". كنت أتقصّى منها خاصة أخبار الرياضة، كما كانت تعجبني منها بعض المقالات ذات الطابع النقدي والساخر، ومنها ركن "عيون على التلفزيون" لنجيب الخويلدي.

على أنّ هذا الركن أثار حنقي ذات مرّة. كتب صاحبه طويلا في مدح أمينة فاخت، متحسّرا على أنّها لم تجد الصيت الّذي تستحقّه في العالم العربي في حين أنّ فنّانات محدودات المواهب نجحن في ذلك، مثل ماجدة الرّومي! ذهلت، وأنا الّذي لم أتجاوز السبعة عشر ربيعا آنذاك، بهذه المقارنة وقد كنت حينها في أوج افتتاني بالفنّانة اللبنانية. لم يخطر ببالي قطّ أنّ هناك من يجرؤ أن يقرن أمينة بفنّانة لها منجز فنّي مثل ذلك الّذي لماجدة الرومي، فما بالك بتفضيلها عليها! حبّرت رسالة طويلة إلى ذلك الصحفي ملخّصها فيما أذكر أنّ الأصوات الجميلة موجودة على قارعة الطريق، ولكن ما يصنع الفرق بين مغنّ وآخر هو حجم المشروع الفنّي الّذي يحمله، وبناء على هذا المقياس، فإنّ المقارنة بين مدرسة في تخيّر الكلمات وانتقاء الألحان بما يضمن دائما مستوى عاليا من الرقيّ وبين من يعيش على العرابن ولا يُنتج شيئا ليس إلّا ضربا من الخطل.

لم أرسل ما كتبته، ولعلّي كنت أشكّ في أنّه يمكن أن يغيّر شيئا. والحقيقة أنّني لم أذكر من أمر رسالتي تلك شيئا إلى حدود الآونة الأخيرة، لمّا أحيت أمينة فاخت حفلا بقفصة أثار (كما تقعل دائما) جدلا حول لباسها وحركاتها. قرأت الكثيرين ممّن يدافع عنها وعن مكانتها، وأنّ ما تفعله ليس سوى "هبال" محبّب يقبل منها في جميع الحالات باعتبارها "فنّانة كبيرة".

ما الّذي قدّمته أمينة إلى الفنّ لتستحقّ هذه المكانة؟ إن نزعنا من رصيدها الأغاني الّتي أخذتها من التراث، وتلك التي سرقتها من فنّانين تونسيين أو اقترضتها من فنّانين مشارقة، فما الّذي يبقى منه؟ حتما لا شيء ممّا يمكن أن يصنع "فنّانة كبيرة" أو حتّى فنّانة "حاف". أفهم أن يُعجب أحدهم بصوتها، أو أن تستثيره إيحاءاتها، وهو ما يمكن أن يجده في مغنيّة في كباريه، أمّا أن يزعم أكثر من ذلك، فقد ضلّ ضلالا بعيدا.

تعبّر أمينة فاخت عن عقليّة مكرّسة لدينا، تقدّس الكسل وتركن إلى التواكل وتبحث عن النجاح من أرخص أسبابه. وجدت لديها كنزا في صوتها الجميل، فلم تبحث عن استثماره وإنّما جعلته لها ريعا يدرّ عليها من مداخيل المهرجانات والأعراس ما يغنيها عن الاجتهاد والإنتاج، لا سيّما وقد "حرحرت" ذلك باللعب على إثارة الغرائز. لم يجعلها ذلك تنجح فحسب، بل ها هي منذ عشرين سنة أو أكثر وبلا إنتاج يُذكر تُعتبر لدى الكثيرين "مطربة تونس الأولى". لا أرى في ذلك سوى غوصنا في أعماق بئر لا قاع لها من الرّداءة.


الأحد، 8 أغسطس 2021

عام ‏تحت ‏الشمس

في اللحظة التي جاء فيها زيد إلى هذا العالم، كنت أستمع إلى أغنية "ها هي الشمس تأتي"، وأخال أنّ هناك شمسا أشرقت فعلا في حياتي.
منذ الأسابيع الأولى، صرت وزيدا وأمّه نقضّي عدّة ليال معا. كنت متعوّدا على السهر لساعات متأخرة، ولكن أصبح للسهر مذاق آخر. لم تعد هواجسي أو رغبتي في إضاعة الوقت ما تبقيني مستيقظا، بل منادمتي للحياة وهي تخطو خطواتها الأولى وتكبر ليلة بعد ليلة.
منذ أوّل أيّامه، كان زيد طفلا بسّاما. صحيح أنّ الطب يقول أنّه لا يبتسم تفاعلا قبل أربعين يوما، وصحيح أن الثقافة الشعبية تقول أنه في ذلك العمر  تضحكه الملائكة، لكن شيئا في قلبي كان يخبرني إنه إنما كان يبتسم لي ولأمه لأنه يعرفنا من قبل.
لعلّ ذلك كان من أوّل ما شكّل علامات طفل استثنائي. من الجائز للغاية أن يكون يهيّأ إليّ ما يهيّأ لكل أب من طفله، لكنّ زيدا ما انفكّ يؤكّد ذلك. كنت في مرحلتي البيتلزية وقتها، وكنت أسمعه معي ما تيسّر من أغاني البيتلز. في شهره الرابع، بدأت ألاحظ أنه يتفاعل مع بعض الأغنيات بشكل خاص. وبمرور الوقت، بدأت أكتشف أنّ الرجل فعلا صار له ذوق، فيفضّل أغنيات على أخرى. أرى كذلك دهشته المبهرة وهو يقف فاغر الفم أمام لوحة ما. هل ترى فنّانا يكبر فيه؟
على غرار ما قال أنسي الحاج: في حياتنا لا مكان لزيدون... كلّ المكان هو لزيدون وحده. افتكّ هذا الصبيّ الوسيم مكانه في حياتنا بسرعة كبيرة. كلّ الكلام عنه. كلّ الانفعالات حوله. كلّ الدار له. لا شيء أحبّ إلى قلبي من أن أراه ومعالم شخصيته تترسخ شيئا ما كلّما سار على درب الحياة يوما.
لطالما كان لي توجّس من الأبوة لعظم مسؤولياتها، ولكنني مع زيد أراني أنغمس فيها ضاربا عرض الحائط بكلّ الريبيات. زيدون هو الصخرة التي يتكسّر عليه كلّ ذلك التمركز الرهيب على الذات، وأراني لمّا صرت أبا، أني في طريقي لأصير إنسانا أفضل...

الجمعة، 9 يوليو 2021

ما ‏كنتُ ‏من ‏الثائرين... ‏مسارات ‏شخصية ‏في ‏عشرية ‏الثورة ‏(الجزء ‏الثالث)

 


مسألة استمراريّة الدولة

رغم ارتباك محمد الغنوشي، ساندت بقاءه على رأس الحكومة، لسبب بسيط: استمرارية الدولة. في ذلك الظرف العصيب، لم يكن هناك أيّ شيء واضح: بدا أنّ الدولة تلفظ كل مشروعية لها وكنت أفزع من أن نشهد، ولو لمدة قصيرة، اضمحلالها فنسير إلى ما يشبه السيناريو الصومالي. كان الهاجس الذي يسيطر عليّ وقتها كيف ننهي تلك المرحلة بسلام، ثم ستأتي بقية ترتيبات إرساء نظام ديمقراطي، وعلى رأسها الانتخابات.

لكن لم يكن مثل هذا الرأي يحظى بشعبية كبيرة آنذاك. قام اعتصام القصبة 1 بالأساس على المطالبة برحيل كل رموز النظام السابق، وفي الحقيقة، كان الغنوشي استبقى عددا كبيرا منهم في حكومته الأولى بعد 14 جانفي. بالنسبة لي، كان وجود أحمد نجيب الشابي والمرحوم أحمد إبراهيم في الحكومة أحد أهم الضمانات، بما أنهما كانا دائما في صفّ معارضة النظام. لم أستسغ رفض مصطفى بن جعفر المشاركة في الحكومة، ويبدو لي الآن أنّ تصدّع العائلة الديمقراطية الاجتماعية بدأ وقتها، بين اتّجاه يتبنّى مقاربة تدرّجية لا تقطع فورا مع الماضي، واتّجاه يبني مقاربته على مسايرة الشارع حتى وإن لم تعرف عنه الراديكالية سابقا.

في تلك الفترة شديدة التشنّج، كتبت ما أعتبره أجرأ مقالاتي وكان بعنوان "حتى لا تنحرف الثورة" وكان مضادا للرؤى الاستئصالية السائدة آنذاك دعوت فيه، بعد الإقرار بكلّ الفساد والانحرافات الّتي عرفها التجمع الدستوري الديمقراطي، إلى التريّث قبل الحكم على محمد الغنوشي الذي لم يعرف عنه ضلوع في الفساد، وينطبق ذلك على جميع الكفاءات التي لم يكن لها خيار فعلا في الانضمام إلى الحزب-الدولة.

لو عدت إلى تلك اللحظة، لست متأكدا أني كنت لأكتب ذلك المقال. لم أعد أؤمن بدولة لا تحترم مواطنيها، ولا يبدو أنها تسير أبدا في ذلك الاتّجاه. كانت اللحظة مناسبة لإعادة تأسيس حقيقي للعلاقة بين الدولة والمواطن، لا التأسيس الشكلاني القانوني الذي حدث مع المجلس الوطني التأسيسي.

الأربعاء، 7 يوليو 2021

ما ‏كنتُ ‏من ‏الثائرين... ‏مسارات ‏شخصية ‏في ‏عشرية ‏الثورة ‏(الجزء ‏الثاني)

صورة لي في حراسة الحومة نشرت بمجلة l'humanité dimanche يوم 20جانفي 2011

يوم 14 جانفي
مساء 14 جانفي، بقيت كالكثيرين أتابع الأخبار. لا طبعا عن طريقها الرسمي، الذي لم يكن يعني شيئا، وإنما من خلال الفايسبوك والقنوات الإخبارية العربية. لمّا جاء الخبر عن فرار بن علي، لم أشعر بالفرحة قدر ما أصابني الوجوم. لماذا هرب؟ (ولا أعرف إلى الآن جوابا عن ذلك) هل ينوي العودة؟ لمن ترك البلاد؟ فيديو عبد الناصر العويني وهو يصرخ في شارع الحبيب بورقيبة أثّر فيّ كثيرا، لكن لم يكن من الممكن الوقوف لاستيعاب تلك اللحظة، لأنّ الأحداث ستتسارع بشكل مجنون منذ ذلك الحين. جاء محمد الغنوشي ليعلن تسلّمه الرئاسة بصفة وقتية وفق الفصل 56 من الدستور. لم أفهم، وأنا القانونجي الجديد، ما يحدث. هذا الفصل كان يعني أنّ بن علي فوّضه لذلك، وهو ما لم يكن بطبيعة الحال أمرا مقبولا. كان ترقيعا أخرق لفرار الرئيس، وفي حقيقة الأمر، لم يكن محمد الغنوشي رجل سياسة وكان أبعد الناس أن يكون رجل المرحلة. المهمّ أن الأمر وقع تداركه صباح الغد بإعلان المجلس الدستوري شغور منصب الرئاسة بشكل دائم وتولي فؤاد المبزّع مهامها. لكن كانت تلك الليلة كانت من أصعب الفترات في تاريخ تونس المعاصر. هي ليلة غابت فيها الدولة، وأخذ المواطنون بزمام الأمور. مع ما كان يبلغنا من أخبار عن عمليات النهب والتدمير وتضخم الإشاعات عن القناصة، تولّى الشعب زمام أمنه بيديه. كنت، مسلّحا بزلاط، واحدا من آلاف المواطنين الذين نزلوا إلى الشوارع لحماية أحيائهم. تلك اللحظة كانت من أكثر ما منحني أملا في الشعب التونسي، فعندما توارى جهاز الأمن الرسمي صاحب اليد الطولى في الممارسات القمعية، برهن التونسيون عموما عن روح  تضامنية وتنظيمية عالية. بدا وكأنّ قبضة الدولة هي ما كانت تخنق هذه الروح. من المؤسف أنه لم يقع البناء على هذه اللحظة، سوى ما كان من ممارسات شعبوية انحرافية كرابطات حماية الثورة. ربما لا تكون أفكار قيس سعيّد في البناء من الأسفل سوى محاولة لاستعادة نقاء تلك اللحظة.

الاثنين، 29 مارس 2021

الطريق نحو النهاية



مُرّي على بابي بذكرى مَوْلِدي

كي تُنشدي أخبار من لم يَخلُدِ

لم يبقَ منه سوى الذي تحكي شفا

هُكِ عَنه سرْدًا دون أيّ تردّدِ

ما كُنتُهُ يوما، لعلّك كُنْتِ قد

أطلَلتِ خلفَ سَحَابِيَ المُتَلبِّدِ

فرأيْتِ شيئا، ثمّ حِكْتِ غِلالة

مِنْ حوله من وَشْيِكِ المُتَفرِّد

تلك الأساطير الّتي تُضحي منا

زلنا السعيدةَ بعدَ طُول تشرُّد

قُصِّي إذا ما غِبْتُ كلّ رواية

ما قد شَهِدْتِ وكُلَّ ما لم تَشْهَدي

كمْ كان يَحْلو وَقْعُها لو أنّني

قبلَ الغيابِ حظيتُ منكِ بموعد

لا فَرْقَ عندي بين صَمْتِكِ بعدها

أو أن أصير لديكِ ثالثَ فَرْقَدِ

ما كُنتُ- لمّا كُنْتُ- غيْرَ ترحُّلٍ

مِن غُربَةٍ لِمَثيلها المُتجدِّد

عَبثًا ألاحِقُ في السَّدِيمِ منارةً

ما الفرقُ حين العتمِ إن لم أرْشُدِ؟

قد كُنْتُ أرقُب مبدأً لنُبوِّتي

كم كنتُ أرْسُفُ في جنونِ تَفَرُّدي

وكأنَّ كُلَّ الكون حولي دائرٌ

أنا قُطبُهُ، لا شأنَ إلّا سُؤدَدي

لم أخْشَ إلاّ نظرَةً نحْوَ المرا

يا لحْظةً فيها يكون تجمُّدي

لمّا أراني، ويحَ نفسي، بغتَةً

مُتَصاغرا أحكي انحناء السُجَّدِ

أغْدو على الأفكار أغْرِفُ حَفْنةً

لا أعرف الأضدادَ في ملء اليد

كُلُّ اليَقينِ على الرّصيف مُبَعْثَرٌ

وسط الطريق أظلُّ مَحْضَ ترَّدُد

ما نِمتُ يوْمًا والعُيونُ قريرةٌ

ما تمّ لي دفءٌ على مُتَوَسَّد

في كُلّ زاويةٍ أرى لحقيقتي

شبحا يؤول إلى مَصيرِ تَبَدُّد

جمَّعتُ شِعْرًا فيه بعضُ تَنَهُدي

أضرَمْتُ فيه النار دون تَعَمُّد

نَفْثٌ لمصدورٍ تطاول داؤه

مِن فيه يخرُجُ كالحميم الأسود

أضْغاثُ أحلامٍ جَهِلْتُ نقيعها

حتّى سرَتْ في عُمْرِيَ المُتمدّد

كانت وكان مثيلها كُثُرًا إذا

ما احتاجت الأنفاسُ بعضَ تَزَوُّد

هي والنّقاء وكلّ ما يرضي العبا

د وما وراءَ شُجونِ كُلِّ مُسهَّد

الكُلُّ أصنامٌ سَعيْتُ لرِفْدِها

وجميعها بَرْقُ الزّمان السرمدي

ما بينها أفنيْتُ روحي ذاكرا

أرجو الغنيمة من طويلِ تزهُّدي

لم أحيَ يوْمًا مثلما تبغي الحيا

ة ولا وجدتُ العيشَ في مثوى غَدي

الموت أمنيةٌ يعزُّ منالها

إذ لم تكن دُنياي غير تَجَلُّد

في النّاس كُنْتُ وحدي أمّةً أو هكذا

كان الهوى في قَوْلَةٍ مِن عُوَّدي

ما زلتُ في نفسي أحاور وحدتي

حتّى هدمتُ بفأسِ شكّي معبدي

فرأيتُ شيئا في السّماء جهِلتُهُ

لوناً نبا عن كلّ قوْلٍ مُسْنَدِ

ما صار يعرِفُه سواي من الورى

هو ظِلُّ ما أنا كُنْتُ فيه بأوحَدِ

قد خُلِّطَتْ خُطُواتُ عُمْري كلها

حتّى تبدّت لي بِلَوْنٍ مُفْرَد

فيه الضّلال تفنّنٌ في مزجه

أمَّا الهدى مُتكحِّلٌ بتَمَرّد

وإذا الحياة قصيدة لا تنتهي

نَغَمٌ يحلّ على لسان المُنشِدِ

 


الثلاثاء، 16 فبراير 2021

قصّتي مع الشعر (الجزء السادس)


ارتبط الشعر عندي عموما بالسواد. أكتب الشعر غالبا عندما أكون مكتئبا أو قلقا أو غاضبا، أو على غير ذلك من المشاعر السلبيّة. أو لم يقل ابن قتيبة: "الشعر نكد بابه الشرّ، فإذا دخل في باب الخير ضعف"؟ حتى عناوين دواويني تعكس ذلك: "ذهب الزمان الضائع" و"ماليخوليا". قد أكتب أحيانا بدافع من شعور إيجابي، لكن لا بدّ أن تخالطه جرعة من السلبية لكي يتحوّل شعرا. يمكن أن أكتب عن الحبّ مثلا، ولكن ينبغي أن يكون ذلك ممزوجا بخوف أو حيرة أو شكّ أو فراق. أمّا عندما أكون سعيدا تماما، فلا أكتب. الحياة السعيدة نعيشها ولا نكتبها كما يقول توفيق الحكيم.

بهذا المعنى، كان الشعر عذابا... كتلة داكنة عظيمة الحجم تسكن صدري، أنفث منها الشيء بعد الشيء كي أتنفس قليلا، لكنها ما تلبث أن تعود إلى حجمها الأوّل وتتعاظم جاثمة فوقي. ولعلّي إذ كنت أخرجها منّي كنت أطمع في أن تتحوّل بشكل سحري إلى جسر يقرّبني ولو قليلا من عالم الناس هذا. لم يحصل هذا قطّ. عندما كتبت نصّ "لا تلمسيني"، كنت أصرخ في وجوه من حولي: أنا وحيد بشكل قاتل. لم يسمعني أحد. وكان ذلك حال جميع نصوصي حتى ما كان منها صريحا بشكل فج كـ"يومان بعد موتي". في النهاية، يئست من أيّ تواصل. صرت أحيانا أتسلى، عابثا، ببثّ رسائل مشفّرة في بعض القصائد. في جميع الأحوال، لن يُفهم شيء! بهذا المعنى، خانني الشعر...
لكنّني خنت الشعر كذلك. في مراهقتي، كانت صورة الشاعر المثالية عندي هي سيرانو دي برجراك. هو "الشاعر" في ترجمة المنفلوطي. لم أحبّذ كثيرا غرامه بروكسان (لم أرها تستحقّه) لكن فيما عدا ذلك، كان نموذج من يعيش حياته بشعريّة في كل لحظة. يعيش كل حالة بأقصى ما يكون: هو أشجع الجنود وقت الحرب وأهزل الناس وقت العبث. وخير ما فيه: أنه كان لا يبالي عواقب الشيء ما دام يعتقد صوابه، فلا يكبر في عينه عظيم من القوم إن رام به سخرية، ولا يخشى الموت إن كان في سبيل ما يؤمن به. حاولت أن أحذو حذوه في تلك السنوات المليئة بالمثاليات، ولكن ما أسرع أن سرقتني الحياة. كم خنت سيرانو، حتى لم يبق لي منه إلا أنفه. ما أكثر ما أكْرَهُ على ما لست مقتنعا به، ولا أجابهه بغير تلك السلبية العدوانية التي أبغضها من نفسي والتي لا تزيد "السدّ" إلا تعاظما.
لست شاعرا في حياتي، وكأنني أفصل ما أعيش عمّا أكتب، ويا له من انفصام عظيم! في حفل توقيع مجموعتي الأولى، أخذ أبي الكلمة ليقول أنّه كان يتمنّى لو كان كاتبا، ولكنّه سعيد، إذ حرم ذلك، أن يرى حلمه يتجسّد من خلال ابنه. أثّرت فيّ تلك الكلمة. أبي شاعر في حياته إذ يعيشها، من دون أن يحتاج إلى كتابة الشعر. أمّا أنا، فقد أوتيت القدرة على كتابة الشعر دون أن أحياه. 
لعلّ ذلك كان مما يجعلني أتجنّب أن أعرّف نفسي في مختلف المحافل كشاعر، إلا نادرا. أذكر أنني حين أشرفت على مشروع "أكاديمية الشعراء"، لم يعرف المكوّنون والمشاركون أنني أكتب الشعر إلا في الأيّام الأخيرة من المشروع، عندما سوّلت لي نفسي أن أقرأ قصيدة. أخالهم دهشوا جميعهم: أنّى لهذا الفتى الصارم، "المربّع جدّا" (ترجمة حرفية) أن يكون من الشعراء وليس له من جنونهم شيء؟
أخالني أحتاج إلى قدر كبير من الجنون لكي تكون لي حياة، كما ينبغي أن تكون.