الثلاثاء، 31 مارس 2020

ألبوم "ببالي" لفيروز: هايدي مش غنية...



في سبتمبر 2017، صدر ألبوم "ببالي" لفيروز، وهو آخر ألبوماتها إلى حد الآن. تضمّن الألبوم عشر أغان من كلمات ريما رحباني. جميع أغاني الألبوم اقتباس لأغان ذائعة الصيت، قليلا أو كثيرا، في العالم أعاد توزيعها الموسيقي البريطاني ستيف سيدويل.
استقبل الفيروزيون طبعا هذا الألبوم بحفاوة بالغة، فهو أوّل ألبوم لها منذ "ايه في أمل" سنة 2010، وكل ما تغنيه جميل دون نقاش، فكيف بمنجز تقدّمه إلى العالم وهي في سنّ الثانية والثمانين آنذاك؟ أمّا النقّاد، فكانت آراؤهم أكثر صرامة. انصبّت سهام النقد أساسا على غياب الأصالة في موسيقى الألبوم، وعلى نقص الخيال الشعري، بعبارة الشابي، في الكلمات. لِيمَت ريما رحباني بقسوة على "توريط" والدتها في هذا الألبوم في نهاية مشوارها الطويل. يمكن أن نجد عرضا لمجمل الآراء حول هذا العمل إضافة إلى تحليل موسيقي ممتاز له في مقال جورجيت عيسى حوله في موقع "معازف".
لعلّي استمعت إلى الألبوم أكثر من ثلاثين مرّة. لم يكن ذلك لتميّزه الكبير على المستوى الفني، ففي الحقيقة كنت ممزّقا بين فيروزيّتي وهوسي النقدي. لا يمكنني إلا أن أسعد لسماع صوت فيروز حتى وقد نقص إشراقه غير أني لم أستسغ كثيرا كلمات الأغاني التي لم يكن فيها لا رشاقة التعبير وقوّة الحلم التين ميّزتا كلمات الأخوين رحباني، ولا واقعية زياد رحباني الساخرة والمريرة أحيانا والمحببة في كل وقت... زياد الذي فُقدت في هذا الألبوم لمساته العبقرية التي ميزت ألحانه لفيروز منذ عقود.
لكنّ كل ما يمكن أن يقال نقديا ينبغي أن يتنحى جانبا. هذا الألبوم لم يوضع لينال الإعجاب. كان ما دفعني إلى الاستماع إليه بإفراط أنّه خاطب فيّ شيئا لم أسمعه قطّ في أغاني فيروز السابقة. لأوّل مرّة لم أستمع إلى فيروز الفنّانة، وإنما إلى نهاد حدّاد الإنسانة. لم تكن فقط تحكي قصّتها، وإنما كانت تناجينا، وتهمس في آذاننا برحيق رحلتها الطويلة معنا، نحن الذين أحببناها وتتبعناها على امتداد مسيرتها.
قد يصعب قليلا تتبّع ذلك إذا اتّبعنا ترتيب الأغاني كما وردت في الألبوم. هو ترتيب مخاتل يضيع علينا أحيانا الخيط الرابط بين الأغنيات، وهو يحتاج بذلك إلى شيء من إعادة التنظيم. أخال أنّ البداية يجب أن تكون مع "حكايات كتير". تبوح لنا فيروز:
صحيح اني ما حكيت
كل اللى قلته كان بالغنية
الكلام لشو الكلام
هايدي حياتي
ذلك ما نعرفه عن فيروز: كثيرة الغناء على المسارح، قليلة الكلام في وسائل الإعلام. تختار الآن أن تخاطبنا مباشرة، بالوسيلة الوحيدة التي تعرفها: بالأغنية. القافية التي تتكرر طوال الأغنية هي لفظ: حياتي. تحكي لنا هنا عن جولاتها العديدة في مسارح العالم... عن الناس الذين رحلوا... عن الحياة المنذورة للفن... عن الحياة التي لم تستطع أن تعيشها...عمّا فُرض عليها... ثمة نبرة حزينة في الأغنية، لكنها تصرفها بتأكيد ختامي أنها آمنت ولم تستسلم وعاشت حياتها.
أمّا في "بغير دني" فتشاركنا فيروز لحظة فريدة، وإن تكررت مئات المرات. هي لحظة وقوفها على المسرح. رغم مسيرتها الطويلة، لم يزايلها أبدا ذلك الشعور بالرهبة وهي تقف أمام الأنظار التي تحدّق فيها. أحاسيس متناقضة تنتابها: الخوف، الارتباك، الوحدة ولكن كذلك السعادة والتحرر. لعلّها لا تحس بمثل ذلك الانطلاق إلا في تلك اللحظة المميزة، حيث تحمل صوتها ليكون جسرها إلى العالم، أو إلى ما فوق العالم:
بغني وبصير بغير دني ... بغير مكان وغير زمان
وحيدة... وسعيدة ...
وإذا انتقلنا إلى أغنية "ببالي"، سمعنا فيروز تقلّب ذكرياتها. لا تسمّي لنا هذه الذكريات، ولا تعطينا تفاصيل تذكر حولها. هي ذكريات حلوة ومرّة في نفس الآن، وتتناقض مشاعرها تجاهها: فهي تعلن أنها لن تتردّد في عيشها مجددا لو أتيح لها ذلك، ثم تخبرنا أنها تختار نسيان كل شيء ومحوه، ما عدا الضحكات. تأخذ الذكريات طابعا أكثر خصوصية مع "أنا وياك"، حيث تحدّثنا عن حبيبها الذي يشبه أغنية حزينة منسيّة. تثور ضد النسيان وتصرخ أنها ستذكر دائما رفقة الصبا والمشوار الذي ساراه معا، ونفترض أن المعنيّ لا يمكن أن يكون سوى عاصي رحباني. في جرأة غير معهودة، تصرّح فيروز "قبّلني كثيرا" غير أنها حتى في جرأتها بقيت متوارية خلف حجاب اللغة هذه المرّة، إذ حافظت على العبارة في لغتها الأصلية دون ترجمة (bésame mucho).
في "ما تزعل مني"، تحدّثنا فيروز عن حبيب آخر لطالما تغنّت به، وهو الوطن. العلاقة أكثر تعقيدا بكثير من كلاسيكيات من قبيل "بحبك يا لبنان". لا شكّ أنّ هناك حبّا عميقا، لكن هناك كذلك عتبا كبيرا ومرارة ناضحة من وطن منحته كل شيء لكنه يقترف البشاعة بيديه، يُشعرها بالغربة وهي فيه ويلقي بأبنائها إلى العالم الواسع ليبحثوا عن وطن جديد. تنتهي الكلمات بما يشبه الاعتذار على هذه الصراحة... اعتذار جدير بلحظة وداع.
تنتقل المرارة إلى أغنية "لمين". وإذا كان من الممكن أن يُنظر إلى الأغنية باعتبارها مناجاة بين عاشقين، فإني أخال أنّ فيها نظرة قاتمة، ترصد العبثية في كل شيء. النجم يسهر وشجر الحور يبكي والأرض تدور لغير غاية على الإطلاق...
لا تمنع هذه السوداويّة فيروز من أن تصارحنا بشيء من أحلامها... حسبها "بيت صغير في كندا" تعيش فيه هانئة مطمئنة، وتتحوّل كندا هنا إلى استعارة عن مكان قصيّ لا يصله شيء من صخب العالم. غير أنّ لها كذلك أحلاما أكبر... السلام لكل العالم، وهو ما تعبّر عنه في "يمكن" التي تستعيد فيها جميع المثاليات التي غنّت لها طوال مسيرتها مع اعتراف بطوباويتها، وإيمان متجدد بحلم كبير كبر الإنسانية.
تُعزف موسيقى الوداع مع "رح نرجع نتلاقى"... هو وداع يتضمّن وعدا غامضا باللقاء في يوم ما. تكمن المفارقة في أن هذه الأغنية هي الأولى في ترتيب الألبوم، لكن ألم نقل أنّ هذا الترتيب مخاتل؟
ناجتنا فيروز في هذا الألبوم لتفتح لنا خبايا نفسها وتهمس: وداعا. اختارت أن تحدّثنا، كما تعودت دائما، بالموسيقى. لم تبحث عن تعبيرات جديدة لتصل إلينا، وإنما اختارت من الأغاني العالمية ما رأت أنه أكثر بوحا عن حالتها، ولعلّها أغان هي تفضّلها شخصيا. كان التوزيع الموسيقي يبتعد في أغلبه عن التعقيد، وإنما يستخلص جوهر الأغاني الأصلية دون تنميق. أما الكلمات، فقد اتجهت إلى التعبير بطريقة مباشرة تخلو من كل مواربة، وقد وقع التصرّف في تعريب بعض الكلمات لتناسب الحالة المزاجية التي ودت فيروز التعبير عنها، وما أحسب إلا أنها تدخلت بنفسها أحيانا في وضع الكلمات. لذلك أرى أن هذا الألبوم بالذات لا يعبأ بالنقد، إذ لم يُقصد به سوى أن يكون كلمات الوداع التي تنطق بها جارة القمر... وداع لم تستطع أن تبثّه مباشرة، وهي التي تعوّدت طوال مسيرتها ألّا تتكلّم وإنّما يتكلّمون عنها وباسمها، فعادت لتبلغنا إيّاه غناء. ولعلّي لذلك تردّدت في الكتابة عنه أكثر من عامين، رفضا للاعتراف بحتمية الوداع، وتوقا لجديد آخر، مهما كان، ينزل على أسماعنا بردا وسلاما. ومن يدري؟ ألم تنذرنا بالوداع عندما غنّت "أغنية الوداع" منذ حوالي ثلاثين عاما ثم لم تنقطع عن الغناء؟ قد يكون ذلك... وقد أكون أغالط نفسي، بينما لسان حالها يردّد، كما فعلت في حفل بيت الدين سنة 2000: هايدي مش غنية، هايدي بس تحية.... وبس.

الأحد، 29 مارس 2020

الدولة والكورونا

قامت الدولة التونسية بمجهود ذي بال للحد من انتشار وباء الكورونا، فرغم أنّ عدد المصابين محدود نسبيا مقارنة ببقية دول العالم، فقد ذهبت الدولة إلى أقصى الإجراءات الممكنة، وذلك بإعلان الحجر الصحي الكامل منذ أكثر من أسبوع. ويبدو أنّ هذا المجهود يلاقي قبولا حسنا لدى فئات واسعة من الشعب، إلى حدّ جعلنا لا نسمع الكثير من التعاليق في هذه الفترة حول الانتماء السياسي لوزير الصحة مثلا. غير أنّه لا يبدو أنّ الأزمة ستنقضي قريبا، لا في تونس ولا في باقي العالم، وهو ما ستكون له انعكاسات كبيرة تطرح على الدولة تحديات أكثر عمقا على المستوى الاقتصادي وعلى المستوى الاجتماعي
على المستوى الاقتصادي، أعلن رئيس الحكومة في خطابه يوم 21 مارس عن اجراءات استثنائية تبلغ تكلفتها الجملية 2.5 مليار دينار. هو مبلغ ضخم، سيُنتزع انتزاعا من ميزانية متهالكة. نفترض أنّه سيقع استهلاك كامل ال767 مليون دينار المخصصة للنفقات الطارئة في ميزانية الدولة لسنة 2020. أما باقي المبلغ، فسينتزع على الأرجح من نفقات التنمية التي تبلغ حوالي 6.9 مليار دينار، وهو ما سيؤثر سلبا على النمو الاقتصادي للبلاد، لا سيما وأن بعض الخبراء يتوقعون أن تأثير الأزمة لن يقتصر على خسارة نصف نقطة من نسبة النمو كما أعلن رئيس الحكومة، بل أنه من المرجّح أن يكون النمو سلبيا في آخر 2020، إذ لا يمكن أن نتوقع مثلا توافدا كبيرا للسياح هذا الصيف. وإذا طالت الأزمة لفترة أطول، فستضطر الدولة لتخصيص مبالغ إضافية لمواجهتها. فإذا استمرّت لعدّة أشهر، قد تستهلك الدولة نفقات التنمية بالكامل، وتضطرّ إلى البحث عن حلول أخرى. قد يوفّر انخفاض سعر البترول قدرا من ميزانية الدعم البالغة 1.88 مليار دينار، لكن في المقابل، يمكن أن نتوقع انخفاضا في المداخيل الجبائية بما أن عددا من المؤسسات الاقتصادية، خصوصا الصغرى والمتوسطة، تشهد حالة عطالة مرشحة لأن تطول. ماذا سيكون ردٌ فعل الدولة لتوفير ما يلزم من النفقات؟ هل ستتّخذ إجراء لزيادة الضريبة على مداخيل المؤسسات الاقتصادية الكبرى أو حتى أكثر من ذلك فتؤسس لضريبة على الثروة؟ يستوجب ذلك دولة لها من القوة ما يمكّنها من فرض ذلك على لوبيات نافذة نرى منذ الآن مدى قدرتها على استغلال أجهزة الإعلام لتوجيه الرأي العام. الحل البديل سيكون، كالعادة، في فرض اقتطاع إجباري استثنائي على الأجراء، وهو ما قد يولّد ردود فعل غاضبة خاصة إذا كان نتيجة عجز الدولة عن فرض الحل السابق، إذ سيكون من الواضح منافاة هذا الإجراء لأبسط قواعد الإنصاف وتأكيدا لهيمنة رؤوس الأموال الكبرى على القرار. أما آخر الحلول، وربما أبغضها، فسيكون في اللجوء إلى مزيد الاقتراض، وهو ما سيعمّق من الدين الخارجي الذي من المتوقع أن يبلغ 74 في المائة من الناتج الداخلي الخام آخر السنة.
أمّا على المستوى الاجتماعي، فلئن كانت الإجراءات التي اتخذتها الدولة تستبق تطوّر الوباء، فمن الممكن جدا أن تكون لها نتائج عكسية إذا طالت المدة. فالحجر الصحي الكامل حل قصووي، يصعب من بعده المرور إلى درجة أعلى إذا اتّضح أن مقاومة الوباء ستتطلّب المزيد من الوقت. لنتصور أنّ الأزمة طالت لأكثر من شهر آخر، كيف سيتحمل المواطن كلفة ذلك؟ كيف نطلب مثلا من صاحب مقهى، لا دخل له غير مقهاه الذي يكتريه مقابل مبلغ شهري معتبر، أن يُبقي مصدر دخله الوحيد مغلقا لشهور؟ كيف نطلب من عامل يومي أن يتوقف عن طلب قوته لمدّة طويلة؟ لن تفي المساعدات الاجتماعية بالكثير، وإذا كان المسؤولون يشتكون منذ الآن من عدم التزام بعض المواطنين بالحجر الصحي، فإننا سنرى بعد فترة قد لا تطول كثيرا أنّ حالات الخرق ستتعدّد، وذلك أمر طبيعي، فالبحث عن لقمة العيش سيتغلّب على الخوف من الكورونا. ستكون هناك حالة من التمرّد على الإجراءات التي تتخذها الدولة، وستكون الدولة مضطرة إما إلى التخفيف منها مخاطرة بمزيد تفشي الوباء أو إلى مواجهة هذه الحالة بطريقة قمعية، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى مزيد التمرّد. نرى بوادر لذلك منذ الآن في الطريقة التي يدار بها الحجر الصحي العام. فالحدّ من حرية التنقّل، وهي حريّة دستورية، موضوع الآن رهين مزاج عون أمن وسلطته التقديرية المطلقة في شأن مواطن خرج لقضاء شأن يعتبره ضروريا، ولم يره العون كذلك، وهذا في غياب ضوابط واضحة ودقيقة وغير متروكة للمزاج فيما يخص الحاجات الضرورية المسموح الخروج لأجلها.
تجد حكومة الفخفاخ، على حداثة عهدها بالحكم، في موقف لا تحسد عليه لا سيما وهي وريثة عشر سنوات من ضعف الدولة. غير أنّ لها كذلك امتيازا لا يستهان به، فمثل هذه المواقف تُثبت أنه لا يمكن تجاوز إرادة الدولة في أيّ شيء، فكل تدبير لمواجهة الأزمة لا يمكن اتخاذه بعيدا عن الدولة، في معناها المركزي الضيق. ومهما يكن من أمر، فهذه الفترة ستكون حاسمة في علاقة الدولة المجتمع، فإما أن تثبت دورها وتقوّي مكانتها عنده، أو تتضعضع وتضمحلّ شيئا فشيئا.

الأربعاء، 25 مارس 2020

حديث حبيب مع حبابة

كان من أمر حبيب بعد عودته من الجبل أن رجع إلى عزلته كما كان شأنه أغلب أمره. فكان يقضي أغلب وقته في حجرته يخطّ على الورق ما أوحت إليه به نفسه، لاهيا عابثا، ثمٌ لا يلبث أن يمزّقه غير عابئ بأمره. وقد بلغنا أنه كتب في زمانه ذلك شعرا كثيرا كان ينحو فيه منحى أبي تمام وأبي عبادة، غير أنّه لم يعن بحفظه فذهب منه الكثير ولم يبق منه إلا ما رواه صاحبه عبد العزيز بن سهل، وكان ألصق الناس به، وهو أشهر من روى عنه ديوانه فيما لم يبلغنا كتابة.
لم يكن لحبيب نصيب في صنوف اللهو، غير أنّه كان له يوم في الأسبوع يغشى فيه مجالس القيان رفقة صاحبه ذاك، فيسمع منهنّ ما شاء الله ويتزود من ذلك إلى أسبوعه القادم. وكان أمره في تلك المجالس عجبا فلم يكن يتبذّل تبذّل الفتيان في سنّه، ولا يذوق من النبيذ قطرة. ولم يكن إذا أحسنت القيان الغناء ممّن يميل برأسه أو يحرّك يده، بل كان يظلّ مطرقا لا يبدي حراكا، غير أنه كان إذا رفع رأسه عُرف فيه الصفاء. وكان لا يزيد في مجلسه ذاك أن يطلب من القيان أن يسمعنه صوتا لحبابة الغسانية. وكانت حبابة فريدة زمانها في الموسيقى، لا تغنّي إلا من شعرها ولحنها، وظلت على ذلك إلى أن ماتت. وكانت تذهب في الغناء غير مذهب قريناتها فلم تكن تطيل ولا تعيد ولا تثقل، وإنما تبثّ من نفسها ما يشبه الصلاة في صوت شجيّ خافت تتلقفه الأسماع فتخشع له. ولم يكن يرتاد مجلسها إلا قلّة من الخاصة. وقد أدركها حبيب صبيّا مع عمّه المغيرة، فكلف بها. وكان يقول لصاحبه: يا عبد العزيز، شهدت من حبابة مجلسا ما أودّ أنّ لي به حمر النعم، وما كنت أبالي لو كانت الدنيا فنيت بعده. والله أنها كانت تغني فتذهل عمّا حولك ولا يتردّد بسمعك سوى خفق الأجنحة وهي تطير بك إلى أعلى عليين. وقد كان القوم من هيبتها يغضّون الطرف ما طال مجلسها، غير أني استرقت النظر إليها وهي تغنّي، فيا ويح عين حبيب ما رأت! والله يا عبد العزيز إني رأيت السماء بأسرها في عينيها، بكواكبها ونجومها وشمسها وقمرها. لكأني في تلك اللحظة قد مرّ عليّ عمري كله ثمّ بُعثت حيّا.
وولع حبيب بحبابة مشهور، ولا أخال أحدا من أهل زماننا يجهله. وكان يقول فيها الشعر، وفي ديوانه قصيدة مطلعها:
يا خليليّ صباحا فاسقياني... كأس شدو من شجيّات اللحان
وهي قصيدة عن مجلسه الذي ذكرناه، وهي من أوّل شعره. وأخبرنا الثقة أنه لمّا بلغه خبر وفاتها، وجم ساعة، ثم رفع رأسه وقال: كذبتم، لا تموت من احتوت عيناها السماء وعبر صوتها حدّ الفناء. وظلّ على إنكاره، فلم يشهد جنازتها. غير أنّه زار قبرها بعد أربعين يوما فوقف أمامه لا ينبس عن شفة، ثم أراق على قبرها قنينة من ماء الورد، ولم يُعرف مذهبه في ذلك، ولم يزرها بعد ذلك قطّ.


الأربعاء، 4 مارس 2020

أريكة في تونس... ضحكات على السطح

شيئان دفعاني لمشاهدة فيلم "أريكة في تونس" للمخرجة منال العبيدي، منذ شاهدت ومضته الترويجية منذ عدّة أسابيع. أوّلهما أنّ الحبكة نفسها (معالجة نفسية تأتي لتقيم عيادتها في حيّ شعبي في تونس) كانت توحي بغوص عميق في الأزمات النفسية التي يعيشها مجتمعنا. أمّا ثانيهما، فهو ما كانت تستبطنه الومضة من نظرة استشراقية استعلائية تنميطية، وبدافع من الإفراط في الوطنية، والغيرة على الخصوصية التونسية، كان لا بدّ أن أشاهد كي أكون قادرا على الإدانة والتنديد والشجب، كما تقتضي ذلك تقاليدنا العريقة.
غير أنّي لم أجد هذين الشيئين في الفيلم نفسه. لم أر تحليلا نفسيّا عميقا في أيّ لحظة من لحظات الفيلم. في جميع جلساتها مع مرضاها، اختارت المعالجة النفسية سلمى (تلعب دورها غلشيفته فرحاني) البقاء صامتة. لم نرها تتدخّل للتفسير أو المساعدة إلّا في مناسبة واحدة، حول علاقة الحلّاقة (فريال الشمّاري) بأمّها. لكنّنا فيما عدا ذلك، نراها تحافظ على سلبيّتها، إلى حدّ يجعلنا نستغرب زعمها تقديم المساعدة للناس كسبب لإصرارها على فتح العيادة، في حين أنّنا نراها تهمل حالات قريبة منها تستوجب الكثير من التحليل، كعمّها (منصف العجنقي) الذي أدمن الكحول منذ الثورة أو زوجة عمّها (رملة العيّاري)، السيّدة المتحجّبة التي تأبى الظهور إلا بأطنان من المساحيق حتى أمام زوجها. بل أنّنا نراها تفشل حتى مع نفسها، إذ لا تقدّم لنا تحليلا متماسكا عن سرّ مغادرتها لفرنسا واختيارها فتح عيادة في مكان مماثل. لو شاء الفيلم أن يكون عميقا، لركّز على حالة أو بضع حالات، لكنّه اختار أن ينثر أمامنا طيفا كاملا من الحالات دون أن يتجاوز السطح في أيّ منها.
أمّا في خصوص النظرة الاستعلائية، ففي الحقيقة لم أر في الفيلم إلّا ما نعرفه مسبقا عن مجتمعنا. أيمكننا أن ننكر ما عندنا من فوضى وعنف وغشّ وكبت وتعصّب وبيروقراطية ومضايقات أمنية؟ ربّما ننزعج إذا صارحنا بها "الآخر"، خصوصا إذا قدّمها بشكل كاريكاتوري، ولكنّ ذلك لا ينفي وجودها، وبشكل أكثر حدّة من طريقة تناولها في الفيلم.
يوفّر لنا الفيلم عددا من الضحكات، وهي ميزته الكبرى، إذ يقدّم لنا عددا من المواقف الكاريكاتورية الصالحة لتزجية الوقت، ولا شيء أكثر من ذلك. فالقصّة تحتوي على عدد من النقاط غير المفهومة: مثلا، كيف يمكن لمعالجة نفسية أن تتصوّر أنّ في وسعها أن تمارس مهنتها دون أيّ شكل من أشكال الترخيص؟ كيف يمكن لشرطيّ (مجد مستورة) أن يعمل في الزهراء ووسط العاصمة وكلّ مكان ممكن؟ يحاول الفيلم "التغطية" على هذه الثغرات من خلال الإشارة إليها مباشرة بشيء من الدعابة. غير أنّه لم يكن في حاجة إلى ذلك باعتباره فيلما "خفيفا"، ولعلّه يسجّل نجاحا في الخارج. نحن فقط، كتونسيين، ونحن أصحاب القضيّة، نحتفظ بحقّنا في الحكم عليه بشكل أكثر صرامة، لا سيّما وهو يصوّر مجتمعا بفئاته المتعلّمة وغير المتعلّمة في حيّ شعبي يتقن (عموما) الحديث بالفرنسية في تعاملاته اليومية وفي أدقّ تفاصيل بوحه، أو عندما يقدّم لنا مهاجرة من بني جنسنا تتحدّث لهجتنا بلكنة غريبة