الخميس، 15 ديسمبر 2016

قصّتي مع الأركستر السمفوني التونسي

حضرت لأوّل مرّة  في حفل للأركستر السمفوني التونسي في مبادئ دراستي الجامعية. ربّما كان ذلك سنة 2004 أو 2005. كنت مدفوعا برغبة في الاستماع المباشر لهذا النوع من الموسيقى الراقية (ولعلّي أردت أن أسجّل نفسي في نادي الرقيّ). أذكر أنّ سعر التذكرة كان يتراوح بين ثلاثة وخمسة دنانير، تخّفض للنصف بالنسبة للطلبة. ورغم ذلك، لم يكن الحضور كبيرا، وأغلبه كان مكوّنا من أصحاب الدعوات من طلبة المعهد العالي للموسيقى وأصدقائهم. جلّ ما أذكره عن ذلك الحفل أنّ ذهني شرد في معظم فتراته، وكنت أردّ نفسي بصعوبة للاستماع، قبل أن أعود إلى الشرود. قاد الأركستر يومها المايسترو أحمد عاشور (أمدّ الله في أنفاسه)، وكان يحافظ على ملامحه الجامدة، ولا يكاد يُرى مبتسما، وقد خلت أنّ ذلك من شيم كلّ القادة. لم أتمتّع كثيرا، وقد أرجعت ذلك إلى ضعف ثقافتي الموسيقية، وأقنعت نفسي أنّ الأمر يتطلّب وقتا لتذوّق هذا النوع من الموسيقى.
استمررت في حضور الحفلات الشهرية، وإن لم يكن ذلك بشكل منتظم، كما حضرت عروضا لفرق أخرى، ممّا أتاح لي أن أقارن. عندما استضاف الأركستر قائدة فرنسية، اكتشفت أنّ بوسع القادة أن يبتسموا وأن يكونوا لطافا. لمّا حضرت عرض هبة القوّاس، واستمتعت إلى الأركستر الأرمني المصاحب لها، فوجئت أنّه يمكن للمايسترو حتّى أن يمازح الجمهور. عندما حضرت عرضا لأركستر نمساوي، أبهرني التناغم الدقيق بين جميع الآلات. أيقنت أنّ المشكل ليس فيّ فقط، بل أنّه ما يزال على أركسترانا الوطني طريق طويل لقطعه، ولم يكن ذلك بالأمر المستغرب، فقد علمت أنّ جميع أعضائه يشتغلون في غيره (يدرسون أو يدرّسون)، ولا يجتمعون إلّا لعدد محدود من التدريبات قبيل كلّ حفل.
في تلك الفترة، كان أكبر فضل للأركستر السمفوني عليّ أن عرّفني على الإبداعات الموسيقية لمؤلّفين تونسيين، وهو ما لم يكن متاحا بسهولة. لا أزال أحتفظ بالكتيب المصحوب بقرص يحتوي على سمفونية "موغادور" لجلّول عيّاد الذي وزّع على الحاضرين في حفل خصّص لهذا الموسيقار. بعد سنوات، كان وجوده في الحكومة الانتقالية من الدواعي التي دفعتني للتفاؤل بشأن حال البلاد...
تغيّرت قيادة الأركسترا في 2011، وأسندت إلى المايسترو حافظ مقني. حضرت، بعد غيبة لعدّة أشهر، حفلا خصّص لموسيقى الأفلام. ما لاحظته حينها أنّ الحفلات اكتست طابعا جماهيريا أكبر، إذ كان الحضور غفيرا، ولم أعثر على تذكرة إلا بمكان قصيّ بأعلى المسرح. لكن لم أرض بالمرّة عن العرض. بدا لي أنّه فقط يجاري الذوق العام، إذ كانت جميع المعزوفات قصيرة للغاية وشهيرة (طبعا لارتباطها بأفلام)، دون أن يكون العزف متقنا، إذ صاحبه بعض الارتباك.
لم أعد بعدها لمواكبة العروض بالمسرح البلدي إلّا بعد حوالي عام. وحينها، انبهرت بالتغيير الحاصل. كانت القطع المعزوفة تراوح بين الكلاسيكيات المعتقّة والتونسيات المبتكرة. تطوّر التناغم بين العازفين إلى حدّ كبير التقطته أذني غير الخبيرة. وكان هناك جوّ من المرح يسود علاقة الأركسترا بالجمهور، عوّض ذلك التجهّم القديم. لم تعد مجموعة تأتي لتعزف ما قرّرته مسبقا دون أن تعبأ بالمرّة بتفاعل الجمهور، بل صار هناك حرص على اختيار يوازن بين العمق والإمتاع. وصار من الأركان شبه القارة فسح المجال للأصوات الأوبرالية التونسية الشابة لتستعرض مواهبها، وهو لعمري تقليد برع في تنقية آذاننا من الضوضاء التي نسمعها كلّ يوم.
صار الحفل الشهري للأركستر السمفوني التونسي فسحتي الشهرية من الجمال والإبداع. أمضي هناك لأترك ذلك الإيقاع العجيب يحملني معه. أبقى على وقعه في مكان هو من العالم واللاعالم. أتفيّأ ظلاله ساعة وبعض ساعة، وأرحل بنشوة تلازمني أمدا حتّى تسرقها زحمة الحياة.

آخر تلك الحفلات كان يوم الثلاثاء بمسرح الفنّ الرابع، وخصّص للموسيقى الإيطالية. تطارح فردي وبوشيني وروسيني روائعهم بأيد تونسية. تفنّن الأركستر بصفة خاصة في المارش الكبير لأوبرا عايدة وافتتاحية حلّاق اشبيلية. وبرزت من الأصوات الصاعدة الميزو سوبرانو أميرة دخلية، التي فضلا عن قدراتها الصوتيّة العالية، تميّزت بكفاءتها التعبيرية. فرغم أنّ الكلمات كانت بالإيطالية، فقد كان من الممكن على المشاهدين استيعاب المعاني من خلال ملامح وحركات الفنّانة الشابة على المسرح.
لازال على الأركستر السمفوني التونسي، رغم ما حقّقه ويستمرّ في تحقيقه حفلا بعد حفل، الكثير لعمله. إذ لا تزال الحفلات تقوم في أغلبها على منطق المختارات، الذي وإن كان مفهوما باعتبار جماهيريته، فإنّه يحرم التوّاقين إلى هذا النوع من الموسيقى من متعة الاستماع إلى أعمال بكاملها. كما أنّه ورغم أنّ الأركستر حقّق بعض الشعبية، على المسارح وحتّى على فايسبوك، فإنّه لم يعد متاحا للجميع نظرا إلى ارتفاع سعر التذكرة الذي بلغ أكثر من ضعف ما كان عليه منذ سنوات قليلة. صحيح أنّ الموسيقى الكلاسيكية، شئنا أم أبينا، نخبوية بطبعها، ولكن يجدر دراسة الأسعار إذا رمنا نشر هذه الثقافة الموسيقية لدى قطاع أوسع من الجمهور، لا سيّما الطلبة.
ورغم هذه النخبوية، يعاني الأركستر السمفوني التونسي نوعا من التشرّد. في ختام الحفل الأخير، أعلن المايسترو أنّ الحفل القادم سيكون في أوّل أيّام العام الجديد، في مكان لم يحدّد بعد، نظرا للأشغال التي ستجرى بقاعة الفنّ الرابع. جال الأركستر في العامين الأخيرين بين المسرح البلدي ودار الثقافة ابن خلدون ودار الثقافة ابن رشيق والريو والفنّ الرابع، ولم يتمكّن من الاستقرار نظرا للظروف التي تمرّ بها مختلف الفضاءات، وخاصة الأشغال التي تكثّفت وتيرتها حتّى أصبحت الساحة الثقافية بالعاصمة أشبه بحضيرة كبيرة. عسانا العام القادم، إذ تنتهي الأشغال وتفتح مدينة الثقافة أبوابها، ننتقل من الجوع إلى التخمة !

الخميس، 24 نوفمبر 2016

لا تعتذر لهم...

ارفع هامتك وحدّق في الشمس... أمسكها حتّى ترتعش وتذوب بين كفّيك... ادفنها عميقا عميقا... واجههم بعينيك، وركّز النظر فيهم مليّا... لا يعنيك ما يظنّون... طالما ظنّوا ورموك، وكنت تتلوّى كالأفعوان حتّى تسير في طريقهم المعوجّة... ليس ذنبك أن ولدت بعد زمنك ببضع قرون... لم تخطئ إذ عبدت ما لا يعبدون... أتردّ تاج نفسك؟ أتمنحها لقطع الليل يلتهمن أطرافها؟ أيحتضر صوتك قبل أن يسمعه أحد؟ أتسفح سريرتك على قارعة الطريق؟
كلّا... اسكب تيهك على الثنايا وسر مختالا... اهدر كالرعد فيهم، وإن أصموا آذانهم... اسقهم منك ولو غصبا... دعهم يحترقون فيك... سيتصايحون وينفرط عقدهم هنيهة حتّى يتبدّد الران من قلوبهم، فيلاقوك من جديد بأفئدة عقولة وقلوب سؤولة...
لا تكتم جنونك بعد الآن... قف على سقف عقولهم واضحك ملء شدقيك... ترنّم أمامهم بتلك الموسيقى التي يجهلونها... ارقص دون انتظام على نغمات نايك المسحور... حدّثهم عن المحال إذ تطاله الأيدي... أخبرهم عن الأساطير إذ تمتطي صهوة الخيول... أطلعهم على أنهار الجنان إذ تجري تحت أقدامهم ولا يسمعون خريرها ولا يتطهّرون بنقائها... 
هزّهم هزّا عنيفا... دع شتائمهم تتناثر كالبَرَد ودسها بقدميك... عربد مليّا أمامهم، حتّى تتخّفف من حملك وتعود عاريا، كما ينبغي أن تكون... اعبر على جسر حقدهم ولؤمهم وكيدهم وريائهم ثمّ رغ عليه ضربا باليمين، واستدر تجدك هناك...
يعسر عليك ذلك كلّه؟ لا تعجز عن أضعف الإيمان: لا تعتذر لهم أبدا... أنت ما أنت، مهما أنكرت ومهما تردّدت، ولن تكون أبدا غيرك...

الثلاثاء، 8 نوفمبر 2016

صار الحزن راشدا...

كان أوّل الحزن...
لم أكن قبله إلّا صبيّا...لم يكن الموت بالنسبة لي سوى مفهوم مجرّد، لا يعني لي الكثير... كأنّه لم يكن يعنيني، فهو لا يصيب إلّا الأباعد، ولا يتهدّدني في شيء... كنت، كمعظم الأطفل، ألهو متنعّما بصباي، ليس لي ما يشجي سوى هموم سنّي من دراسة  وتسابق مع الأتراب... ولعلّه لم يخطر لي حينها أنّه يمكن أن أفقد شيئا أو أحدا... كانت الحياة تسير هادئة رتيبة، ثمّ قست ملامحها فجأة وتجلّلت بردائها المعتم... امتدّت يدها الصفراء لتهدم ركنا منيفا من معالم العائلة... تلك الأمسيات القلقة في باحة المصحّة... ذلك الانتظار المتوتّر بين الخوف والرجاء... ذلك البرد الذي كان يتغلغل فينا رويدا... تلك الوجوه الجامدة، وتلك المتفجّرة أسى... في تلك الأيّام، تعلّمت أنّ في الدنيا الكثير ممّا يمكن أن أفقده... وكانت أوّل خيبة لي مع الله... لم أستوعب كيف يمكن أن يُعرض عن أحرّ الدعاء الصاعد من قلب لا يزال غضّا نقيّا..
كان أوّل الشعر...
كان أوّل ما كتبته، أو بالأحرى أوّل ما بقي لي من كتابات الصبا، مرثيّة فيه... لم تكن قصيدة مكتملة، فلم أكن أعرف الكثير عن العروض حينها... كان بوحا مقفّى ساذجا... تفجّعا خالصا... مزيجا من الحيرة واللوعة... ومنذ ذلك الحين، تعلّمت كيف أنصهر مع قلمي... وأصبح فيما بعد شعري، كلّه أو أغلبه، نفثا... كان الانفجار، فهوى القلب في بحار من الحبر، وصار لا يمتح سوى منها... المفارقة أنّ كلّ ذلك كان بعد غيابه، وهو من كان فارس الكلمات... لطالما تبادر إلى ذهني أنّ يراعي كان ليكون أرشق حرفا وأرسخ قدما لو تعهّدته عينه البصيرة...
كان آخر الدمع...
تعدّدت من بعده المناسبات الحزينة، لكنّ عيني كانت تأبى أن تسعدني... طالما ألححت عليها في ذلك، لكنّ معينها جفّ في ذلك اليوم، فلم تجري غدرانها بعد ذلك على خديّ... أذكر أنّي بعدها بأسابيع تعرّضت إلى موقف جرح كبريائي، فهمّ الطفل فيّ أن ينتحب، لكنّي هززته بعنف وأمسكته عن ذلك... لم يعد يليق به ذرف الدمع على الصغائر، بعد أن ذاق للحزن طعما... كبرت سنين في تلك الأيّام، وانسحبت إلى داخل نفسي... بعد أن غاض الماء، اتّخذ سبيله إلى أعماق القلب سربا...
نحن لا ننسى، ولكن نتعوّد على الحزن، فنتلهّى، ونزعم أنّا تجاوزنا...
ثمانية عشر عاما مرّت، وصار الحزن بعمر فتى بالغ قد أدرك رشده... ركضنا على صهوة الأيّام وخلنا أنّنا ذرعنا الدنيا كلّها... ولم نزل كلّما هبّت ريح الحنين نجد من تلك اللذعة غضاضتها الأولى... لا يبدّدها ربّما سوى مرأى سميّه وحفيده يزرع الأرض فرحا وأملا في قلوب كلّ من عرفه يوما...
عليك سلام الله يا أبا معز...

الجمعة، 13 مايو 2016

خطب كالسياط

اعتلى الإمام المنبر واشرأبّت إليه الأعناق. هو دكتور في الحضارة الإسلامية، ومن أساطين ما يعرف بالإسلام التونسي الزيتوني المالكي الوسطي المعتدل، وقد نال شهرة واسعة لمّا أشرف منذ سنوات على إدارة إذاعة قرآنية (زيتونية مالكية وسطية معتدلة كذلك). كرّر في مفتتح كلامه ما تعوّده كلّ أسبوع: "إنّ شرّ الأمور محدثاتها، وكلّ محدثة بدعة، وكلّ بدعة ضلالة، وكلّ ضلالة في النار".
شرع في خطبته، وكانت عن الرياء. ولم يلبث أن قطعها بعد دقائق، صارخا إذ لاحظ أنّ أحد المصلّين قد انتابه النعاس. لا حول ولا قوّة إلّا بالله ! كيف ينام المرء عن ذكر ربّه، ووسط خطبة الجمعة؟ لو كان فيه خير لاستعدّ منذ الخميس، ولما جاء وهو يميد نعاسا. ثمّ دعاه إلى أن يعيد وضوءه الذي انتقض. ولو كان للمصلّي المسكين أن يجيب لقال: ما أصابني النعاس إلّا من كلامك يا شيخ، أمّا النوم جالسا، فلو كنت من المتفقهين، لعلمت أنّه لا ينقض وضوءا. 
وواصل الشيخ تحسّره، فقال أنّه يجب (وليس يسنّ أو يستحبّ، بل يجب وجوبا) على كلّ مسلم أن يغتسل يوم الجمعة. ثمّ أبدى امتعاضه من قصر الوقت المخصّص للصلاة في سائر الوظائف، وقال أنّه من المفروض أن تسمح لموظّفيها بالخروج منذ الساعة الحادية عشرة ليتفرّغوا لذكر الله.
لا أذكر كثيرا من خطبة الشيخ مما ذكره عن موضوعها (الرياء). ولكن ما أذكره أنّها كانت جلدا حقيقيا للذات (الجماعية المسلمة) وتتفيها لها وتذكيرا متواصلا أنّها لا تساوي قلامة ظفر أمام السلف الصالح العظيم 'الذي تربّى على القرآن". وكان يختم كلّ سلسلة من الجلدات باستفهام: "ونحن؟" ثمّ يصمت لهنيهة، قبل أن يضيف في أسى: الله أعلم بنا. وأذكر كذلك أنّه، لسبب أجهله، أشار إلى من يدعون إلى المساواة في الميراث واصفا إيّاهم بـ"الكلاب التي تنهش أعراض الأمة". أذكر كذلك أنّ الدكتور الخطيب لم  يمتنع أن يستشهد بأحاديث لم ترد في الصحاح، ولعلّها أقرب أن تكون من وضع القُصّاص.
وجدتُني في النهاية لا أذكر شيئا من موضوع الخطبة، وإنّما أذكر ما تركته من أثر سلبي بنفسي. فكّرت أن أغيّر الجامع، حتّى إن تجشمت عناء التنقّل إلى مكان بعيد، لكنّ المشكل أنّ كلّهم، تقريبا، سواء، حتّى إن كان بعضهم يُمدح باعتداله ووسطيته والآخر ينقد لتطرّفه وتشدّده. الفرق هو أنّ البعض أكثر صراحة وأشدّ مباشرة في التعبير عن ضيق أفقه من البعض الآخر. وجميعهم يُمنح منبرا يعظ فيه المئات، فيجلدهم ويخدّرهم ويحرّضهم وينفّرهم، دون أن يقدر أحد أن يردّ عليه كلمة. هو نفس الخطاب القائم على الترهيب والتخويف والعاجز تماما على أن يحفّز المؤمنين لينهضوا، أفرادا وأمّة. ولله علم غيب فيما نحن إليه صائرون...