الثلاثاء، 16 فبراير 2021

قصّتي مع الشعر (الجزء السادس)


ارتبط الشعر عندي عموما بالسواد. أكتب الشعر غالبا عندما أكون مكتئبا أو قلقا أو غاضبا، أو على غير ذلك من المشاعر السلبيّة. أو لم يقل ابن قتيبة: "الشعر نكد بابه الشرّ، فإذا دخل في باب الخير ضعف"؟ حتى عناوين دواويني تعكس ذلك: "ذهب الزمان الضائع" و"ماليخوليا". قد أكتب أحيانا بدافع من شعور إيجابي، لكن لا بدّ أن تخالطه جرعة من السلبية لكي يتحوّل شعرا. يمكن أن أكتب عن الحبّ مثلا، ولكن ينبغي أن يكون ذلك ممزوجا بخوف أو حيرة أو شكّ أو فراق. أمّا عندما أكون سعيدا تماما، فلا أكتب. الحياة السعيدة نعيشها ولا نكتبها كما يقول توفيق الحكيم.

بهذا المعنى، كان الشعر عذابا... كتلة داكنة عظيمة الحجم تسكن صدري، أنفث منها الشيء بعد الشيء كي أتنفس قليلا، لكنها ما تلبث أن تعود إلى حجمها الأوّل وتتعاظم جاثمة فوقي. ولعلّي إذ كنت أخرجها منّي كنت أطمع في أن تتحوّل بشكل سحري إلى جسر يقرّبني ولو قليلا من عالم الناس هذا. لم يحصل هذا قطّ. عندما كتبت نصّ "لا تلمسيني"، كنت أصرخ في وجوه من حولي: أنا وحيد بشكل قاتل. لم يسمعني أحد. وكان ذلك حال جميع نصوصي حتى ما كان منها صريحا بشكل فج كـ"يومان بعد موتي". في النهاية، يئست من أيّ تواصل. صرت أحيانا أتسلى، عابثا، ببثّ رسائل مشفّرة في بعض القصائد. في جميع الأحوال، لن يُفهم شيء! بهذا المعنى، خانني الشعر...
لكنّني خنت الشعر كذلك. في مراهقتي، كانت صورة الشاعر المثالية عندي هي سيرانو دي برجراك. هو "الشاعر" في ترجمة المنفلوطي. لم أحبّذ كثيرا غرامه بروكسان (لم أرها تستحقّه) لكن فيما عدا ذلك، كان نموذج من يعيش حياته بشعريّة في كل لحظة. يعيش كل حالة بأقصى ما يكون: هو أشجع الجنود وقت الحرب وأهزل الناس وقت العبث. وخير ما فيه: أنه كان لا يبالي عواقب الشيء ما دام يعتقد صوابه، فلا يكبر في عينه عظيم من القوم إن رام به سخرية، ولا يخشى الموت إن كان في سبيل ما يؤمن به. حاولت أن أحذو حذوه في تلك السنوات المليئة بالمثاليات، ولكن ما أسرع أن سرقتني الحياة. كم خنت سيرانو، حتى لم يبق لي منه إلا أنفه. ما أكثر ما أكْرَهُ على ما لست مقتنعا به، ولا أجابهه بغير تلك السلبية العدوانية التي أبغضها من نفسي والتي لا تزيد "السدّ" إلا تعاظما.
لست شاعرا في حياتي، وكأنني أفصل ما أعيش عمّا أكتب، ويا له من انفصام عظيم! في حفل توقيع مجموعتي الأولى، أخذ أبي الكلمة ليقول أنّه كان يتمنّى لو كان كاتبا، ولكنّه سعيد، إذ حرم ذلك، أن يرى حلمه يتجسّد من خلال ابنه. أثّرت فيّ تلك الكلمة. أبي شاعر في حياته إذ يعيشها، من دون أن يحتاج إلى كتابة الشعر. أمّا أنا، فقد أوتيت القدرة على كتابة الشعر دون أن أحياه. 
لعلّ ذلك كان مما يجعلني أتجنّب أن أعرّف نفسي في مختلف المحافل كشاعر، إلا نادرا. أذكر أنني حين أشرفت على مشروع "أكاديمية الشعراء"، لم يعرف المكوّنون والمشاركون أنني أكتب الشعر إلا في الأيّام الأخيرة من المشروع، عندما سوّلت لي نفسي أن أقرأ قصيدة. أخالهم دهشوا جميعهم: أنّى لهذا الفتى الصارم، "المربّع جدّا" (ترجمة حرفية) أن يكون من الشعراء وليس له من جنونهم شيء؟
أخالني أحتاج إلى قدر كبير من الجنون لكي تكون لي حياة، كما ينبغي أن تكون.

ليست هناك تعليقات: