الأربعاء، 7 نوفمبر 2018

التحوير الوزاري... "مساكنة" دون مساكنة



أخيرا حصل التحوير الوزاري... كنّا ننتظره منذ أشهر عديدة، وإن كنّا لا نرجو منه بالمرّة أن يحسّن حال البلاد. هو فقط من باب تبديل السروج، فبقاء وزير ما لأكثر من عام يبعث على الملل، ونحن في تونس منذ 2011 لا نقبل بغير التجديد المتواصل، حتّى إن كانت لا ترجى منه فائدة.
مايشغل الأذهان ليس جدوى هذا التحوير، وإنّما ما أثاره من جدل بعد إعلان رئاسة الجمهورية رفضها إيّاه. ووصل الأمر بالبعض إلى درجة اعتباره خرقا خطيرا للدستور وانقلابا يماثل ذاك الذي حصل في 7 نوفمبر، فضلا عن اتهام يوسف الشاهد بالارتماء في أحضان النهضة وتسليمها مفاتيح البلاد.
الغريب في هذه المزاعم أنّ المسألة محسومة دستوريا. فمن الواضح أنّ رئيس الحكومة المسنود بأغلبية مطلقة داخل مجلس نواب الشعب يمكنه أن يتصرّف في حكومته كما يشاء، وليس لرئيس الجمهورية أن يدلي بدلوه إلا في شأن وزيري الدفاع والخارجية. إنّ هذا الأمر على قدر كبير من الوضوح ممّا يجعله في غنى عن آراء الخبراء، وحتى عن قرارات المحكمة الدستورية التي لم تنصّب بعد. لم إذن تتواصل الاتهامات على هذه الشاكلة؟
الأمر يتعلّق قطعا بالولاءات. الباجي قائد السبسي استقال من نداء تونس إثر انتخابه رئيسا للجمهورية، لكن لا خلاف في أنّ تأثيره لايزال عميقا في الحزب الذي أسّسه، ولعلّه يعتبر نفسه أكبر منه، فالباجي صنع النداء ولم يصنع النداء الباجي. ومن الجليّ كذلك أنّ الباجي يساند شقّ ابنه حافظ داخل النداء منذ بدء الأزمة داخل هذا الحزب. من الجانب الآخر، اختير يوسف الشاهد رئيسا للحكومة عن حزب النداء وهو الذي كان من قياداته، لكنّه أعلن بشكل حاسم في خطاب وجّهه إلى الشعب التونسي عن قطيعته مع حافظ. وبدأ منذ ذلك الحين الحديث عن أزمة بين "رأسي السلطة التنفيذية".
الأزمة إذن بين رئيس مستقلّ على الورق، ولكنّه يساند شقّا معيّنا في حزبه السابق، وبين رئيس حكومة ينتمي إلى نفس الحزب لكّنه يعادي الشقّ الذي يدعمه الرئيس. كان من المفروض أن يتمّ حسم الامر بالآليات الديمقراطية داخل الحزب نفسه، لكنّ ذلك يبدو أمرا مؤجّلا على الدوام، فالنداء لم يعقد مؤتمرا انتخابيا منذ 2012، وكلّ من دخل في صراع مع شقّ حافظ اختار أحد أمرين: إما الانشقاق والانضمام إلى أحد تفريعات النداء العديدة، وإمّا التزام الصمت.
يجدر إذن عدم اعتبار النداء حزبا واحدا، حتّى فيما بقي منه. وإذا أردنا تلخيص الوضعيّة، فرئيس الجمهورية ينتمي إلى حزب حافظ، وللشاهد حزبه (حزب يوسف). هذه الوضعية تذّكرنا بحكومات "المساكنة"، كالتي عرفتها فرنسا بين الرئيس ميتران والوزير الأوّل شيراك في 1986 وبين الرئيس شيراك والوزير الأوّل جوسبان في 1997. الفرق أنّ التباين بين حزبي الرئيس ورئيس الحكومة ليس نتيجة لانتخابات، وإنّما لخلاف داخل نفس الحزب، كما أنّ حزب رئيس الحكومة ليست له الأغلبية النسبية داخل البرلمان؟
لنتأمّل الوضع على ضوء هذه المعطيات: فقد الشاهد ثقة حزب حافظ، بل ودخل في صراع معلن معه. لكنّ  حزب حافظ لم يكن قادرا على سحب الثقة منه، بما أنّه لا يملك العدد الكافي من النواب لذلك، فحاول توسيع كتلته بالاندماج مع الوطني الحرّ الذي سبق أن اُخرج من الحكومة. وجد الشاهد أنّه قادر على تأمين أغلبية كافية تغنيه عن حزب حافظ وعن أبي حافظ، ووجد أنّ الدستور يمنحه كلّ الصلاحيات لفكّ الارتباط معهما، فانتهز هذه الفرصة، وهو تصرّف معقول للغاية.
أمّا عن علاقة الشاهد بالنهضة، فهي علاقة "رابح برابح". النهضة تمتلك الأغلبية النسبية في البرلمان منذ 2016 (عندما برزت كتلة الحرّة) ولايمكنها مع ذلك أن تطرح مرشّحا لرئاسة الحكومة لأنّ ذلك سيؤدّي إلى اصطفاف الجميع ضدّها. أمّا الشاهد، فهو يحتاج إلى كتلة النهضة  ليضمن استمراره للحكم. ولا يمكن لومه بجدية على التحالف معها، لأنّ من أسّس لهذا التحالف هو الباجي نفسه.
الشاهد إذن يحمي مشواره السياسي، ولاشكّ أنّ له من الطموح ما دفعه إلى القيام بهذه الخطوة الجريئة. فهو وإن كان محميّا دستوريا، فإنّه يواجه تهمة "العقوق" باعتباره خيّر القطيعة مع الباجي قائد السبسي وسلطته المعنوية الكبيرة، وهو الرجل الذي أخرجه من النسيان ودفع به إلى رئاسة الحكومة. لكن لو لم يفعل الشاهد ذلك، لوجد نفسه في مهبّ نزوات حافظ.
الغريب في الأمر هو تعامل رئيس الجمهورية مع هذه الخلافات. فعدا الثرثرة، لا يبدو أنّه كانت هناك أيّ مساع جديّة لرأب الصدع. المقترح الوحيد الذي قدّمه قائد السبسي تمثّل في دعوة الشاهد إلى عرض حكومته لتصويت على الثقة داخل البرلمان، وهو مقترح غريب، إن لم نقل أنّه عبثيّ. ما الذي كان سيدفع برئيس الحكومة إلى المخاطرة بحكومته وبمستقبله السياسي من خلال مثل هذه الخطوة؟ قد يكون قائد السبسي عوّل أكثر ممّا ينبغي على "الطاعة" التي كان يفترض أن يتصرّف بها الشاهد إزاءه. قد يكون اغترّ بالطريقة التي انسحب بها الحبيب الصيد، إذ عرض حكومته على تصويت بالثقة خاسر مسبقا، ولم يقدّر أنّ للشاهد طموحا يفوق بكثير ذلك الذي للصيد. في جميع الأحوال، كانت حسابات رئيس الجمهورية خاطئة تماما، وتتنافى كليّا مع أسطورة السياسي المحنّك الداهية الذي يعرف دون جميع الخلق من أين تؤكل الكتف.
بقي أن نشير إلى أنّ هناك مزاعم حول تعمّد الشاهد تقديم لائحة بالوزراء الجدد إلى قائد السبسي مغايرة لتلك التي أعلن عليها فيما بعد. قد يبدو ذلك سرياليا، ولكن كل شيء ممكن في تونس اليوم. في كل الأحوال، إذا سلّمنا جدلا بذلك، وإذا كان رئيس الحكومة قدّم قائمة مغلوطة ليس فيها من اسم صحيح سوى وزير الدفاع، فهو لم يخالف نص الدستور الذي لا يجبره على التشاور مع رئيس الجمهورية إلا بشأن وزارتي الدفاع والخارجية. ربما يمكن لقائد السبسي أن ينتقده كما شاء ويتّهمه بالكذب، لكن لا يمكنه أن يزعم أنّه خرق الدستور. أمّا الحديث عن الأخلاق في سياستنا، فمسألة أخرى...