الجمعة، 22 أغسطس 2008

ثقافة الخوف (4)

المشكل ليس في الدّين نفسه، بل في القراءة الّتي نحملها عنه، فدلالة نفس النصوص تختلف اختلافا بيّنا بحسب الطريقة الّتي نقرأها بها، إذ أنّ المعنى الّذي يستخلصه المعتزلي من القرآن الكريم ليس هو نفس المعنى الّذي يفهمه الأشعري أو الصوفي من نفس النص، و ليس إسلام الغزالي مثل إسلام إبن رشد و ما إيمان إبن تيميّة كإيمان الفارابي و لا الدّين عند حسن البنّا هو الدّين كما فهمه الطاهر الحدّاد أو الحبيب بورقيبة... المشكل أنّ القراءة الطاغية اليوم هي قراءة الخوف و هي قراءة تنفي كلّ القراءات و ترميها بالخروج عن الدّين و تقدّم نفسها على أنّها القراءة الصحيحة الوحيدة يضلّ من خرج عنها ضلالا بعيدا، قراءة تمنع التفكير خارج دائرتها و ترفض كلّ فكر مخالف لها ولا تقبل بالآخر و لا تتسامح مع فكره إلا في أضيق الحدود (كالقبول بالـكشطة بديلا عن "العرّاقيّة"، الشاشية فيها خلاف )، قراءة زعمت الالتصاق بالنصّ حتّى "أزهقت" روحه و أهملت حكمته و عزلته عن سياقه و جمّدته في مكانه، قراءة قلّصت الدّين إلى نظام شمولي قمعي يراقب الفرد في أدقّ حركاته و سكناته و يمسك بخناقه و يحاصره بدائرة "الحرام" حتّى لا يكاد يترك له متنفسّا، قراءة تكرّر نفسها منذ قرون و تعجز عن إنتاج الجديد و مع ذلك تزعم لأتباعها أنّها الحقّ الّذي لا محيد عنه و تغرقهم في طمأنينة التأسّي بالسلف الصالح، طمأنينة الأفيون... في حين أنّ الدّين أرحب بكثير من أن يقف عند حدود هذه النظرة الضيّقة..." صحيح أنّ الدّين استعمل في بعض الأحيان لتخدير الشعوب لكن الدّين في جوهره استجابة لحاجة إنسانيّة، و هو يجيب عن تساؤلات عميقة عند الإنسان، حول مصيره و حول علاقة الدنيا بالآخرة و عن عديد الأسئلة الأخرى الّتي تصنع المعنى. و بما أنّ الدّين يستجيب لحاجة إنسانيّة فإنّه يمكن توظيفه لصالح الشعوب و قد أثبتت ذلك العديد من التجارب التاريخيّة الّتي قام فيها الدّين بدور محدّد في تحرّر الشعوب" (القولة لبورقيبة، أوردها لطفي حجّي في كتابه "بورقيبة و الإسلام")، و لا يمكن أن يكون الدّين تحرّرا أن اختزلناه في قراءة واحدة تزعم امتلاك الحقيقة و تمجّد الخوف و ترهب التقدّم في حين أنّ تاريخنا يزخر بقراءات متنوّعة "ثوريّة" (ستكون موضوعا لتدوينات قادمة إن شاء الله) همّشت و اضطهدت و قمعت في ظلّ هيمنة ثقافة الخوف، هيمنة لا تجب أن تدعنا ننساق إلى التبسيط الاستسهالي و المماهاة بين الدّين و ثقافة تزعم أنّها الدّين...
ليست هناك حلول جاهزة لكسر هيمنة ثقافة الخوف و لكن أعتقد أنّ ذلك لا يكون إلا بتعريتها و كشف مساوئها و فضح تهافتها و هو ما يمكن للفنّ أن يقوم في إطاره بدور هام...الفنّ ثورة دائمة على ما هو بال و التزام أزلي بمعانقة المثالي و إدانة متجدّدة للقمع و التخويف و التخدير( مسرحيّة خمسون مثال جيّد على هذا الدّور، رأيت المشاهدين يخرجون منها باسمين جذلين (بعضهم كان يقهقه كأنّه كاد يشاهد عملا بلغ الغاية في الإضحاك) و ما ذاك إلا لأنّهم نفّسوا عن أعباء ثقيلة جاثمة فوق صدورهم كابتة إيّاهم و ذلك عبر مشاهدة عمل يدين، أخيرا، خمسين سنة من الخوف)... و كنموذج لدور الفنّ، اخترت في نهاية هذا المقال أن أورد هذا النص الّذي لعلّه يلخّص التربية القائمة على الخوف . النصّ للأديب الراحل إحسان عبد القدّوس و مقتطف من آخر مجموعاته القصصيّة "لمن أترك كلّ هذا؟ "...الحوار التالي دار بين الأب رحمي الّذي صفع ابنته بعد أن ضبطها متلبّسة بـ"الشخبطة" (على الورق و ليس على الحيطان) و بين المربيّة سميرة:
"-لا يهم..إنك تجالسينها و تعملين عندي منذ قريب.. و أمامي فرصة لأختبرك.. و على كل حال إنّ ضرب البنات هو أحسن الوسائل لتربيتهن..إني أربّي ابنتي على الخوف..يجب أن تخاف منّي حتّى تخاف من أن ترتكب أيّ خطأ..و حتّى تخاف أن تخرج عن طوعي عندما تكبر..
و قالت سميرة :
-هذه أسوأ طريقة لتربية البنات..البنت الخائفة هي البنت المعذّبة..و البنت المعذّبة هي الّتي تلقي بنفسها في أوّل مصيبة تصادفها..
و قال رحمي و هو يلوي شفتيه احتقارا لما يسمعه و ربّما احتقارا لسميرة نفسها :
-لقد عاشت أمّها معي وهي خائفة دائما..كلّها خوف..و كانت من أنظف و أشرف و أعقل الزّوجات..
و قالت سميرة برنّة ساخرة :
-و لهذا ماتت..رحمها اللّه..
و تجهّم وجه رحمي أكثر و قال بلهجة حادّة:
-إنها خالفتني و تحرّرت من الخوف منّي بأن ماتت..لم أكن قد سمحت لها بالموت .. و أحطتها بكلّ ما يضمن لي أنّها لن تموت..و رغم ذلك ماتت..وأبشع ما فعلته أن تموت و تركت لي ابنتنا فوزيّة لأحمل همّها وحدي، و دون أن تقدّر أنّي لا أستطيع أن أكون أمّا و إن كنت اعتبر خير أب..
و قالت سميرة و هي تنظر إلى رحمي في تعجّب و دهشة:
-ربّما ماتت من الخوف.."

هناك 3 تعليقات:

Bachbouch يقول...

T'as tout dit et avec elegance!

3amrouch يقول...

ثقافة الخوف تتجسم فعليا عندما تسجن السيدة الفاضلة زكية الضيفاوي بعد ايام قلائل من الاحتفلات بعيد المراة
ثقافة الخوف تترجم على ارض الواقع بتهدديها بالاغتصاب لا لشيء الا لكونها قامت بمسيرة للاحتجاج.
ثقافة الخوف تكون واقعا ملموسا حين يقع التعتيم على مثل هذه الاخبار وحين نحجم نحن حتى عن مجرد التلميح
ثقافة الخوف ان نصنع لانفسنا عدو وهميا ونهاجمه ونتعرض له بمناسبة او بغير مناسبة لننفس عن ذاتنا المقموعة ولاننا نعلم علم اليقين انه لن يرد الفعل

غير معرف يقول...

شكرا جزيلا يا "أبا معاذ" على هذا المقال الشيّق و المفيد، و أنا متاكّد من أنّه أخذ منك الكثير من الوقت حتّي تنجزه بكل هذه الأناقة و به الكثير من الإعتزاز و إن لم نقل الكبرياء و الوقار، أشكرك للأنّك جسّدت معاني الخوف بطريقة ذكيّة و مؤدّية و كم نحن في جاجة لمن يجسّد خوفنا ما بعد الخمسين..لعلّها تكون بعد إنتهاء الخمسينية الثانية و نحن ما زلنا في نصفها.