الأربعاء، 19 فبراير 2020

ما الذي تغيّر بعد مشاهدة الخطّاب على الباب للمرّة الألف؟ 4/4

الهامشيون و"البلديّة"
خارج محيط عائلة الشاذلي التمّار وأصهاره وأقاربه، يحتلّ ما يمكن أن نسمّيهم بالهامشيين مكانة مميّزة في أحداث المسلسل. تتكوّن نواة هؤلاء الهامشيين من شلّة سطيّش، أو "عصابة صليح" كما سمّاهم عبد الستّار في إحدى المرّات. لا يتجاوز الأعضاء الدائمون لهذه الشلّة أربعة، ولكنّ أوضاعهم تتباين بشكل كبير. صليح هو أكثرهم استقرارا، فهو الوحيد الذي يملك عملا قارا وحانوتا ومسكنا، ثمّ يستأنف استقراره في الجزء الثاني بزواجه من بيّة. يشكّل صليح واسطة العقد بين المجموعة وباقي سكّان الحيّ، وخاصة ذوي الوجاهة منهم، فوجوده بينهم يعطيهم نوعا من المقبولية الاجتماعية. نتساءل عن سبب وجوده بينهم رغم وضعه الجيّد نسبيا. ربّما لأنّ مزاجه الحاد لا يتحمّل كثيرا أجواء "الوجهاء" التي لا تقبل كثيرا مرحه الخاص جدّا. قد يكون كذلك عانى سابقا من شعور بالدونية جعله لصيقا بمن يراهم أكثر شبها به. يلي صليحا في الاستقرار قمر الزمان الميساوي، شُهر سطيّش. كانت وضعيّته سيّئة للغاية، إذ كان يتيما موصوما بالانحراف، قبل أن يكفله الشاذلي التمّار ويوفّر له حدّا من الأمان والتوازن المالي. تصل به وضعيّة الرفاه إلى أوجهها حينما يسافر إلى أروبا للسياحة، غير أنّنا نراها تعود إلى الانحدار بعد ذلك. ثمّ نجد عبودة، الشاب البسيط، الذي يسكن "وكالة" والذي يتنقّل بين مجموعة من الأعمال المتواضعة. ثمّ نأتي إلى رضا "حفّة"، وهو آخرهم إذعانا للضوابط الاجتماعية، إذ نراه مكسور الساق، إثر حادث تعرّض إليه خلال محاولة سرقة. إضافة إلى هذه المجموعة، نجد هامشيين آخرين محيطين بها، مثل نعيمة وأخيها الحطّاب ومنصور الخضّار.
تجمع بين هؤلاء جميعا، باستثناء صليح، وضعية الهشاشة التي يعيشونها. إذ ليست لديهم أعمال قارة، ولا مساكن ثابتة فنراهم يتنقلون للسكنى بين الوكالات والحوانيت. حتّى سطيّش يعرف هذا التشرّد في الجزء الثاني لمّا يختلف مع آل التمّار. مستواهم التعليمي غير مرتفع، فنرى حفّة مثلا يشتكي من مسرحية برشت ويقول أنّها لا تُفهم إلّا بالباكالوريا. قد يختلفون، لكنّ خلافاتهم أقرب للدعابة، وحتّى إن احتدّ بعضهم على بعض، فسرعان ما يعودون إلى الألفة. لكنّ أهمّ ما يجمعهم في نظري أحلامهم الكبيرة. كلّهم غير راضين عن وضعيّتهم ويتوقون إلى ما هو أفضل. أحلامهم قد تكون فنيّة: كحلم سطيش وحفّة بالغناء والمسرح، أو رومنسية كحبّ عبودة لروضة أو حبّ صليح لبيّة. جميعهم يحلم بالارتقاء، لا بمعناه المادي فقط. هم يسعون إلى تحقيق اعتراف يجعلهم أفرادا مقبولين في مجتمعهم، متجاوزين الوصم الذي طبعهم سابقا. نرى ذلك جليّا في وضعية حفّة، الذي يريد دائما أن يثبت صدق توبته حتّى نراه يقتسم المشروب الغازي مع صديقه ولا يلجأ إلى تناول غيره وذلك رغم غياب الرقابة عليه، فقط لأنّ سلومة لم يسمح له بأكثر من قارورة واحدة. هذا الحلم يجعلنا دائما نراهم أجمل ممّا يوحي به ظاهرهم الرثّ. ليس أوضح من ذلك من وضعيّة نعيمة "الكحلة". في البداية، لا نرى منها غير وجه مخيف: فتاة عنيفة وحادة الطباع ولا تعتني بهيئتها. لكنّها تكشف لنا عن امرأة مناضلة، تجتهد لتنال خبزها بعرق جبينها. تتقن عملها، سواء في "تسمير الجراري" أو كخيّاطة في معمل صفية. تأبى أيّ طريق غير مشروع لكسب المال، حتّى أنّنا نراها تقرّع أخاها الحطّاب بعنف على ذلك. تأنف من أيّ مسّ من كرامتها، وتدخل في معارك إذا اشتبهت في أنّ أحدهم يسخر منها. تحلم بالزواج، وتؤثر سطيّش على نفسها، حتّى تترك غرفتها في الوكالة له.
عندما أصبحت معالم الحيّ مهدّدة، نرى هذه المجموعة الأكثر نشاطا في الدفاع عنها. يسعون إلى التجسّس على سي الأمين لمعرفة مخططاته ويؤلّبون الرأي العام ضدّه. يبادرون بالاتصال بالمنجي لإنقاذ المقهى، ويثابرون حتّى تثمر مجهوداتهم. المفارقة أنّهم يقومون بكلّ ذلك في حيّ يعتبرون فيه أغرابا. هذا الخيط الفاصل بين "البلدية" و"الآفاقيين" قد يبدو رفيعا لأوّل وهلة، لكنّه كائن ووازن، ويتماهى تقريبا مع الفصل بين الوجهاء والعامة. تراه رمزيّا في المقهى حيث تخصّص المقاصير للوجهاء وحدهم، ولا نراهم يجلسون في الباحة الرئيسية إلّا تواضعا. ربّما لأجل ذلك بادر إلياس، وهو بادي الغرور والغطرسة، إلى الجلوس في المقصورة رغم أنّ أحدا لم يكن يعرفه فيها.  نرى منّانة تنطق عن الاستعلاء "البلدي" عندما لا نراها تعبّر عن رضاها بزواج حفيدتها من أحمد إلّا بعد أن علمت أن أمّه "بلديّة". نراها كذلك تمدح عثمان بقولها "ما تفرزوش على أولاد نهج الباشا". لكنّ التعبير الأكثر قسوة يأتي من عبد الستّار. في حديثه مع التيجاني كلسيطة، نراه يجعل هؤلاء "الأغراب" سبب كلّ مشاكل الحومة، ويدعو إلى تحرير مكتوب يُرفع إلى السلط المختصة لإرجاعهم إلى بلدانهم. لنتذكّر أنّ هؤلاء "الأغراب" هم من سيحافظون فيما بعد على معالم الحومة، وأنّ عبد الستّار نفسه هو من سيسمسر لبيعها.
يردّ التيجاني على عبد الستّار بغضب وبقلب حجّته عليه: "انتي يا سي الانتريتي من وقتاش جيت لتونس؟ تي انتي بلادك في آفاق الآفاق!". نعتبر التيجاني من أبرز الشخصيات التي تعطف على أولئك الهامشيين، ويبرز ذلك جليّا في تبنيه الحماسي لقضيّة منصور الخضّار. الشاذلي التمّار نفسه لا يحمل هذا الاستعلاء ونراه يهنّئ حفّة بخروجه من السجن ويعطف على نعيمة ويمدحها ويتوسّط لها عند زوجته. أمّا أحمد التواب، فنراه في أوّل الأمر شديد اللصوق بهذه المجموعة، حتى كأنّه منهم، بل نراه ينادي سطيّش "يا توأم روحي". غير أنّه فيما بعد يبتعد عنهم نوعا ما وتضحي لقاءاته معهم متباعدة، حتى أنّه لم يعلم بوظيفة حفّة الجديدة إلّا بعد مدّة طويلة. لكنّنا نرى أيضا أنّه لم يتخلّص من آثار الاستعلاء. عندما يغضب، يعود إلى استعمال كنية "سطيّش" في حديثه مع قمر الزمان، أو يصيح في وجه عبودة "يا هايشة".

ليست هناك تعليقات: