الثلاثاء، 19 فبراير 2008

فيلم رعب اسمه "جنون"




أتيحت لي الفرصة أخيرا لكي أشاهد الشريط الحدث "جنون" للفاضل الجعايبي. ذهبت إلى قاعة السينما مبكّرا خوفا من الازدحام الّذي توقّعته بما أنّ وسائل الاعلام تتحدّث عنه باطناب و لكن عدد الحاضرين في القاعة لم يتجاوز العشرين و لم أتوصّل الى معرفة السبب في هذا الحضور الهزيل: أ يكون ذلك راجعا إلى أنّ "الجميع" شاهدوه أم أنّهم ،و هذا المبرّر أكثر واقعيّة، ينتظرون خروجه لدى باعة الأشرطة المقرصنة؟
على كلّ حال،مكّنّني ضعف الحضور من اختيار مكان ممتاز للمشاهدة و منّيت النفس بعرض فنّي رائق و لكنّني في الحقيقة لم أعش متعة فنيّة بقدر ما عشت لحظات من الرعب..الرعب الحقيقي. صحيح أنّه ليس من نوع ذلك الرعب الرخيص الّذي يعرض في أفلام الرعب الاميركيّة مثلا(رؤوس مقطوعة، دماء تسيل، قتل مفاجئ..) و لكنّه رعب على كلّ حال، بل أنّ هذا الشريط هو أكثر امعانا في الرعب لأنّه واقعيّ للغاية. عندما تشاهده لا ترى ما تعرف أنّه لقطات مصنوعة خصّيصا من أجل ارعابك و "تسليتك" و لكّنك ترى مشاهد لأشخاص يعترضونك في الحياة اليوميّة، أشخاص مثلك يعيشون حياتهم في ظلّ مختلف مستويات القمع، أشخاص قد تكون أنت أحدهم يعيشون في عالم قاتم قاتم قاد أحدهم إلى الجنون، و ينتابك شعور بالخوف من أن يؤول مصيرك إلى مثل حاله، و لم لا و هو يعيش ظروفا قد تكون محيطة بأيّ كان على اختلاف في درجات الفظاعة لأنّ الأوضاع الّتي عاشها المريض "نون" في الفيلم كانت كارثيّة بشكل مهوّل و لا أدري ان كانت فعلا نفس الأوضاع الّتي جاءت في القصّة الأصليّة: شقيقة تمتهن الدعارة، أخ يبيع أعراض أخواته، اخوة بين "حارق" و ميّت و أليف سجن.. أذكر أنّي قرأت ذات مرّة أنّه من نقاط الاختلاف بين محمد ادريس و الفاضل الجعايبي هذه الرؤية الّتي يحملها هذا الأخير و الّتي تعمل على ادخال المتلقّي في دوامة من الخوف و الفزع تجعله يحسّ بالضآلة و الانكماش أمام مشاكل الواقع. أتساءل: هل يمكن للرعب أن يحقّق الوعي؟
بنية القصّة بسيطة للغاية بل أنّها مبالغة في البساطة إلى حدّ السطحيّة ربّما: طبيبة نفسانيّة تتعرّف على مريض في مستشفى الأمراض النفسيّة فتساعده لكي يشفى. أكاد أجزم أنّه منذ ربع الساعة الأولى تمكّن المشاهدون من معرفة "سرّ" مرضه و المتمثّل في أبيه المتوفّى الّذي كان "يصلّي و يسكر، يربّي و يكذب"، الأب الّذي كان يضرب ابنه من أجل كلّ شيء و لا شيء. سهولة العقدة تجعل من متابعة الشريط أمرا مضجرا لأنّ المشاهد أصبح يحزر النهاية منذ البداية و رغم ذلك فإنّ المخرج لا يمتّعه بالوصول إليها بل أنّ أحداث الفيلم لا تكاد تتقدّم و تتمطّط و تكاد تعاد دون أن تشهد منعرجا يغيّر مجراها ودون حتّى أن يفاجئه المخرج بتغيير النهاية المتوقّعة، النهاية الّتي كانت ساذجة نوعا ما و قريبة من النهاية السعيدة الكلاسيكيّة بما أنّ المريض "نون" تمكّن من اكتشاف علّته و سار في طريق الشفاء. لعلّ هذه البساطة مقصودة لأنّه رغم أنّه من المفروض أنّ معرفة علّة "نون" كانت سهلة على أيّ طبيب نفساني الا أنّ أحدا من الأطباء لم يسع إلى ذلك و اختاروا كلّهم الحلّ السهل: اغراقه بالأدوية المهدّئة حتّى يذهل عن الوجود و تقلّ حدّة نوباته، و لكن هذا الطرح جعل الشريط يبدو أقرب إلى شغل تطبيقي يبحث في تقنيات معالجة الفصام منه إلى عمل فنّي من المفروض أن يتوفّر فيه قدر من الجماليّة. لقد ضحّى صاحب العمل بالجماليّة لأنّه كان مسكونا بهاجس آخر: هاجس البحث عن وعي مفقود و أكيد أنّ الالتزام شيء مطلوب و لكن دون أن يؤثّر على الناحية الابداعيّة لأنّ ذلك يجعل العمل أقرب إلى العظات.
قيل عن الشريط أنّه مجرّد تحويل للعمل من المسرح إلى السينما دون اضافة حقيقيّة و هذا ما أرى فيه تعسّفا على مخرج الشريط. فباستثناء الديكورالبسيط و بعض اللقطات الهامشيّة الّتي يكون فيها شخصان يتوجّهان بنظرهما إلى الكاميرا في حين أنّهما يخاطبان بعضهما ممّا يفترض أن ينظر كلّ منهما للآخر، لم أحسّ أنني ازاء عمل مسرحي(مع العلم أنّني لم أشاهد المسرحيّة) بل بالعكس كان هناك تركيز على بعض التفاصيل الدقيقة الّتي من الصعب اظهارها في المسرح و لا يمكن الا لرؤية سينمائيّة أن تقوم باجلائها.
فيما يخصّ الممثّلين، أدهشني الدّور الّذي قامت به جليلة بكّار، فعلى الرغم من أنّ شخصيّة الطبيبة النفسانيّة محوريّة في القصّة الا أنّه لم يكن يتطلّب ممثّلة في مثل حرفيّتها. كان دورها مقتصرا في أغلب الأحيان على توجيه الأسئلة لـ"نون" و عائلته دون أن يظهر وجهها أحيانا و لازمتها منذ بداية الشريط إلى نهايته ابتسامة لم تتغيّر، ابتسامة لم أكد أجد معنى لها الا أن تكون الامضاء الّذي يجب أن يحمله وجه كلّ طبيب نفسي. فيما كان أداء فاطمة سعيدان رائعا اذ كانت انفعالاتها مدروسة: بكت حين وجب البكاء، صرخت حين وجب الصراخ، غضبت حين وجب الغضب . لقد جسّمت بصدق الأمّ المقهورة على أمرها الممزّقة بين حبّها الجارف لابنها و انحنائها لظروف الواقع. و كذلك كان محمد علي بن جمعة مجنونا بحقّ، مجنونا في كلّ حركاته و سكناته: في مشيته المترنّحة كمن يحمل جبالا على كاهله، في نظرته الناريّة المتّقدة الغاضبة أحيانا و الوديعة الساكنة الحالمة أحيانا أخرى، في انتقاله المفاجئ من شعور الى نقيضه كانتقاله من الباحث عن اشباع الشهوة الى المتديّن المتطرّف الكاره للنساء في طرفة عين. كان تعبيرا عن تناقضات المجتمع في أبشع صورها و هو ما أدّى اليه القمع المتواصل الّذي تعرّض اليه منذ طفولته و من أقرب الناس إليه و كان "المجنون الّذي من حقّه أن يحاكم العالم".
لم يكن الشريط ادانة لأشخاص بقدر ما كان ادانة لقيم، فحتّى الشخصيات ذات الظاهر الشيطاني(كالأخ) كانت تبدو جوانبها المضيئة في بعض الأحيان. لم تكن هذه الشخصيّات مدفوعة الى الرذيلة اختيارا حرّا منها بل أنّه كانت، حسب رؤية الشريط، نتاجا طبيعيّا لمجتمع تمزّقه التناقضات و لكنّه رغم ذلك يعيش فيها و يفرضها على نفسه و يجبر نفسه على تقبّلها فينقل قيه الاضطهاد و القمع من جيل لجيل و من مستوى سلطة لآخر. الشخصيات الوحيدة الّتي صوّرت بشكل سلبي مطلق هي أطبّاء المستشفى الّذين لم يكونوا أصحاب مهنة نبيلة بقدر ما كانوا بيروقراطيين يسعون إلى الحفاظ على الوضع الراهن رغم مأساويّته و يأرّقهم التغيير المجسّم في الطبيبة حتّى ان كان هدقه من المفروض أن يكون هدف الجميع: شفاء المريض.
أختم بملاحظة حول موعد صدور الشريط: لمّا سمعت بخروجه الى القاعات لأوّل مرّة استغربت لأنّني سبق لي أن سمعت به من قبل. ظننت أنّني واهم و لكن تبيّن فعلابعد التثبّت أنّه أنتج سنة 2006. لقد جال هذا الشريط العالم و عرض في عديد المهرجانات قبل أن يعرض في موطنه. أ كان ذلك تركا لعرضه في تونس مسكا للختام أم أنّ هناك "ظروفا قاهرة" أو موقفا صارما حال دون عرضه قبل ذلك؟

هناك تعليق واحد:

غير معرف يقول...

شكرا على هالتحليلي الفن الرفيع

مجهود باهي برشا