الجمعة، 14 فبراير 2020

ما الذي تغيّر بعد مشاهدة الخطّاب على الباب للمرّة الألف؟ 4/2


الشاذلي التمّار: ملك دستوري
يبدو سي الشاذلي نموذجا للأرستقراطي التقليدي الذي يتجاوزه العصر. هو يحرص على التمسّك بأهداب الأرستقراطية، ويبدو ذلك في تأنّقه البادي في كلّ الأوقات (البدلة الافرنجية صباحا والجبّة التونسية ليلا) وحضوره المهيب وإبدائه الوقار في كلّ كلماته. يتعامل بتحفّظ كبير ولا يخاطب زوجته أو أمّه إلّا بشكل أقرب للرسمية. رغم أنّنا نفترض أنّه تزوّج صفيّة عن حب (بما أنّه أعرض قبل ذلك عن زواج مدبّر بابنة خالته)، فإنّهما قلّما ينزعان "سي" و"للّا" في خطابهما. حتّى لمّا تتجرأ صفيّة فتعبّر عن حبّها له في غرفة نومهما، يهبّ مفزوعا، حذرا أن يسمعهما أحد.
وراء تلك الهيبة والتحفّظ، لم يكن الشاذلي التمّار قادرا على إدارة أبسط الأزمات التي تحدث تحت سقف بيته. كان يحاول أن يلتزم نوعا من الحياد الإيجابي، فلا ينحاز بشكل واضح لا إلى أمه ولا إلى زوجته، وإنما يمنح الحق لهذه تارة ولتلك تارة أخرى، ولكن ذلك لم يكن يرضي كليهما، فنراه يختار الهرب أحيانا: إلى المقهى، أو بيت صديقه كما حصل في إحدى المرات. أحسنت حدّة تلخيص الأمر حين قالت لفاطمة: ليس في البيت غير داهيتين: "العجوز" و"المدام"، أمّا الشاذلي، فهو ضائع بينهما. هو واع أن التغيرات التي تحصل سريعة النسق، لكنّه يرفض مواكبتها، أو بالأحرى يعجز عن ذلك، ويكتفي بالشكوى من مرارة العيش وتبدّل الأزمان.
تتجلّى تناقضات سي الشاذلي بشكل واضح في تسييره لأعماله. هو يزعم أنه فلّاح ابن فلّاح، لكنه لا يعرف عن الفلاحة شيئا، وهو ما يصدمه به عثمان في لحظة صراحة فجة. يستغفله العملة ويسرقونه ويكشف له عثمان ذلك، فيُصدم، ولكنه لا يتّخذ موقفا، بل يبقي السارق في خدمته. كذلك نرى المستأجرين الذين يجهل وجودهم والّذين يمتنعون عن أداء معين الكراء التافه يتطاولون عليه دون أن يوقفهم عند حدّهم. يدفعنا ذلك للتساؤل: كيف أمكنه بهذا السلوك الحفاظ على ثروة العائلة؟ أتلك طيبة متأصلة فيه أم ضعف فادح؟ سياق العصر يجعلنا نميل نحو الخيار الثاني، وإن أقررنا له بأنه لا يخلو من طيبة وحتى من شهامة. يعطف على ناجية الجارة المطلّقة ويساندها في مساعيها للحفاظ على المقهى، ولا يتكبّر على أحد بما في ذلك المنحرفين السابقين، ويبدي قلقا على منصور الخضّار حتى أنه يترك شؤونه ليستفسر عن تغيير صبغة الدكّان. عكس موقف أمه وزوجته المتعالي على صهره المنجي، يبدي الشاذلي له الكثير من الاحترام، ويكرّر مرارا: هو إنسان عالم.
ربما تكون هذه الطيبة هي ما جعلته محل تقدير من الجميع، أكثر ربما من أصوله الأرستقراطية. يضاف إلى ذلك رصانته الكبيرة وبعده عن التطرّف في الانفعالات، وهو ما أبدع في تجسيده رؤوف بن عمر. فرغم أنه كثيرا ما يغضب، فإنّ الغضب لا يخرجه عن طوره، إلا في أحيان نادرة، كصفعه صليحا في قهوة السوق أو في صيحته: "شيخ الهادي، اخرج من داري". وهذا الخروج عن الطور مفهوم، إذ أنّ ما حدث يتجاوز كل ما يمكن أن يقبله: تصريح أمام العموم بدا له مبتذلا ومهينا له شخصيّا في المرّة الأولى، وممارسة للشعوذة تحت سقف بيت العائلة العريقة في المرة الثانية.
عموما، يبدو سي الشاذلي حازما عندما يتّخذ موقفا، ولكن التجربة أثبتت أنّه سرعان ما يتم تجاوزه. في المثالين المذكورين، بارك زواج صليح من بيّة، واعتذر لتحيفة الذي عاد إلى داره. نلمح هذا التجاوز كذلك في مواقف أخرى: في قضية عمل صفية مثلا، أو عندما أراد منع فاطمة من الذهاب إلى سوسة، قبل أن يستجيب لشفاعة جدّ سهام، أو عند خطبة ابنته فاطمة، فبالرغم أنه أبدى امتعاضا مما اعتبره وقاحة من أحمد في لقائهما الأوّل، إلا أنه رضخ وقبل بالخطبة فيما بعد. يمكن القول أنّ سي الشاذلي أشبه بالملك الدستوري: الكلّ يحترمه ويوقّره، ولكنّ القرار ليس في الحقيقة بين يديه.
(يتبع)

ليست هناك تعليقات: