الأربعاء، 4 مارس 2020

أريكة في تونس... ضحكات على السطح

شيئان دفعاني لمشاهدة فيلم "أريكة في تونس" للمخرجة منال العبيدي، منذ شاهدت ومضته الترويجية منذ عدّة أسابيع. أوّلهما أنّ الحبكة نفسها (معالجة نفسية تأتي لتقيم عيادتها في حيّ شعبي في تونس) كانت توحي بغوص عميق في الأزمات النفسية التي يعيشها مجتمعنا. أمّا ثانيهما، فهو ما كانت تستبطنه الومضة من نظرة استشراقية استعلائية تنميطية، وبدافع من الإفراط في الوطنية، والغيرة على الخصوصية التونسية، كان لا بدّ أن أشاهد كي أكون قادرا على الإدانة والتنديد والشجب، كما تقتضي ذلك تقاليدنا العريقة.
غير أنّي لم أجد هذين الشيئين في الفيلم نفسه. لم أر تحليلا نفسيّا عميقا في أيّ لحظة من لحظات الفيلم. في جميع جلساتها مع مرضاها، اختارت المعالجة النفسية سلمى (تلعب دورها غلشيفته فرحاني) البقاء صامتة. لم نرها تتدخّل للتفسير أو المساعدة إلّا في مناسبة واحدة، حول علاقة الحلّاقة (فريال الشمّاري) بأمّها. لكنّنا فيما عدا ذلك، نراها تحافظ على سلبيّتها، إلى حدّ يجعلنا نستغرب زعمها تقديم المساعدة للناس كسبب لإصرارها على فتح العيادة، في حين أنّنا نراها تهمل حالات قريبة منها تستوجب الكثير من التحليل، كعمّها (منصف العجنقي) الذي أدمن الكحول منذ الثورة أو زوجة عمّها (رملة العيّاري)، السيّدة المتحجّبة التي تأبى الظهور إلا بأطنان من المساحيق حتى أمام زوجها. بل أنّنا نراها تفشل حتى مع نفسها، إذ لا تقدّم لنا تحليلا متماسكا عن سرّ مغادرتها لفرنسا واختيارها فتح عيادة في مكان مماثل. لو شاء الفيلم أن يكون عميقا، لركّز على حالة أو بضع حالات، لكنّه اختار أن ينثر أمامنا طيفا كاملا من الحالات دون أن يتجاوز السطح في أيّ منها.
أمّا في خصوص النظرة الاستعلائية، ففي الحقيقة لم أر في الفيلم إلّا ما نعرفه مسبقا عن مجتمعنا. أيمكننا أن ننكر ما عندنا من فوضى وعنف وغشّ وكبت وتعصّب وبيروقراطية ومضايقات أمنية؟ ربّما ننزعج إذا صارحنا بها "الآخر"، خصوصا إذا قدّمها بشكل كاريكاتوري، ولكنّ ذلك لا ينفي وجودها، وبشكل أكثر حدّة من طريقة تناولها في الفيلم.
يوفّر لنا الفيلم عددا من الضحكات، وهي ميزته الكبرى، إذ يقدّم لنا عددا من المواقف الكاريكاتورية الصالحة لتزجية الوقت، ولا شيء أكثر من ذلك. فالقصّة تحتوي على عدد من النقاط غير المفهومة: مثلا، كيف يمكن لمعالجة نفسية أن تتصوّر أنّ في وسعها أن تمارس مهنتها دون أيّ شكل من أشكال الترخيص؟ كيف يمكن لشرطيّ (مجد مستورة) أن يعمل في الزهراء ووسط العاصمة وكلّ مكان ممكن؟ يحاول الفيلم "التغطية" على هذه الثغرات من خلال الإشارة إليها مباشرة بشيء من الدعابة. غير أنّه لم يكن في حاجة إلى ذلك باعتباره فيلما "خفيفا"، ولعلّه يسجّل نجاحا في الخارج. نحن فقط، كتونسيين، ونحن أصحاب القضيّة، نحتفظ بحقّنا في الحكم عليه بشكل أكثر صرامة، لا سيّما وهو يصوّر مجتمعا بفئاته المتعلّمة وغير المتعلّمة في حيّ شعبي يتقن (عموما) الحديث بالفرنسية في تعاملاته اليومية وفي أدقّ تفاصيل بوحه، أو عندما يقدّم لنا مهاجرة من بني جنسنا تتحدّث لهجتنا بلكنة غريبة

ليست هناك تعليقات: