الأربعاء، 8 أبريل 2020

الخبر عن هجرة حبيب إلى ترشيش وسببها


دخل عبد العزيز بن سهل على حبيب، فألفاه في مضجعه وقد أغلق النوافذ ومكث ساهما يحدّق في الفراغ. كانت الحجرة تغرق في الظلمة، ويفوح ريحها عطنا، ذلك أنها ما استقبلت ضوءا ولا هواء منذ بضعة أيام. هاله ما لحظه من شحوب في وجهه ونحول في جسده. فقال له:
أحسبك لم تر الشمس منذ أيام، فما خطبك؟
قال حبيب: ما حاجتي إلى شمسكم وأنا لم أجد شمسي؟
قال عبد العزيز: وما شمسك؟
افترّ ثغر حبيب عن شبه بسمة وهو يقول: لو كنت أعلم، ما كنت أشقى في البحث عنها. إنّما هي مما يُعلم ولا يُدرك.
قال عبد العزيز وقد ضاق صدره: لا زلت في هذيانك، تنطق بالألغاز وترى لنفسك طريقا لا يراها أحد من العالمين. انظر إلى حالك، أيعجبك ما ترى من نفسك؟
أجاب حبيب: أمّا طريقي، فلم أرها. وأمّا حالي، فلا يعجبني ولكني لا أجد عنه محيلا.
قال عبد العزيز: بلى لو شئت. فاتك الربيع، فلا يفوتنك الصيف، وأنت لا تزال في شتائك تقيم بين غيومك. ما رأيت أرقّ من نسيم يومنا هذا، فلو خرجنا إلى غابة النُحيلة، فرأينا من الماء والخضرة ما يشرح الصدر، وأضاف متضاحكا: وما عاد ينقصنا سوى الوجه الحسن، وعسانا نظفر به.
قال له حبيب: دعني من ذلك. إنّا لا نصل إلى النُحيلة حتى نعبر شطر المدينة، وليس أكره إلى نفسي من أن ألقى أحدا أعرفه، فيستوقفني ويسأل عن حالي، فأغصب نفسي أن أجيبه وأجامله، ويطيل الحديث حتى تتكدّر نفسي فأجافيه.
قال عبد العزيز، وقد طمع في إقناعه: فإنّي ضامن لك ألا يحصل ذلك.
قال حبيب: وكيف ستفعل ذلك؟ أستشهر سيفك في وجه من يعترضنا؟
أجابه عبد العزيز: نتلثّم فلا يعرفنا أحد. ولنا في ذلك عذر، فإن الشمس قد اشتدت ولا بدّ لها من وقاء.
ومازال به حتى قبل.
خرجا وهما يتنكبان ما اتّسع من الشوارع ويتتبعان الأزقة. كان عبد العزيز يحادث صاحبه مستجلبا كلامه. غير أنّ حبيبا لبث متلفعا بصمته، لا يجيب إلا بما قلّ وكأنّه يعتصر الكلام من نفسه اعتصارا، حتّى كفّ صاحبه عن الحديث. وصلا قرب الجامع الكبير، وكان لا بدّ من المرور قربه، على ازدحام ما حاذاه من طرق. شقّا طريقهما وسط الباعة المتجاورين وحرفائهم. ولمّا انعطفا في اتجاه الطريق الجنوبي، كادا يصطدمان بفتاتين خارجتين من حانوت عطّار. همهم عبد العزيز بكلمات الاعتذار وقد سقط عنه لثامه، فضحكت الفتاتان في تسامح وواصلتا طريقهما. همّ عبد العزيز أن يكمل مشيه، غير أنه وجد صاحبه ذاهلا في مكانه. سأله: ما بك؟ لم يجبه في الحين، وإنما ظلّ يتمتم بكلمات غير مفهومة، ثمّ قال:
سافرت نفسي في دروب عيون 
ليس في غيرها يُقال الشعر
قال عبد العزيز: أيّ عيون؟
قال حبيب: أتعرف تلك الفتاة؟
سأل عبد العزيز: أعرف كليهما، وأحسبهما قد عرفتاني لمّا انحسر اللثام. فأيهما تعني؟
قال حبيب: تلك من تضحك عن جمان وتسفر عن بدر. من هي؟
أجاب عبد العزيز: أنّى لي أن أحزر ما هيّئ إليك؟ زدني بيانا.
قال حبيب: يا صاحبي، اقدح زناد فطنتك، فلست أستطيع صبرا على ما بي. إنما عنيت أرشقهما قدا وأملحهما وجها
فهم عبد العزيز قصده، ولكنه قال في عبث: كلاهما رشيقة مليحة، فوضّح لي.
صاح حبيب: أطولهما يا هذا!
قال عبد العزيز: بخ بخ لك يا حبيب. أمّا صاحبتك فسعدى بنت يحيى، إحدى بني سراج. وأما صاحبتها، فأختها الثريا.
قال حبيب: أما أني قد فقدت ريح السماء منذ أن رحلت حبابة، وما رأيت منذ ذلك الحين صفاءها ولا سكينتها، حتى حانت مني نظرة إلى عيني سعدى فإذا بنفسي تثوب إليّ، وإذا بنور يملأ فؤادي قد طال عهدي به، وكأنّ حبابة قد نُشرت من جديد تصدح بما فيه شفاء النفوس. وما أراني إلا لها عاشقا
قال عبد العزيز: لا زلت في غيّك، تتوهّم الشيء ثمّ تصدّقه. هلاّ عرفت شيئا من شأنها قبل أن تشغفك حبّا.
قال حبيب: دعني منك، فأنت وعير بالفلاة سواء، لا تدريان ما الهوى.
قال عبد العزيز: يا أبا الزهراء، إني لك ناصح وعليك شفيق. أنا أدرى بسعدى منك، فلا يغرّنك ما لاح لك منها. هي والله شموس ذات كبرياء، شديدة الاعتداد بحسبها ونسبها، ما كلّمها أحد إلا أساءت جوابه، لا توقّر نبيلا ولا ترقّ لوضيع.
قال حبيب: ليس يخيب رأيي في تلك النظرة، وسترى ما يكون من أمري معها. فارجع بنا الآن إلى الدار، فإنّ صدري قد امتلأ شعرا.
فرجعا. ومكث حبيب ليلته في بستان بيته، يقلّب عينيه في الآفاق، وكانت ليلة تحلّت فيها السماء بزينتها، وبدا من أفلاكها ما كان مخفيّا. وكأنّ حبيبا رأى في ذلك آية على توفيقه في عشقه فامتلأ بشرا. ولم يكحّل الكرى عينيه، حتى بدا أوّل شعاع من الشمس، فغدا على عبد العزيز فأنشده قصيدته التي مطلعها:
عجبا لسرعة مَرِّ ذي الأفلاك
 سمّار ليل يسمعون لشاك
وهي قصيدة طويلة، فريدة في ديوان حبيب. إذ قصد فيها نحو الغريب ما لم يكن مألوفا في شعره قبل ذلك، وذهب أهل العلم بالأدب واللغة في ذلك مذهبين بين قائل أنه أراد إحياء مذهب القدامى في غزلهم فقصد إلى لفظهم وألبسه من المعنى ما جدّد به ما اندرس، وقائل أنّه على شغفه أراد التعمية على مراده، فنسج حوله من عويص اللفظ ما يعسّر بلوغه. وذلك أرجح عندنا، على غرابته. فإنّنا نعلم أنّ حبيبا وإن أراد بقصيدته تلك البوح بهواه، فإنه كان شديد الاعتداد بنفسه، يخشى كل الخشية أن يخيب ظنّه أو يجرح كبرياؤه، فذهب هذا المذهب.
ولبث حبيب شهورا بعد ذلك يغدو إلى مجالس الفتيان، يتحبّب إلى أقرانه ويتألف قلوبهم، مخالفا بذلك ما اعتاده الناس عنه من ميل إلى العزلة. وإنّما كان يروم أن يلقى في أحد تلك المجالس سعدى أو يجد إليها سبيلا، فلم يظفر بذلك حتى أعياه ذلك لمخالفته طبعه ولما كان يتكلّفه من مودّة تجاه من لا يرى فيهم غير الخواء. فشكى حاله إلى عبد العزيز، وقال له:
أما ترى ما أنا فيه من غم، فهلا أعنتني على أمري فتكون رسولي إلى سعدى لتطلعها على أمري عساك تجد قبولا.
قال عبد العزيز: والله لا أفعل. قد بيّنت لك رأيي فيها، وما أحسب إلا أنها ستردّك ردّا قبيحا.
قال حبيب: ليتها تفعل، فإنّ برد اليقين وإن قبح أحبّ إليّ من غمرات الشكّ وإن تلحّف بالآمال. وما أرى السوداء إلا معاودتي. فأعنٌي يا هداك الله.
قال عبد العزيز: كلا، لا أكون نذير شؤم يحمل إليك ما فيه شقاؤك.
وما زالا بين أخذ وردّ، حتّى رقّ عبد العزيز قليلا، فقال: أمّا الرسالة فلا أحملها. ولكنّي أحتال لك حتى تعرف شأنك، فائذن لي أن أشيع قصيدتك التي أنشدتنيها.
قال حبيب: قد فعلتُ، فاصنع بها ما بدا لك.
فما كان إلا أن افترقا في ليلتهما تلك، حتى شرع عبد العزيز في إنشاد تلك القصيدة في كلّ مجلس، مكبرا من شأنها جاعلا إيّاها ثامنة المعلقات، وما لم يقله في الهوى لا قيس ولا عمر ولا جميل. وكان حينما يُسأل عنها يقول: قد عشق حبيب فقال ما قال، وقد كنت شاهد هواه ذات يوم في أوائل الصيف قرب الجامع الكبير. فذاع ذكر القصيدة وخبرها، حتى لم يبق بيت في عين الهُنيدة لم يبلغاه.
كان بعد ذلك أن كان حبيب خارجا من الجامع الكبير، فإذا بسعدى والثريا يمشيان على بعد خطوات منه. فلمّا رأتاه، أمسكتا عن المشي وأخذتا تتهامسان. ارتبك حبيب لمرآهما، ثمّ فكّر: أمرّ عليهما وألقي السلام، وأرى إن كان هناك باب للحديث. سار في اتجاههما وسلّم فردّتا، وقبل أن يضيف شيئا، بادرته سعدى: يا أبا الزهراء، هل لي في كلمة؟ قال: نعم، وألف. انتحيا جانبا من الطريق بينما مكثت الثريا في مكانها، وقد أغضت.
قالت سعدى: هل علمت من أكون؟
ابتسم حبيب وهو يقول: ليس مثلك من يُجهل.
قالت: أحسبك قد حزرت ما جئتك في شأنه.
خفق قلبه، وقال: ربما كان ذلك، لكنني لا أوقن حتى تفصحي.
قالت: حدّثوني عن ذكائك يا حبيب، ولا أحسب قصدي يفوتك. ثم أردفت بعد هنيهة: ألم تنظم كافية على الكامل؟
قال: بلى.
قالت: أو لست أردت بها المكاشفة؟
قال وقد أطربته جرأتها: أجل
قالت: فهي تنتظر منك، وها قد حانت الفرصة، فأخبرها بما تريد
اشتدّ وجيبه. قد أتاه ما كان يبغي على حين غرّة. هي المرّة الأولى التي يجد نفسه فيها في مثل هذا الموقف. عليه أن يستجمع شتات نفسه ليتكلّم فلا يتلجلج. فردوسه على بعد كلمتين منه، وليس عليه سوى أن يخطو إليه.
باغته صوتها وهي تقول: هي هناك، فاذهب وخاطبها.
أشكل عليه الأمر. فقال مضطربا: ماذا تعنين؟
قالت: ألم تقل في قصيدتك:
فلقد تراءت في الثريا آية 

سبحانه قد جلّ من سوّاك

وأنت تريد أختي الثريا؟
نزلت غمامة سوداء على وجهه. وأحسّ ببرد مفاجئ يجتاح جسده.
قال: ما هذا أردت. إنما أردت بالثريا نجم السماء، فقد نظمت قصيدتي في زمان طلوعه
قالت: فمن عنيت بقصيدتك؟
هي لحظة الفصل. إما أن يبوح بأمره وإما أن يكتمه إلى الأبد.
ندّت عنه كلمة واحدة: أنت
تمعّر وجهها، وقالت في غضب: لم تبق لي إلا محبة الشعراء
وانصرفت، فحدّثت أختها بكلمتين، ثم سارتا معا. وحانت من الثريا التفاتة أخيرة إليه قبل أن تواصل المسير.
لم يدر كم مكث في مكانه هناك مستندا على الحائط. كان واقفا في مكانه والزمن يتقلب حوله في ذلك المساء بسرعة لا مثيل لها. ما عاد زمن الحب وخيالاته، ولا زمن الشعر وشياطينه. هما زمانان ما عادا يستجلبان سوى الهزء. عاش فيهما يستنطق أطيافهما، حتّى نسي زمن الناس وإذا به يستفيق على لطمة. كم صار غريبا عن نفسه. على أنّه في تلك اللحظة ماعاد يكترث بخيبته في الحبّ اكتراثه بالإهانة التي لحقته. كانت طعنة لم يسبق له أن تلقى مثلها. كلّ ما كان يهمّه في تلك اللحظة أنّه لن يبقى في مكان ذاق فيه تلك المرارة.
لمّا عاد إلى بيته، دخل على أبيه، وقبل أن يسلّم، بادره قائلا: يا أبت، قد علمت أنّ الشيخ سليمان بن مالك التنوخي قد قدم إلى ترشيش منذ شهر يبثّ فيها العلم، فائذن لي أن ألحق به فأتتلمذ على يديه.
قال أبوه: نعم الطريق ما أريد به العلم، ونعم الشيخ ابن مالك. قد أذنت لك، فلتذهب مصحوبا بدعائي.
قال حبيب: فإني نويت الارتحال فجر غد.
قال أبوه: ولم العجلة؟
قال حبيب: ولم التمهّل؟ قد لا يطيل الشيخ بقاءه في ترشيش، ولا أريد أن يفوتني أخذ العلم عنه.
ضحك أبوه وهو يقول: عجبا ممّن يريد الأناة من ابن الثامنة عشرة. فلتذهب متى شئت.
قضّى حبيب ليلته يتجهّز لرحلته، ولم يذق للنوم طعما. ومع أوّل خيوط الفجر، خرج من بيته، فألفى عبد العزيز على فرسه ينتظره. فقال له: ما تصنع هنا يا عبد العزيز؟
قال: قد أرسل إليّ أبوك يعلمني بما انتويت. وإنني رفيقك في هذه الرحلة، شئت أم أبيت.
ابتسم حبيب وهو يقول: بل أشاء.
وانطلقا معا ميممين شطر ترشيش.

ليست هناك تعليقات: