الجمعة، 17 أبريل 2020

زمن التوافق الضائع


من العسير أن نعدّد "الشوانط" التي من المفترض فتحها في البلاد. لا يوجد مجال تقريبا لا يحتاج إلى إصلاحات جذرية: الأمن، العدالة، الوظيفة العمومية، التعليم، التعليم العالي، الدعم العمومي، الضمان الاجتماعي، الجباية، الصحة العمومية، التنمية، السلطة المحليّة، الثقافة، الرياضة... كلّ مجال من المجالات المذكورة، وغيرها، يستوجب مجهودا خارقا للنهوض به ولو قليلا.
من السهل جدّا أن نُرجع المشاكل العديدة التي تعجّ بها هذه القطاعات إلى العهد السابق. وفي الحقيقة، أغلب الأزمات في هذه القطاعات هي نتيجة تراكم تاريخي امتدّ على مدى سنوات. لم تُفلس الصناديق الاجتماعية بين يوم وليلة، ولا تردّى وضع التعليم في عهد وزير بعينه. كان الانحدار متواصلا على مدى سنوات، وربّما أصبح أكثر وضوحا للعيان فقط لأنّ لنا اليوم من الحريّة ما يمكنّنا من أن نتحدّث عنه بشكل مفتوح.
المشكل في كلّ فعل تراكمي أنّه لا أحد يمكن أن يكون مسؤولا عنه بشكل واضح. المسؤولية مميّعة وسط نسيج هائل من السياسات العمومية المتعاقبة التي لم تفعل شيئا. كان الوضع يسوء تدريجيا، دون أن ينفجر في لحظة واحدة، ممّا يتيح لكلّ مسؤول أن يلقي المسؤولية على من سبقه.
على أنّ تحميل المسؤولية لشخص أو أشخاص لن يعفينا من مواجهة المشكل. ليذهب جميع المسؤولين طوال الستّين عاما الأخيرة إلى رحمة الله أو إلى غضبه، سيّان. لن يغيّر ذلك من الوضع الراهن شيئا. السؤال الذي ينبغي أن يُطرح: ماذا فعلناه لمواجهة هذه الوضعيات؟
يمكننا أن نلوم العهد السابق كما نشاء. لكنّنا الآن نشارف على الاحتفال بالسنة العاشرة لرحيله. ما الذي فعلناه طيلة هذه السنوات العشر؟ لو رجعنا إلى أيّ مجال من المجالات آنفة الذكر لعسُر علينا أن نعثر على أيّ بذور لإصلاح حقيقي في أيّ منها. هي سنوات ضائعة، اشتغلت فيها الحكومات المتعاقبة باليومي واليومي وحده، ولم تلق إلى المستقبل طرفة عين، فزادت المشاكل تراكما.
ما الذي كان يمنع من الفعل؟ الحجّة التقليديّة للساسة: لم نحكم بمفردنا، لم تكن الأغلبية مستقرّة، لم يتركونا نعمل. ليكن. لنسلّم جدلا بذلك، ولو أنّ أيّ حكومة مهما كان وزنها في البرلمان مطالبة ألّا تبحث عن أعذار مادامت قد نالت الثقة. ماذا عن أوقات "التوافق"، ذلك المصطلح العجيب الذي ابتدعته القريحة السياسية التونسية؟ ألم نشهد في أعقاب انتخابات 2014 تحالفا حكوميّا جمع ما يسمّى بالعائلة الوسطية الحداثية مع الإسلام السياسي وتيارات أخرى، وتجاوز وزنه البرلماني ثُلثي أعضاء المجلس؟ لماذا لم نفعل شيئا آنذاك؟
لم يكن التوافق المزعوم، الّذي قُدّم كحلّ يضمن السلم الأهلي للبلاد، غير اتّفاق يضمن اقتسام السلطة. ليس ذلك في حدّ ذاته مذموما، فهو جزء من لعبة السياسة. المؤسف أنّه لم يذهب أبدا إلى ما هو أبعد من ذلك. إذا عدنا إلى وثيقة شهيرة في تلك الفترة وهي وثيقة قرطاج سنة 2016 التي وقّعها عدد مهمّ من الأطراف السياسية آنذاك إضافة إلى أهمّ الأطراف الاجتماعية، لا نجدها أكثر من اتّفاق هزيل حول مجموعة من النقاط التي لا يمكن الخلاف عليها والفاقدة لكلّ آلية عملية لتطبيقها. هو اتّفاق لم يوضع لكي يطبّق، وإنّما فقط لكي يُعلن، وتحتفي به عدسات الكاميرا.
الوضع مثالي في الساحة السياسية التونسية لعدم الفعل. إذا كانت لديك أغلبية، فهي غير مريحة. إذا دخلت في توافق سياسي واسع، فأنت لا تحكم وحدك ولا تتحمّل المسؤولية عن شيء. أمّا الوضع الأكثر راحة، أن تكون في المعارضة فتلقي سهام نقدك على الجميع دون أن تكون مطالبا بشيء. من العسير أن يكون الوضع أفضل مع حكومة الفخفاخ، فهي حكومة لم يقبلها الجميع إلّا على مضض دون أيّ برنامج حقيقي، وزادتها أزمة الكورونا غرقا في اليومي. علينا أن ننتظر مجدّدا زمنا آخر يمكن فيه لطرف سياسي ما أن يحكم بمفرده حتّى ينفّذ برنامجه إن وجد (وهو شبه مستحيل في ظلّ النظام الانتخابي الحالي)، أو يأتي فيه توافق جديد يكون على أساس الحدّ الأدنى من الإصلاحات الواجبة والعاجلة.
 --
حالة حصار
العدد الثاني- 13 أفريل 2020
http://tiny.cc/1qvymz

ليست هناك تعليقات: