الاثنين، 4 مارس 2019

حديث حبيب مع الجبل



وظلّ حبيب، الباحث عن نفسه، الهارب من أمسه، المرتاب من غده، في حمّاه تلك أيّاما... يهذي بما لا يُعرف عن الناس والروح والشعر والسماء... حتّى أبلّ من علّته قليلا، وكان ذلك يوم اثنين. ضاق من محبسه، ورنا إلى شمسه، فرآها باسمة على غير ما تعوّد في دهره الأخير، فنظر ودبّر، واتّفق أن يلاقيها أعلى الجبل ساعة توشك أن تنحدر...
مشى على قدميه ميلا وبعضه فلمّا بلغ الفجّ رأه ينشعب إلى ثنيّتين... الناس يسلكون ثنيّة الجنوب ويزدحمون على امتدادها، أمّا ثنيّة العين فيندر من يسلكها. تردّد شيئا، ثمّ ذكر أنّه لم يبلّل جسده بماء تلك العين البارد منذ كان طفلا، فحملته أقدامه من هناك.
صعد التلّ الأوّل ببعض مشقّة. وقف على حافته ينظر الأفق. لم ير الكوخ القديم ولا الهيكل المهجور. لعلّهما تهدّما أو هدّما. لم يلمح سوى بعض الخرب الناظرة ببلاهة إلى الأعلى. نفض خيبته، وواصل المسير.
جدّ في المشي إلى أن وصل مفترق الطرقات الأربع. كان يذكر أنّ العين في منتهى إحداها لكن بعد به العهد ولم تسعفه الذاكرة. لم يجد بدّا من أن يجرّبها واحدة بعد أخرى. أمّا الطريق المعبّدة، فقادته إلى حائط أصمّ لا علم له بما وراءه. كان شاهقا مهيبا، حاول أن يتسلّقه لكنه ما لبث أن تعب. كأنّ الدنيا تنتهي عند حدوده. عاد على اعقابه وأخذ الطريق المنحدرة. لم يمش فيها غير خطوات حتّى سمع أصوات الخلق تبلغه منها، فرجع. لم تكن العين يوما بمقربة من الصخب. أخذ في الطريق العالية، ومشى فيها حثيثا. لمح المجرى النديّ فأيقن أنّه لم يخطئ السبيل. هيّئ إليه أنّه يسمع حسّ قطرها وهو يعانق التراب، فانتعش. بلغ الصنوبرة الكبيرة. يذكر أنّ الماء كان يحاذي جذعها العجوز، غير أنّه لم ير غير أخدود تملؤه الأوراق الجافة. تبعه صعودا والأمل يتساقط عنه شيئا فشيئا. وصل إلى ذلك الكرسيّ الأخضر. كان بجنب المنبع تماما. بقي الكرسيّ، ولم يبق من الماء شيء. سنوات العطش لا ترحم ساقيا.
رجع إلى المفترق. نظر إلى الأعلى، فرأى الشمس تهزأ منه. سيخلف ميعاده كما أخلفت. همّ بالرجوع ثم وقف. قد سلك الطرقات جميعها، فلم لا يكمل الرابعة؟ لا يذكر أنّه سار قطّ في الطريق المهملة. نظر في ساعته وبدأت الوساوس تنهشه. إنّ عدّى وقت الغروب، فسيكون الضياع. ما من ضوء هناك. لن يكون إلّا فريسة للظلام. كسر سدّه وهمهم: قد كنت طويلا فريسة للنور. ألقى بساعته في عين الشمس ومشى...

ليست هناك تعليقات: