الجمعة، 14 يونيو 2019

مجموعات القرّاء والأمية الجديدة


يورد توفيق الحكيم في روايته "عصفور من الشرق" آراء قد تبدو غريبة عن تعميم التعليم، إذ تربطه بتردّي حالة الأدب. إذ يعتبر (أو ينقل رأي ألدوس هكسلي، موافقا إيّاه) أنّ جمهور القرّاء كان محدودا، بحكم ارتفاع نسبة الأميّة، غير أنّ قراءاتهم كانت تقتصر على كتب قليلة لكنّها على درجة عالية من الرقيّ. لكن لمّا تضخّمت سوق القراءة، أسرع أصحاب الأعمال إلى تعويمها بسلع للاستهلاك لا تعدو أن تكون أدبا من الدرجة العاشرة، وتجد رغم تفاهتها جمهورا عريضا.

لمّا دخلتُ عالم الفايسبوك، كان ممّا أسعدني أن أجد عددا من المجموعات التي تُعنى بالكتب وتتخصّص في نقاشها. لكن لم ألبث أن تذكّرت الحكيم، وحكمته التي غابت عنّي في حينها. رحمة الله عليه!
يتداول جمهور القرّاء الافتراضي كتبا، وخاصة روايات، يغدقون عليها من الأوصاف بما يجعلها جديرة بجائزة نوبل. كان الإسم الأوّل الّذي وجدته يتكرّر "في قلبي أنثى عبريّة". رغم أنّي لم أرتح إلى عنوانه، إلّا أنّي غالبت حدسي وحدّثت نفسي أنّه لا يجوز أن أحكم على كتاب دون الاطّلاع عليه. كانت قراءة هذه الرواية في الحقيقة تجربة فريدة. أذكر أنّ زوجتي (خطيبتي آنذاك) كانت تسألني عنها، فأقول: هي من أردأ ما قرأت على الإطلاق. تسألني: لم لا تتوقّف عن مطالعتها إذن!؟ فأجيبها: هي رداءة ممتعة! أريد أن أعرف كيف تنتهي الحكاية. فقد "شدّتني" هذه الوثبات غير المفهومة الّتي ميّزت الأحداث: الأب المسلم الذي يترك عند وفاته ابنته لتنشأ عند صديقه اليهودي، إلى الفدائي الفلسطيني الذي يأوي (صدفة) إلى بيت عائلة يهودية بلبنان (علما وأنّ عدد اليهود بلبنان لا يتجاوز بضع عشرات)، وانتهاء بحادثة فقدان الذاكرة واستعادتها، كما كان يحصل في بعض المسلسلات المكسيكية. أخال أنّ الكاتبة اعتبرت هذا التفكّك الّذي يطبع الأحداث، والشخصيات كذلك، مغفورا بما أنّه يقود إلى النهاية السعيدة: الجميع يسلم ويعتنق الدين الحق. هذا "الجهاد الأدبي" في سبيل الدين الحق قد يكون كذلك مبّرر الكاتبة لاستعراض بعض المعطيات، غير الدقيقة في أحسن الأحوال، حول اليهودية وطابعها التحريفي.
لئن كان لهذه الرواية من ميزة، فقد تكون في سلامة لغتها عموما، وهو ما لم أكن أعتبره في البداية ميزة وأفترض توفّره في كلّ عمل منشور. لكن تغيّر رأيي بعد أن اطّلعت على العنوان الثاني المتداول "حبيبي داعشي". كالعادة، كان حدسي يخبرني أنّ العنوان غير مشجّع. غير أنّي فضّلت مجدّدا أن أكون "موضوعيا" وأطّلع على العمل. لم أصل إلى ثُلث الرواية إلّا بعد مشقّة. علاوة على الرابط غير المنطقي (أو غير الموجود) بين الأحداث، تتالت الأخطاء النحوية والإملائية والصرفية والتصريفية على النص لتحطّمه تحطيما. لم أملك إلّا أن أغلق الكتاب متنهّدا: كيف يقرؤون هذا الغثاء؟
لندع عنّا المثاليات، من قبيل: المهمّ أنّهم يقرؤون. ألّا يقرأ المرء على الإطلاق أفضل بكثير من أن يقرأ مثل هذا. ربّما تلبّي مثل هذه الأعمال حاجات لدى قارئيها، مثل الشعور بتفوّق الإسلام أو حتّى مجرّد الشعور بالإثارة لتتابع الأحداث. لكن من المفروض أن لا تحظى بهذه الشعبية أعمال لا يتوفّر فيها الحدّ الأدنى من الشروط الفنّية. ربّما يتعلّق الأمر ببناء الذائقة منذ الصغر، إذ أنّ نظامنا التعليمي يفرض علينا نصوصا معيّنة، ولا يدعونا إلى تذوّقها بل فقط إلى تحليلها، أو حفظ ما قيل في تحليلها. نتمّ تعليمنا ولا نعرف ما الذي يميّز النصّ الجميل عن النصّ الرديء. نعرف فقط أنّ هناك نصوصا جميلة لأنّه قيل لنا أنّها كذلك. أمّا إذا دُعينا -بعد أن ننسى في أشهر ما درسنا- إلى أن ننتقي بأنفسنا خبطنا خبط عشواء. لا يقتصر ذلك على الاعمال الأدبية، بل يشمل الأعمال الفنية عموما (موسيقى، مسرح، سينما، أعمال تلفزية...). ومع غياب نقّاد مؤثّرين على الساحة، لا توجد "سلطة" حقيقية تحدّد ما هو جميل، إلّا سلطة الجمهور... وهي سلطة ليس مستعدّا لها.

ليست هناك تعليقات: