الأربعاء، 17 أغسطس 2022

عندما جعلنا من "عرابنية" مطربة تونس الأولى

 

tunisiaslum.com

في أيّام مراهقتي، كنت مولعا بقراءة الجرائد. كان لكلّ يوم من الأسبوع جريدته الخاصّة به، وكان يوم الخميس مخصّصا لجريدة "الأخبار". كنت أتقصّى منها خاصة أخبار الرياضة، كما كانت تعجبني منها بعض المقالات ذات الطابع النقدي والساخر، ومنها ركن "عيون على التلفزيون" لنجيب الخويلدي.

على أنّ هذا الركن أثار حنقي ذات مرّة. كتب صاحبه طويلا في مدح أمينة فاخت، متحسّرا على أنّها لم تجد الصيت الّذي تستحقّه في العالم العربي في حين أنّ فنّانات محدودات المواهب نجحن في ذلك، مثل ماجدة الرّومي! ذهلت، وأنا الّذي لم أتجاوز السبعة عشر ربيعا آنذاك، بهذه المقارنة وقد كنت حينها في أوج افتتاني بالفنّانة اللبنانية. لم يخطر ببالي قطّ أنّ هناك من يجرؤ أن يقرن أمينة بفنّانة لها منجز فنّي مثل ذلك الّذي لماجدة الرومي، فما بالك بتفضيلها عليها! حبّرت رسالة طويلة إلى ذلك الصحفي ملخّصها فيما أذكر أنّ الأصوات الجميلة موجودة على قارعة الطريق، ولكن ما يصنع الفرق بين مغنّ وآخر هو حجم المشروع الفنّي الّذي يحمله، وبناء على هذا المقياس، فإنّ المقارنة بين مدرسة في تخيّر الكلمات وانتقاء الألحان بما يضمن دائما مستوى عاليا من الرقيّ وبين من يعيش على العرابن ولا يُنتج شيئا ليس إلّا ضربا من الخطل.

لم أرسل ما كتبته، ولعلّي كنت أشكّ في أنّه يمكن أن يغيّر شيئا. والحقيقة أنّني لم أذكر من أمر رسالتي تلك شيئا إلى حدود الآونة الأخيرة، لمّا أحيت أمينة فاخت حفلا بقفصة أثار (كما تقعل دائما) جدلا حول لباسها وحركاتها. قرأت الكثيرين ممّن يدافع عنها وعن مكانتها، وأنّ ما تفعله ليس سوى "هبال" محبّب يقبل منها في جميع الحالات باعتبارها "فنّانة كبيرة".

ما الّذي قدّمته أمينة إلى الفنّ لتستحقّ هذه المكانة؟ إن نزعنا من رصيدها الأغاني الّتي أخذتها من التراث، وتلك التي سرقتها من فنّانين تونسيين أو اقترضتها من فنّانين مشارقة، فما الّذي يبقى منه؟ حتما لا شيء ممّا يمكن أن يصنع "فنّانة كبيرة" أو حتّى فنّانة "حاف". أفهم أن يُعجب أحدهم بصوتها، أو أن تستثيره إيحاءاتها، وهو ما يمكن أن يجده في مغنيّة في كباريه، أمّا أن يزعم أكثر من ذلك، فقد ضلّ ضلالا بعيدا.

تعبّر أمينة فاخت عن عقليّة مكرّسة لدينا، تقدّس الكسل وتركن إلى التواكل وتبحث عن النجاح من أرخص أسبابه. وجدت لديها كنزا في صوتها الجميل، فلم تبحث عن استثماره وإنّما جعلته لها ريعا يدرّ عليها من مداخيل المهرجانات والأعراس ما يغنيها عن الاجتهاد والإنتاج، لا سيّما وقد "حرحرت" ذلك باللعب على إثارة الغرائز. لم يجعلها ذلك تنجح فحسب، بل ها هي منذ عشرين سنة أو أكثر وبلا إنتاج يُذكر تُعتبر لدى الكثيرين "مطربة تونس الأولى". لا أرى في ذلك سوى غوصنا في أعماق بئر لا قاع لها من الرّداءة.


هناك تعليقان (2):

Iori Yagami يقول...

مركبا حمزة. بداية يجب أن نفهم طبيعة الفن الذي تقوم به أمينة فاخت وأغلب الفنانات والفنانين العرب. هل هو الموسيقى؟ لا، ففن الموسيقى يقتضي اختراعها والإبداع فيها. كاظم الساهر، بليغ حمدي، محمد عبد الوهاب،حميد الشاعري وأناس مثل هؤلاء. أما هذا، فهو فن الأداء Performance وهو فن آنيّ يختفي غداة حدوثه ولا يهم إن كان أداءً لعمل فني طارف أم تليد. وقديما كان المغنون العظام يؤدون الأوبيرا وقد مر عليها مائة عام من التكرار والإعادة فلا هو يقنط ولا الناس تمل.
عودة إلى أمينة فاخت، فمن المؤكد أنها لا تملك شيئا من العقل الراجح ومن نفس الموسيقيين المبدع. لكنها علاوة على طاقتها الصوتية الكبيرة (الأكبر من تلك التي تملكها ماجدة الرومي ولا شك) فهي تملك قدرة أداء ساحرة يطرب لها السامعون. والطرب هو ما لا يمكن أن يحدث مع العرابنية. حتى وإن كنت أوافقك أنها لا تملك إلا سجلّ عرابنية. والحسرة هناك تحديدا.
حين كانت ماجدة الرومي صغيرة، اعتنى بها والدها الملحن حليم الرومي، وجهز لها الأغنيات التي تناسبها. وبلغة أخرى فالمؤدون صنيعة الفنانين أيضا ولا يمكنهم إظهار فنّهم (فن الأداء من غناء وتمثيل الخ) إلا عبر أعمالهم. لذلك كان هناك دوما مخترع للمغنين. في تونس، لم يحدث ذلك تقريبا منذ أيام عبد الكريم صحابو في الثمانينات. وحتى محاولات رؤوف كوكة في التسعينات فقد باءت بالفشل. خرج جيل كامل من المؤدين الموهوبين من صوفية لنوال لأمينة لذكرى ولطيفة، إضافة إلى الرجال أمثال شكري بوزيان وصابر الرباعي. وتركوا جميعا بداية من التسعينات يشقون طرقهم وحدهم. هربت لطيفة لمصر في لمح البصر تحولت إلى نجمة كبيرة، لا لصوتها الباهر فهو ليس كذلك ولكن لأن هناك من أحاط بها واخترعها. وظل صابر سنين طويلة يحفر في البحر قبل أن يعثر على الطريق الذهبي. كثيرون أدركوا الأمر ولكن بعد فوات الأوان. أما أمينة، فلو رحلت باكرا لكانت خليفة لوردة، شيئا عظيما لا يتكرر. ولكنها فضلت أن تبقى في تونس وهذا سبب الحسرة برأيي.

حمزة عمر يقول...

مرحبا فاروق. التمييز بين الموسيقى والأداء مهمّ للغاية، غير أنّه يقتضي بعض التنسيب فيما يتعلّق بوضع "الطرب" في نفس خانة الأوبرا. لأداء الأوبرا مقاييس موضوعيّة يمكن التعرّف عليها بدقّة، فيمكن مثلا حساب المساحة الصوتيّة الّتي يغطّيها المؤدّي من أدنى نوتة بلغها في قطعة ما إلى أعلى نوتة طالها في قطعة أخرى. يمكن ألّا يُعجب المستمع بهذا الفنّ لكن لا يمكنه إنكار قدرات من يؤدّونه، ممّا يجعل منهم أشبه بالّمتبارين في مسابقة رياضية إذ يتنافسون في إظهار مهاراتهم. أمّا الطرب، فأظنّ مقاييس تقييمه ذاتية جدّا تتعلّق أساسا بتفاعل المتقبّل معه (وهو ما يختلف جذريّا من شخص لآخر)، وفي الحقيقة لي موقف قديم من هذا اللون كتبت عنه في هذه المدوّنة. فإذا قارنّا بين مؤدّيين، أتساءل عن مقاييس ذلك. لماجدة الرومي صوت سوبرانو يمكّنها من أداء الطبقات العالية دون مشقّة، خصوصا في فترتها الأولى عندما قدّمت أغاني من طينة "عم بحلمك". ما الذّي يخلق مثل هذا اليقين بتفوّق أمينة فاخت، من حيث الطاقة الصوتية، عليها؟ أظنّ المسألة انطباعية.
أظنّ أنّه يوجد بين العرابنية من لهم قدرة على الإطراب، فوصف "العرابني" لا يتعلّق بحجم القدرات بل بتوظيفها. أشاركك نفس الحسرة فهذا الصدد، وأظنّ البيئة التونسية، للأسف، لم تعد قادرة منذ عقود على إنتاج مشاريع فنيّة حقيقية. بقي لطفي بوشناق وحده ينوّع ويجرّب ويجدّد.