أنا من جيل تربّى على الخوف. كنا نتعلّم الصمت قبل النطق، ونفهم أن الحديث عن الشأن العام ليس شأننا. كبرنا في بلد يكتسي البنفسجي ويقدّس الرقم سبعة. علّمونا أنّ التفاعل الوحيد الممكن مع الخطابات الجوفاء هو التصفيق.
ثم جاءت الثورة، ففُتح الباب على مصراعيه. اكتشفنا أن الكلام لا يقتل. اكتشفنا أنه من الممكن أن نسمع أكثر من صوت ونرى أكثر من لون. اكتست تلك السنوات العشر بالفوضى، كما اكتست بالحياة. جرّبنا كلّ شيء ولم نحجم. جرّبنا السياسة والنقاش والمبادرات والاحتجاجات، والفشل أيضا. أخطأنا كثيرا، لكننا كنا أحياء. الحرية إدمان جميل، كلّما ذقنا منها، اشتدت حاجتنا إليها.
لكن شيئا ما انكسر في الطريق. في لحظة إعياء جماعيّ، أو ربما غفلة، تركنا الباب يُغلق من جديد. تسلّل الخوف مرّة أخرى، لكن هذه المرّة بوجه آخر لم نتعوّده: وجه متجهّم إلى حدّ الكوميديا. صارت القبضة الحديدية تلوّح مقهقهة، لا تخفي استهتارها، ولا تسعى حتى أن تجد تعلات لتغوّلها. عدنا إلى الصوت الواحد، ولكنه هذه المرة صوت لا يسمع إلا نفسه. لا يسعى لإقناعنا، ولا يحترم ذكاءنا. بل أنه لا يعتبرنا موجودين أصلا!
تضيع البلاد من بين أيدينا كما يتسرّب الرمل من الكفّ. ليس لأن أحدا انتزعها منّا، بل لأننا نحن تخلّينا عنها قليلا كلّ يوم. لا مبالاتنا صنعت هذا المسخ الذي نسميه واقعنا اليوم. هذا القوس الأسود سينتهي بلا شك، فكلّ استبداد يحمل بذرة فنائه. لا يمكن لهذه الرداءة المعممة أن تدوم، ببساطة لأنها رداءة! هي تداري عجزها وترقّع ثوبها لكنّ مآلها أن تنكشف، كالتلميذ الرديء الذي يمكن أن يغشّ أو يمثّل ثمّ يسقط عندما يوضع في امتحان حقيقي. لكنّ الثمن سيكون فادحا. سنفيق على مؤسسات مهدّمة، واقتصاد يترنّح، ونخبة أنهكها العجز أو الصمت.
حينها، سنضطر أن نبني كلّ شيء من البداية، ونحن نحمل بذرتها في أنفسها، حتى وإن توارت خلف الظلّ لفترة. البداية تكون بالحرية. نحن لا نستحقها فقط، نحن لا نكون من دونها. هي التي تجعلنا نرى أنفسنا، ونحمل البلاد معنا ونرى الممكن حقا دون أوهام أو تهيّؤات.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق