الثلاثاء، 2 أكتوبر 2018

تجربتي مع المعهد النموذجي


مررت في أوّل شهر سبتمبر بقصر الحكومة بالقصبة. وجدت أنّ هناك عددا كبيرا من الأولياء (المصحوبين في بعض الأحيان بأبنائهم) في وقفة احتجاجية يطالبون بإدماج فلذات أكبادهم في الإعداديات والمعاهد النموذجية. لابدّ أنّ اقتراب العودة المدرسية أجّج الموضوع، فقد سبق أن وقف الأولياء أمام وزارة التربية بعد الإعلان عن نتائج مناظرتي السادسة والتاسعة أساسي محتجّين على قلّة الناجحين في المناظرتين قياسا إلى طاقة استيعاب هذه المؤسسات التعليمية. ربّما يكون وزير التربية قد زاد كذلك الطين بلّة لمّا أعلن أنه كان هناك قرار بالتخلي عن المعاهد النموذجية في 2009. نظرت إلى الأولياء الواقفين تحت الشمس الحارقة بإشفاق، وقلت في نفسي: ربّما يكون نضالا من أجل لاشيء. قد يكون من الأفضل ألّا تدمّروا أبناءكم في هذه المعاهد.
تبدو لي السنوات الأربع التي قضّيتها بالمعهد النموذجي بأريانة فترة فراغ رهيبة في حياتي. هو ليس ذلك الفراغ الذي تمرّ به حياتك بين فترة وأخرى، وإنّما هو الفراغ الذي يُخويك من الداخل. كنت طفلا على قدر من التوازن قبلها، وتطلّب الأمر وقتا لأستعيد شيئا من التوازن بعدها. لكنّني في تلك السنوات الأربع كنت تائها تماما.
طوال سنواتي التسع في التعليم الأساسي، تعوّدت أن أكون الأوّل في القسم. لمّا حصل أن "تدحرجت" إلى المرتبة الثانية ذات مرّة، أصابني الاكتئاب، وبدا لي وكأنّي فقدت تميّزي وأصبحت تلميذا عاديا. لمّا نجحت في مناظرة ختم التعليم الأساسي بمعدّل فاق 17 من 20، كان من البديهيّ أن يتمّ توجيهي إلى المعهد النموذجي. تردّدت قليلا. خشيت أن أصبح فعلا عاديا وسط الكم الهائل من المتميزين. خشيت كذلك من التغيير، إذ لن يرافقني أحد من أصدقائي القدامى إلى ذلك المعهد. استسلمت في النهاية إلى إغراء الانخراط في "النخبة" ودخلت المعهد النموذجي بأريانة.
كانت الثلاثية الأولى صعبة للغاية. في البداية، ظننتني بدأت آخذ موقعي في المعهد بما عرفت به من حب للأدب ومن ثقافة عامة، لكن منذ أن بدأت الامتحانات حتى عرفت أنّ ذلك لايعني شيئا.  فيما مضى، لم أكن أبذل جهدا استثنائيا في الدراسة، أما الآن، صارت الراحة ترفا. عاندت، وأصررت  ألا أبذل جهدا فوق المعتاد، فكانت النتيجة تتالي الخيبات. كنت أرى كل عدد سيء صفعة على وجهي تغوص بي في الحضيض أكثر فأكثر. في الأسبوع الأخير من هذه الثلاثية، عرفت الأرق لأول مرة، ولم أعد أستطيع أن أنام إلا بعد تناول بعض الأقراص المهدّئة. أخالني صرت كائنا ليليا منذ ذلك الحين. كدت أنهار  بعد أن اطّلعت على معدلي: 14,48 ورتبتي: الخامس عشر من ثلاثين. أصبحت تلميذا متوسطا لا يؤبه لشأنه! فكرت جديا في مغادرة المعهد إلى آخر"عادي" إثر تلك الثلاثية، وأخال أن نرجسيتي كانت ما حال دون ذلك. المغادرة كانت إقرارا بالفشل، وهو مالم أكن لأطيقه. في بقية ذلك العام  الأول، تحسنت نتائجي قليلا وقفز معدّلي إلى 15 ونيف ورتبتي إلى الثانية عشرة فيما أظن. سريّ عني قليلا وظننتني آخذا في الصعود.
لكنني كنت في الحقيقة في أعلى المنحدر. لم يل ذلك إلا التدحرج شيئا فشيئا: الرتبة الخامسة عشرة في السنة الثانية والثامنة عشرة في السنة الثالثة، فالرتبة التاسعة والعشرين في عام الباكالوريا، ذلك العام الذي لامست فيه القاع.
 لعلّ أكثر الكلمات تعبيرا عن حالتي في تلك السنوات هي: الغربة. لطالما كنت ولوعا بالفكر والأدب، إلى جانب براعتي في المواد العلمية في الأساسي. كما كنت مهتما بالشأن العام، بقدر ما يسمح الوضع لمراهق في ذلك العهد. كنت أحمل قدرا كبيرا من المثالية، وكنت أعتقد أن رسالتي هي تغيير العالم نحو الأفضل وجعله أكثر نقاء. لم يكن كل ذلك ذا قيمة هناك. الجماعة كانوا ممن يقسمون، كما كان يقول لنا أستاذ التربية الإسلامية مداعبا، بالمات والفيزيك، ولاشيء تقريبا غير ذلك كان مهما لهم. كنت أكتب الشعر، ولم تكن تلك بضاعة رائجة بالمرة، بل لعلها كانت مدعاة للسخرية. لم تكن هناك إلا قلة قليلة تعبأ بالعالم من حولها. عندما اندلعت الانتفاضة الثانية في عامي الأول هناك، كدت ألا أجد من يعلم بشأنها، فضلا عن مناقشة أخبارها. أما المثاليات، فقد كانت أمرا يدعو إلى الاستغراب. كان لي شريط للشيخ إمام (نوع من الممنوعات في ذلك الوقت) وكنت مزهوا به. خطر لي، بدافع الحماقة، أن أسمعه لزميل توسمت فيه بعض "الانفتاح"، فانفجر ضاحكا وقائلا: ماهذا الشيء الغريب؟؟
خلت حياتي من الأصدقاء تقريبا في تلك الفترة. صحيح أنّه كانت لي مجموعة من الزملاء أتقارب معها، لكن لم يصل الرابط بيننا قطّ إلى درجة الصداقة، وذلك أمر طبيعي إذ أنّ الاهتمامات كانت متنافرة بشكل لافت. لم يكن لي غير صديقين: قارئتي الوحيدة، والشخص الوحيد الذي يفكّر في غير الدراسة والتميّز في تلك المؤسسة، وهو لايزال صديقي إلى الآن. ماعدا ذلك، كنت أميل إلى العزلة والصمت. وكانت مغادرة صديقي للمعهد في سنة الباكالوريا ممّا زاد الطين بلّة.
في ذلك العام، فقدت كل رغبة في الدراسة، واستسلمت للخمول بشكل مدهش. في حين كان كل زملائي يكدحون بين الدروس الرسمية والدروس الخصوصية، كان "الحل" الذي وجدته متطرّفا: لن أفعل شيئا. لم يكن ذلك قرارا. كان ردّ فعل غير واع على حالة التخبّط التي أعيشها: ليس هذا مكاني، فلن أتعب لأجله مثقال ذرّة. كان جدول الأوقات ممتازا، إذ لم تكن لدينا أيّة دروس مسائية (باستثناء الرياضة، وهي مادة كنت معفى منها). وطبعا، لم أستغلّ ذلك لفعل أيّ شيء مفيد. إثر الغداء، كنت أنام لساعات ثم أقضي المساء في ألعاب الفيديو وينتابني الأرق ليلا وتأكلني الهواجس. لم يكن ضميري مرتاحا لهذا الخمول. كان الذهاب كل يوم إلى المعهد عذابا. انحدر تقديري لنفسي إلى أسفل سافلين. عشت كذلك في ذلك العام بالذات من أوهام الرومنسية ما لم أخرج منه إلّا بزاد من القصائد الغريبة التي ينضح بعضها سوادا. كنت أغرق، وأعلم أنّي أغرق، ومع ذلك كنت مصممّا ألّا أفعل شيئا.
 لم يتغيّر الأمر إلا في الشهرين الأخيرين. ربما كان ذلك شيئا من الشعور بالمسؤولية تجاه أبوين ينتظران الكثير من ابنهما. ربّما كان انقشاع أساطير الهوى والصفعة التي نلتها عند ذلك هي ما أيقظني قليلا. درست بجدية في ذينك الشهرين، وهو ما كان كافيا لأتحصّل على معدّل يعتبر متوسطا (في أحسن الأحوال) في المعهد النموذجي: ,7514. لم يكن يحقّ لي أن أتوقّع خيرا من ذلك، لاسيّما أنّ ذلك المعدّل كان يؤهّلني بسهولة للالتحاق بكلية العلوم القانونية والسياسية والاجتماعية بتونس. عندما درست ما أحبّه، تفوّقت دون جهد يذكر. مرّت السنوات الست (بين الأستاذية والماجستير) كالحلم.
رغم كل شيء، عرفتُ في مرحلة الدراسة الثانوية بعض الفترات المضيئة. كتبت في سنة 2001 قصيدة "القدّيسة" وكانت أوّل ما نُشر لي من شعر (نشرت بمجلة المعهد، وإن كنت لم أعلم بذلك إلا بعد عشر سنوات أو أكثر) واستهللت بها مجموعتي الشعرية الأولى "ذهب الزمان الضائع". تحصّلت على أوّل جائزة لي في الشعر خلال مهرجان عيد الورد بأريانة نفس السنة. نظّم أساتذة العربية لثلاثة أعوام متتالية مسابقات شعرية للتلاميذ، وتوّجت في مناسبتين. في السنة الثالثة، ألّفت مسرحية عن هارون الرشيد وقام زملائي بتمثيلها.
خففت هذه النجاحات الصغيرة من حلكة هذه الفترة، ولكنّها عجزت عن تبديدها. لم تزل إلى الآن تباغتني أشباحي القديمة: الفراغ والغربة والتيه. هي ندبة لم يشفني منها الزمان كما يجب.
لاشكّ أن نفسيتي لم تكن جاهزة لمثل ذلك الجو، وهو ما لا ينطبق على الجميع. لمّا دخلت أختي بعد سنوات عدّة إلى المعهد النموذجي، عارضت ذلك وخشيت عليها مثل مصيري. لكنّها كانت أقوى منّي وحصدت، ولا تزال تحصد، النجاح تلو الآخر. ما أزال رغم ذلك أهمس لنفسي: أيّ فتى كنت لأكون لو تجنبت ظلام تلك السنوات الأربع.

ليست هناك تعليقات: